الفصل السابع

طقس النار المقدَّس في قاعة الشهر الثاني

كانت رحلة الذهاب إلى طقس النار المقدَّس في نارا هو الوعد الذي قطعه مع كازو منذ فترة طويلة، وفي نفس الوقت، رحلة تُلبِّي عرضًا سابقًا من صديق يعمل مديرًا كبيرًا في إحدى الجرائد الشهيرة. بالطبع كانت الرحلة بأكملها دعوة من الجريدة، وتقرر أن ينضم للرحلة أيضًا، صحفي عجوز في الثمانين من عمره، ورجل أعمال، وخبير اقتصادي كبير السن. وعندما سمعت كازو تلك التفاصيل، لم تفهم لماذا دعاها نوغوتشي إلى تلك الرحلة شبه الرسمية.

ولأن الأمر يتعلق بنوغوتشي الذي يضع حدودًا فاصلة بين العامِّ والخاص، لا يمكن أن يكون نوغوتشي دعا كازو للانضمام للرحلة صامتًا دون أن يخبر رفقاء الرحلة. ولكن إذا كانا سيذهبان على حساب نوغوتشي الخاص، فمن الأفضل لهما الذهاب إلى مكان آخر، وما من سبب يُحتِّم عليهما الذهاب إلى مكان ملحوظ تمامًا لهؤلاء الرفقاء. لقد سمعت كازو من قبل عن طقس النار المقدَّس من أحد الأصدقاء، فحتى لو كانا الاثنان أخذَا مسارًا مختلفًا عن مجموعة الجريدة فعلى أي حال سيضطران إلى التلاقي معهم ليلًا في قاعة الشهر الثاني.

علاوة على ذلك، كان تحميل نوغوتشي عبئًا اقتصاديًّا كبيرًا يؤلم شعور كازو. وكانت تَكره كذلك أن تشعر بالرُّخْص أمام أصدقاء نوغوتشي من تلك النوعية. لا تَمل أو تتعب كازو بصفتها مالكة مطعم، من التعامل مع صاحب سلطة مَهما كان، ولكنها تَكره أن تضطر للمجامَلات الاجتماعية الخاصَّة بالعمل مع هؤلاء الناس بصفتها الشخصية.

ظلَّت كازو تضع الافتراضات هنا وهناك فقط، وهي مغتاظة من أن نوغوتشي لم يفسر لها أي شيء. وأخيرًا حَسمت أمرها، وزارت نوغوتشي ومعها مائتا ألف ين في مظروف نقدي. كانت تنوي أن تقدمها له على أنها تكاليف الرحلة.

كانت كازو معتادة على أن مشاهير السياسيين يَقبلون المال النقدي بلا حساسية. فقد أعطت غينكي ناغاياما من قبل مائة ألف، ومائتي ألف، بل وما يقارب مليون ين على سبيل المصاريف الشخصية.

ولكن اختلف الأمر في حالة نوغوتشي؛ فكان ذلك المال سببًا في أول مُشادَّة لفظية بينهما. وعندما سمعت منه جيدًا عرفت أن نوغوتشي في الواقع يفكر في أمر تلك الرحلة بمنتهى البساطة.

«أجرة القطار والفندق الخاصة بك سأدفعها أنا. والخاصة بي مُتضمَّنة في الدعوة. عندما قلت لهم إنني سأصحب معي مالكة ستسوغوان فرح الجميع، وقال الداعي إنه سيضمك لأصل الدعوة ولكني رفضتُ وأصررتُ على تحمُّل نفقاتك. هل أصبح الأمر هكذا مفهوما لكِ؟»

– «حسنًا، أنا من ناحيتي كنتُ أريد في أول رحلة لنا أن نذهب بمفردنا إلى مكان هادئ.»

– «حقًّا! ولكني كنت أريد أن أقدمك لأصدقائي.»

بهذه الكلمة، فجأة هدأ الشجار الطويل الذي استمر بينهما. تأثَّر قلب كازو بشدة، واستمتَعت في سعادة بمشاعر هذا الرجل النَّقي الذي لا يعرف تجميل مشاعره المتباهية.

– «حسنًا سأفعل ما ذكرتَه، ولكن مقابل أن أرافقكم في تلك الرحلة دعني أدعو الجميع على مأدبة طعام في ستسوغوان بعد الرحلة. ما رأيك؟»

– «هذه فكرة جيدة.»

وافق نوغوتشي على ذلك بهدوء تام.

•••

من أجل أن يَستقلَّا قطار «تسوبامه» الذي ينطلق في الساعة التاسعة من صباح يوم السبت الثاني عشر، وبعد أن تَجمَّع الحشد جميعًا في محطة طوكيو المركزية للقطارات، اندهشت كازو أن نوغوتشي بدا أصغر عمرًا بدرجة كبيرة. وكان ذلك أمرًا طبيعيًّا؛ لأنه بين خمسة رجال كان ثلاثة منهم قد تخطى عمرهم السبعين عامًا.

وكانت كازو قد قامت بتدبير أمور متعدِّدة خاصة بالكيمونو الذي ارتدته في تلك الرحلة؛ وذلك لأن تلك الرحلة هي أول إعلان على الملأ للعلاقة بينها وبين نوغوتشي، فكَّرَت أن تظهر اسم نوغوتشي بأي شكل على الكيمونو. ولكن رغم ذلك فاسم العائلة الخشن ذلك، ليس به حرف يمكن أن يصبح رسمة إلا حرف «نو» بمعني المرعى فقط.

استعدَّت كازو مبكرًا، وبعد تفكير طويل في أفكار عديدة، رأت أنه حتى لو لم يفهم أحد أن التصميم له علاقة باسم نوغوتشي، فيكفي أن تعرف هي فقط ذلك، صبغت على قماش كريب أسود مساحة بيضاء وتحتها زهرة الهندباء ونبات الكنباث، وأظهرت هناك «مرعى» محاط به ظلال بأرض ذهبية. وربطَتْه بحزام بتصميم حلقات من الغيم مع رباط مختصر بلون أصفر فاتح يناسب السفر.

كان الجميع يُكنُّون عظيم الاحترام للعجوز الأشيب الثمانيني، وهو ممن يُطلَق عليهم الذين فَتحوا طريق الصحافة في اليابان. فهو يحمل درجة الدكتوراه في القانون، وترجم أعمالًا عديدة من الأدب الإنجليزي، وكان ذلك العجوز الأعزب ساخرًا على الطريقة الإنجليزية، ومؤيِّدًا لكل تَقدُّم يحدث في المجتمَع، ولكنه معترِض بِشِدة على قانون إلغاء البغاء فقط، وكان يدعو نوغوتشي بصيغة التقريب. أما رجل الأعمال المتقاعَد فهو شاعر هايكو حر، بينما كان المحلِّل الاقتصادي يصب اللعنات والسُّباب على الناس جميعًا.

كان الجميع عجائز لطيفي المَعْشَر، لم يَتعمَّدوا تجاهُل كازو تمامًا ولم يَتعمَّدوا كذلك إظهار اللُّطف معها بدون داعٍ، واستمتعَت كثيرًا بصحبتهم حتى نارا. بعد أن أعطى الخبير الاقتصادي تقييمه لرجال عالَم الاقتصاد الياباني واحدًا بعد آخر واصفًا إياهم، غبي، بلا موهبة، جاهل متفاخِر، انتهازي، متخلِّف عقليًّا، مجنون، مُدَّعٍ، أَهوَج، أعظم بخيل في التاريخ، أحمق، مريض بالصَّرع … إلخ. تَحوَّلت دَفة الحديث إلى شِعر الهايكو.

فقال العجوز الثمانيني:

«أنا لا يُمكنني حَمْل رأي حول الهايكو إلا ما يَحمِله الغربيون.»

ثم أَكمَل بما يلي معتمِدًا على ما يملك من ذاكرة قوية وموسوعية:

«في مقالة الكاتب توراهيكو تيرادا المسماة (أحاديث مطولة عن الهايكو) يحكي فيها أن أحد علماء الفيزياء الألمان الشباب جاء في زيارة إلى اليابان، فأصبح خبيرًا في الشأن الياباني، وتفاخَر عند أصدقائه اليابانيين قائلًا لهم إنه ألَّف شعر هايكو. والهايكو كان كما يلي:

«في كامامورا الكثير من طائر الكركي.»

إنه بالفعل يتبع طريقة الهايكو في عدد المقاطع خمسة-سبعة-خمسة؛ ولأنه ما من اختلاف كبير مع هذا، فلقد ألَّفتُ شِعر هايكو بعد أن سمعتُ حديث صديقنا «ر».»

«عالم السياسة، وعالم الاقتصاد، يمتلئان بالأغبياء.»

ضحك أغلب الحضور، ولكن لو كانت تلك المزحة خرجَت من فم شاب، فعلى الأرجح أن أحدًا لن يضحك. كانت كازو أثناء حديثهم عن الهايكو، في حيرة أتخلع مِعطفها في عربة القطار تلك الدافئة أم لا؟ وأخيرًا انتهى الحديث عن الهايكو.

انتقل الحديث إلى التنافس حول إلى أي درجة يملك أحدهم ذاكرة مؤكدة ودقيقة. وعند سماعها لذلك بتركيز أَحسَّت كازو أنه يشبه إلى حدٍّ ما حديث شباب يتنافسون بغرور في معرفتهم عن النساء. دقة غير ضرورية، تعليق مُفصَّل غير ذي حاجة، ومحاوَلة رعاية مشاعر الآخر حتى في تلك الأمور بشكل متعمَّد. مثلًا لو الحديث عن أمر في العام الثاني عشر من عصر شوا، على العكس يقول الشاب:

«حسنًا، كان ذلك في العام العاشر أو الثاني عشر تقريبًا.»

ويُنهي الأمر على ذلك، نجد أن العجوز يصل به القول حتى:

«حسنًا، كان ذلك في العام الثاني عشر الشهر السادس واليوم السابع بالتأكيد. أنا متأكد أنه كان اليوم السابع. وأعتقد أنه كان يوم سبت؛ لأنني تركت عملي أبكر من الوقت المعتاد.»

وكلما غَطَّت الحيوية على الحوار، تزداد الجهود التي تحاول القتال باستماتة واستبسال، وفي النهاية تشبه مثل تلك الجهود الحيوية ظاهريًّا. ولكن كان نوغوتشي استثناءً حتى في هذا الأمر. لم تفهم كازو ما هو الاهتمام الذي يجعل نوغوتشي يحب مخالطة هؤلاء الناس، ولكنه كان محتفظًا «بشبابه» بينهم في وقار. كان يُجاري الحوار بإيماءات الموافَقة التي لا تتغير، وعندما يصبح الحوار مملًّا، يَعُد بعناية حَبَّات البرتقال التي قَشَّرها، ويقسمها نصفين متساوِيَين، ويُعطي كازو نصف العدد بالتمام. ولكن حَبَّات البرتقال أحجامها غير متساوية فحتى لو اقتسم معها نفس العدد، يكون الحجم الذي يعطيها إياه أصغر من النصف. تَحمَّلت كازو كتمان الضحك، وتأمَّلَت بعمق تلك البشرة الرقيقة التي بلون قمر الشفق التي شُد عليها بتعصب لحم الفاكهة، ذات التجاعيد الكثيرة.

•••

ركب الوفد بعد الوصول إلى أوساكا في الساعة السادسة والنصف مساء، السيارة التي جاءت لاستقبالهم على الفور، وتَوجَّهوا مباشرة إلى فندق نارا، ولم يكن لديهم وقت للراحة حتى تَجمَّعوا مرة ثانية للتَّوجُّه إلى قاعة الطعام. كان درجة الحرارة في نارا دافئة دفئًا غير طبيعي. كان من المتوقَّع في العادة أن تهب مَوجة برد قاسية في موعد طقس النار المقدَّس؛ لذا سعدت كازو بتلك الليلة الدافئة مع العجائز.

يبدأ مهرجان طقس الطابق الثاني في قاعة الشهر الثاني بمعبد طودايجي أو ما يُسمَّى طقس النار المقدَّس في الأول من مارس من كل عام. ولكن يصل المهرجان إلى ذروة الطقوس الروحانية بطقس دوران سلال الصنوبر المشتعل في ليل الثاني عشر حول المعبد، وطقس تَناوُل الماء المقدَّس وطرد الأرواح الشريرة في صباح الثالث عشر. ويكون أكبر عدد للزوار في ليلة الثاني عشر تلك.

بعد تناوُل العشاء، أسرع الوفد بالذهاب إلى قاعة الشهر الثاني، واندَهشوا من حَجم العدد الهائل من الناس الذين تجمَّعوا بالفعل أسفل القاعة. بدَا كما لو أنهم جماهير تجمَّعَت بأمل حدوث حادث غريب أكثر من أنهم تجمَّعوا لطقس ديني.

اقترب وقت بداية طقس دوران سلال الصنوبر المشتعل، فقاد الرهبان الوفد إلى أماكنهم، تحت مسرح قاعة الشهر الثاني، فذهبوا وهم يخترقون جموع الجماهير المحتشِدة في ظلام الليل. جذب نوغوتشي يد كازو، وتقدَّم دون أن يُلقِي انتباهًا إلى موضع أقدامه الخطرة، وكان على العكس تمامًا عندما لم يستطع عبور طريق السيارات في أوينو، فيبدو أنه يخاف من السيارات ولكنه لا يَأبَه بالناس. كان موقفه وهو يخترق القُروَيِّين مُفرِّقًا إياهم فيه وقار وهيبة.

أُرشِد كبار الضيوف حتى حدود تسوير الخيزران التي شُبكت من أجل أن تَمْنَع الحشود من الانهيار مثل جبل جليد. كان ذلك المكان يَتَّصل تمامًا أسفل سُلَّم الدرجات الحجرية وممر الظهور من خلال تعريشة من الخيزران أمام عيونهم مباشرة. كان العجوز الثمانيني قد أُرهق بشدة من تلك الطريق الصعبة، فأمسك بالتعريشة وتَنفَّس الصُّعداء، وكان مدير الجريدة يقلق عليه بشدة، فأحضر مقعدًا يُطوى خصوصًا للعجوز.

أما كازو فقد ضاع خُفُّها هباء. كان غارقًا في وَحل الأرض المائلة المليئة بالحشائش الذابلة بعد ذوبان الصقيع. وحاولَت أن تحمي قدميها ولو قليلًا، أمسكت كازو كذلك بالتعريشة، ودارت برأسها مبتسمة إلى نوغوتشي خلفها. كان وجه نوغوتشي مغلفًا بالظلام. وفوق وجهه في الأعلى بعيدًا، درابزين مسرح قاعة الشهر الثاني المهيب، رُفع عليه إفريز بارز بعمق كبير. الإفريز به من الداخل إشراق سحري، وبين فراغات شجر الأرز المسنن حول القاعة، يبرق عدد من النجوم مثل القطرات.

وكان طقس «رسالة السبع مرات» قد بدأ لتوه. يجري رهبان العطايا الذين يرفعون لأعلى شعلات الصنوبر المشتعل، بهيئة مهيبة شجاعة وخطوات واسعة صاعدِين ثم هابطِين السلالم الحجرية عدة مرات. أعطى الصوت العالي عن كل «إعلان»، الإعلان عن وقت البخور، والإعلان عن المهمة، والإعلان عن الخدمة … إلخ، مع شرارات اللَّهب المتساقِطة من الصنوبر المشتعل؛ صدًى مهيبًا للطقوس في عيون الناس الذين لا يعلمون شيئًا عن التقاليد القديمة للبوذية الباطنية القديمة وديانة الشِّنتو الثنائية، فهيئة مثل هيئة رهبان العطايا تلك، التي تبدو وكأنها في غاية الأهمية، وتلك الحركات المكثَّفة العَجِلة، تلك الحركة الموحَّدة، بدت لهم وكأنها علامة على أن فاجعة كبرى على وشك الوقوع. ثم تعطي وحشة ووحدة السلالم الحجرية الخالية من الرهبان ومن المشاعل الصنوبر إحساسًا أنه يجب حدوث أمر ما فوق تلك السلالم الخالية. كازو التي لم تكن من الأصل ذات قلب إيماني عميق، وكانت قليلًا ما يجذب قلبها الأمور الغيبية التي لا تُرى بالعين، ولكنها وهي تَتشبَّث بالعريشة، وتنظر إلى أعلى تجاه ممر المسرح الذي يصل به السلالم الحجرية وقد برزت باردة بيضاء بشكل ضئيل، أحسَّت أن قلبها أيضًا صعد في غفلة من الزمن السلالم الحجرية، ويُرفق في اهتمام بالغ في حضرة عالم الغيب الذي لا يُرى.

كانت امرأة مشرقة مستبشِرة، ولكنها تفكر من وقت لآخر فيما بعد الموت. وعندها يرتبط ذلك بالتفكير في الذنوب والآثام. وعندما أَحسَّت بدفء معطف نوغوتشي من ظهرها إلى جنبها، بُعثت في ذاكرتها العديد من العلاقات العاطفية التي عاشتها في الماضي والتي لم تتذكَّرها أبدًا أمام نوغوتشي حتى الآن. مات رجل من أجل كازو الشابَّة. وغرق رجل في قاع المجتمَع. وفَقَد رجل كل ثروته وجاهه. ومن العجيب أنه ما من خِبرة لدى كازو في تربية رجل عظيم أو جعل رجل ناجحًا. فرغم أنها ليس لديها تلك النِّيَّة السيِّئة، إلا أن أغلب الرجال تَكون العلاقة معها هي نهاية حدوده ثم يسقط في الحضيض.

وصل تفكير كازو وهي تنظر عاليًا كما هي للسلالم الحجرية إلى ما بعد الموت. ما من أرض في أي مكان يمكنها أن تذهب إليها بعد أن انهار مَوضِع أقدامها في الماضي واحدًا بعد آخر. في حالة أن ماتت كما هي الآن، ما من شخص واحد يَتقبَّل عزاءها. عندما تُفكِّر فيما بعد الموت، تجد أنها يجب عليها أن تعثر على شخص يمكنها الاعتماد عليه، وتملك أسرة وتعيش حياة لائقة، ولكن من أجل فعل ذلك، تُفكِّر أنه كما هو متوقَّع يجب أن تصل إلى إجراءات الحب، فلا يمكنها أن تبقى بلا خوف من الذنوب والآثام. كانت كازو حتى خريف العام الماضي فقط، ترى المجتمَع والناس بنظرة رائقة وواضحة وكأنها تنظر إلى الحديقة في أثناء نزهة كل صباح في ستسوغوان، كانت تمتلئ بيقين أنه ما من شيء سيزعجها بعد الآن، ولكنها بدأت الآن تفكر، أَلَا يكون ذلك الوضوح نفسه تحذيرًا من الجحيم؟! … ثم ما سمِعَته من الراهب الذي أرشدهم حتى مكانهم منذ قليل، أن تاريخ هذا الطقس كان عبارة عن شعيرة اعتراف لمحو الذنوب وتخفيفها، شعرت كازو أنها تتفهم بما لها من تجربة ذلك.

أخيرًا حدَثَت حولهم همسات بقرب ظهور المشاعل. مشاعل القناديل الاثني عشر التي صُنعت بالفعل، يبدو أنها مُصطفَّة بجوار مبنى غرف الاستحمام. عقدة الجذر لأعواد مشاعل الخيزران تلك واحدًا بعد الآخر، المحيط أربعون سنتيمترًا تقريبًا والطول يبلغ سبعة أمتار، وبعد ذلك ملتصِق بها مشعل به كرة لهب قُطرُها مِتر وعشرون سنتيمترًا.

في الجهة الأخرى من تسوير الخيزران، يقف عدد من الرهبان يرتدون الأوشحة الحريرية ذات الديباج الذهبي والياقات المثَلَّثة العالية يَصدُّون الطريق، وتحاول كازو التي لم تكن طويلة القامة أبدًا اختلاس النظر على خروج المشاعل من بين أكتافهم، وطلبت من نوغوتشي بصوت خفيض قائلة: «احملني على ظهرك» ضحك نوغوتشي ضحكة غامضة المعنى، وهز عنقه المدفونة داخل اللفاح بعلامة الرفض. وفي ذلك الوقت، صدر صوت انفجار عالٍ، فظهر وجه نوغوتشي بوضوح تحت إضاءة اللهب.

أسرعت كازو بتحويل ناظريها إلى الجهة الأخرى من العريشة. كانت ذلك الصوت هو صدى طقطقة النيران التي أنارت بوضوح حتى الشقوق في الحائط الأبيض التي انعكست صفراء، وحتى خربشة الكتابة حرفًا بحرف. وضع الرهبان ذوو الياقات العالية مِرْوَحة المهرجان أمام وجوههم للوقاية من اللهب العملاق الذي ظهر فجأة أمام عيونهم، فأصبحَت ظهورهم صورة ظِلِّية ظهرت أمام العيون كُتَل النار المتطايرة والأوراق الخضراء لشجر السرو المغروز فيها مشاعل الصنوبر، وظهرت أذرع انعكست عليها النيران للشباب الذين يُدْعَون أطفال الآلهة والذين يحملون على ظهورهم الخيزران العملاق. كَتمَت كازو أنفاسها، وتابعت عيونها بقلق كُتَل اللهب التي تصعد السلالم الحجرية.

صعد «أطفال الآلهة» السلالم الحجرية حاملِين على كتف واحد مشاعل الخيزران التي تصل إلى عشرين مشعلًا. تتساقط هنا وهناك قِطع اللهب قرمزية اللون المتأججة فوق السلالم. وبعد برهة من الوقت، انتقل اللهب إلى عمود من أعمدة الممر فاشتعلت النيران فيه. ثم بعد ذلك صعد راهب ذو رداء أبيض يطفئ تلك النيران بممسحة مُبتلَّة بالماء.

ارتوت عيون كازو بالإثارة والتشويق من تلك الهيئة الوحشية الموحشة للنيران وسط النظرات المتجمِّدة للجموع التي ملأت تمامًا المساحة تحت القاعة. قبضت كازو على يد نوغوتشي بقوة بيدها المليئة بالعرق وهي تصدر في جوف حنجرتها صوتًا مبهمًا.

ثم أخيرًا قالت:

«ما رأيك؟! ما رأيك؟! إنه شيء يستحق المجيء حتى نارا من أجله.»

في أثناء ذلك كانت المشاعل العملاقة قد أكملت صعود الممر الصاعد، وترتاح عند الحافة اليسرى لدرابزين ممر قاعة الشهر الثاني. مرة أخرى تَردَّد صدى صوت طقطقة النيران عاليًا بجوار أذن كازو. فقد ظهر حَمَلة المشاعل التالية من أسفل الممر الصاعد.

وفي نفس الوقت تهتاج نيران المشاعل التي فوق المسرح بجنون مثل أُسود جامحة ترقص وتدور، وتسقط شظاياها الكثيفة فوق رءوس الجماهير المحتشِدة. ثم بدأت النيران تجري متوجِّهة إلى الحافَّة اليسرى لأعلى الممر، فأنارت الجزء الداخلي من الإفريز الواسع بألوان النيران الحمراء. ثم خَفت قليلًا حدة اشتعال المشاعل عندما دارت عند الحافة اليمنى للدرابزين، مرة أخرى عادت مشاعل أشجار الأرْز التي على شكل حِراب ذات اللون الأخضر الداكن ببهرجة بارزة وهي تقذف كُتَل النار الهشَّة.

الآن برزت الجماهير المحتشِدة التي كانت قد غرقت في الظلام، ظاهرة، واختلطَت بسطح صراخات الصلوات العالية الصوت. وفوق رءوسهم استمرت كُتَل اللَّهب الهشَّة في السقوط مثل رمال ذهبية، وخَيَّم عليهم مهابة ووقار المبنى المعماري الغارق في السواد لقاعة الشهر الثاني.

«ما رأيك؟ ما رأيك؟»

كرَّرت كازو ترديد ذلك. وعندما انتبه لها نوغوتشي، كانت كازو تبكي.

•••

كان الفجر قد اقترب بعد العودة إلى الفندق. لم تحتمل كازو الانتظار بعد طقس النار المقدَّس، حتى طقس تناوُل الماء في الصباح الباكر. بعد العودة إلى غرفة الفندق، سمعَتْ أصوات صياح الدِّيَكة تأتي من مكان بعيد خارج النافذة، ولكن لم تكن السماء قد أشرقت بعد.

قال نوغوتشي إنه سيأخذ غفوة نوم سريعة بعد أن يَستحم. كانت عَينَا كازو تَبرُق من الإثارة والتشويق، فقالت إن النوم سيستعصي عليها رغم أنها مرهَقة. خلعَت كازو مِعطفها، لَفَت ظَهر المعطف انتباه نوغوتشي وهي تَشرَع في طَيِّه.

فاقترب نوغوتشي إلى جوار المعطف المفرود فوق السرير تحت مصباح الغرفة الساطع. كان قماش بطن المعطف بلون العنب القرمزي، هادئًا وفي غاية الجمال. كان مفرغًا في لون أبيض، وكان مكتوبًا بيد شديدة المهارة بداية بيت شعر هايكو.

فقال نوغوتشي وهو يفك رباطة العنق:

«ما هذا؟»

– «بداية هايكو سوغي. لقد طلبْتُها بصفة خاصَّة من أحد الخطَّاطِين من أجل هذه الرحلة فكتبها لي. وخاصة أننا صرنا بالفعل في فصل الربيع.»

لم تقل كازو إن كتابة هايكو لشاعر سوغي كان اقتراحًا حكيمًا من الحائك.

قرأ نوغوتشي:

«خذي راحتك
عندما تَعلمين أنني أنتظر
يا زهور الربيع.»

أوقَف نوغوتشي يده عن فك رابطة العنق، وظل يتأمل في ذلك الهايكو لفترة طويلة. وأحسَّت كازو بجمال يد ذلك العجوز الذابلة التي امتلأت بالعروق البارزة.

– «لقد فهمت.»

أخيرًا تكلم نوغوتشي. كان هذا فقط تعليقه على الأمر. في نهايات تلك الليلة، أخلد رجل عجوز جاوز الستين مع امرأة في الخمسين في سرير واحد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤