عمانويل كانت (٢)١

عمله في الفلسفة

إن عظمة «كانت» ليست في مذهب أنشأه، فإن الرجل لم ينشئ مذهبًا على مثال المذاهب الفلسفية المعروفة التي تبحث في أصل الوجود وتتناول كل شيء فيه تعليلًا وتفصيلًا، وتحاول أن تضعه كله في حيز من الفكر لا يتخطاه، وهو لم يدَّع أنه أنشأ هذا المذهب، بل قرر ما يناقض المذاهب جميعًا ويظهر عوارها وشططها؛ لأنه أنشأ فلسفة النقد وجعل العقل نفسه موضوع بحثه وانتقاده، وإنما عظمة الرجل في شيءٍ واحد هو أنه بين للعالم في عصره ما يمكن معرفته، وما لا يمكن أن يعرف بسبيل؛ أي إنه وضع تخوم العقل البشري وأنزله في مكانه، فحصر جهده فيما يستطاع، وصرفه عما لا يفيد.

قسم «كانت» الحقائق إلى قسمين: حقائق الأشياء في ظواهرها Phenomena وهذه — كما يقرر كانت — يعرفها العقل بالحس والإدراك وتبحث فيها العلوم وتصل منها إلى نتائج صحيحة في بابها، خلافًا للذين أنكروا كل شيء وشكوا في كل شيء، حتى في قانون التجربة والسببية فقالوا: إن ربط السبب بمسببه في الذهن البشري كربط أي شيئين آخرين لا علاقة بينهما، أو بعبارةٍ أخرى إن إدراك التعاقب في شيئين كإدراك الشيئين على التعاقب بلا فرق في الحالتين، فإذا نظرت إلى النهر ثم نظرت إلى البر فهذا كما ترى الحب أولًا ثم ترى الزرع، فلا يصح أن يكون الحب سببًا في ظهور الزرع، إلا كما يصح أن يكون النهر سببًا في وجود الأرض، أما «كانت» فيقيم الدليل على صحة السببية ويجعلها من الحقائق الأولية التي أتت بها النفس من عندها، وينفي قول القائلين أن العقل استفاد العلم بالسببية من التجربة؛ لأن التسليم بالتجربة هو تسليم بالسببية أيضًا.
وحقائق الأشياء في ذاتها Noumena وهذه لا سبيل إلى معرفتها من طريق العقل البتة؛ لأن العقل لا يعرف إلا ما يقع عليه الحس؛ أي لا يعرف إلا الأشياء في ظواهرها، أما الأشياء في حقائقها وكنه وجودها فمن وراء طاقته أبدًا، صحيح أن العقل حين يحكم على شيءٍ من الأشياء يتجاوز الحس الذي جربه إلى نتيجة وراء محسوساته، وأنه إذا قال مثلًا: إن الزجاج الرقيق ينكسر حين يصطدم بالحجر الصلب، فليس معني ذلك أنه قد رأى كل زجاج ينكسر، ولكن هل معناه أنه أدرك شيئًا مما وراء الحس؟ كلا، وإنما هو وسع الحكم في دائرة المحسوسات، فقرر أن الزجاج إذا اصطدم في حالةٍ خاصة بالحجر وقع الكسر، فهو ينقل الحس من دائرة إلى دائرة أوسع منها، وهذا كل ما يستطيع العقل أن يصنعه حين يبني علومه على التجربة؛ أي إنه لا يستطيع الخروج أبدًا من دائرة المحسوسات أو المدركات.

وكما قسم «كانت» الحقائق إلى قسمين كذلك قسم الإنسان إلى قوتين: العقل والإرادة أو الوجدان، فالعقل يدرك الأشياء في ظواهرها، والإرادة تحيط بالأشياء في ذواتها؛ لأنها هي من عالم هذه الذوات، ومن هنا نفهم أن علم ما وراء الطبيعة مستحيل من طريق العقل في رأي «كانت» ولا سبيل إليه إلا من طريق الإرادة التي تحيط بكنه الأشياء.

على أن «كانت» لم يفصل كل الفصل بين عالم العقل وعالم الإرادة أو عالم الحقائق اللدنية، فإننا مع اعتمادنا على المحسوسات والمدركات في تحصيل معارف العقل لا نستغني عن حقيقة أولية نبني عليها هذه المعارف، مثال ذلك السببية التي سبقت الإشارة إليها، فمن أين أتى بها العقل؟ أمن التجربة؟ لا. لأن تسليمك بالتجربة هو تسليم بالسببية كما قلنا، أعني أنك حين تقول: إني جربت كيت وكيت كأنك تقول: إنني ربطت أسبابًا بمسبباتها، فأنت مسلم بأن لكل شيء سببًا قبل أن تبدأ بالتجربة، فالسببية على ذلك حقيقة أولية لم يصل إليها العقل بالبرهان ولا بالتجربة، ولكنه يبني عليها كل ما يجريه ويثبت صحته ببراهينه، وقس على ذلك بقية حقائق «كانت» الأولية.

ولكن «كانت» لم يذكر لنا على وجهٍ قاطع ما هي العلاقة بين الأشياء في ظواهرها والأشياء في ذواتها، فهل الأشياء في ظواهرها جزء ناقص من الأشياء في ذواتها يحتاج إلى تكملة للعلم به على حقيقته، أو هي صورة أخرى مغايرة كل المغايرة لتلك الماهية المحجوبة عن العقل؟ ولا جواب على هذا السؤال، وليس من هَم «كانت» أن يتبسط في الإجابة عليه، بل هو ينتقد الذين يذهبون بالفلسفة إلى ما وراء حدودها ويقول: إننا نقع في التضارب كلما تجاوزنا الحد المأمون الذي نعرفه حق المعرفة.

•••

وقد اعتاد الناس إذا سمعوا بفيلسوف أو قرءوا عنه أن يسألوا عن رأيه في قضيتين: قضية أصل الوجود والاعتقاد بالله، وقضية الأخلاق، فما هو رأي «كانت» في هاتين القضيتين؟

أما رأيه في القضية الأولى فظاهر مما أسلفناه من رأيه في علم ما وراء الطبيعة، فهو يرد العلم بهذه الحقائق إلى عالم الإرادة ويخرجها من دائرة العقل، وقد كان «كانت» لا ينكر وجود الله، ولا يحاول أن يقيم الدليل العقلي على وجوده، ولكنه نصر الملحدين من حيث لم يرد ذلك حين أخذ في توهين الأدلة التي يقيمها الفلاسفة واللاهوتيين لإثبات وجود الله تعزيزًا لرأيه القائل بأن الوصول من طريق العقل إلى علم الأشياء في ذواتها مستحيل، وقد حصر «كانت» هذه الأدلة في ثلاثة هي: (١) أن الله موجود؛ لأن مجرد إدراكنا لوجود كائن كامل هو برهان على وجوده. (٢) أن الله موجود؛ لأن العالم موجود. (٣) أن نظام الدنيا دليل على كمال الله. فقال عن البرهان الأول: إن قولنا إننا لا يمكننا أن نتصور كائنًا من غير أن يكون الكائن موجودًا هو نفسه تسليم بأن الشيء المتصور غير الشيء الموجود، وهكذا يتقوض هذا البرهان قبل أن يقوم على أساسه؛ لأنه يسلم بأن وجود الشيء غير تصوره وتصوره غير وجوده، وقال عن البرهان الثاني: إن وجود العالم قد يدل على وجود موجده، ولكنه لا يستلزم الكمال الأدبي. وقال عن البرهان الثالث: إننا إذا أردنا أن نستدل على صفات الله من صفات العالم التي نراها، وجب أن نصدق أنفسنا القول فنذكر الخلل والعيب كما نذكر الإتقان والحسن، وأسهب في إيراد كل برهان من هذه البراهين وفي الرد عليه غاية الإسهاب.

أما رأيه في قضية الأخلاق، فكرأيه في قضية أصل الوجود؛ أي إنها هي أيضًا خارجة عن دائرة العقل والتعليل، فهو يقسم الأوامر إلى قسمين: قسم الأمر المطلق، وقسم الأمر المعلل، فإذا قال لك قائل: اجتهد لتنجح فهو يبين لك العلة التي تُوجب عليك الاجتهاد، وهذا هو الأمر المعلل وليس هو من الأخلاق، وإنما هو من التماس المنفعة، أما إذا قال لك قائل: افعل الواجب أو كما يقول «كانت» نفسه: «افعل ما تريد أن يكون قانونًا عامًّا لكل فعل.» فليس لهذا الأمر علة ما، فأنت في انقيادك لهواك خاضع للأسباب والمسببات وللعلل التي يفهمها العقل، ولهذا تقف عند حدود العالم المقيد عالم الأشياء في ظواهرها، ولكنك في قيامك بالواجب حر مطلق من قيود السببية، فلا تطيع قانون هذا العالم المشهود، بل تعمل كأنك جزء من الإرادة التي لا تجري عليها أحكام القوانين والأسباب، أو كأنك تلك الإرادة التي قلنا: إنها تتصل بعالم الأشياء في ذواتها لا في ظواهرها.

ولا يستسهلن أحد أن ينقض رأيًا من آراء «كانت» وإن ظهر له في بادئ الأمر أنها ضعيفة السند، فإن من أشد الغرور أن يجترئ امرؤ على هذا العقل الفذ الذي قل أن ينجب الزمان مثله فينظر إلى رأي من آرائه نظرة استخفاف أو تسرع، وليذكر الذي يقف هذا الموقف أنه ما من اعتراض خطر له، إلا قد خطر قبله لكانت ووزنه بميزان لا يذر صغيرةً ولا كبيرة ولا يسقط من حسابه شيء، لقد كان هذا العقل أعجوبة الأعاجيب في صحة القياس وضبط الحكم وجودة النظر في الدقائق والجلائل، وماذا تقول في عقل استلزم بالقياس وجود كوكب سيار في موضع «أورانوس» قبل استكشاف هرشل هذا الكوكب بالراصدة الفلكية، ورأى بالقياس تناقض حركة دوران الأرض على محورها من تأثير الحركة المضادة للمد والجزر قبل أن يصل «هاوزن» إلى إثبات ذلك بمائة سنة، وقال باتجاه مركز ثقل القمر إلى نصفه البعيد عن الأرض قبل أن يتحقق هذا العالم الأخير من صحة هذا الرأي بعشرات السنين؟ ولقد سبق «كانت» العالم الإنجليزي دارون إلى مذهبه في أصل الأنواع والنشوء والارتقاء فقال: «إن التقابل في صور الأحياء على كثرة تنوعها يرينا كأنها نشأت من أصلٍ واحد، ويقوي الظن بوجود قرابة حقيقية بينها وبخروجها كلها من أبوة أصلية واحدة، بالتقارب بين نوع منها ونوع من هذه الأنواع التي يبدو فيها القصد واضحًا؛ أي من الإنسان إلى الحشرات المتعددة الأرجل إلى الطحلبيات إلى أن تنتهي أخيرًا إلى أوضع صور الطبيعة المعروفة لنا وهي المادة غير العضولة التي يظهر منها ومن قواها أنها مصدر جميع تصميمات الطبيعة جريًا على قوانين آلية، وهي تلك التصميمات التي تلوح لنا في الكائنات العضوية عويصة مغلقة، حتى يخيل إلينا أننا مضطرون إلى أن نتخذ لها قانونًا خاصًّا لتفسيرها.» ويقول أيضًا: «إن العالم الطبيعي قد يقبل الظن بأن الأرض التي نشأت هي نفسها من هيولى مختلطة قد ولدت في الأصل صورًا ناقصة، ثم ولدت هذه الصور صورًا غيرها قومت نفسها على حالة أنسب لبيئتها وعلاقاتها المتبادلة بينها حتى أجدبت هذه الأم فقصرت ولادتها على أنواع معينة.» ثم زاد على ذلك أن احتمل «انتقال الحيوانات المائية إلى حيوانات تعيش في المستنقعات ثم إلى حيوانات برية» وهو هو مذهب دارون في قواعده ومجملاته.

ولا يدخل في روع قارئ أنني أتيت هنا بخلاصة عمل «كانت» في الفلسفة، أو بخلاصة موجزة منه، كلا ولا بلمحة من تلك الفلسفة العظيمة الواسعة؟ وإنما غاية ما صنعت أنني ثقبت بالإبرة ثقبًا صغيرًا في ذلك السنار السميك القائم على تلك الفلسفة، فسقط منه شعاع ضئيل على جبلٍ هائل لا يحد الطرف سفوحه وشعفاته، ولا سبيل إلى أكثر من ذلك في هذا المقام.

أما تفاصيل هذه الفلسفة في أصولها، فمن ذا الذي يفهمها على صحتها؟ إن الشُّراح الذين تصدوا لتفسيرها ليختلفون في فهمها اختلافًا بعيدًا حتى لينقض أحدهم ما يثبته الآخر، ولعل «كانت» نفسه لم يكن يفهم تفاصيل فلسفته في كل حين على نمطٍ واحد، فمن أراد الاستبحار فدونه البحر الغطم، فلينزل فيه إلى أعماقه، ولكن عليه بالعوامات قبل النزول!

١  البلاغ في ١٤ مايو سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤