عالي الصوت لم يزل

رأيته شابًّا يافعًا في أروقة حزب الأحرار الدستوريين. لم تكن سنه قد بلغَت العشرين بعدُ. وكان متحمسًا للحزب حماسًا جنونيًّا مندفعًا، حتى لقد كان رجالات الحزب لا عمل لهم معه إلا كبح جماحه والحد من اندفاعه. وكان في الاجتماعات هو دائمًا البادئ بالهتافات، وكان يظل يهتف حتى يُضطَر الخطيبُ إلى أن يرجُوَه أن يُعطيَه فرصةً ليُكمِل خطابه.

حتى إذا انتهى الخطباء تجده وقد بُح صوتُه حتى لا تستطيع أن تسمع منه كلمة إلا إذا مِلتَ بأذنك حتى تلتصقَ بفمه.

وفي هذا السيل الجارف من التحمُّس المندفع المتدفِّق عرفنا أنه يذهب إلى الهيئة السعدية، وأنه يُبدي من الحماس لمبادئها نفس ما يُبديه لمبادئ حزب الأحرار الدستوريين، وأنه يهتفُ لزعماء الهيئة السعدية كما يهتفُ لزعماء حزب الأحرار الدستوريين.

وكان الحزبان مؤتلفَين في الوزارة وأغلب الأمر، بل من المؤكَّد أن أعضاء الهيئة السعدية عرفوا أمر اتصاله بحزب الأحرار الدستوريين، كما عرف حزب الأحرار أمر اتصاله بالهيئة السعدية.

ومن المؤكَّد أيضًا أن رجالات الهيئة كانوا يُكفكِفون من غُلَوائه ويُعقِّلون المندفع من تهوُّره.

ظل هذا حاله حتى سقطَت الوزارة المؤتلفة، وتألفَت الوزارة الوفدية. وكان الفتى قد أصبح في الجامعة، فإذا هو في سهولة ويُسر يهجُر حزب الأحرار الدستوريين والهيئة السعدية جميعًا، وينقل تحمُّسَه إلى الحزب الوفدي؛ فهو عضو في لجان شبابه، وهو هو المتزعِّم للهُتاف حتى يُبَح صوته، وهو هو المتصدِّر في احتفالات الحزب — وما أكثرها — يُوزِّع الأدوار على الهاتفين، ويؤلِّف كلمات الهُتاف ويخُصُّ كل وزير من الوزراء بفيضٍ من الثناء، ويغمُر كلًّا منهم بموفورٍ من المديح.

والفتى مَرنَ على الهُتاف مرانًا قَل أن يُجيده أحدٌ في مثل سنه، وتلك مَيْزةٌ ليست قليلة الشأن في مكانٍ تُوجَد به تجمُّعاتٌ أو اجتماعاتٌ أو خطباء.

وكان الفتى يستفيد من هُتافاته هذه فوائد ليست بالهيِّنة الشأن ولا الضئيلة العائد؛ فهو قد حصل على مدى سنوات هُتافِه على كل الإعانات التي تقدِّمها الوزارات لمن ضاق عليهم الرزق.

نال من وزارة الأوقاف ومن وزارة الشئون الاجتماعية، وعمل في كل صحف هذا الزمان لا كمحرر؛ فلا شأن له هو بالتحرير، وإنما عمل كمورِّد للإعلانات من الحكومة. وناهيكَ بإعلانات الحكومة من مَوردٍ لا ينقطعُ سيلُه، ولا ينضبُ غمرُه، ولا يغيضُ ماؤه.

وقد كانت أغلبُ الصحف والمجلَّات تكاد تعيش على هذه الإعلانات. وهكذا استطاع الفتى أن يُصلِح شأن نفسه، أما شأن ذويه فهو غير مسئولٍ عنهم؛ فقد كان أبوه موظفًا ضئيل الدخل هزيل المرتَّب، وكان له إخوةٌ ثلاثة فلم يفكِّر يومًا أن يُعِينَ أهل بيته بما يجعل الحياة معقولةً أو ممكنة، بل إنه يُرغِم أباه على أن يشتري له الملبس أيضًا. أما أنه يطعَم بالبيت فهذا أمر يراه طبيعيًّا؛ فما دام أبوه قد أتى به إلى الحياة فهو مسئول أن يُطعِمه حتى يتخرَّج. وهو لا يرى أن هذه القاعدة يمكن أن يرد عليها استثناءٌ مهما يكن هو موفور الدخل، ومهما يكن أبوه مجهدًا قليل المال كثير النفقة.

ومع المران والأيام صار يسافر إلى بلدته يبحث عن طلاب الحاجات ويتشفَّع لهم، وينال من جدواهم ما يعتبرونه رشوةً وما يعتبره هو حقًّا لا شك فيه ولا مناقشة.

وما هي إلا زيارة أو اثنتان إلى البلدة حتى أصبح الفتى مقصد قريته والقرى المجاورة جميعًا، وأصبح أمره مشهورًا، وأصبحَت أسعاره معلومةً لا يجهلها أحد. وما لقصَّاده لا يكثرون وكل من يقصده بمعضلة يحلُّها له؛ فشفاعته عند ذوي الشأن مقبولة، وهو دائمًا عندهم موضع ترحيب.

وأركان الصفقة معروفةٌ واضحة المعالم. يستجيب الوزير للشفاعة من الفتى، ويهتف الفتى باسم الوزير في حفلات الحزب. ومن الناحية العكسية لا يستجيب الوزير لشفاعة الفتى، فلا يهتف الفتى باسم الوزير.

وحتى أكون صادقًا مع نفسي ومعك لم يكن كل الوزراء في العهد الوفدي أو غيره من العهود يهتمُّون في كثيرٍ أو قليلٍ بهُتافاتِ الفتى أو صُراخه. فإذا استجابوا لشفاعةٍ منه فهي استجابةُ حزبيٍّ كبير لشابٍّ من شباب الحزب. والفتى لا يهمُّه الباعثُ عند الوزير، وإنما كل ما يهمُّه أن يحقِّق ما كلَّفه به دافعو الرشاوى. وليكن الباعث بعد ذلك ما يكون فهو لا شأن له به.

واحترقَت القاهرة.

وراحت الوزارة تنتقل تائهةً من عهدٍ إلى عهدٍ، فما استقرَّت على رئيس، ولا تريَّثَت عند وزير. وزاغت أعيُن الفتى، فأصبح لا يدري باسم من يهتف، ولا بمن يصل أوشاجه، ولا إلى أي كرسي يمُد حبالَه.

وجاءت الثورة، واتضحَت المعالم، ووضحَت له الأمور وضوحًا تامًّا.

كان صوته بالمران والممارسة أعلى الأصوات في الهُتاف من رئيس إلى رئيس، في مثل السهولة واليسر التي كان ينتقل بها من حزبٍ إلى حزبٍ فيما قبل الثورة.

وحين استقر الحُكْم كان الفتى الذي أصبح شابًّا ذا خبرةٍ واسعة بمعرفة الطريق الذي يختار أعظم الهاتفين شأنًا وأعلاهم صوتًا.

انضَم الشاب إلى هيئة التحرير، وما هي إلا لفتة زمنٍ حتى أصبح من أعظم أعضائه نشاطًا، فكان طبيعيًّا أن يُرشِّح نفسه لمجلس الأمة. وكان غريبًا أن ينتخبه الذي قضى مصالحهم فهم ينتخبونه على الرغم من أنهم هم أنفسهم كانوا يقدمون له الرشاوى في جميع العهود.

وحين أصبح في هذا المكان المرموق رفَع أسعاره في القيام بالشفاعات، ثم ضاعفها عدة أضعاف وقال — ووجَد من يصدِّقه — إنه لا يأخذ لنفسه، وإنما هو يُشرِك معه الكثيرين الذين يعاونونه في قضاء الحاجات.

وبصورةٍ تلقائيةٍ انتقل الشاب من هيئة التحرير إلى الاتحاد القومي. ورفع أسعاره مرةً أخرى.

ثم أصبح في مقدمة العاملين في الاتحاد الاشتراكي، وكان من المعقول جدًّا أن يصبح عضوًا في التنظيم الطليعي.

وكان عضوًا في المجلس الذي رقَص للهزيمة. وكان تصفيقه يومذاكَ واضح المعالم بيِّن السمات، وذهب عهدٌ بأكمله وجاء عهدٌ آخر. تسلَّل إليه في أناة وخبرة، فإذا هو عضو في منبر مصر، ثم هو عضو في حزب مصر ثم هو عضو في الحزب الوطني. وهو دائمًا عضو بمجلس الشعب. وهو دائمًا يحصل على معظم الأصوات من الناخبين.

وما دام قد صفَّق للهزيمة فقد أصبح من الطبيعي، بل من المحتَّم، أن يصفِّق تصفيقًا مضاعفًا عشرات المرات للنصر الرائع الذي لم يشهد العرب له مثيلًا في العصر الحديث، وصفَّق في حماسٍ لا مثيل له لما أعقب النصر من خطواتِ السلام الخالدة.

ولكن العجيب في أمره أنه إذا جلس في جماعةٍ يهاجمون كامب دافيد وافق المهاجمين في رأيهم.

فإذا انتقل إلى جماعة يؤيدون كامب ديفيد كان أشدَّ منهم حماسًا في تأييدها.

ظاهرةٌ عجيبة هذا الفتى.

أم ترى أنه لم يصبح ظاهرة ولا عجيبة. لست أدري؟ وتسألني ولا أشك إلى أنك ستسألني من هو؟ أهو هذا الرجل أم هو ذاك؟ وكيف لي أن أعلم، ربما كان هذا وذاك جميعًا؛ فقد تشابه الخلق علينا.

ومن أين لي أن أدُلَّك عليه وأنا أروي لك قصةً تمتد جذورها نيفًا وأربعين عامًا؟ وما أحسب أنني مقصر فالملامح المحددة قد انماعت في عيني ولم يبقَ أمامي منها إلا الخطوط العريضة أقدِّمها إليك وأنا واثق أنكَ أنت. أنتَ أيها القارئ ستعرف الملامح بكل وضوحٍ، وستتبيَّنها بكل دقة؛ فإن ذاكرتك أنت أكثر نشاطًا وأعظم تركيزًا، فما عليَّ بأس أن أترك لكَ أنتَ أن ترى من ألمحتُ إليه وأن تتعرَّف أنتَ على اسمه وسماته، بل إنني واثقٌ أنك ستصل من الأمر إلى أبعدَ من ذلك؛ فإنك قادر لا شك أن تذكُر لي اسم أمه وأبيه، واسم زوجته وبنيه. ما ساروا فيه جميعًا من دروب وما ارتادوا من طريق؛ فأنت دائمًا أيها القارئ أعظم الناس علمًا بمن حولَك وما حولَك، فشأنك وهذا الفتى الذي أصبح شابًّا، ثم صار كهلًا يأخذ طريقه إلى الشيخوخة ولكن بخطواتٍ نشطة وصوت عالٍ مرتفع الضجيج، لم تنَل السنُّ منه وما أوهنَته السنون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤