ماكس نوردو (١)١

مضى صاحبنا نوردو، ذهب إلى حيث يذهب الموتى جميعًا، وجاز ذلك الباب المفتوح لكل داخل، المغلق على كل ناظر الذي طالما تطلع من خصاصه وثقوبه لعله يرى شيئًا وراءه فلم تنفذ بصيرته إلى شيء، ولم يكد ينظر إلا ظلامًا متراكبًا وفراغًا لا نهاية له وهلكًا مبرمًا لا مراء فيه؛ ولحقت حقيقة هذا الرجل بعد موته بجملة الحقائق المغيبة التي يقصر دونها ذرع العقول الوحية وتتيه في أسرارها القرائح الثاقبة الذكية، فأين هو الآن؟ وكيف انتهت به الحياة وأي وطن له اليوم وراء الأرض التي منها نشأ وفيها ثوت بقاياه؟ وهل قرب له الموت ما كان بعيدًا وكشف له ما كان مستورًا وهدى منه ما كان حائرًا مضللًا؟

ذلك هو السر الذي أعيا عليه فض أقفاله واقتحام أسداده، والذي سيبقى كما كان سرًّا معضلًا على الأفهام والقرائح يعيي علم كل عليم، ويعجز اقتدار كل قدير، فعلى نوردو منا سلام المودع حيث كان مقره وكيف كان مآله؛ وله علينا حق الذكرى وفاءً له بما جاهد في الحياة، وما أفاد من علم ودرس شغل بهما أخصب أيام عمره العامر المديد؛ ولنذكر بعد أنه رجل شرقي قبل أن يكون أوروبيًّا من أبناء إسرائيل الذين حافظوا على نسبهم وتشبثوا بعنصرهم، فأنت ترى من نظرة واحدة إلى معارف وجهه ولمحات عينيه ذلك الحبر العبري القديم الذي لم تغير من قسماته ولا خصاله مئات السنين التي قضاها آباؤه وأجداده في ربوع أوروبا بين جنوبيها وشماليها.

وليس ماكس نوردو بمجهول في مصر، فقد ترجمنا له بعض آرائه في إحدى المجلات قبل عشر سنوات، وشاعت كتبه بين الأدباء من ناشئتنا، فتداولوها وتناقلوا آراءها واستفادوا منها. وإني لأشعر للرجل بمثل الصداقة الحميمة لطول عهدي بعشرته الأدبية وسلوكي معه ما سلك من فجاج الفكر ومنافذه ووقوفي على أخباره وحوادثه حينًا بعد حين؛ حتى لقد فوجئت بنعيه كما يُفاجأ الصاحب بموت صاحبه الذي كان يحادثه ثم لم يلبث أن نُعي إليه، ولقد كنا في حديثه قبيل يوم وفاته فخُيل إلينا أننا لو عاشرناه واتصلنا به وسمعنا من كلامه ما يسمع السمير من سميره لما ازددنا خبرةً به ولا عرفانًا بقدره وأهواء نفسه وعادات فكره، وذكرت توًّا أجل ساعاتي معه وأقربها إلى الذاكرة عند سماع نبأ وفاته؛ لأنها ساعات قضيت بين عالم الموت الرهيب وعالم السماء الهائل الجميل؛ وتلك هي الساعات المباركة الطيبة التي قضيتها بصحراء الإمام في قراءة كتابه «معنى التاريخ»: نظرة في الكتاب ونظرات متتابعات في القبة الزرقاء بين أغوارها الرفيعة، وكواكبها الدوارة، ولا نهاياتها الأخاذة بالألباب والضمائر؛ تليها نظرات أخرى في عالم الموت الذي تلقاه من حيثما أرسلت الطرف في تلك الصحراء المجهولة فوق جهل الناس بكل صحراء، ثم سؤال لا بد منه بين هذه الأحاجي المقدسة والألغاز الإلهية التي تعرض نفسها على مداخل الإلهام من قلبك: أهذا كله عبث لا شيء فيه لنا غير ما تحويه سبعون سنة أو ثمانون أو مائة ننفقها بدادًا على هذه الأرض المهجورة في إحدى زوايا الكون؟ لا، لا يا صديقي ماكس؛ لا يا صاح «إن في السماء والأرض لأمورًا لا تحيط بها فلسفتك»، ثم نفترق على وئام كما يفترق الأخوان الصفيان بعد حوار خالص بريء.

غبرت الآن تلك السنون السبعون والأربع التي كتب لهذا العالم المجد الدءوب أن يحياها على هذه الأرض وعاد بلا ريب إلى حيث كان قبلها، فلا يعنينا ماضيه قبل الحياة ولا آتيه بعدها، فهذا سر الأبد، لا سر ماكس نوردو وحده، ولا سر كائن غيره من الناس؛ ولنقصر النظر في كلامنا عنه على حدود هذه السنين من حياته السخية الحافلة بالأعمال والآثار.

ولد ماكس سيمون نوردو سنة ١٨٤٩ من أبوين إسرائيليين بمدينة بودابست؛ فشدا وترعرع بها؛ ثم توفر على تعلم الطب، فأتم دروسه فيه سنة ١٨٧٢ وأنشأ يطوف بلاد أوروبا ويتنقل بين مدائنها وقراها حتى سنة ١٨٧٨، فكانت له هذه السياحات نعم الزاد في وصف علل الاجتماع الأوروبي والفحص عن أخلاق أهله وآدابهم وحوادث تواريخهم، وفي تلك السنة قفل من تطوافه إلى «بست» مسقط رأسه آملًا أن يُصيب فيها بغيته من النجاح والنباهة في صناعة الطب؛ ولكنه برم بها وغادرها سنة ١٨٨٠ إلى مدينة باريس حيث استقر به المقام بقية حياته التي كان يمضيها سائحًا أو منفيًّا بين إسبانيا وأمريكا، وغيرهما من الأقطار واجتذب نظره في باريس مذهب لمبروزو العالم الإيطالي الكبير صاحب الرأي المشهور في علاقة العبقرية والإجرام بأمراض العقل والأعصاب، فعكف على دراسته وتطبيقه على الفنون والآداب؛ وكان يرجع إليه في كل ما كتبه نقدًا للشعر أو الروايات أو الصور، حتى لكأنما كان يحمل مبضعه معه ولا يلقيه من يده مداويًا أو ناقدًا أو روائيًّا أو مؤرخًا! ولما ظهرت الحركة الصهيونية كان هو من أعوانها الكبار وقادتها المعدودين، فشن الغارة على الكنيسة الكاثوليكية، ولم يتهيب أن يتهمها بالتحريض على ذبح اليهود في فرنسا، وصرح مرة لإحدى الصحف الأمريكية بأن قضية دريفوس إنما كانت مقدمة مدبرة لاستئصال اليهود وتقتيلهم كما يقتلون جهارًا نهارًا في الروسيا، وظل إلى آخر أيامه غيورًا على نشر الدعوة الصهيونية، لا يني كاتبًا أو خاطبًا في تأييدها وشد أزرها، إلى أن صرح اللورد بلفور تصريحه المعروف، فشخص الرجل إلى لندن لمفاوضة الحكومة الإنجليزية في تفاصيل إنشاء الوطن اليهودي بفلسطين، وقال هناك قولة تُروى عنه وهي أن إنجلترا لا تساعد اليهود حبًّا في سواد عيونهم، ولكن طمعًا في الدفاع عن قناة السويس، وأنه على هذه القاعدة من تبادل النفع يجب أن يبنى الاتفاق بين شعب إسرائيل والحكومة الإنجليزية، وأنت إذا تأملت كتب نوردو كلها وجدت هذه الكلمة مفتاحها وخلاصة جميع آرائه فيها؛ لأن باحثنا الأريب لا يؤمن بغاية للفرد أو للنوع غير النفع المادي المحسوس في هذه الدنيا.

وكاد أن يقتل من جراء الحركة الصهيونية في سنة ١٩٠٣ لاتهامه بالتهاون وإهمال السعي في شراء فلسطين إيثارًا للمستعمرة التي وهبتها إنجلترا لليهود في أفريقيا الجنوبية، فلما ذاعت عنه هذه الظنة وجد عليه كثير من أبناء قومه وتربصوا به حتى كان في مرقص صهيوني بباريس، فأطلق عليه أحدهم رصاصتين أخطأتاه ونجا منهما في حفافي الموت، وقد يستغرب من العلماء الماديين أن يلقوا بأنفسهم في غمار الحركات الدينية ويتشيعوا لها أشد التشيع كما كان يفعل نوردو؛ ولكن هذا الذي يستغرب من سائر العلماء لا يجوز أن يُستغرب من عالم إسرائيلي؛ لما هو معلوم من أن اليهودية وطن للإسرائيليين وجامعة نفعية لا دين ولا نحلة فحسب، ونذكر أن بعض الإسرائيليين الإنجليز كتبوا بعد الحرب يطلبون أن تعتبر لهم في إنجلترا جنسيتان؛ إحداهما دينية قومية، والأخرى وطنية مدنية، وهذا مع أنهم يرتقون في تلك البلاد إلى مراتب النبلاء، ويتبوءون مناصب الوزارة ورئاسة القضاء؛ وما جعلهم كذلك إلا تشتتهم وضعفهم، وأنهم حرموا الوطن السياسي، فصار لهم من الدين وطن معنوي ينوب عن معالم الأرض وتخومها، واستهدفوا من أجل هذه العصبية وقلة عددهم في بلاد الناس لأخطار واحدة وظنون متقاربة، فأصبح نضال الرجل منهم عن نحلته صورة أخرى من نضاله عن نفسه ومصلحته وكرامة شخصه؛ ولهذا لا ترى غرابة ما في تصدي طائفة من العلماء كلهم ملحدون لقيادة الدعوة الصهيونية.

ولما نشبت الحرب اضطرته الحكومة الفرنسية إلى الهجرة وأجلته عن فرنسا، فأقام في إسبانيا مدة الحرب وبرهة بعدها، ثم قصد أمريكا لخدمة الدعوة الصهيونية، وعاد منها بعد قليل إلى باريس فبقي فيها حتى قضى نحبه في ٢٣ يناير الحاضر كما ورد في الأنباء البرقية.

أما مؤلفاته فكثيرة تناول فيها البحث في معارض شتى من النقد الاجتماعي والأدبي، وعرف فيها بأسلوب جازم خاص لا يتلعثم ولا يتحرج في سرد القضايا العلمية والخواطر الأدبية؛ نذكر من أشهرها كتاب «الأكاذيب المقررة» و«الاضمحلال» و«وظيفة الفن الاجتماعية» و«الفن والفنيون» و«النقائض والغرائب» و«معنى التاريخ»، ومن هذه المصنفات ما كان يكتبه بالألمانية ثم يترجم عنها إلى اللغات المختلفة، ومنها ما كتبه ابتداء بالفرنسية، وقد وضع أثناء مقامه بإسبانيا ثلاثة كتب بلغتها في هذه الأبواب التي يُعنَى بمعالجة البحث فيها، وآخر ما وصل إلينا من مؤلفاته كتاب «تطبيق علم وظائف الأعضاء على الأخلاق» الذي ترجم إلى الإنجليزية السنة الماضية بعنوان «الأخلاق وتطور الإنسانية» وهو آخر مؤلفاته الكبرى وأجمعها لمفترق أحكامه وفروضه وأدلها على مذهبه في الحياة والاجتماع، وسنخصه بالبحث في هذا المقال على موعد قريب من الرجعة إلى إجمال القول في بقية مؤلفاته.

وضع نوردو هذا الكتاب بالألمانية في مدريد سنة ١٩١٦ وأهداه إلى قرينته «نور حياته المشرق في أيامه السعيدة ورفيقته الباسلة في أعاصير الكارثة العالمية» وقال عنه في الإهداء: إنه الكتاب الذي أعانهما معًا على مصابرة الأيام السود التي كانا فيها شريدين بغير مأوى، وختمه بعبارة ينبئك قليل ألفاظها عن الكثير من روحه في هذا الكتاب، بل من روحه في سائر كتبه؛ وهي قوله في الصفحتين الأخيرتين بعد كلام نقله عن جويو:

نفرض أن قوانين الآداب وهم، فهذا لا يغض من قيمتها عند بني الإنسان، أليس كل ما نعرفه من هذا العالم، وكل ما يتمثل لنا من النظر إلى الطبيعة وهمًا؟ فنحن لا نعرف الكون إلا بصفاته وهذه الصفات لا تتراءى لنا إلا من طريق حواسنا، وكل معرفة نستمدها من حواسنا إن هي إلا وهم؛ لأن الحواس لا تنقل إلينا كنه الأشياء، ولكنها تنقل منها صور آثارها على أجهزة الإحساس فينا، فلا صوت للكون، ولا لون، ولا رائحة، ولكنه يبدو لنا صائتًا ملونًا مشمومًا، وجميع هذه الصفات التي نعزوها نحن إلى كنه الأشياء هي الوهم الذي تخلقه حواسنا، وهي مع هذا صاحبة الفضل فيما ندركه من جمال الدنيا التي لولاها لكانت صماء عمياء عارية عن كل حسن يشوقنا.

إن الحياة لغز لا يحد الوصفُ عِبأه الباهظ على أفهامنا، ونحن نسأل هل لها من غرض؟ وما هو؟ لا ندري، وكل ما يهدينا إليه الفكر منته إلى هذه النتيجة؛ وهي أن الحياة غاية لنفسها، وأننا نحيا حبًّا في الحياة لذاتها؛ وليست هذه النتيجة حلًّا للمعضلة! ها هنا تظهر لنا الآداب فلا يكون قصاراها أن تيسر لنا الحياة وتوطئ أكنافها، بل هي قد ترينا غرضًا لها إن لم يكن عامًّا للحياة كلها فخاصًّا على الأقل للحياة الفردية، وهذا الغرض هو رياضة القوى الحيوانية فينا، وتنزيه نفوسنا بالمعاني الروحية، وإعلاء شأن الفرد، وتغزير موارد نفسه بالعطف والمودة وحاسة الشعور بالاشتراك في الواجب وإخضاع الغريزة للعقل الذي نعده فيما نبلغ إليه من علمنا أنفس ثمار الطبيعة، ومن المحتمل أن تكون هذه الآداب التي تداري عنا خفاء معنى الحياة ووحشتها وهمًا؛ فإن كانت كذلك فبورك هذا الوهم الذي لا تكون للحياة قيمة بدونه.

بهذه الكلمات ختم نوردو كتاب الأخلاق وتطور الإنسان، وفي كلمة أخرى في الفصل الذي أفرده للبحث عن مصادر الآداب تتمة موضحة لتلك الخاتمة ننقلها لتقريب أطراف رأيه، قال: «إن الأصل في الآداب كما رأينا هو إخضاع الغريزة ودوافع الجسم الأولية لرياضة العقل، فالعقل يتولى القيام بالرقابة في تنفيذ قانون لا يستنبطه من داخله ولكن من خارجه؛ أي من فرائض المجتمع الذي يملي على العقل ما يأذن به وما يأباه وما يريده، والضمير هو الكفيل برعاية هذه الأوامر، فكأنه القوة التنفيذية أو الشرطة التي يرصدها العقل فتعمل عملها باسم الآداب، وهو في نفس الإنسان حامية ينتدبها المجتمع ويقلدها السلاح ويزودها بالسلطة والإرشاد، وإنما تقوم قوة الضمير على قوة المجتمع من ورائها، ولا يضعف سلطانه إلا عند أولئك الذين يوصدون نفوسهم في وجه جنود المجتمع، فلا يذعنون لنير القوة الجسدية المباشرة، وهذا كله دليل لا ينقض على أن الآداب الخلقية هي ظاهرة ناجمة من حياة الإنسان الاجتماعية، وأن قوتها وظيفة من وظائف المجتمع.»

فالرأي الحاسم في حقيقة الآداب أو الأخلاق عند الشيخ نوردو الذي لا يتلعثم ولا يأذن لأحد من الناس أن يكون له في الحياة رأي أعلى من رأيه، هو أن الآداب والأخلاق قوانين تمليها البيئة على الفرد من طريق العقل للوقاية المشتركة بين المجتمع، فهل هذا حق؟ هل يجوز لنا استنادًا إلى هذا التعريف أن نرى أن أكبر الناس عقلًا لا يكون إلا أفضلهم خلقًا، أو أن أفضلهم خلقًا لا بد أن يكون له من العقل المريد الواعي أكبر حظ وأوفى نصيب في مجتمعه؟ والعجيب أن نوردو يقرر هذا الرأي، ثم يعقبه في الفصل نفسه بروايات عن عادات الحيوان وغرائزه يرمي بها إلى تعزيز رأيه، فيروي عن الأيائل والثيران والقردة ما يُثبت أنها تعرف الوازع الأدبي، والزواجر النفسانية، ودواعي المروءة، ويذكر كيف تتطوع الثيران القوية لخفارة رفاقها، وكيف تغامر بحياتها في مدافعة الدببة التي تغير على الضعاف من أخواتها، ويقص علينا قصة ذلك القرد الذي رآه «الفريد برهم» في الحبشة يخرج من مأمنه لينقذ قردًا صغيرًا من حصار كلاب الصيد النابحة، ومع هذا تجد في الناس من تقعد به همته عن مثل هذا الصنيع، أو يعجزه عقله عن تصور هذه المفاداة، فهل تراهم سبقتهم القردة والثيران بالعقول الشريفة والإرادة النافذة؟ أما أنه لو قال نوردو ذلك لكان ظريفًا من عالمنا النشوئي هذا القول! ولكنه لم يقصد إلى ذلك، وإنما قصد إلى إنكار المصدر العلوي للأخلاق، فسوى بين الإنسان والحيوان في تقديسها والتقيد بها، ثم ماذا؟ ثم لا بد أن يجمد في موضعه؛ لأنه لن يتخذ من هذه المشاهدات معنى صحيحًا إلا كان عليه من ذلك المعنى أضعاف ما يكون له منه.

لا مفر من الإيمان بالإرادة المحجبة في تدبير وظائف الحياة، فهبنا رددنا الآداب إلى إملاء البيئة على الفرد من طريق العقل ليتسنى لنا إغفال كل ما وراء الحاسة الخلقية من سر مجهول أو إرادة خارجة عنها، هبنا صنعنا ذلك في تعليل الآداب فاسترحنا واهتدينا، فماذا عسانا نصنع في تعليل نشأة الحياة نفسها؟ أو ندع ذلك إلى ما هو أقل منه، وهو تعليل الغرائز النوعية التي تتشابه في جميع الأنواع وتتقارب في كافة البيئات والمجتمعات: كيف نعلل المذهب البيولوجي الرجيح القائل أن الوظيفة تخلق العضو، وأن ليس العضو بخالق الوظيفة؟ أي عقل أملى هذه الغرائز على كل كيان في كل نوع في كل بيئة على السواء؟ وأيهما السابق في هذه الحالة؛ دواعي الوقاية التي حفظت الأنواع الباقية، أو الأنواع نفسها هي السابقة ثم تلتها دواعي الوقاية؟ ولعمري إذا كان لا بد لنا من التسليم بالجهل أمام هذه القوة المحجبة، فهل يغنينا إذن ذلك العلم الذي ظن نوردو أنه وصل إليه في تعليل الآداب فاستراح إليه واهتدى به؟

الحق أننا نجهل قبلتنا في الحياة، ونجهل مبدأنا، ونجهل كنه العوامل المحيطة بنا، وما هو بسائغ لنا ونحن نجهل كل ذلك أن نجعل العقل أو الإرادة حكمًا في جميع أخلاقنا وطبائعنا، ولا بجميل منا أن ننكر كل إرادة غير إرادتنا، ولقد كان من الواجب على نوردو أن يحسب لهذه العوالم المغيبة المحدقة بنا حسابها، فلا يشمخ بأنفه إذا سمع شوبنهور يتحدث عن أمور لا يفهمها ولا يقول كما قال في كتابه هذا: إن الأسرار التي يخوض فيها فلاسفة ما وراء الطبيعة دخان هائم، وسحاب مذعذع ولألاء كلألاء القمر في أحداق المجانين، لا يقل ذلك إن آثر صدقًا ورام صوابًا، ولكن يخفض من طرفه، ويطامن من رأسه، ويقر بقصور بديهته، عن أوج تلك الحقائق التي تحلق أجنحة شوبنهور وأصحابه في أجوائها العالية، فذلك أحجى به وأشكل بقوله: «إن كل معرفة نستمدها من حواسنا إن هي إلا وهم.» وإلا فكيف يتفق هذا القول وذلك الجزم الذي لا تردد فيه؛ كلا يا صديقي ماكس! إنهما لا يتفقان، وإنا لنأسف أن ذهبت بك الأنانية هذا المذهب يا صاح.

ولسنا بحمد الله لا أدريين؛ فإننا ندري أن هناك إرادة تقود الحياة في هذا الكون، ونحب أن يدخل حساب هذه الإرادة في كل بحث يفضي إليها؛ إذ لا نتيجة لإغفالها غير الحيرة أو الخطأ، ويعجبنا قول «كانْت»: إن أساس الأخلاق الشعور الوجداني بالواجب؛ وإن الواجب أمر لدني باتٌّ، وإن علينا أن نعمل كأن كل عمل من أعمالنا سيصير قانونًا عامًّا، ويعجبني أكثر منه قول «شيلر» تلميذه الشاعر الفيلسوف يخاطب الواجب: «أطيعك ولكن تسمح لي أن أحبك!» فقاعدة «كانْت» أدنى إلى الفلسفة وقاعدة «شيلر» أدنى إلى الدين وكلاهما فيه صواب غزير وجمال كثير؛ إلا أنه لا يغني عن التسليم بالمجهول، ولا هما أرادا أن يغني عن التسليم به؛ وصفوة القول: إن البحث خليق أن يجدينا ويسعفنا في الحيز الذي ندركه ونحسن أن نتأمله ونتقصاه، أما إذ نعبره ونوغل بالأمل خلف رتاجه فهناك فلتسعفنا العقيدة والإلهام؛ ولنثق أن العقول لم تجعل لنا أداة للضلالة والفوضى والاختباط؛ فإذا هي اختلط عليها الأمر، ورانت عليها الفوضى، ولم تأو بنا إلى ظل من طمأنينة العقيدة الملهمة، فليس الذنب ذنب العقيدة، ولكنه بلا ريب ذنب العقول.

•••

بقيت وقاية النوع التي قرر نوردو أنها الغاية القصوى من جميع الأخلاق والآداب المتواضع عليها فنحن قائلون فيها كلمة.

ونبدأ فنقول: إن نوردو إنما جعل وقاية النوع غاية أخلاقنا وآدابنا؛ لينحي عن الطريق كل غاية أنبل وأسمى من المنفعة المحدودة المشاهدة للفرد أو للنوع، ولا خلاف في أن وقاية النوع أصل كثير من الأخلاق والآداب، بيد أنها ليست أصلها جميعًا؛ لأن النوع يترقى ولا يبقى على حالة واحدة، ولن يكون النظر إلى وقايته إلا مصدر هذه الأعمال التي تؤدي إلى حفظه وبقائه على حاله، فما هو مصدر الأعمال التي ترقى به وتهذبه، أو تنتقل به من حالة إلى حالة لم تكن في حسبانه؟ فمن ثم نعلم أنه لا مناص للنوع من التجاوز عن المنفعة، بل لا مناص له أحيانًا من خسارة شيء في حاضره من أجل شيء في مستقبله؛ شيء لا يفطن إليه هو فلا يقال: إنه رسمه لنفسه، وإنما هو مرسوم له من حيث لا يدريه، ولا تتطلبه منفعته الحاضرة، وليس من سداد الفكر في كثير ولا قليل أن نزعم أن الوقاية تحصل بقصد، وأن الترقية تأتي عفوًا واتفاقًا؛ إذ المصادفة لا تتكرر بنظام واطراد، وما من مصادفة قط تهمل بين هذه القوانين السرمدية، فالتضحية إذن مطلوبة من النوع، كما هي مطلوبة من الفرد، والواجب الأسمى المقدر علينا هو أن نعلو بالحياة سمتًا فوق سمت ومدارًا بعد مدار، لا لأنها حياة الفرد أو حياة النوع، بل لأنها «الحياة» التي ما خلقت الأفراد ولا الأنواع، إلا للتلبس بها وتجليتها وتوسيع أفقها وتعميق قرارها، وليس بنا من حاجة هنا إلى استنزال الإلهام؛ فإن التجربة وحدها كافية لإقناعنا بأن النقص آفتنا لا الموت؛ وأن الكمال بغيتنا اللدنية لا البقاء، وقد نجهل نحن الغاية العليا التي ينتهي إليها الكمال، ولكننا لا نجهل الغاية السفلى التي ينتهي إليها النقص فهي الانحصار بالشعور في أضيق دوائر الحاضر المحسوسة، تلك حياة الذر والهوام، فلنبتعد عنها.

١  البلاغ في ٢٩ يناير سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤