ماكس نوردو (٢)١

مواهبه وعادات فكره

سنقصر الكلام في هذا المقال على الإلمام بمواهب نوردو ومزايا كتابته وعادات تفكيره، ونخص منها بالتفصيل عادة ملكت نفسه وغلبت على هواه أيما غلب ولحظناها في كل ما قرأناه له، فجعلناها مفتاحه الذي نستعين به على تقدير أحكامه ونهتدي به إلى وجهة نظره ومرامي فكره ومواقع الشطط الذي يفتأ يتكرر منه عامدًا أو على غير عمد، ومواطن الزيغ الذي يجري به إلى خلاف ما تمليه البداهة والمنطق؛ ونريد بتلك العادة أن الرجل يكاد لا ينسى «الإسرائيلية» في جميع آرائه، ولا يعدو أن يكون مدافعًا عنها في كل مبحث من مباحثه، ولو بعدت الشقة بينه وبين الإسرائيلية والإسرائيليين.

فإذا رجعت إلى الصفات التي يثني عليها وينوه برجحانها ويتخذها مثلًا للفطرة السليمة وعنوانًا على الإصلاح للحياة وجدتها هي صفات اليهود التي تفوقوا فيها على غيرهم، أو اشتهروا بها بين الأمم، وعلى نقيض ذلك نرى الصفات التي عُرف اليهود بالتخلف فيها أو التجرد منها عرضة لتهكمه وتهجينه، أو معدودة عنده في المراتب المرجوحة التي لا تميز أمة على أخرى، ولا تتفاضل بها معادن الرجال، وكثيرًا ما يحسبها من الصفات الكمالية أو الهمجية الصائرة إلى الضعف مع تقدم المدنية؛ وتارة أخرى يتجاهلها في نقده، أو يعتدها عرضًا من أعراض النكسة والاضمحلال، وربما بدر ذلك منه عفوًا في بعض الأحيان، ولكني لا أظن أنه قد كان يقصده أحيانًا ويتحراه ويترفق في دفع شبهته عن قلمه، وكأنما شك الرجل في اليهودية بفكره وبقي على اعتقاده بوجدانه فرجع عن قولهم: إن اليهود شعب الله المختار، ليقول: إنهم هم شعب الطبيعة المختار.

ولتوضيح هذه الملاحظة نستعرض الصفات التي اشتهر بها اليهود والصفات التي اشتُهروا بالتجرد منها، فأما صفات اليهود التي اشتُهروا بها؛ فهي الذكاء والحصافة والمثابرة التي قد تُعد ضربًا من صدق الإرادة ومضاء العزم، ومداورة الأيام مع القدرة على الملاءمة بين أخلاقهم وتقلبات البيئة التي يعيشون فيها، والدراية بمطارح الكسب والمنفعة المحسوسة، وأما الصفات التي اشتُهروا بالتجرد منها؛ فهي سعة الخيال، وعمق البديهة، والأريحية، والملكة البصيرة بتذوق المعاني الروحية حتى لقد خلت كتبهم التي يؤمنون بها من ذكر الجزاء الروحاني، فلم تَعِد الناس عالمًا غير عالمهم هذا المشهود.

وخلاصة ما اعتمده نوردو من الرأي في الفصل بين الأخلاق والآداب، هو قسمتها إلى ذينك الشطرين، فما كان منها من صفات قومه فهو الصالح المطلوب، وما لم يكن من صفاتهم أو كان نصيبهم منه قليلًا أو ملتبسًا فذلك النافلة الذي لا غناء به ولا معول في الحياة عليه، فالحصافة (أي العقل) هي أنفس ثمار الطبيعة، والإرادة هي دعامة الفضيلة، والتوفيق بين الإنسان وبيئته هو معيار اتساق المزاج والصلاحية للحياة، ودليل الانتظام في أدوات الحس بحيث تحسن الأخذ عن مؤثرات الطبيعة والتحول معها والتطور بما يوائم ضروراتها ويجري وفاقًا لتقلباتها؛ وعنده أن المنفعة هي غاية ما يسعى إليه الناس جماعات وأفرادًا، وأن الإيثار أو الإحسان من خلق الذين شذوا عن سواء الخلقة، وضعفت فيهم حيوية الجسد من إحدى جوانبها، واختل ميزان عقولهم وشعورهم، فهو عرض من أعراض الضعف كل ما يخفف محمله أنه قد يجلب نفعًا للنوع في عقباه، أما الشعر والفلسفة والقصص وغيرها من وحي الخيال والبديهة الهادية، فكل ما قارب منها الفكر والمنفعة فخير، وكل ما ابتعد عنها فهراء وعلى غير طائل، وهي بعد عبث يحمد من الإنسانية في طفولتها وغرارتها، ولا يحمد منها في رجولتها ووقار حنكتها. ولهذه الملكات الفضولية أن تمنينا الأماني وتحدثنا حديث الأسرار المطوية عن أبصارنا وأفكارنا في هذا الوجود، وأن تفتن في تفسيرها والرمز إليها؛ فنسمعها لاهين بسمرها ونجواها، ولكننا لا نصدق بعد كل ما نسمعه من لغوها أن وراء الظواهر عالمًا غير عالمنا هذا المشاهد الملموس الخاضع للتجربة والاستقراء، وهل هي إلا النتيجة التي تأدى إليها اليهود بفطرتهم الذكية قبل آلاف السنين؟

والسر في هذه العادة التي تمكنت من نوردو لا يستعصي كشفه على المتأمل في تاريخه، فقد كان الرجل أحد أبناء العشيرة اليهودية التي وُلدت وعاشت في أوروبا، بل كان ابن كاهن من أخلص كهانها، وقديمًا لقي اليهود الضيم في أقطار أوروبا جميعًا، ومنوا بألوان من المظالم فعذبوا وديست حرماتهم، وهضمت حقوقهم، وافتريت عليهم الأباطيل، واعتز عليهم الأوروبيون بفضائل أقوامهم فترفعوا عن معاشرتهم، وأنفوا أن يعاملوهم معاملة النظير للنظير ولو ضارعوهم أو بذوهم في العلم والثراء والمهارة؛ عزوفًا عما ألصقوه بهم من العيوب والنقائص، ونفورًا من عقيدتهم في الحياة ومذهبهم في المعيشة، وكان أشد ما ينقمونه من اليهود تعلقهم بأذيال المنفعة واستخفافهم بالمثل العليا التي يجلها الأوروبيون ويُغلون قيمتها؛ وأفرط الأوروبيون في التعبير والتجني حتى جعلوا الأخلاق اليهودية مضرب المثل في الشح والضعة، وفي كل كريه منبوذ من الخلال. وإنه لظلم جائر يثير النفس وينبه نخوة العصبية، فأي شيء تراه أدنى إلى المعقول والمألوف من أن ينهض أناس من نابغي اليهود المعتدين بأنفسهم القادرين على الكتابة والتحليل، فيتمردوا على هذا الظلم الذي ينحط بهم عن أقدار أندادهم، ويصورا أخلاق قومهم وآدابهم في الصورة التي تروقهم وتجلو ذلك الهوان عن جبلتهم؟ وهل ينتظر من هؤلاء الكتاب بعد إذ ينهضون نهضتهم هذه أن يجروا في شوط عائبيهم فيسلموا لهم بأنهم فقدوا خصالًا ذات خطر ونبالة لا عوض لهم من فقدها، وأنهم جبلوا على طبائع متهمة تلزمهم وصمة عارها ويحق عليهم التنصل منها؟ كلا، ذلك آخر ما يخطر على بالهم، وإنما المنتظر أن يُغلوا في مناقضة خصومهم ويجعلوا ما عرفوا به من الأخلاق مزايا جديرة بالفخر وما فاتهم من المزايا زوائد ونفايات لا خطر لها وليس يضيرهم فوتها، وهذا الذي صنعه نوردو بعلمه ونقده.

وقد اتفق أن نشأ نوردو في النصف الأخير من القرن التاسع عشر؛ وهو العصر الذي طغت فيه فتنة الشكوك الدينية، فأقلقت الكنيسة، وأثارت مخاوفها، وشحذت سلاحها على خصومها، فاشتدت وطأتها عليهم جميعًا وفي طليعتهم اليهود، واتفق أيضًا أن مولده كان في أعمال النمسا خليفة الإمبراطورية المقدسة، وهي بلاد عريقة في التدين واتباع التقاليد للكنيسة فيها سلطان يخشى بأسه، ويتغلغل في جميع مرافق الحياة، واتفق فوق هذا وذاك أن أسرة نوردو كانت من المهاجرين الذين نزحوا من إسبانيا فرارًا من الاضطهاد الديني، فكانت مضاضة الظلم عالقة بنفسه، وفكرة الذود عن قومه ماثلة لعينيه من كل صوب؛ ولم يكن عجيبًا منه أن ينحو ذلك النحو في تقسيم الأخلاق إلى إسرائيلية وغير إسرائيلية، ولا أن يغار تلك الغيرة على الدعوة الصهيونية مع تطرفه في الإلحاد، لا بل يخيل إليَّ أنه استخرج من إلحاده فخرًا صهيونيًّا بينه وبين نفسه؛ إذ كانت نهاية الإلحاد أن ينفي كل ما وراء المادة، وفي ذلك شاهد على جودة الطبع اليهودي الذي سبق إلى هذه النهاية من قبل فلم يبصر فيما وراء المادة مطمعًا للإنسان.

ذلك في رأينا هو تأويل عناد نوردو في التبشير بدين المنفعة، ونسميه دينًا على عمد؛ لأنه في الحقيقة دين يذب عنه بكل ما يكون لدين كهذا من الغيرة وإصرار العقيدة.

فالرجل يؤمن بالمنفعة لا يعرف للأشياء غاية تعدوها، ولا يُثني على خلق إلا إذا استطاع أن يبين له نفعًا ظاهرًا في هذه الأشياء المحسوسة، فإذا أعياه أن يتلمس فيه نفعًا للفرد أحاله على منفعة للنوع، ومتى عرف شيئًا يسمى النوع، فقد ظن أنه فسر ووضح وفرغ من التفسير والتوضيح! ولكنه لا يسأل نفسه: وما هو النوع؟ هل هو حقيقة قائمة بذاتها، أو هو الوسيلة التي تتكرر بها الحياة الفردية؟ وإذا كان وسيلة لتكرير الحياة كما هو واضح، أفلا يعلم من هذا بالبداهة أن الحياة هي الأصل الكامن وراء الأفراد والأنواع، وهي المقصودة بالحفظ والترقية؟ أوليس في اتخاذ الحياة هذه الأنواع وسيلة للتكرير والتجديد ما يدعو إلى السؤال، لا ما يعد جوابًا مقنعًا لكل سؤال؟ أوليس التعليل بمنفعة النوع إذن لا يفيدنا شيئًا، ولا يغنينا عن الاعتراف بأن هنالك غاية فوق المنفعة الفردية تطلبها الحياة وتحض أبناءها عليها؟

وفات نوردو أيضًا أن يسأل نفسه: ولماذا نحافظ على الحياة ونرقيها؟ أترانا نرمي بذلك إلى منفعة؟ ألنا في حفظها وترقيتها مصلحة؟ كلا، بل نحن نقاسي الآلام والأهوال من أجل هذه الأمانة، ونصر مع ما نقاسيه على التعلق بها، ونقوم بواجب صيانتها على الرغم من توالي عدوان الطبيعة عليها، فالحياة في عنصرها تضحية مستمرة في سبيل ترقية مستمرة، وأساس وجداناتها الواجب لا المنفعة، وإلا فلماذا نبقيها؟ لماذا نلتذ الدفاع عنها؟ لا يجوز الخلاف في الجواب، فإننا نبقيها ونلتذ الدفاع عنها؛ لأنها أمانة لدنية نصبر في سبيل صيانتها على كل ألم ومقاومة، وهذا هو الواجب الأول المركب في طبيعة كل حي من أحقر الأحياء إلى أرفعها وأقواها، فبأي تفسير من تفاسير المنفعة السطحية يُئوِّله النفعيون؟!

•••

على أن نوردو لم يكن يدفع عن قومه فحسب بإعلاء دين المنفعة؛ ولكنه كان يدفع عن نفسه كذلك؛ لأن الرجل لم يخل من خلق المداورة (وهي الصفة التي أطلقناها على الذين يدورون مع الفرص) بل كان في لقبه نفسه أثر من هذا الخلق، ذلك أنه كان في مبدأ أمره يُلقب ﺑ «سدفلد»؛ أي الجنوبي إشارة إلى نشأة أسرته في الجنوب أو في إسبانيا، وكان اللقب نبزًا يعير به، فكان يسره أن يلقب بنوردو (نسبة إلى الشمال) وهو لقبه الذي اشتهر به بقية حياته، ولكنه لما عاد إلى إسبانيا واضطر إلى المقام بين أهلها ذكر أصله الجنوبي القديم الذي كان يأباه ويود لو يتبرأ منه ومتَّ إلى الإسبانيين بسبب من تلك الصلة المبتورة، فتغنَّى بالحنين إلى تلك الأيام التي قضاها أسلافه في أرجاء بلادهم، وجعل هذا التغني تحيته لهم في الكتاب الذي وصفهم فيه ونصحهم أجمل النصح وأقومه وأبعده عن دين المنفعة والتكالب على عروضها! ومنه — ولعله خير نصحه — أن ينصبوا لهم مثلًا عاليًا في الحياة ووجهة سامقة ينشدونها؛ لأنه لا غنى للأمم عن «المثل العليا» وهي هي التي تنقص الإسبانيين في زمانهم الحاضر.

•••

ولنوردو فصل في النجاح ذهب فيه مذهب الفكاهة، ولكنها فكاهة تخبر عن صاحبها وتنطوي على كثير من الجد، وخلاصة هذا الفصل أنه افتتح مدرسة خاصة يدرب فيها الطلاب على اغتنام فرص الحياة، ويرشدهم إلى النجاح من أقرب طرقه وأوكد وسائله، فيقول لولي أمر الطالب الذي يضع ابنه في كفالته: «تعال يا صاح! ألا تفصح لي عن باطن نيتك وما أنت مختاره لولدك؟ فإن كان قصدك أن يقضي ولدك حياته في عالم وهمي، يلبس فيه أكاليل النصر ذوو الكفاءة وأولو المقدرة ويبحث فيه الناس عن الفضيلة المزوية في خدرها فيجزونها، وعن البلادة والخسة والغرور فلا يجدونها؛ وينقبون فلا يرون فيه محلًّا لغير الخير والجمال ولا موضعًا لسوى الحق والكمال، أو كنت تختار لولدك أن يتمسك باحترام نفسه ويؤثره على إطراء الناس له؛ يصغي إلى ما يمليه عليه ضميره ويعرض عما يتمدح به الكافة من السوقة والغوغاء؛ ويغتبط بقضاء واجبه ومحاسبة ذمته أكثر من اغتباطه برضى الناس عنه؛ فاعلم أن لا محل لولدك في مدرستي، وأولى لك أن تأخذ بيده إلى المدارس العتيقة، فيرتل هناك ما يشاء من قصائد الشعراء الأقدمين والمحدثين، ويتلهى بما يشاء من العلوم والمعارف، ويسلم بما يفرغه في أذنيه معلموه وأساتذته، وأما إن كنت تختار لولدك أن يكون رجلًا من أولئك الرجال الذين يحييهم الناس في الطرقات، الذين يسافرون في المركبات المحجوزة، وينزلون في أفخر النزلات، ويصيبون من العقدة والجاه ما يسول لهم استحقار العظمة المغمورة والزراية على الفضيلة المجهولة، فهاته إليَّ فأنا الزعيم له بذلك! فأما أنه يذكر بين سير بلوتارك فذلك ما لا أضمنه لك، ولكني أضمن لك أن يدون اسمه يومًا ما بين أعظم الأسماء في سجل الحكومة.»

ثم يقول لطالبه فيما يلقنه من الدروس: «ليكن لك من الحزم ما يفهمك بالبداهة أن لا تذكر نفسك إلا بخير، ولا تقف في هذا عند حد، بل عظم نفسك وترنم بالثناء عليها وسرد مناقبها ومآثرها، واستعمل لذلك جهدك من الفصاحة والخلابة وأضف إلى نفسك أفخم الصفات، وارفع أعمالك إلى السماء السابعة وقل: إنها أحسن مستخرجات العصر وأعجب محدثاته، وأكد لسامعيك أن العالم بأسره يُعجب بها، ولا تنس إذا لزم الأمر أن تنقل بعض أقوال المعجبين بك والمقرظين لك، فإذا لم يكن قد بلغك منها ما تنقله فاختلقها للتو والساعة، وسترى أي نجاح تصيب إذا انتصحت بنصيحتي، نعم إن من العقلاء من يسخر منك أو يستوقحك، ولكن أين هم العقلاء؟ إن هم إلا فئة صغيرة، وليست هذه الفئة بالتي تقسم بين الناس جوائز الحياة.»

ثم يقول للطالب: «أقصر همك على فريقين؛ الفريق الأعلى الذين بيدهم رفعتك ونباهتك، والفريق الأدنى الذين هم تحتك من الدهماء والعامة، واحرص على أن تبدو للأولين صغيرًا جدًّا، وللآخرين كبيرًا جدًّا كأن الفريقين ينظران إليك من طرفي مجهر، وليس هذا العلم السهل، ولكنك حري أن تتمكن منه بالمزاولة والتجربة.» ويختم هذه الدروس بقوله: «لا تحتفل غاية الاحتفال بعمل، ولا تبهظ نفسك في تجويده معتمدًا على أن عملك يعلن عن نفسه، فإن صوت الأعمال خافت يغطي عليه صخب الأوساط الحاسدين، ولغة الأعمال غريبة لا يسمعها الزعانف ولا يفقهون معانيها، وقلَّ أن يعرفك أو يقدر عملك أحد من غير النخبة المعدودين والخاصة المنصفين، على أنهم مع عرفانهم قدرك وإقرارهم بفضلك لا يخفون إلى مسعدتك من تلقاء أنفسهم ما لم تعترض أعينهم غصبًا، فما لك يا بني تبدد عمرك في الأمانة والاجتهاد، إنما عليك أن تدرس أطوار الجمهور، وتتعرف مواطن غفلته فتستخدمها فيما يفيدك، واعلم أن سواد الناس لا طاقة لهم بالتمييز والحكم فاحكم لهم أنت، وليس لهم فكر ممحص أو نظر بعيد، فإياك وما يكد أذهانهم ويعضل على أدمغتهم، وإن سواد الناس بلداء الإحساس ثقال السمع، فليكن ظهورك بينهم بجلبة يسمعها الأصم ويبصرها الأعمى، وإن سواد الناس لا يفهمون التورية والمزاح ولا يتأولون الحروف والألفاظ، فكن لهم واضحًا في مخاطبتك سهلًا في عبارتك، وعدد لهم بلهجة ظاهرة يفهمونها ولا يرتابون فيها كل ما هو شين في أعدائك، وكل ما هو حسن فيك، وإن سواد الناس ضعاف الذاكرة، فاهتبل هذه الغرة فيهم ولا تحجم عن طريق تؤديك إلى غرضك؛ فإنك متى أدركته لم يذكر أحد كيف وصلت إليه، فبهذه المبادئ الأساسية تصبح غنيًّا وعظيمًا وتستتب لك الأمور في هذه الدنيا.»

وبعد هذه الخاتمة التي زود بها تلميذه تبسط في الفكاهة فقال: «هب الآن أن تلميذًا من الذين ألقنهم أسرار النجاح في الحياة فطن إلى هذا الخاطر الخبيث فسألني: أما وأنت على هذه الخبرة بأساليب النجاح فلا ريب أنك قد مارستها بعض الممارسة؟ والحق أنه سؤال يحير؛ غير أني لا يسعني إلا أن أجيبه بأنني رأيت الآخرين ينجحون وكفى، وأن الذي يقف في المطبخ ويصرف التفاته إلى الحساء كيف يجهزونه ويطهونه لخليق أن يفقد شهوة الطعام؛ ولكنه لا يعسر عليه أن يحبذ الحساء لغيره!» ولقد وُفق نوردو لهذه المراوغة الأخيرة، بيد أنه يعلم كما يعلم الناس أن الجائع يأكل ما لا يشتهيه، وأن الطاهي أيضًا يشرب الحساء الذي يطبخه!

•••

وبعدُ فتلك عادة من أكبر عادات نوردو الذهنية قد شرحناها كما رأيناها، وهي عادة بعيدة المنبت في نفسه قد حجبت عن نظره حقائق لعله كان قادرًا على وعيها والتمتع بجمالها لولا شدة سلطان تلك العادة عليه، ويحسن أن يذكر القارئ هذه الملاحظة وهو مقبل على قراءة كتب نوردو، فإنه إذا لحظها وتذكرها وهو يقرؤها لا يجد بعدها إلا ما يعجبه ويلهمه ويرغبه في درسه والعودة إليه كرة بعد كرة؛ لأن نوردو — ولا نكران — قليل النظير بين كتاب العصر في قوة العارضة، وتوقد الذكاء، وصفاء القريحة، ووضاءة الأسلوب، وكثرة المشاركة في العلوم والفنون، ولطافة التهكم، وحسن الحيلة على الإقناع، والإخلاص في الملاحظة، نعم والإخلاص، ونكررها لئلا يظن القارئ أننا نسلبه إخلاصه بما قدمناه من شرح عادته الذهنية، فقد كان لا يصعب على الرجل أن يغالط ويموه فيدعي لقومه من الصفات ما ليس فيهم، وينحلهم من الملكات ما يعلم أنهم بعيدون عنه لو أنه كان كاذبًا دجالًا يحب الافتخار بالباطل، ولكنه لم يفعل ذلك، بل صدق وكان صريحًا ما استطاع في الصفات التي اعترف بها والصفات التي أنكرها.

والواجب علينا أن نأخذ من نوردو خير ما يعطيه. وإنه ليعطي جزيلًا من الآراء القيمة والخواطر السرية والمتعة المنتقاة، ولا حرج علينا أن نقول: إنه سيد من قرأنا لهم من الباحثين على منهاجه، ولا سيما الباحثون الذين شغلوا بالهدم عن البناء، ولكني أعود فأسأل نفسي: ترى هل لنوردو على كل ملكاته هذه رسالة خاصة يحملها لنا في عالم الفكر؟ وأجيب على هذا السؤال بشك طويل؛ لأنني أعتقد أن الرسالة في عالم الفكر تريد من القوى الباطنة حظًّا وافرًا مما تريده الرسالة في عالم الإيمان، تريد البديهة العميقة التي يتهكم عليها نوردو، والبصيرة الهادية التي يراها كليلة عما وراء العيان، والحماسة الروحية التي يفتقر إليها ضميره فإذا عددنا الكتاب من أصحاب الرسالات أمثال روسو وكانْت وكارليل ونيتشه، فليس نوردو ممن يعد في هؤلاء.

١  البلاغ في ٥ فبراير سنة ١٩٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤