الفصل السادس

حتى موعد الرحيل

بعد ذلك تَقابَل الاثنان من وقت لآخر، وزارت كازو بيت نوغوتشي. كان نوغوتشي يعيش بمفرده في بيت قديم في حي شيينا، واطمأنَّت كازو أن الخادمة التي ترعى شئونه كبيرة في السن وقبيحة الوجه. وعلى الفور بدأت كازو تهتم برعاية نوغوتشي وترتيب حياته الخاصَّة. وأرسلَت له عشاء العام الجديد بشكل كامل من مطعم ستسوغوان.

وكانت رفوف مكتبة نوغوتشي تمتلئ بالكتب الأجنبية، وشعرت كازو بالاحترام تجاه لغة لا تستطيع قراءتها. وكان نوغوتشي كذلك يعلم جيدًا تلك الفاعلية والتأثير، فكان كُلَّما جاءت كازو لزيارته قابلها في غرفة المكتبة. سألته كازو ببراءة وهي تحوم بعينيها حول رفوف الكتب.

«هل قرأتَ كل تلك الكتب؟»

– «أجل، قرأتُ أغلبها.»

– «ثمة بينها كتب مريبة بالطبع.»

– «ما من كتاب واحد من تلك النوعية.»

تعجَّبَت كازو من أعماقها لهذا القول القاطع. كان العالم الذي يستقيم فيه العلم بمجرد أنه علم فقط، خارج نطاق فَهْمِها. أليس من المفترض أن لكل أمر وجهًا آخر؟ ولكن يبدو أن الذي يعطيها انبهارًا طازجًا لا يتوقف في السيد نوغوتشي أن تلك الشخصية ليس لها وجه آخر وأنه لا يملك إلا الوجه الذي يُريها إياه. بالطبع كازو بشكل مبدئي لا تؤمن بوجود مثل هذا الإنسان. لا تؤمن بوجوده ولكن مثل ذلك النوع النافد الصبر، ذو الهيئة غير المكتملة من المثالية بدأت تنطبق شيئًا فشيئًا على نوغوتشي. وعندما حدث ذلك، أصبحت تشعر تدريجيًّا أن طريقة نوغوتشي المتكلَّفة بها نوع من السحرية والجاذبية التي لا يمكن وصفها بالكلمات.

وخلال العلاقة من نوغوتشي، اكتشفَت كازو أن المجتَمَع نَسِي تقريبًا وجود نوغوتشي، وأَحسَّت بالدهشة من عدم تأثر نوغوتشي بذلك مُطلقًا. ولم تُبدِ كازو اهتمامًا بالمثالية السياسية الإصلاحية التي يؤمن بها نوغوتشي حاليًّا، وفكَّرَت كازو أنه يجب تصحيح عدم التوافق بأسرع وقت بين جدة تلك المثالية ونسيان المجتمع له. تُرى كيف تعيش المثالية المليئة بالنشاط والحيوية مع حياة الموتى؟ حتى بعد هزيمة نوغوتشي للمرة الثانية في انتخابات مجلس النواب، ظَلَّ اسمه على قائمة مستشاري حزب الإصلاح، ولكن عندما عَلمَت كازو أن الحزب لم يكن يُرسل له سيارة من أجل حضور الاجتماعات، فيضطر إلى الخروج واستخدام القطار، شعرت بالغضب الشديد.

في كل مرة تروز كازو فيها بيت نوغوتشي ترى شيئًا جديدًا يثير حَنَقها بنفس الطريقة التي حَنقت فيها لأول مرة على نوغوتشي بسبب البُقع التي كانت على قميصه أو تَهرُّؤ أطراف أكمامه. الآن هي قد لاحظت عدم تَماثُل جانبَي باب المدخل الأمامي، وكثرة الأتربة وتقشير البوية في البيت الخشبي الذي على الطراز الغربي، أو براعم نبات الكبدية المائية التي بداخل البوابة، أو الجرس في مدخل الباب المتروك مُعطَّلًا. لم تَكُن كازو لديها الحرية في عمل الإصلاحات من نفسها، وكان نوغوتشي ما زال حريصًا على ألا يَقترِب من كازو أكثر من درجة مُعيَّنة. كان موقِفُه محافظًا، ولكن ذلك الموقف يثير رغبة كازو في الاقتراب أكثر وأكثر.

ذهبَا إلى مسرح الكابوكي في يناير بناءً على اقتراح من كازو. بَكَت كازو بحرية في اللحظات الحزينة، بدون أن تفقد أيًّا منها، ولكن نوغوتشي جلس بدون تأثُّر أو تفاعُل طوال العرض بأكمله. سألها بلهجة يبدو عليها الاستمتاع عندما كانا يقفان في الردهة أثناء الاستراحة: «ما الذي يجعلك تبكين بمجرد رؤية ذلك التمثيل السخيف؟»

– «ما من سبب مُعيَّن. ولكن الدموع تنهمر بشكل طبيعي.»

– «إن طبيعتك تلك ممتِعَة لي. حاوِلي أن تشرحي لي بشكل أكثر تحديدًا ماذا تعنين؟»

سخر نوغوتشي من كازو بنبرة صوت مهيبة كما لو كان يَتنمَّر على فتاة صغيرة. لم يكن لدى كازو نِيَّة التظاهُر بالبراءة ولكنها أحست في تلك اللحظة، كما لو أنه يسخر منها بشكل مُتعمَّد، مما أصابها بالخوف.

في ذلك اليوم سقطت قَدَّاحة نوغوتشي ماركة دانهيل في المسرح. كان ارتباكه عندما اكتشف فُقدان القدَّاحة في المسرح مذهلًا، تَبخَّر كل وقار وهدوء اللحظة السابقة. لقد اكتشَفَ فُقدان القَدَّاحة في مُنتَصف المسرحية الثانية لتلك الليلة. وعندها رفع نصفه الأعلى قليلًا ليبحث في كل جيب من جيوبه. واختلف تمامًا التعبير الذي ظهر على ملامح وجهه يَغمغِم قائلًا: «ليس هنا. وليس هنا أيضًا.» عن تعبيرات نوغوتشي الطبيعية.

سألته كازو: «ماذا حدث؟» ولكنه لم يَرُد. أخيرًا جَثا نوغوتشي على ركبتيه ودفع برأسه تحت المقعد. وأثناء ذلك انتبه فجأة وتحدث إلى نفسه بصوت عالٍ جدًّا قائلًا:

«إنها الردهة. تلك هي. لا شك أنها سقطت مني في الردهة.»

التفت الجمهور حوله ناحيته، بِتجهُّم وغَمغَمة مُستاءة. أخذَت كازو المبادرة ونهضَت وتَبِعَها نوغوتشي للخارج. ولحظة أن أصبَحَا في الخارج عند الردهة، سألَته كازو تلك المرة بمنتهى الهدوء:

«أَلَا أخبرتني ما الذي فقَدْتَه؟»

– «قداحة دانهيل. إن أردتُ شراءها اليوم فلن أعثر أبدًا على هذا النوع القديم.»

«هناك حيث كُنَّا نتحدث أثناء الاستراحة، أليست هذه؟»

«هذا صحيح. إنها هناك.»

شَعرَت كازو بالأسف لنوغوتشي؛ لأنه كانت أنفاسه تقريبًا تلهث. ذهبَا إلى ذلك المكان، فلم يجدَا شيئًا فوق السجادة القرمزية البرَّاقة. اقتربت منهما موظفة مكتب الاستقبال التي في منتصَف العمر والتي يبدو أن لديها وقت فراغ أثناء العرض قائلة:

«أتساءل هل هذه ما تبحثان عنه؟»

وهي تمسك في يديها قَدَّاحة نوغوتشي بلا أي ريب.

ستتذكر كازو طويلًا تلك الفرحة البريئة على وجه نوغوتشي عندما رأى القَدَّاحة، وتسخر منه بعد ذلك مرارًا قائلة: «أتمنى لو تُظهر ذلك الوجه للناس أيضًا وليس للقدَّاحة فقط» ولكن لم تصبح تلك الحادثة سببًا لخيبة أمل كازو مُطلَقًا. فهي لا تحمل نظرة مُتحيِّزة، فمجرد أنها رأت فقط تَعلُّق نوغوتشي البريء بما يمتلك كالأطفال.

•••

لم تَتوقَّف الحوادث المشابهة عند هذا الحد. لقد قال نوغوتشي في اجتماع نادي كاغِن:

«لنتوقف عن الحديث عن الماضي. إننا ما زلنا شبابًا.»

وذلك في الواقع يعبر عن موقفه حقيقة تجاه الذكريات القديمة بعد انتهاء المجد، ولكنه مع ذلك يتعلق بأشياء ذلك الماضي تعلُّقًا شديدًا. وكلما اقتربت كازو من نوغوتشي أكثر، تراه من وقت لآخر يحمل معه مُشطًا قديمًا يمشط به شعره الأشيب. عندما سألته عن ذلك المشط، أكد لها أنه يستخدمه منذ ثلاثين عامًا. قال لها إنه عندما كان شابًّا ذا شعر كثيف وأشعث كانت أسنان الأمشاط العادية تنكسر غالبًا. وأنه صنع ذلك المشط خصوصًا من شجر البَقس القوي للأمشاط.

لا يمكن أن يُقال عن ذلك ببساطة إنه بخل شديد أو فقر. ولكن نوغوتشي محتفِظ بعناد بالأناقة الإنجليزية التي تلتزم بالتقاليد العتيقة، لمقاومة الأناقة الضحلة بملاحقة الجديد التي أولدها الاقتصاد الاستهلاكي على الطريقة الأمريكية. وكذلك ترتبط جيدًا روح الكونفوشيوسية في التوفير مع ذلك الذوق الأرستقراطي. وكانت كازو تجد صعوبة في فَهْم أناقة نوغوتشي تلك التي تبالغ في الاحتفاء بالقديم.

كانت كازو أحيانًا تفكر في حيرة عندما تخرج للتنزُّه الصباحي الذي لم تنقطع عنه قط حتى في عز الشتاء، وهي تدهس بقدميها إبر الجليد التي تنبت في الأرض، ما الذي يُشْعِرها بالجاذبية أكثر، وما الذي تُعجَب به أكثر في نوغوتشي، أعَملُه الأرستقراطي كوزير سابق، أم الفكر التقدُّمي الإصلاحي الذي يؤمن به الآن؟ يحيط بالأُولى بريق ذهبي يسهل أن يستمع إليه العامة، والثانية رغم عدم فَهْمِها جيدًا إلا أنها تعطي إحساسًا بشيء حي يسير قُدمًا نحو المستقبل. صارت كازو تفكِّر في الأمرَين كما لو كانَا صِفتَين قريبتَين من الصفات الجسمانية ولا يمكن التفريق بينهم، وكأنها تسأل؛ هل تحب أنفه ذا الرأس الحاد أم أذنه المتميزة.

تطوَّر حبهما ببطء شديد جدًّا وكانت أول قُبلة بينهما عندما ذهبت كازو إلى بيته للاحتفال برأس السنة. كانت كازو ترتدي كيمونو مصنوعًا من خيط واحد بقماش يشبه خزف السيلادون صُبغ عليه جداول بيضاء وضفاف صناعية فضية وأشجار صنوبر خضراء، وربطت حزام الأوبي بأرضية ألوانها فضية رمادية، وطُرز عليها حيوان استاكوزا كبير باللونين الأحمر والذهبي. وخلعت فرو المنك وتركته في السيارة.

ظل بيت نوغوتشي كئيبًا مُوحِشًا مُغلَق الأبواب حتى مع بداية العام. ولكن عرفت كازو أن ذلك الجرس المعطوب قد أُصلح أخيرًا. وانتبهَت كازو إلى أن الخادمة التي في منتصف العمر والتي ظهرَت أخيرًا بعد أن جعلَتها تنتظر طويلًا، تنظر إليها نظرة احتقار. في أحد الأوقات قال سيدها لها اسم كتاب باللغة الألمانية وجعل تلك الخادمة تُحضر ذلك الكتاب من رف المكتبة. كرَّرَت الخادمة اسم الكتاب بلا تلعثُم، وبحثَت بعينيها سريعًا على رفوف الكتب وأخرجت ذلك الكتاب في التوِّ والحال. ومنذ ذلك الوقت كرِهَت كازو تلك الخادمة.

ما من صوت بتلك المنطقة المنفصلة عن الطريق الرئيسة إلا صوتًا جافًّا صافيًا للعب الأطفال بالمضرب الخشبي يأتي من بعيد. كانت كازو تشعر في كل مرة بالخِزي والخجل مِن جَعْلِها تنتظر طويلًا أمام سائقها بعد أن تنزل من السيارة وتضغط على جرس البوابة. وكانت أشجار صنوبر البوابة التي أنارتها أشعة شمس شتوية صافية مائلة هي الوحيدة الجديدة في هذا البيت.

ظلَّت كازو تنظر بثبات على الطريق أمام البوابة الخالية من البشر. تبرز تحت أشعة الشمس بوضوح الأجزاء المحدَّبة والمقعَّرة المعقَّدة للطريق المُعبَّدة التي نُزع أسفلتها. تسقط على الطريق هناك ظلال الأشجار وأعمدة الكهرباء. تلمع آثار الإطارات العريضة التي نُقِشت فوق التربة السوداء اللامعة التي ظهرت بها إبر الصقيع في أجزاء الطريق تلك.

أصغت كازو أذنيها إلى صوت المضارب الخشبية، يبدو أنه يأتي من حديقة بيت قريب، ولكن لا يُرى الأطفال الذين يلعبون، ولا يُسمع صوت ضحكاتهم. توقف الصوت. فكرت كازو: لقد سقطت. ثم بعد ذلك يستمر الصوت بنبرة اندفاع جيدة. ثم يتوقف … أثناء ذلك التكرار المسبب للضجر، رَسمَت كازو في مخيلتها كُرة ذات أجنحة مزدهرة الألوان تُضرَب بالمضارب وتسقط على الأرض المُوحِلة من ذوبان الصقيع. وبفعل ذلك بدا لها على الفور اللعب الذي يواصل الانقطاع ثم الاستمرار داخل السور غير المرئي وكأنه مداعبة خفية اختبأت من عيون الناس.

سمعت كازو صوت قبقاب خشبي يقترب من البوابة. وبسبب التوتر من ملاقاة الخادمة الكريهة اتَّخذ جسم كازو وَضْع الاستعداد. فُتِحَت البوابة؛ ولأن الذي فتح الباب كان نوغوتشي نفسه فقد تَورَّدت خدود كازو من الدهشة غير المتوقَّعة.

قال نوغوتشي الذي ارتدي زي هاكاما بشعار عائلته:

«لقد أعطيتُ الخادمة عُطلة لترفِّه عن نفسها؛ ولذا أنا بمفردي اليوم في البيت.»

– «مبارك عليك العام الجديد. إن ارتداء الزِّي ذي الشعار يجعلك عظيمًا.»

أحسَّت كازو بالغيرة على الفور وهي تدخل من الباب من حسن هندام نوغوتشي. تُرى مَن ساعده في ارتدائه؟ وتعكر مزاجها أثناء تفكيرها في ذلك وهي تَعبُر الممر لتصل إلى غرفة المعيشة.

كان نوغوتشي دائمًا يتجاهل تَعكُّر مزاج كازو في هذه الحالة. أخذ قِنِّينة الخمر المعتَّق الخاص برأس السنة في يده، وحاوَل أن يعرض على كازو أن تشرب. وعندما فكَّرَت أنها يجب ألا تبدأ العام الجديد بتجرُّع كأس المرارة، أَبدَت كازو من نفسها كما هي العادة علامة على غضبها. وعندها قال لها نوغوتشي ما يلي:

«يا للغباء! إن الخادمة هي من ساعدني في ارتدائه. إنها لا نفع منها في الملابس الغربية ولكن إن كان زي الكيمونو فهي تعمل بكل هِمَّة.»

– «لو كنتَ تُفكِّر في أمري، لكنتَ طردتَ تلك الخادمة، وأنا سأجلب لك خادمة كأحسن ما يكون، وإذا لم تطردها.»

بدأت كازو في قول ذلك ثم أجهشت بالبكاء وأكملت:

«حتى عندما أكون في البيت فأنا أغرق في القلق ولا أستطيع النوم.»

قاومها نوغوتشي بالصمت عن الكلام. فأخذ يحصي ثمار نبات لحية التنين التي تشبه حجر الفيروز تحت أشجار البرقوق في الحديقة. بعد أن استمع لفترة إلى شكاوى كازو، رفع القِنِّينة مرة أخرى وكأنه تَذكَّرها فجأة. أخذت كازو الكأس الخشبي الذي قُدِّم لها عنوة ووضعته فوق المنديل الذي تبلل بدموعها، ولكنها ألقَت به على الفور فوق حصير التاتامي، وبكت بعد أن خبأت وجهها في ركبة نوغوتشي التي يرتدي سروال هاكاما من منطقة سنداي. ووقتها حرصت على أن تبسط المنديل الجاف الآخَر فوق سروال الهاكاما حتى لا يتسخ.

داعبَت يد نوغوتشي بهدوء ربطة خلفية الحزام. وأثناء فعله ذلك، كانت كازو تعرف بيقين أن عيون نوغوتشي قد انجذبت إلى ظَهرِها اللامع الذي يمكن اختلاس النظر إليه قليلًا من فتحة ياقة الكيمونو المشدودة للخلف، والذي يمتلئ بلحم قوي مَرِن برائحة البياض المحبَّبة. كانت حركة يد نوغوتشي التي تُداعبها وَسط الهدوء الذي يشبه الذهول، بها ما يشبه لحنًا موسيقيًّا تعرفه كازو جيدًا. وبعد ذلك تَبادَل الاثنان قُبلتَهما الأولى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤