الفصل التاسع والخمسون

الجدال

فاستغرب الرشيد مفاجأتها إيَّاه بهذه الجرأة، على حين أنه لم يكن يتوقع منها غير التذلل والتضرع، فحمي غضبه، ولكنه صبَّر نفسه ريثما يوجه إليها بعض الأسئلة ويسمع إجابتها عنها، قال: «أتعلمين لماذا جئتك في هذا الليل والناس نيام؟ إلا أنا وأنت؟»

فقالت العباسة: «كلا.»

قال الرشيد: «فلماذا بادرتني بهذه الوقاحة؟»

فقالت العباسة: «سألتني سؤالًا، فصدقتُك في الإجابة عنه.»

قال الرشيد: «لقد جاء الصدق متأخرًا بعد الخيانة التي ارتكبتها.»

فقالت العباسة: «لا أعتقد أني ارتكبت خيانة، ولو سألتني مثل هذا السؤال من قبل ما كذبتك.»

قال الرشيد: «ألم تكوني أخت أمير المؤمنين؟»

فقالت العباسة: «بلى، وأرجو ألَّا أزالَ أخته؟»

قال الرشيد: «ومثلك تخون أخاها في رجل من الموالي؟»

فقالت العباسة: «قلت لك إني لم أرتكب خيانة قط، وحاشا لله أن أخون أحدًا.»

قال الرشيد: «أتجيبينني بهذه القحة وقد أصبح أمرك مشهورًا حتى أذللتني بين الملأ بأمر أتيته لم يخطر ببالي؟»

فقالت العباسة: «وأي أمر تعني يا هارون؟ أو لعلك تعد الصدق خيانة؟»

قال الرشيد: «أعني أمرك مع جعفر الوزير الذي لم يرع حرمتي ولا خشي سطوتي.»

فأحبت العباسة عند ذلك أن تجادله بالبرهان لعله يرِقُّ لها ويعذرها ويُبقيها، فقالت: «إن الوزير لم يخرق لك حرمة، ولا أراد بك سوءًا؛ فارفقْ يا أخي ولا تتعجَّل في حكمك.»

فصاح الرشيد فيها: «لا تَدْعيني أخًا لك؛ فإني بريء من قرابتك.»

فقالت العباسة: «تبرَّأ مني ما شئت، ولكن ذلك الرجل لم يرتكب خيانة.»

قال الرشيد: «ويحك! ألا تزالين تحاولين الكتمان؟! فاعلمي أني عرفت كل شيء، وقد صارحني أرجوان خادمك الخائن بسرِّك، وإذا أصررتِ على الإنكار فإن ولديكما يشهدان على ذلك.»

فلما سمعت العباسة ذكر ولديها تحرَّك حنانها، وخيِّل لها أنها إذا أصرت على الجفاء دفعته إلى إيقاع الأذى بهما، فصغرت نفسها وضعف عزمها عن المقاومة، وغلب عليها الحنان، واستسهلت في سبيل استبقائهما أن تتذلل وتستعطف — وليس أشد وقعًا على قلب الوالدين من أن يصابوا في أولادهم، فإذا خافوا ذلك لا يبالون بما يضحون في سبيل إنقاذهم، ولو ارتكبوا أكبر الكبائر في هذا السبيل، والاستعطاف من أسهل الوسائل — فجثت العباسة عند ركبتي الرشيد، وأرادت أن تتكلم فسبقتها العبرات، فظنَّها تهم بالاعتراف بجريمتها توطئة للاستغفار، فحوَّل وجهه عنها وقال: «قد تحققت أني مُطلَّع على حقيقة فعلك فلم تري بدًّا من الاعتراف والاستعطاف، ولكن هيهات؛ إن من يأتي ما أتيتِ به لا علاج له غير القتل الشنيع.»

فكفكفت العباسة الدمع وتجلدت وهي لا تزال جاثية وقالت: «إني لا أستعطفك من أجل نفسي، ولا أنا أعترف بجريمة، ولكنني أطالبك بحقٍّ لا إخالك تنكره.»

قال الرشيد: «وأي حق تعنين؟»

فقالت العباسة: «تمهل يا أمير المؤمنين — ولا أقل يا أخي لئلا أُغضبك — تمهَّل وأنا أذكر لك ذلك الحق.»

فتجلد الرشيد وقال: «قولي.»

فقالت العباسة: «ألم تعقد عليَّ لجعفر عقدًا شرعيًّا صحيحًا؟»

قال الرشيد: «بلى، ولكنني فعلت ذلك ليحل لكما أن ينظر أحدكما إلى صاحبه، وليس لما وراء ذلك.»

فقالت العباسة: «وهل يجوز العقد على هذه الصورة؟ وإذا جاز في رأيك أنت، فهل يعدُّ مَن يتم شروطه خائنًا؟»

قال الرشيد: «لا تكثري من الجدل، فإنكما علمتما منذ كتابة ذلك العقد أن المراد به النظر؛ لرغبتي في مجالستكما؛ لأني كنت أحبُّكما وأحبُّ حديثَكما.» وهزَّ رأسه وصرَّ على أسنانه. «وهذا جزاء المحبة!»

فقالت العباسة وفي صوتها لحن الملاينة: «ولكن ألا يظن أمير المؤمنين أننا كنا بدون هذا العقد خيرًا منا معه؟»

فقطع الرشيد كلامها وقال: «لا ريب في ذلك؛ لأنكما بعد أن كنتما من أحب الناس إليَّ صرتما أبغض الأبالسة عندي.»

فقالت العباسة: «ولماذا؟ ألأننا أتينا أمرًا حلَّله الله وحرمته أنت. أليست طاعة الله أولى من طاعة أمير المؤمنين؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤