الفصل الخمسون

المفاوضة

فدعا له وسار بجانبه. وأمر الرشيد مسرورًا أن يُطلق أصحاب الصيد إلى عملهم في دجيل كالعادة ريثما يصل. وسار الرشيد وإسماعيل لا يتكلمان. أما هذا فسكت عن تأدب؛ إذ لا يليق أن يبدأ هو بالكلام. وأما الرشيد فقد سكت عن هاجس غلب عليه. وما زالا ساكتين حتى خرجا من بغداد وأشرفا على بساتينها وأرباضها، فأمسك الرشيد شكيمة جواده والتفت حوله لفتة فهم فرسان الموكب أنه يطلب الانفراد، فتفرقوا وظل هو وإسماعيل سائرين، فلما انفردا نظر الرشيد إلى إسماعيل وقال والاهتمام بادٍ على مُحيَّاه: «ما الذي حدثتك به نفسك حينما خرجت من عندي أمس؟»

قال: «لم تحدثني بشيء غير موالاة الدعاء بطول بقائك وتأييد سلطانك.»

قال: «ذلك هو عهدي بك، على أنك لو عتبت على هارون وانتقدته لما وجدت سبيلًا إلى لومك، لأني لم أرع حقك، وقد أسأتُ معاملتك في سبيل رجل لم يرع حقي ولا حق بني العباس.» قال ذلك والتفت كأنه يحاذر أن يسمعه أحد، ثم تشاغل بإصلاح ما على مقدم السِّرج من الديباج الموشَّى، ومد يده إلى ناصية الجواد وجعل يمشطها بأنامله وهو ينتظر ما يبدو من إسماعيل.

أما هذا فأدرك ما في نفس الرشيد، وأنه يضمر سوءًا لجعفر، فشق عليه ذلك لعلمه أنه يعود على الدولة بالخُسران، فتجاهل وأقبل يشكر للرشيد حسن ظنه إلى أن قال: «أرى أمير المؤمنين يبالغ في إكرامي، ومحال أن يأتي أمرًا يوجب اللوم. وهب أنه فعل ذلك، فهو لا يمكن أن يُلام. وإنما ساءني أنه غير راضٍ عن مواليه، ولو صرَّح لي بما يريد، وأوضح لي الكلام لزادني منَّة.»

فقطع الرشيد كلامه وقال: «أظنك تتجاهل يا عماه، ومثلك لا يفوته إدراك ما أريد؟»

فقال: «إذا صدق ظني فإن الرشيد يشكو من وزيره.»

قال: «وهل تستغرب شكواي من رجل سلَّمت إليه مقاليد دولتي وأطلقت يديه في كل شئوني، وقدمته على أهلي وذوي عصبيتي، ثم هو يسعى في هلاكي؟»

فقال: «معاذ الله أن يكون ذلك. وما وزيرك يا أمير المؤمنين إلا من بعض مواليك يتفانَى في مصلحة دولتك. ذلك هو عهدي به.»

وكان يتخاطبان والفرسان يسيران متحاذيين بين الأشجار الباسقة وقد تشابكت أغصانها، تظلل الطرق، فبعدا عن المدينة وهما يسيران إلى غير مكان مقصود. واتَّفق عند ذلك أنهما أشرفا على ضيعة (عزبة) عامرة، ومواشٍ كثيرة، وعمارة حسنة، يدور طريقها حول الضيعة. فدارا حولها حتى اقتربا من بابها، فنظر الرشيد إلى بيدرها وكثرة الغلال فيه، وما يسرح من الماشية الكثيرة حوله، والتفت إلى إسماعيل وقال: «لمَن هذه الضيعة يا إسماعيل؟»

فعلم إسماعيل أنها لجعفر، وقد أراد الرشيد أن يتخذ ذلك حجة على ما يريد من الطعن عليه فقال: «هي لأخيك جعفر بن يحيى.»

فتنفس الرشيد الصعداء وقال: «ولو سألتك عن سائر ما في هذه الضاحية من الضياع لما أجبت غير هذا الجواب؛ لأن الذي دعوته أخي قد ملَّك أهله كل ما يحيط ببغداد من الضياع والبساتين. أرأيت كيف أغنينا هؤلاء البرامكة وأفقرنا أولادنا، وأغفلنا أمرهم حتى صارت البلاد لهم، وأصبحت مواكبهم أعظم من مواكبنا، وأموالهم أكثر من أموالنا؟ وإذا كانت هذه ضياعهم قُرب هذه المدينة، فكيف بما هو لهم على غير هذا الطريق في سائر البلدان؟»

فشق على إسماعيل ذلك القول غَيرةً منه على سلامة الدولة فقال: «إنما البرامكة عبيدك وخدمك، وما ضِياعهم وكل ما يملكون إلا لك.»

وكان الرشيد لا يتوقع من إسماعيل دفاعًا عن رجل كان بالأمس سببًا في فشله، فسمتْ منزلته في عينيه، ولكن ساءه دفاعه؛ لأنه كان يتوقَّع منه أن يُجاريه فيما ينويه، شأن كل غاضب مستبد، فنظر إلى إسماعيل نظرة جبار عنيد، وقد أخذ الغضب منه مأخذًا عظيمًا وقال: «أراك حسن الظن بأعدائي، وتحسبهم عبيدًا لي، والبرامكة يعدون بني هاشم عبيدهم، وأنهم هم أصحاب الدولة، وأن لا نعمة لبني العباس إلا والبرامكة أصحاب الفضل عليهم فيها.»

فلم ير إسماعيل أن يدافع أكثر من ذلك لئلا يتحول غضب الرشيد إليه، فقال: «إن أمير المؤمنين أبصر بخدمه وعبيده.»

فأدرك الرشيد أنه خشي غضبه، ولم يصرح بما في نفسه فأحب أن يسمع رأيه فقال: «ليس لذلك صحبتك يا عماه، ولا هذا عهدي بك. هل تسايرني وتجاريني خوفًا من غضبي؟»

فتحير إسماعيل في أمره وتردد بين أن يجيبه أو يبقى على الكتمان. ومع ما يعلم من منزلته عند الرشيد، لم يكن ليُطلق لنفسه الحرية إلا وهو يحاذر من غضبه؛ إذ لا يستبعد أن ينقلب الرشيد عليه إذا تبادر إلى ذهنه سوء الظن به. وهذا جعفر لم يبلغ أحد ما بلغه من الدالة والنفوذ حتى صار الرشيد يدعوه أخاه، ويدعو والده يحيى أباه، فلما شك فيه أصبحت حياته في خطر. فظل إسماعيل ساكتًا يفكر وهو يسير بجانب الرشيد ولا يدري إلى أين يسير به.

فانتبه فإذا هو بباب المدينة، فرأى مسوغًا لتغيير الحديث فقال: «أرانا قد عدنا إلى بغداد. فأين الصيد؟»

قال: «لم أخرج للصيد إلا حيلةً لمرافقتك، وقد أوصيت من يقوم به عني، ولكني لم أسمع منك غير ما يقوله سائر الناس ممَّن يجالسوننا ويصانعوننا، وأنت شيخ بني هاشم وحكيمهم، فلا أقبل منك هذه المصانعة.»

فقال: «أرى أمير المؤمنين حسن الظن بي، وأنا — بحمد الله — عند حسن ظنه، ولكنني لم أسمع منه سؤالًا صريحًا فأجيبه.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤