التشاؤم وأدوار العمر١

كان المعري رفيق صباي، عرفته منذ عشرين سنة فلزمته وأقبلت على حديثه أتلقفه وأترنم به، وكان أشوق ما يشوقني منه ذلك السخط الذي تنضح به دواوينه، وذلك الترفع المشوب بمرارة النقمة والألم، وتلك الثورة الساكنة والحرد الصادق الذي لا يقبل التوبة، ثم مضت أيام وسنون بلوت فيها من آلام الحياة ما كنت أتخيله، ورأيت من أوضار النفوس ما كنت أتمثله، فأصبحت أحق بالسخط والتبرم، وأولى بالثورة والتمرد، وأقمن أن يزداد إعجابي بشعر المعري وأن تتوثق صداقتي له، ولكن ما هكذا حدث كما كنت أقدر، بل تغيرت وفتحت الكتاب الثاني من دروس الحياة على استطراد بعيد عن فحوى كتابها الأول، فأنا اليوم أجل المعري، ولكن لا أستشيره وأستمع لحديثه، ولكن لا أصغي إلى سخطه، وإذا أصغيت فليس ذلك الإصغاء الطويل الذي عودته من قبل، ولا ذلك الإقبال المطبوع الذي لا كلفة فيه ولا تجمل، وإنما هو إصغاء بالسمع دون القلب، وإقبال فيه من الأدب أكثر مما فيه من الميل والرغبة، وكثيرًا ما التفتُّ إلى نفسي فجأة، فإذا أنا متشاغل عن حديثه بأحاديث أخرى ما كانت تشغلني عنه فيما مضى.

وكان أول ما قرأت من شعر المعري ضاديته السهلة الجزلة التي يقول في مطلعها:

منك الصدود ومني بالصدود رضى
من ذا عليَّ بهذا في هواك قضى
بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت
من الكآبة أو بالبرق ما ومضا

والتي يقول منها:

إذا الفتى ذم عيشًا في شبيبته
فما يقول إذا عصر الشباب مضى

تلك قضية كانت عندي لا غبار عليها فلا شك فيها ولا مناقشة، أليس الشباب زهرة العمر وصفوة أيام الحياة؟ أليس الشباب غنيًّا بثروة الحياة، عزيزًا بصولة الفتوة، جميلًا بنضرة الصبا، سعيدًا بنشوة الحب؟ أليس في سن الشباب تخصب العواطف، وتتألق الآمال، وتغرد خواطر النفس تغريد الطير المبكر في فجر الربيع؟ بلى، فكيف يذم الشاب عيشه وماذا يقول إذا صحا من هذه السكرة وصار إلى سن الريب والتجربة والتكاليف الكثيرة؟

إلا أن القضية منقوضة من بعض وجوهها؛ إذ ليس هذا أيضًا ما يحدث كما كنا نقدر؛ فالشباب — ولا نكران — ظالم حين ينقم على الحياة، ولكن ما أشبه الظلم بجهل الشباب وشرته؟ فما من خصلة من تلك الخصال التي ذكرناها للشباب إلا فيها مدعاة لذم العيش في حالة من الحالات وإن كانت في نظر الشيخ لهي غاية الآراب وبلاغ النفس من رضى وإعجاب، فالشباب سن الغنى فهو سن القلق، وهو سن الحب فهو سن اللوعة، وهو سن الإقدام فهو سن الندم، والشباب سن الزهور والجمال فهو سن الدالة والتجني، وكأنما الشاب صبي الحياة المدلل الذي تحنقه الهفوة، ولا يقنعه العطاء ولو كثر، عودته الحياة الكرم فتعود الطمع وذهب يشكو كثيرًا؛ لأنه يطلب كثيرًا، ولا عجب أن يتعاطف الشاكي والمتشائم، ثم لا عجب أن يجد الفلاسفة المتشائمون معظم أنصارهم بين مراتع الشباب الخضراء لا في قفار الشيخوخة الموحشة.

ولا يعرف الشباب ما فيه من نعمة حتى يقارنه بغيره؛ أي حتى يدبر عهد الشباب أو يهم بالإدبار، هنالك يفهم حنين الشيوخ إلى عهد الصبا، وتغني الشعراء بذكرى لياليه ولذاذة جهله ومتعة غروره وتيه غلوائه، هنالك يشتهي ما كان يتبرم به، ويحمد ما كان ينقم عليه، ويضن بما كان يسرف في إنفاقه، فأما في دولة الشباب فلا حرص ولا إشفاق، وليس إلا التبذير وقلة المبالاة بما بين اليدين من كنوز الحياة ونفائسها، وما أقل من يقول مع المتنبي:

ولقد بكيت على الشباب ولمتي
مسودة ولماء وجهي رونق
حذرًا عليه قبل يوم فراقه
حتى كدت بماء جفني أغرق

نعم ما أقل من يبكي على الشباب هذا البكاء، وفي نفسه بقية من ثقته، وعلى وجهه مسحة من رونقه! إن للشباب لثقة لا تزول إلا بزواله، وإن أكبر ما يأسف له الشيخ بعد فوات الشباب إنما هو تلك الثقة، ذلك أنها تحرمه فرصًا كانت وشيكة أن يتملاها في إبانها، فأفلتها من بين يديه اعتمادًا على دوامها، وكأس صفو كان متاحًا له أن يشتفها فأهرقها جهلًا منه بمقدارها، وهي تلك الثقة التي كثيرًا ما أعمته عن خلل كان هينًا عليه أن يرتقه في حينه، وضرر كان أحرى به أن يتقيه قبل استفحاله، إنما يأسف الشيخ على لذة كان من حقه اغتنامها فلم يغتنمها، وخطأ كان ميسورًا له اجتنابه فلم يجتنبه، وإلا فعلام البكاء ولدى الباكين أيام وليالٍ باقية لاغتنام تلك اللذة، واجتناب ذلك الخطأ؟ إنما على فوات هذه الفرص تطول الحسرة ويشتد الندم، ويبكي الباكي حتى يغرق بماء جفنه لو بقي للشيخ هذا المعين الثرار من الدموع الطيعة، ولو تسنى لشاب أن يفقه ما يبكي من الشباب الراحل قبل فواته لما طال نظره في أعقاب تلك الجوهرة المجهولة، ولما وقف في مفترق الطريق ينظر إليها كما ينظر العابر الذاهل إلى الشهاب المختطف في الأفق البعيد.

فغير عجيب إذًا أن يكثر دعاة التشاؤم في أجمل أدوار العمر وأحفلها بمسرات الحياة، وغير عجيب أن ترى الناس يميلون إلى الرضى والأنس بالحياة كلما طالت عشرتهم لها، وريضت نفوسهم لمكارهها وطيباتها، هذه سنة كثير ممن صحبوا هذه الشيخة الفتية ونزلوا على حكمها تارةً وأنزلوها على حكمهم تارةً أخرى، فجيتي حولته السن من «الفرترية» إلى «الفاوستية» وهيني تغير سخره من الزمن فصار مداعبة للحياة وتبسطًا معها بعد أن كان تبكيتًا لها وازدراءً عليها، ونيتشه أعرض عن أستاذه شوبنهور وانتقض عليه بعد أن تعبد بعبادته وأخلص له الحب والولاء زمنًا ليس بالقصير، والمعري نفسه ثاب إلى شيء من الطمأنينة والإيمان فحمد أشياءً كان يذمها في شبيبته، وسكن إلى تداول الحالتين فعلم أننا:

إذا فزعنا فإن الأمن غايتنا
وإن أمنا فما نخلو من الفزع
وشيمة الأنس ممزوج بها ملل
فما ندوم على صبر ولا جزع

وألف الآلام فاستهان بها، و:

إذا ألف الشيء استهان به الفتى
فلم يره بُؤسى يعد ولا نُعمى

وقد يشاهد مثل هذا عند كل فتى وكل شيخ من الكاتبين وغير الكاتبين، فكلهم شكا في الحياة أمرًا ثم ألف ذلك الأمر، وكلهم ذاق من مائدة التشاؤم فاستعذب طعمه واسمترأ اسمه، ثم تغير له ذوقه وتنكرت له معدته، ولكنا نريد أن نتريث هنا متنبهين؛ لئلا نحسب الشكوى العارضة تشاؤمًا فلسفيًّا، أو نجاري أولئك الذين يخالون أنفسهم من المتشائمين وما هم في حقيقة الأمر إلا من الشاكين المتذمرين، فالشاب يشكو، ولكنه قل أن يتشاءم، والشيخ يرضى ولا يلزم من ذلك أن يكون متفائلًا، فلربما قنع المرء لقلة ما يطلب وضعف ما يحرك نفسه من بواعث الحياة ويثير سخطه من ثوائرها، ولربما شكا ونفسه مكتظة بالشعور طافحة بالحياة لكثرة مطالبها في قلبه، وشدة دفعتها في عروقه، وقوة اضطرابها في عواطفه، فهل يُسمى هذا متشائمًا وإن حسب نفسه كذلك؟ كلا ليس هذا تشاؤمًا بالمعنى الصحيح، وما أجدر التشاؤم أن يكون دليلًا على نضوب في معين الحياة، وشح في نصيب صاحبه من التخيل والشعور.

•••

وبعدُ، فماذا ينبغ أن يفهم من قولنا: إن الإنسان يحنق على الحياة؛ لأنه يطلب منها الكثير؟ هل معناه أن الراضين عن الحياة لا يطلبون منها إلا قليلًا، وأن الرضى عن الحياة مقرون بضعف الثقة بها وسوء الظن بآمالها وأمثلتها العليا؟ هل معناه أننا نأخذ من رضى الحياة بقدر ما ندع من طلب الكمال؟ ليس هذا المعنى الذي أردناه، وما من قصدنا أن نقول: إن الإيمان بالمثل الأعلى موقوف على الحانقين الساخطين، وإن اليأس أو القنوع من ديدن الراضين المستبشرين، إننا لا نسمي الرجل بعيد المطامع؛ لأنه يطلب الغنى من مصباح علاء الدين، ولا نسميه فاتر الهمة ضعيف الأمل؛ لأنه يطلب الغنى من منجم أعدت معداته وسبرت أغواره ودرست مراقبه ومنحدراته، ولقد يكون الأول أعز مطلبًا وأبعد غايةً من الأخير، ولكن ماذا على من يطلب من غير حساب أن يطلب الدنيا والآخرة؟

١  البلاغ في ١٥ أكتوبر سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤