أناتول فرانس١

بلغ الثمانين من عمره فاحتفلت به فرنسا، ومَن أولى من أناتول فرانس بأن تحتفل به فرنسا؟ إنه هو ترجمان عبقريتها اللاتينية، وعنوان آدابها ورسولها القائم في هذا العصر بدعوة الشكوكية، وهي على ما يظهر دعوة فرنسا التي انفردت بها في الزمن الأخير وأخذت على نفسها أن تبرز للعالم رسلها منذ أخرجت فولتير فكونت فرينان، بل منذ أخرجت مونتاني الذي جعل شعاره «ماذا أعرف؟» إلى أن أخرجت في هذا العصر أناتول فرانس القائل: إن الحق الإلهي — أي الحق المطلق — كيوم القيامة يسحق هذا الوجود سحقًا.

حمل أناتول فرانس لواء الشك في عصر الشكوك وجعل حقيقته هي الحقيقة العليا بأسلوبٍ رائع ونفس مطمئنة تدل على أن الشك لا ينتزع من طبيعتها انتزاعًا، وإنما هو آتٍ من معدنه الذي يجود به عفوًا بلا كد ولا غصب ولا غرابة، وليس كذلك الشك الذي تقرؤه في كتب الإنجليز والروس والألمان، فإنك قد يخيل إليك وأنت تقرؤه أنك تصغي إلى معركة أو تسمع اعترافًا مكرهًا يُساق صاحبه سوقًا إلى أن يبوح به فيقوله وهو نادم عليه متعجل لإظهاره.

والرجل الآن في الثمانين قد بلا من الحياة حلوها ومرها واستطلع منها سرها وجهرها، فاسأله ماذا علمت من الدنيا، وماذا أفادتك السنون ولقنتك من الحقائق الثابتة مما لم تلقنه اليفع اللاعب والطفل الرضيع؟ سله هذا السؤال يقل لك: «لا شيء»! فلا حقيقة على الإطلاق ولا رأي يتنزه عن الخلاف، وما من قولٍ في الفلسفة والآداب إلا وفي وسع العقل أن يقيم البراهين على صحته، ثم يقيم البرهان على بطلانه، ألم يحاول زينون أن يثبت بالحجة الدامغة أن السهم الطائر لا يتحرك؟ فقم أنت وأثبت نقيض ذلك وقل: لا! إنه ليتحرك فيسلس لك الدليل وتؤاتيك البينة، بل ربما كان إثبات حركته أصعب عليك من إثبات سكونه «لأن الأدلة تحجم عن الحقائق العيانية حتى ليمكن أن يقال: إن كل شيء صالح للبرهان إلا ما تشعر في نفسك بأنه حقيقة»، كما يقول شيخ الشاكين في مقاله عن فلسفات الجمال أو قصور الورق كما يسميها، والحقائق كلها اعتبارية نسبية، والعقل لا يحتمل الحقيقة المطلقة «فلو نقص الكون فجأة إلى حجم البندقة وحفظ كل شيء نسبته لما علمنا بأي تغيير فيه ولظل نجم القطب الداخل معنا في قشرة هذه البندقة يرسل نوره إلينا في مدى خمسين سنة كما كان قبل ذلك» وهذه هي فلسفة النسبية التي أعلنها أناتول فرانس وأدى رسالتها قبل أن يظهر أينشتين صاحب هذه الفلسفة في عالم الرياضة والعلوم، وليس أظرف من تهكم هذا المتهكم الكبير على الأدلة والبراهين حين يقول بلسان «ألبرتس ماجناس» في المجلس الذي عقده للأبرار في عليين للبحث في خلود الروح! «عندنا ثلاثون دليلًا في جانب فناء الروح وستة وثلاثون في جانب خلودها، فهناك أغلبية ستة أصوات في جانب الخلود …» فهل رأيت أظرف من هذه الفلسفة الدستورية؟ وهل قرأت أعجب من بحث الخالدين في حقيقة الخلود وهم في ساحة عليين؟

وقد بلغ من شك أناتول فرانس أنه يشفق على الحماقات من التفنيد؛ لأنه يعلم أنها متبوعة لا محالة بحماقات أخرى تحل محلها وقد تروقنا مثلها، ويقول: «إنني أعتقد أن الإنسانية لا تزال لها ذخيرة واحدة من السخافة والبلادة في كل حين، فلا تنقص ولا تزيد، وكأنما هي رأس مالٍ لا ينفد، وإن اختلفت البضاعة التي تصرفه فيها.

والأمر الحقيق بأن يُعرف هو: أليست الحماقات والترهات التي جللها القدم هي خير ما يربحه الإنسان من رأس مال بلادته؟ فالحق إنني لا أغتبط حين أرى حماقة من الحماقات العتيقة تتحطم وتندثر، بل تراني أفكر في الحماقة التي لا بد أن تخلفها وأقول لنفسي متوجسًا: ألا يمكن أن تكون الحماقة الجديدة أصعب على نفوسنا وأخطر من الأولى؟ فإن الحماقات القديمة بعد درس المسألة من جميع وجوهها لهي أهون محملًا من أخواتها الجديدة؛ لأنها صقلت بصقال الزمن، وكاد القدم أن يمحو عنها إثمها ويكفر عن خطيئتها.»

ويلوح لنا كأن أناتول فرانس يريد أن يشك حتى في هذه الحقيقة، وهي أنه إمام الشكوكية في هذا العصر بلا مدافع، فهو يقول في حديقة أبيقور: «نحن نحكم الشكوكية على كل من لا يشاطروننا أوهامنا دون أن نسأل لعل لهم أوهامًا أخرى.» وقد يُفهم من هذا أن أبيقور الحديث يأبى أن يضاف على شيعة بيرهون؛ لأنه يعلم أن له أوهامًا كأوهام المؤمنين، ولا يريد أن يسلم باختلاف بينه وبين جماعة المعتقدين والمصدقين؛ فإن كان هذا ما أراد، فأي اختلافٍ أكبر من الاختلاف بين المعتقد بأن له حقائق، والمعتقد بأن له أوهامًا لا أكثر ولا أقل، ذلك يهم ولا يعلم أنه واهم، وهذا يهم ويعلم أنها أوهام في أوهام، وهذا هو الفرق العظيم؛ أو هذه هي المسألة كما يقول شكسبير.

على أنه لا شك في شك أناتول فرانس، فهو لا يؤمن بشيء على التحقيق ولا يخلي مثلًا من أمثلة الحياة العليا من الوهم والخداع، حتى الفن الذي يقف عليه نفسه ويلبس اليوم مسوح الكاهن القانت في معبده ما هو إلا خيال، وما لذته إلا اختراع من مخترعات النفوس، وخير ما يوضع على لسانه من حكم شعرائنا قول الشريف:

قف موقف الشك لا يأسٌ ولا طمعُ
وغالط العيش لا صبرٌ ولا جزعُ
وخادع القلب لا يود الغليل به
إن كان قلب عن الماضين ينخدع
وكاذب النفس يمتد الرجاء لها
إن الرجاء بصدق النفس ينقطع

فهذا المعنى الذي ضمنه الشريف أبياته القوية هو لسان حاله في كل رأيٍ ومذهب، وعادته التي تهيمن على مزاجه فيما يباشره من تعلات هذه الحياة.

ولكن الفرق بينه وبين غيره ممن يقولون بهذا القول، أنه لا يزدري الأماني المخترعة، ولا يهجرها ليأخذ بدين الواقع المحدود الذي يدين به صغار النفوس وضعاف العقول، بل هو يرى أن أفضل فضائل هذا الواقع الذي يهتف به المنكرون أنه يعيننا أحيانًا على الخيال، وهو أنفس ما في هذه الحياة، وأصدق ما يكشف لنا من غاياتها.

ومن الناس من يشك في كل شيء لاحتقاره الكون وضيق نفسه عن استيعاب ما فيه من جمالٍ وعظمة، أما أناتول فرانس فلا يشك في الحقائق الرائجة إلا لإعظامه هذا الكون وإكباره إياه عن أن يحصره العقل في فكرة محدودة لا تقبل النقض ولا المناقشة، فلا تجزم برأي في كنه الوجود فهو أكبر من أن تحده بخيالك «وكل ما خطر ببالك فالكون بخلاف ذلك» واقبل كل رأي في الأخلاق والأديان على السواء، أو ارفض الآراء كلها على السواء، فأنت على مسافةٍ واحدة من الخطأ أو من الصواب في كل حال، قل مع أقريطس في المأدبة التي أدبها الكاتب في رواية تاييس «إن كان حقًّا أن الفضيلة قد ذهبت من هذا العالم ذهاب الأبد، فماذا يعنيني من ذلك وأي أثرٍ له في سعادتي، وما كان وجودها ولا ذهابها باختياري؟ إن الذين يجعلون سعادتهم في أيدٍ غير أيديهم لهم الحمقى المجانين؟ أما أنا فإني لا أريد شيئًا لا تريده الآلهة، كما أني أريد لنفسي كل ما أرادوه، وبهذا أصبح نظيرهم وأشاركهم في صمديتهم، فإذا هلكت الفضيلة رضيت بهلاكها، وأفعمني هذا الرضا بالفرح؛ لأنه أقصى ما ينتهي إليه جهد عقلي وشجاعتي، وستحذو حكمتي في كل شيء حذو الحكمة الإلهية، فتكون الصورة أنفس من النموذج؛ لأنها كلفت أكثر مما كلفه فكرًا وعملًا.» قل هذا مع أقريطس ثم قل مع نقياس ساخرًا: «إني أفهم! أنك تضع نفسك مع الآلهة في مستوى واحد، ولكن لو كانت الفضيلة مقصورة على هذا الجهد الذي يبذله أتباع زينون ليسموا بأنفسهم إلى رتبة الآلهة، فالحق أن الضفدع التي نفخت نفسها لتصبح كالثور في ضخامته قد أتت بآية معجبة من آيات الفلسفة الرواقية.» وادع مع بفنيوشس إلى الله، أو ادع مع زينوثمس إلى الأساطير، أو ادع مع تيموكليس الناسك القوصي إلى العدم، فالعقل لا يخذلك إن استنجدت به، ولا يضن عليك في حالةٍ من هذه الحالات بحججه وأقيسته، إذن ماذا؟ نعم ماذا وراء هذه الشكوك المائجة والخواطر المضطربة؟ ألا نزال هكذا نثبت وننقض ونقبل ونرفض ونرجم بالظن في كل ما تحتويه الحياة؟ أليس للحياة برٌّ ثابت تستقر عليه القدم؟ بلى لها برٌّ ثابت، وأين؟ في عالم الإحساس.

فلا معرفة إلا فيما تحسه، ولا حقيقة لك إلا الشعور، فاشعر بكل ما في الحياة من لذةٍ وألم، ومن متعة للفكر والجسد، واستوف حظك من شعورك، تنل كل ما تخولك هذه الدنيا من معرفة. «وهذه الحقيقة المباركة المنجية منطوية في جميع الديانات، وهي أن للناس قائدًا أجدر بالثقة من العقل، وأن الأولى بنا أن نصغي إلى ما يمليه القلب»، غير أن القلب يقودك إلى الأمل في المستقبل، فلا تكذبه ودعه يستمتع بهذا الشعور الذي يبعثه فيه أمله، واعلم أن الشاك الأكبر نفسه يأمل في المستقبل ويعلق بعض الرجاء على خلائق لا يدركها العقل ستخرج من هذه الإنسانية في يومٍ من الأيام، كما خرج الإنسان من الحيوان الأعجم، وهذا أمل تقبله أنت أو لا تقبله سيان، فاسخر منه إن شئت، فسيسخر صاحبه من أملك إن شاء، ولكن ثق أن سخرية هذا العقل السمح الكريم ليست بالسخرية القاسية، وأنها كما قال: لن تسخر من الحب والجمال.

فالشعور هو مادة الحياة والعقل زيادة طارئة، وذلك رأي كرره الكاتب في معارض شتى تختلف في الأسلوب والتدليل، ولكنه أدنى إلى الوضوح والتفصيل في عبارته التي ساقها بلسان بوليفيل من كتاب بييرنوزيير — أي مذكرات أناتول فرانس نفسه — وهي «أن الإنسان لا يعيش بالعقل، وأن العقل لا ينظم وظائف الحياة، ولا يشبع الجوع والحب، والدم يجري في العروق بغير وساطته فهو شيء غريب عن الطبيعة، وهو إما عدو للأخلاق، أو غير مبالٍ بها، ولا يد للعقل في توجيه غرائز الإنسان الخفية، ولا في تربية أطوار الشعور الدخيلة التي يتميز بها قوم عن قوم، ولا فضل له في توليد الآداب والعادات، وليس العقل هو منشئ الديانات المقدسة والقوانين المبجلة، وإنما نشأت هذه الديانات والقوانين في ظل الماضي الرهيب من معالجة الاجتماع لوظائف الحياة الأولية.» وأكثر من ذلك: «أن الناس لا يبقون في الحياة إلا لأنهم لا يفهمون إلا قليلًا، ولا يفهمون ذلك القليل إلا على وجهٍ ناقص، فالغباء والخطأ لازمان للحياة لزوم الخبز والماء، ولكي يكون العقل مأمون الضرر في المجامع البشرية يجب أن يكون نادرًا وهذا هو الواقع! وليس ذلك؛ لأن كل شيءٍ في العالم مقدر تقديرًا لغرض صريح هو حفظ النوع، بل لأن الحياة لا يتهيأ لها أن توجد إلا في الظروف الملائمة لها، ولا غلو في قولنا: إن النوع الإنساني في جملته مطبوع على كراهة غريزية للعقل، وأنه على اعتقادٍ عميق القرار يوحي إليه أن هذه الكراهة موافقة لخير مصالحه.»

هذه هي فلسفة أناتول فرانس في الحياة، ومهما تكن للشكوك من حجة، فلا ريب في أن القدرة التي تصرف مقادير الوجود ليست بالشكوكية، ولا بالتي يصح أن يكون شعارها «إن كل شيء ككل شيء» وإلا لما وجد شيء على الإطلاق، فإن لم نعرف بالعقل ما مرادها وما حكمتها فلنوقن بالشعور أن هناك حقًّا يستحق أن نوقن به، وذلك حسبنا من الإيمان.

وأناتول فرانس لا يتفلسف وإن بحث في أعضل مسائل الفلسفة وتوغل في مشاكلها العويصة وفروضها المجردة؛ فهو الفيلسوف الفنان والمفكر الصناع والكاهن الأنيق، وربما هزأ بلغة الفلاسفة المعقدة في اصطلاحاتها المبهمة، وهو يعلم من أسرارها ما يعلمه أغمض الفلاسفة المغمضين، وطريقته في الكتابة على الدوام هي الطريقة التي يوصي المدرسين بالنهج عليها في التعليم حيث يقول: «كن فيلسوفًا، ولكن تلطف في إخفاء فلسفتك حتى تعود شبيهة بالعقول التي تسمعها في البعد عن التصنع، واجتنب لغو الاصطلاحات ثم اشرح بلغةٍ سهلة يفهمها الجميع نخبة قليلة من الحقائق العظيمة التي تحرك الخيال وترضي العقل، ولتكن لغتك بسيطة شريفة سمحة، ولا يعجبك أن تعلم مقدارًا كبيرًا من الأشياء ولا تقلق نفسك لإثارة حب الاستطلاع.» فهذه هي الطريقة التي سار عليها الكاتب الكبير في جمع كتبه، فجاءت مثلًا بليغًا من السهل الممتنع الذي تغري سهولته من لم يقتحم هذه المآزق، وتمتنع الإجادة فيه على غير الأئمة المبرزين، ولا يجد القارئ في تصفحها عناءً يصد عقله ولا وقرًا من الأفكار يشق عليه حمله، فهي مائدة سهلة مخففة مفتوحة للجميع بلا فارق بين العارف والجاهل، والكبير والصغير، فإن خفي على القراء شيء من ذخائرها وأطايبها فليس ذلك لأن المضيف أخفاها عنه، بل لأنه هو لم يلتفت إليها ولم يَمْدُدْ يده لتناولها، واللوم عليه لا على صاحب المائدة إن خرج منها جائع النفس شاكيًا من الحرمان.

ولا يضيع الوقت الذي تقضيه في قراءة أي كتاب من كتب أناتول فرانس ولو أَمَلَّكَ بعضها ولم يجتذبك موضوعها، ولكنك إن كنت من الراغبين في الاختصار المشغولين عن التقصي، فاكتف منه بتابيس وحديقة أبيقور، بل اكتف بحديقة أبيقور فإن فيها على إيجازها بلاغًا من فلسفة الرجل في الأدب والحياة، وخلاصة طيبة للمجلدات الكثيرة التي يسح بها ذلك القلم الفياض.

وإلى هنا تكلمت عن أسلوب الفكر، أما أسلوب اللغة وبيانها فليس لي أن أبدي فيه رأيًا؛ لأني أقرؤه مترجمًا ولا أعرفه إلا سماعًا، والظاهر مما يُنقل إلى اللغة الإنجليزية من النقد الفرنسي أن المدرسة الحديثة في فرنسا تنظر إلى كتابته نظرتها إلى الآثار الجليلة التي يُعجب بها القارئ، ولا يمنعه ذلك أن يشعر بفوات وقتها؛ لأن النزعة الجديدة منصرفة إلى الابتكار، بل إلى الاعتساف في الابتكار، فهي لا ترضى عن الأساليب المقررة والبلاغة المألوفة ولا يروقها إلا ما يروع ويدهش ويهز النفس ويستفز الإحساس، وهذا مذهب لا يرضاه أناتول فرانس لفكره ولا لقلمه، وستفصل الأيام بينه وبين عشاق التغيير والتنويع من نقاده، ولا نخالها إلا ستحكم له لا عليه؛ لأن البلاغة الحقيقية بليغة في كل زمان.

على أنه بعد كل ما يقال إمام من أئمة الأدب باتفاق الجميع، وأستاذ من أساتذة البيان بلا نزاع.

١  البلاغ في ٢٢ أبريل سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤