عمانويل كانت (١)١

ترجمة حياته

ترجمة حياة كانت! وهل لكانت حياة؟ وهل لحياته ترجمة؟ إن من أصعب الصعب — والعهدة على هيني الشاعر الفكه الظريف — أن تكتب لكانت ترجمة حياة؛ لأنه لا حياة له ولا ترجمة لحياته، إنما هو آلة مفكرة، وهو آلة عظيمة بلا شك، ولكنها آلة كسائر الآلات؛ تسير بميعاد، وتقف بميعاد، وتأكل وتشرب وتنام وتستيقظ وتقرأ وتكتب وتتريض بميعاد، فهو في الساعة الخامسة؛ الخامسة بلا زيادة ولا نقصان يبرح فراشه، وبعد ذلك بدقائق يتناول قدحين من الشاي أو القهوة ويدخن، ثم يعمل في القراءة والكتابة والمراجعة ساعتين، ثم يلقي محاضرته، ثم يعود مكتبه فلا يفارقه حتى الساعة الواحدة، ثم يستعد للغداء فيقضي على المائدة ساعتين أو ثلاثًا مع رفاقه وأصحابه، ثم يخرج في الساعة الرابعة لرياضته المشهورة لا يقدم دقيقة ولا يؤخر دقيقة.

وسواء صاف الزمان أم شتا، وصابت السماء أم أقلعت، وطاب الهواء أم كدر، وامتلأ الطريق أم صفر، فالسابلة في الطريق الذي عرف بعد ذلك باسم الفيلسوف على يقين من أن صاحبهم لن يخل بالموعد لأي سبب، فإذا ظهر في الطريق أومأ بعضهم إلى بعض وأخرجوا ساعاتهم وضبطوها.

ثم يعود إلى المنزل فيقرأ الصحف وما شاكلها من القراءات الخفيفة ثم يحضر درسه لليوم التالي، ثم يذهب إلى فراشه الساعة العاشرة لينام أو ليستلقي فيه إلى أن ينام ولو طال به انتظار النوم ساعات، وهكذا يمر اليوم بعد اليوم، والأسبوع بعد الأسبوع، والشهر بعد الشهر، والسنة بعد السنة، وهذا النظام على وتيرته لا يتغير ولا يعتريه نقص ولا إضافة، فأي ترجمة تكتبها لهذه الآلة الدورية؟ وأي حياةٍ تشتمل عليها تلك الترجمة؟

وصحيح أن الرجل لم يكن آلة في نفسه، وإن كان آلة في معيشته، صحيح أنه كان قوة تُدير، ولم يكن بالقوة التي تُدَار، وأنه كان نفسًا تشعر، لا آلة مركبة من الحديد والخشب، وكان يحب الطيور ويأنس بالأطفال، ويعطف على الضعفاء وطلاب الحرية في كل أرض، وكان ودود النفس يحتمل من خدمه الأذى الذي لا يحتمله الناس من ساداتهم، وكان ما شئت من كرمٍ وبر بالمساكين على ما به من خصاصة وقلة، صحيح هذا كله بلا ريب، ولكن ماذا يعني هيني من كل هذا؟ إن الحياة هي الحب وهيني هو القائل: «أنا أقبل فأنا أعيش.» معارضًا لقضية ديكارت القائل: «أنا أفكر فأنا موجود.» فمن كان يقبل فهو عائش، ومن كان يفكر فهو موجود ليس إلا، و«كانت» لا يقبل فهو لا يعيش، ومن ثم لا تكتب له ترجمة حياة، هذه قضية منطقية لا تقبل الجدال!

على أن «كانت» لم يحب حتى يُقَبل، بل لم يتزوج ولم يخطر له خاطر الزواج إلا مرتين لم يبلغ في واحدةٍ منهما حد المكاشفة، بل وقف في المرتين عند التفكير والتردد والموازنة بين دخله وما تقتضيه معيشة الزواج من نفقة، وفيما هو يفكر في المرة الأولى تزوجت صاحبته، وفيما هو يفكر في المرة الثانية رجعت صاحبته الأخرى إلى وطنها «وستفاليا» قبل أن يهم بخطبتها، وكانت هذه المرة خاتمة عهده بالزواج والتفكير فيه.

ولكن ما قول هيني ومن يرى رأيه في «كانت» إذا علموا أن كتبه الفلسفية الجافة التي لا قُبل فيها ولا غزل بين سطورها كانت تندى على بعض القلوب المقروحة، وكان يجد فيها بعض القراء سلوانًا وعزاءً من تبريح الهوى وآلام الهجر؟ فمن بين الرسائل الباقية التي كانت ترد إليه رسالة من نبيلة نمسوية كتبت إليه تناديه «يا كانت العظيم! إليك ألجأ كما يلجأ المؤمن إلى إلهه.» ومضت في رسالتها تبثه لواعجها وتقول: إنها أحبت ولكن حبيبها يصادقها ولا يحبها، وأنها لولا كتبه لقتلت نفسها، وقد قتلت نفسها فعلًا ولكن بعد موت «كانت» ببضعة شهور.

وهذه قصة عجيبة غير أنها شبيهة بذلك العصر الذي ضلت فيه العقول، فثقل محملها على القلوب، واضطربت الأفكار فزاغت العقائد، وأصبح المنطق بلسمًا للقلوب التي أشقتها عقولها وبلبلتها خواطرها، فربما كانت فلسفة «كانت» أنفع لبعض العشاق في عصرها من أغاني الشعراء وقصص الغرام، وهي مع هذا أجف وأصلب ما كتب في الفلسفة، وأفقر المباحث العقلية إلى الطلاوة وحسن الصياغة.

نعم كانت كتب «كانت» قليلة الطلاوة، وكانت مثلًا في صعوبة الأداء ويبوسة العبارة، وهو الأمر الذي كان يعجب له سامعوه وحاضرو دروسه وأحاديثه، فقد كانوا يسمعونه بليغًا خلابًا في محاضراته، ويقرءونه قاسيًا مملًا في مؤلفاته، وكان الطلاب يبكرون ساعة قبل موعد درسه لازدحام القاعة وشدة الإقبال على سماعه، أما كتبه فما كان يقرؤها إلا القليلون وما كان يفهمها إلا النزر المختار من هؤلاء القليلين، وقد سئل «كانت» في ذلك مرارًا، فكان يقول معتذرًا: إنه يضع مؤلفاته للأخصائيين من دارسي الفلسفة، ويتوخى الإيجاز في عبارته ولا يسلم الموجز من غموضٍ واقتضاب، وإنه يحب أن يترضى غرور القراء بشيءٍ من الإبهام والتعمية يتخلل به كتاباته ليعملوا أذهانهم في حل ألغازها وتفسير غوامضها، ويستمرئوا راحة الفهم بعد مجاهدة الفكر.

ومما يُروى عن فصاحة «كانت» وخلابة منطقه أنه نجا من المبارزة يومًا لحسن بيانه وقوة برهانه، وذلك أنه كان يتمشى بعض الأيام في إحدى الحدائق العامة فلقي جماعة من أصحابه هناك فوقف يحادثهم، واستطرد به الحديث إلى الخلاف الذي كان قائمًا في ذلك الحين بين الإنجليز والأمريكيين، فاشتد في مؤازرة الأمريكيين وتأييد حقهم، وأنحى على الإنجليز إنحاءً فيه بعض العنف، فما راعه إلا أحد الواقفين مع أصحابه يتقدم إليه ويقول له: إنك أسأت إليَّ وإلى أمتي؛ لأني إنجليزي من تلك الأمة التي أنحيت عليها، وإني مطالبك بالترضية وفاقًا لقانون الكرامة، قال ذلك متميزًا مهتاجًا، فلم يكترث الفيلسوف ولا غيَّر مجرى حديثه، ولكنه ذهب يشرح رأيه ويفصل الأسباب التي دعته إلى مظاهرة الأمريكيين ومؤاخذة الإنجليز ويقول: إنه ينصر الحق الذي يجب على كل إنسان — وطنيًّا كان أو غير وطني — أن ينصره، واسترسل في هذا البيان يتبع الحجة بالحجة، ويشفع النصيحة بالنصيحة حتى هدأت ثائرة الإنجليزي، وبهرته بلاغته ونبالة نفسه، فتقدم إليه معتذرًا من حدته ورافقه إلى منزله وقضى معه السهرة ودعاه إلى زيارته، فكانت فاتحة صداقة دائمة ومودة حميمة.

وصداقة هذا الإنجليزي للفيلسوف تستحق التنويه؛ لأنها ربما كانت سبب ما عُرف به «كانت» فيما بعد من دقة المواعيد وتنظيم الحركات والأعمال، فإن هذا الرجل — واسمه جرين — كان واحدًا من ذلك الطراز الإنجليزي الذي اشتُهر في القرن الماضي خاصةً بالدقة المفرطة في ترتيب أوقاته، والشدة البالغة في احترام كلماته، بل حروفه، ومن نوادره مع «كانت» أنهما تواعدا مرةً على الركوب في الساعة الثامنة للنزهة، فما جاءت الساعة الثامنة إلا ربعًا حتى كان جرين مستعدًّا في غرفته والساعة في يده، فلما بقي من الموعد عشر دقائق لبس قبعته، فلما بقيت خمس دقائق تناول عصاه، فلما دقت ساعة الحائط الدقة الأولى فتح باب المركبة وانطلق في طريقه، ولم يبعد غير يسير حتى لقي «كانت» قادمًا في الطريق، ولكنه لم يقف ليأخذه معه؛ لأنه تأخر عن موعده دقيقتين!

نقول: ربما كانت هذه الصداقة فاتحة التاريخ الآلي في حياة «كانت»، ولا بد من الاعتراف بهذه الآلية التي سخر منها هيني؛ لأنك لن تقلب من تاريخ الفيلسوف كله إلا صفحة مكررة، ولن تنتقل فيه من مرحلة إلى مرحلة غير أرقام السنين وتواريخ الكتب التي ألفها والوظائف التي تقلدها، فالتناقض على أتمه بين حياته الظاهرة وحياته الباطنة، أو بين معيشته وأثره في عصره، والتغييرات التي طرأت على معيشة الرجل الظاهرة تحصر في بضع صفحات، أما التغييرات التي أحدثها في آراء الناس وعقائدهم، فلا تكفي لشرحها المجلدات، وإليك مجمل ترجمته من يوم مولده إلى يوم وفاته.

ولد كانت بمدينة كونجسبرج في يوم ٢٢ أبريل من سنة ١٧٢٤، فهم يحتفلون في هذا الشهر بمضي مائة سنة من يوم ولادته، وكان رابع أولاد أبيه، وهو رجل من أصل إيقوسي يحترف صناعة السروج، وكانت أمه امرأةً صالحة فرغبت ورغب أبوه في تعليمه علوم الدين لخدمة الكنيسة، ثم ماتت أمه وهو في الثالثة عشرة ولم يتحول أبوه عن رأيه، فدخل «كانت» الجامعة بعد ذلك بأربع سنوات ليتلقى دروس الكهانة، ووعظ مرة أو مرتين في إحدى الكنائس القريبة على سبيل التمرين، إلا أنهم فضلوا عليه طالبًا آخر في سلك الفئة التي ترشحها الجامعة للتخرج في الكهانة، فأقبل على دراسة الفلسفة والرياضيات، وهكذا كان اتجاه أعظم الفلاسفة المحدثين إلى طريق الفلسفة مصادفةً واتفاقًا، ثم اضطرته الفاقة إلى طلب الرزق من صناعة التعليم، فاشتغل بتربية أبناء الأسر المتوسطة مع مثابرته على التحصيل في الجامعة حتى جاز امتحان الأستاذية في سنة ١٧٥٥؛ أي في الثالثة والثلاثين من عمره.

وشرع من ثم في إلقاء محاضراته في الرياضيات والطبيعيات والفلسفة عشر سنوات معتمدًا في الفلسفة على آراء ولف وبومستر وبومجارتن مع قليل من التصرف، وكان إعجاب الطلبة بفصاحته عظيمًا، حتى إن هردر الأديب الألماني الكبير — وكان أحد تلاميذه — نظم إحدى محاضراته شعرًا لما استحوذ على نفسه من بلاغتها وسحر معانيها، فكافأه الأستاذ على ذلك بإلقاء المحاضرة المنظومة على زملائه الطلبة قبل البدء في محاضرته الجديدة.

واشتهر اسمه في ألمانيا فطلبته جامعة أرلنجن لتدريس المنطق وما وراء الطبيعة، وطلبته جامعة جينا لمثل هذا الكرسي، ولكنه بقي في موطنه على حالٍ من العسر المستور بالتجميل إلى أن خلت وظيفة أستاذ المنطق وما وراء الطبيعة في جامعة كونجسبرج، فعُين لها بمرتب ستين جنيهًا في السنة عدا مصاريف المحاضرات في ٢٠ أغسطس سنة ١٧٧٠، ووافق ذلك عهد وزارة زدلتز المعروف بحريته وميله إلى الإصلاح، فتولاه بكلاءته فلم يبال أن يجهر برأيه في ذلك العصر الذي لا يأمن فيه الفيلسوف الحر على نفسه وعلى رزقه؛ وأظهر كتبه في أصول الفلسفة والأخلاق واحدًا بعد آخر، فتلقاها قراء الفلسفة بلهفة المشتاق، وقال الشاعر شيلر: إنها «نور جديد أنير للناس.» وقال فيخت: «ليس كانت نور العالم، ولكنه منظومة شمسية كاملة.» وفي سنة ١٧٨٦ أسندت إدارة الجامعة إلى «كانت» فحسنت حاله شيئًا ما واتسع رزقه بعض الاتساع، وفي سنة ١٧٨٨ استقال زدلتز من وزارة التعليم، فخلفه كريستوف فلنر المتعصب الأحمق فشدد الرقابة على المطبوعات، وحظر طبع كل كتاب يخالف التوراة والكتب المنزلة في رأي رجال الدين، فأصاب «كانت» في ذلك عنت غير قليل وساعد الوزير على اضطهاده للفلاسفة والكتاب خوف الملوك يومئذ من الثورة الفرنسية وكراهتهم لكل جديد في عالم الفكر، وظل الحال على ذلك عدة سنين.

وفي سنة ١٧٩٥ تخلى «كانت» عن جميع دروسه في الجامعة إلا حصة واحدة كل يوم في المنطق وما وراء الطبيعة، ثم تخلى عن هذه أيضًا بعد ذلك بسنتين، وفي هذه الأثناء مات فردريك وليام الثاني، واستقالت وزارته المستبدة، فاستطاع «كانت» أن يظهر من آرائه ما لم يكن مباحًا من قبل، إلا أنه ضعف وخانته الذاكرة وأدركه خرف الشيخوخة رويدًا رويدًا فلزم العزلة، وجعل ذلك العقل الجبار يهذي بأغاني الأطفال التي كان يحفظها في صباه، وأطبق الظلام حول تلك البصيرة النيرة، فجهل أقرب الناس إليه، وبقي في عزلته إلى أن وافاه أجله في يوم السبت الحادي عشر من شهر فبراير سنة ١٨٠٤.

ولم يبلغ فيلسوف حديث في حياته ما بلغه «كانت» من بُعد الصيت وعلو المنزلة وحب الناس له وسعيهم إلى لقائه من كل صوب على تعذر المواصلات في ذلك العصر، حتى إن طبيبًا روسيًّا خلع معطفه وصداره على خادم الفيلسوف؛ لأنه مكنه من مقابلته في أواخر أيامه وأعطاه مسودة مصححة من بعض كتبه.

•••

فأنت ترى أن ترجمة «كانت» ليست بالترجمة العظيمة، وإن تضمنت سيرة رجل عظيم، أما العظيم فيه فترجمته الباطنة وسيرته الفكرية، وموعدنا بتلخصيها في الأسبوع القادم.

١  البلاغ في أول مايو سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤