فلسفة الجمال والحب١

حدِّي من «رسائل الأحزان» الغلاف، ولست أنوي أن أتعداه، فصاحب هذه الرسائل وهو الأديب مصطفى صادق الرافعي يزعم أنه كتبها في فلسفة الجمال والحب، وأنا أريد أن أكتب في «فلسفة الجمال والحب» لأنني عدلت فيها إلى رأيٍ جديد يوافق رأيي الأول ويزيد عليه بعض الزيادة.

وقد كان البحث في فلسفة الجمال شاغل نفسي — أو فكري — حين دفع إليَّ الرافعي رسائل أحزانه، فلما رأيت على غلافها أنها وضعت في فلسفة الجمال والحب كما يقول مؤلفها الفاضل قلت خيرًا! ها هنا مقطع يحسن الوقوف عليه، ووقفت هنالك لا أتقدم وراء الغلاف خطوة؛ لأن في الغلاف كفاية.

كان لي رأي في الجمال خلاصته «أنه إشارة في أظهر عضو من الجسم — أعني الوجه — كانت ولا تزال تدل على فضيلة جنسية في جسم الرجل أو المرأة» و«إن أظهر ما تظهر الملاحة من معارف الوجه في العين والشفة؛ لأنهما الجارحتان اللتان ترتسم فيهما حالة النفس وإحساسها بغاية الوضوح والجلاء، وأصدق ما يقال في هاتين الجارحتين: إنهما نافذة النفس فمنها تطل على العالم، ومنها يطل العالم عليها، ولعل ما تكشفه منا للناس أكثر من الناس لنا.»

وهذا بعض رأيي الآن في جمال الجسد الإنساني وليس رأيي كله؛ وإنما كان رأيي الأول أدنى إلى العلم، فصار رأيي الثاني أدنى إلى الفلسفة، والرأيان مع هذا من منبعٍ واحد.

•••

فما الجمال في الجسد الإنساني؟ أقول بالإيجاز: إن الجمال هو الحرية! وسيعجب القارئ من هذا القول، ولكني لا أدعه يطيل العجب، وسأبادره بتفسير ما أقول وتفصيل ما أُجْمِل.

إن الوظيفة تخلق العضو هذه حقيقة مقررة، فالإنسان لا يمشي؛ لأن له قدمين، بل هو له قدمان؛ لأنه أراد أن يمشي، وهو لا ينظر؛ لأن له عينين، بل هو ذو عينين؛ لأنه أراد أن ينظر، وهكذا قل في جميع الأعضاء والجوارح.

فالحياة إذن وظيفة أو وظائف، والأجسام وأعضاؤها هي أدوات هذه الوظائف التي تعمل بها وآلاتها التي تبرز فيها حركتها وشعورها.

وعلى حسب الحياة يكون الجسد أو تكون أعضاؤه؛ فكلما كانت وظائف الحياة ظاهرة غير معتاقة في حركتها كانت الأعضاء صحيحة حسنة الأداء، وكان عمل الحياة بها سهلًا وحريتها فيها أكمل، وكلما كان العضو مسهلًا لعمل الحياة كان مؤديًا لغرضه موضوعًا في موضعه وكان مبرأ من النقص والعيب، فهو العضو الذي يجاوب مطالب الحياة ويحقق لها حريتها، وهو العضو الجميل.

يقولون: إن الجمال هو التناسب، وهذا صحيح، ولكن ما هو التناسب، ولأي شيء يعجبنا، ومتى يكون الجسم متناسبًا فنراه جميلًا؟

إن التناسب هو أن لا يزيد عضو أو ينقص في الحجم والشكل، فلا يكون أضخم ولا أنحف ولا أطول ولا أقصر ولا مختلفًا في التركيب واللون عما ينبغي، هذا هو التناسب، وليس هو غاية في ذاته كما ترى؛ لأننا نحتاج إلى أن نعرف «ما ينبغي» للأعضاء حتى نعرف الحجم أو الشكل الذي يناسبها؛ أي إن هناك غاية أخرى يكون التناسب تابعًا لها ومنظورًا فيه إليها، فما هي هذه الغاية؟ وأي شيء تكون غير وظيفة الحياة التي يتكون الجسم لتأديتها.

على أننا إن نظرنا إلى التناسب كما يصفونه فكيف ترانا نجده؟ نجد الجسم الذي يدق حيث تناسب الدقة، ويغلظ حيث يناسب الغلظ هو الجسم الذي تتصرف فيه وظائف الحياة بلا عائق، فتسير حيث يجب أن تسير، وتقف حيث يجب أن تقف، لا تنحسر عن جانب فتتركه عظامًا، ولا تكسل في جانب فيمتلئ شحمًا، لا يمسكها شيء ولا يتعجلها شيء، بل تسير في الجسم كما تشاء وتسيطر على الأعضاء كما تريد، فهي حرة عاملة في مملكة مطيعة صالحة، ومعنى ذلك أن التناسب تابع لوظيفة الحياة، وليست وظيفة الحياة تابعة للتناسب، فنحن إذا عبنا طول العنق مثلًا في إنسان، فليس طول العنق الذي نعيبه؛ لأننا لا نعيب هذا الوصف بعينه في الإوز والنعام والزراف، ولكننا إنما نعيب اختلال وظائف الحياة وظهورها في الأعضاء على غير الصورة التي تناسبها، والتي كانت تظهر بها لو تركت لنفسها، وكانت حرة فيما تصنع، بغير آفة تعوقها أو تحيد بها عن سننها.

إن الجسم الجميل هو الجسم الحر، وما من حسناء إلا وهي تعلم ذلك بفطرتها، فلا تعدل بالرشاقة صفة من صفات الملاحة، وليست الرشاقة إلا خفة الحركة، وليست خفة الحركة إلا الدليل على أن وظائف الحياة حرة في جسدها تخطو وتلتفت وتشير وتختال بلا كلفة ولا معاناة، وتزن نفسها في أعضائها بميزان لا خلل فيه ولا نقصٍ يعتريه.

وما من سهوٍ ولا مصادفة كانت الأمم المستعبدة ضعيفة الميل إلى الرشاقة تؤثر الأجسام الغليظة المترهلة على الأجسام الممشوقة المستوية، وإنما كان ذلك هواها؛ لأن الحياة فيها مرهقة والحرية فيها ضيقة، فهي أميل إلى البطء والتراخي؛ إذ كانت حياتها بطيئة متراخية، وهي أهون من أن تهيم بالرشاقة؛ إذ كانت لا تحب الحرية ولا تعمل لها ولا تحس في نفوسها الحاجة إليها.

وأحب ما نحب الجمال في سن الشباب، فهل تعلم لم يكون الجمال في الشباب أجمل وأحب إلى النفوس؟ ذلك لأن الشباب هو سن اللعب وانطلاق الحياة في سبيل الاكتمال والنماء بلا وقوف ولا ركود، فهو سن تملك فيها وظائف الحياة من الحرية ما ليست تملكه في سنٍّ أخرى، وتقل فيها آفات الجسم وعوائقه، فتثب وظائف الحياة وثبًا وتعتلج اعتلاجًا؛ وأما ما يلي ذلك من أدوار العمر فتلك هي الأدوار التي تقف فيها الحياة أو تتقهقر، فلا يكون الحب حينئذ إلا متعة خالية من ذلك الشوق والتطلع الذي يلتهب به حب الشباب، ولا تكون المتعة إلا جسدية لا معنى لها من جانب النفس، ولا صورة فيها من دفعة الحرية.

ولو أنك تأملت في سر حنين الشيوخ إلى الشباب، ورغبتهم في الاتصال به والاقتباس منه، لرأيت أن أحب ما يحبون منه هو ذلك الغرور المتقحم الذي لا يجفل ولا يتهيب؛ وأن أسر ما يسرهم منه هو أنه يركب هواه ويصنع ما يريد؛ أي إنه حر منطلق لا كالشيخوخة التي لا تهم بشيء إلا قام بينها وبينه ألف سد من الضعف والحذر والفتور.

ويمكنك أن تقول مثل هذا القول في الملمس الجميل، وهو الملمس الناعم الذي تنساب عليه اليد فلا تحس ما يعتاق حركتها حين تلامسه، وفي الصوت الجميل الذي نطرب له فنصفه بأنه الصوت الحر «والسالك الذي لا ينحاش» كما يقول المغنون والذي تحس وأنت تسمعه أنه خارج من حنجرة لا عقلة فيها ومن صدرٍ لا حرج فيه، بل يمكنك أن تقول مثل هذا القول في الفكر الجميل، فتصفه بأنه هو الفكر الحر الذي لا ترين عليه الجهالة، ولا تغله الخرافات، ولا يصده عن أن يصل إلى وجهته صاد من العجز والوناء، ثم يمكنك أن تقول مثل ذلك في الفنون الجميلة جملة واحدة؛ لأنها هي الفنون التي تشبع فينا حاسة الحرية وتتخطى بنا حدود الضرورة والحاجة، وما من شيءٍ تستجمله وتخف نفسك إليه وهو مغلول الحياة منقبض عن وظائفها؛ حتى الأخلاق ما من جميلٍ فيها إلا كان جماله على قدر ما فيه من غلبة على الهوى وترفع عن الضرورة، وقوة على تصريف أعمال النفس في دائرة الحرية والاختيار.

فالجمال إذن هو الحرية، والجمال في الجسم الإنساني هو حرية وظائف الحياة فيه وسهولة مجراها، ومطاوعة أعضاء الجسم لأغراضها، وقيام هذه الأعضاء مقام الأدوات الملبية لكل إشارة من إشاراتها.

ولا يلتبس على القارئ هذا الرأي برأي الذين يقولون: إن العضو الجميل هو العضو النافع، فإن هؤلاء يجعلون الصلاحية الآلية هي الغاية ولا يبالون بوظائف الحياة في ذاتها، وإنما يبالون بالمنفعة المحدودة التي تستخدم لها أعضاؤها، وكأنهم يرون أن وظائف الحياة مسخرة لهذه المنفعة التي يفترضونها، لا أن المنفعة مسخرة لوظائف الحياة، وهو خلاف المعقول والمعروف وخلاف الذي نقوله هنا حين نجعل الحرية غاية لا نهاية لها والمنفعة وسيلة من وسائلها، ونجعل الأعضاء أداة مطاوعة لوظائف الحياة، أو وسيلة أخرى من تلك الوسائل التي تسعى بها إلى بلوغ الحرية.

وخلاصة الرأي أننا نحب الحرية حين نحب الجمال! وأننا أحرار حين نعشق من قلوب سليمة صافية، فلا سلطان علينا لغير الحرية التي نهيم بها، ولا قيود في أيدينا غير قيودها.

ولا عجب فحتى الحرية لها قيود وعبيد!

١  البلاغ في يوم الثلاثاء ٢٠ مايو سنة ١٩٢٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤