بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا (١٩٠٨–١٩٩١)

هنريك كوزلافسكي

ترتبط الكيمياء التناسقية والكيمياء غير العضوية في بولندا ارتباطًا وثيقًا باسم بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا، أستاذة الكيمياء في جامعة فروتسواف. كانت الأستاذة بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا عالمة مشهورة على مستوى العالم كله، وإحدى أعظم الشخصيات في الكيمياء في بولندا، وكانت ذات أفق واسع، وكانت مولعة بالعلم، وهي مؤسِّسة المدرسة البولندية الرائدة للكيمياء التناسقية وغير العضوية، ومؤسسة الحقول الحديثة ومنها الكيمياء الحيوية غير العضوية والكيمياء الطبية الحيوية والحفز بالفلزات.

ساعدت ٧١ طالب دكتوراه، ٣٤ منهم أصبحوا أساتذة فيما بعد، وتتكون مدرستها في الوقت الحالي من ٧٠ أستاذًا مشتركين في حقول مختلفة من الكيمياء، ونشرت حوالي ٦٠٠ ورقة علمية، و٣٣ كتابًا بحثيًّا ومقالًا نقديًّا. ومن أهم الملامح المميزة لمدرستها الأبحاث متعددة التخصصات التي تضم الكيمياء والفيزياء والكيمياء الحيوية والأحياء والطب بالإضافة إلى العلوم التقنية.

•••

ولدت يتسوفسكا-تريبياتوفسكا في ستانيسلافوف بالقرب من لِفيف (أوكرانيا حاليًّا) في ١٩ نوفمبر عام ١٩٠٨. عندما كانت فتاة صغيرة كانت مولعة بالعلوم الإنسانية ولكنها عندما التحقت بالمدرسة أُغرمت بالكيمياء والفيزياء. ومن الأشياء المهمة التي أدت إلى ولعها بالكيمياء والفيزياء شخصية ماري كوري ونجاحاتها؛ إذ زارت ماري كوري لِفيف وألقت محاضرة في مجلس المدينة، وشجع هذا الشابة الصغيرة على اتخاذ قرار بدراسة الكيمياء في جامعة لِفيف للعلوم التقنية ضد رغبة والديها. وفي أثناء السنة الأكاديمية ١٩٢٦ / ١٩٢٧ أصبحت بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا (ومعها تسع فتيات أخريات) طالبة مستجدة بين ١٠٠ طالب في كلية الكيمياء.

وعندما كانت طالبة في الصف الثالث قابلت البروفيسور ياكوب الذي عرض عليها منصب مساعد، وبعد وقت قليل في ١٩٣١ نشرت أول ورقة علمية لها بعنوان: «مركبات الموليبدينوم سداسي التكافؤ والهيدروكسيلامين». ولكن الحب الحقيقي للسيدة الصغيرة يتسوفسكا كان الرينيوم، الذي أحضره البروفيسور ياكوب إلى لِفيف في ١٩٣١. وفي ١٩٣٢ نشرت أول ورقة بحثية لها بعنوان «عن الرينيوم خماسي التكافؤ»، وبوصفها باحثة شابة نشرت سلسلة من الأوراق البحثية في الكيمياء الفيزيائية لمركبات الرينيوم، ولا سيما تلك الخاصة بالآليات الكيميائية الكهربائية والآليات الكيميائية لاختزال البرينات إلى رينيوم خماسي التكافؤ. كانت منشوراتها تلاقي استحسانًا واسعًا، لدرجة أنها أثناء المحاضرات التي ألقتها في جامعة السوربون بباريس لُقبت باسم «أم الرينيوم»، كما دخل هذا الموضوع أيضًا في رسالة الدكتوراه الخاصة بها. وكانت أول امرأة تناقش رسالة دكتوراه في جامعة لِفيف للعلوم التقنية في ١٩٣٥. وهي تقول في مذكراتها: «وُصفت مناقشة رسالة الدكتوراه في الجرائد، وكانت قاعة الجامعة الرئيسية مكتظة بمختلف المشاهدين، وكانت المرشحة الشابة للدكتوراه ترتدي فستانًا أنيقًا أسود اللون وتشبك فيه وردة حمراء.»

figure
بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا (الصورة من مجموعة الصور الخاصة للمؤلف).

في ١٩٣٥ تزوجت بوجوسلافا يتسوفسكا من فوجيميرز تريبياتوفسكي، أخصائي متميز في الكيمياء الفيزيائية للحالة الصلبة، وأثر هذا الزواج على منظورها للكيمياء تأثيرًا جذريًّا. ولسوء الحظ، في ١٩٣٩، دخل السوفييت بولندا ولِفيف، وبدأت الحرب العالمية الثانية؛ وأوقف هذا البحث لفترة طويلة نوعًا ما. وفي أثناء الحرب، عملت في البداية في متجر حلويات، ثم خوفًا من شبح الانتقال إلى ألمانيا، بدأت في العمل في الاتحاد الألماني لمصانع لِفيف حيث يتم تعيين البولنديين، وأصبحت مديرة لمصنع كيماويات «هوهير ألكهول». وفي عام ١٩٤٢ بدأت يتسوفسكا تريبياتوفسكا تعاونها مع إيه كيه، حركة المقاومة البولندية المسيطرة في الحرب العالمية الثانية في بولندا المحتلة من الألمان. ونظرًا لأنها كانت قادرة على الوصول للكيماويات، كانت مهمتها هي إنتاج المفرقعات. وكوفئت يتسوفسكا على عملها في منظمة المقاومة بأعلى أوسمة الدولة السرية البولندية.

في ١٩٩١، كافأ معهد الذكرى الوطنية في بيت المقدس — ياد فاشيم — بوجوسلافا يتسوفسكا بميدالية «الصالح بين الأمم» لإنقاذ حياة الدكتور إميل تازنر، الذي أصبح فيما بعد أستاذ الكيمياء في جامعة دانسيك التقنية، ومؤسس المدرسة البولندية لكيمياء الببتيدات، الذي كان مختبئًا في المصنع من ديسمبر ١٩٤٢ إلى أغسطس ١٩٤٤. كما اختبأ أيضًا في شقة الدكتور تريبياتوفسكا.

بعد إعادة احتلال الروس للِفيف وتحويل المصنع الألماني إلى مصنع كيماويات عملت هناك لفترة وانتقلت بعد الحرب في ديسمبر ١٩٤٥ إلى فروتسواف مع زوجها. وكانت الظروف شديدة الصعوبة؛ ففي ذلك الوقت كان ٨٠ في المائة من مدينة فروتسواف غير موجود.

كانت رائدة من رواد البعث العلمي البولندي مع الكثير من الأساتذة من لفيف، بما في ذلك تنظيمها للحياة الأكاديمية من نقطة الصفر. في البداية نظمت البحث العلمي والتدريس في الجامعتين المندمجتين، جامعة فروتسواف وجامعة فروتسواف للتكنولوجيا (رأست كلية الكيمياء غير العضوية والتحليلية في قسم الصيدلة، وشغلت منصب أستاذ كرسي الكيمياء العامة وأستاذ كرسي الكيمياء غير العضوية في جامعة فروتسواف للتكنولوجيا، ثم شغلت منصب أستاذ كرسي كيمياء العناصر النادرة). في ١٩٥١، نظمت إنشاء كلية جديدة — كلية الكيمياء — في قسم الرياضيات والفيزياء والكيمياء بجامعة فروتسواف. وفي الأعوام من ١٩٥٨ إلى ١٩٦٢ شغلت منصب عميد هذه الكلية. شغلت ثلاثة مناصب هناك: أستاذًا في الكيمياء غير العضوية، وفي الكيمياء العضوية، وفي الكيمياء الفيزيائية. وفي ١٩٦٩ أسست معهد جامعة فروتسواف بعد جهد مضنٍ أسفر عن دمج أقسام الكيمياء الثلاثة، وكان هذا المعهد هو سبب فخرها واعتزازها. كانت تطمح لتطوير مناهج بحثية جديدة؛ ومن ثمَّ تضع معهدها في مقدمة المؤسسات العلمية العالمية. وفي الأعوام من ١٩٦٩ حتى ١٩٧٩ شغلت الأستاذة يتسوفسكا-تريبياتوفسكا منصب رئيس معهد الكيمياء وقسم الكيمياء غير العضوية في جامعة فروتسواف.

إلى جانب نشاطها التنظيمي، عملت تريبياتوفسكا بكل اجتهاد في المجال العلمي، وسعت بطريقة منهجية، وبعناد، إلى الوصول لأهداف أعلى وأعلى في مسيرتها العلمية، وقامت بعمل أطروحة في ١٩٤٩ بالاستناد إلى دراسات في الكيمياء والكيمياء الفيزيائية للرينيوم. وفي ١٩٥٤، مُنحت لقب أستاذ. وشاركت كمحاضِرة في جامعات في باريس وروما وفلورنسا وجنيف وبيركلي وآن أربور وإيربانا-شامبين، ولوس أنجلوس وطوكيو وتورنتو وميلبورن وتولوز وبودابست وبراج وأثينا ونانكينج وبورتو ولندن واستوكهولم وفيينا وزيورخ وموسكو وبرلين ودرسدن وهال ولايبزيج ولينينجراد وغيرها. ونظمت العديد من المؤتمرات الدولية والقومية، ودعت العلماء من أهم المراكز البحثية في العالم إلى معهدها.

كان تنظيم اللقاءات العلمية ودمج البيئة العلمية أحد أهم أهداف تريبياتوفسكا. أما أهم أهدافها على الإطلاق، الذي حققته على أكمل وجه، فكان تقديم الكيمياء البولندية وكيمياء فروتسواف إلى البيئة العلمية في العالم. وقد طورت بيئة تعاونية واسعة النطاق مع الكثير من المراكز البحثية في العالم؛ مما أدى إلى مغادرة موظفي المعهد للحصول على فترات تدريب ولحضور العديد من المؤتمرات والندوات.

كانت شديدة الارتباط بالأكاديمية البولندية للعلوم، ومن ١٩٦٧ كانت عضوًا في الأكاديمية، ومن ١٩٧٨ حتى وفاتها كانت رئيس فرع فروتسواف للأكاديمية البولندية للعلوم، ومن ١٩٦٧، كانت أيضًا رئيس قسم الكيمياء التركيبية، بمعهد درجات الحرارة الدنيا التابع للأكاديمية البولندية للعلوم في فروتسواف.

كانت عضوًا في العديد من اللجان والجمعيات العلمية ومنها: الاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية، وأكاديمية ليوبولدينوم ومجلس التعليم العالي واللجنة العلمية للعلوم الكيميائية التابعة للأكاديمية البولندية للعلوم والجمعية الأوروبية للفيزياء ولجنة الفيزياء والكيمياء الحيوية والفيزياء الحيوية، ورئيس لجنة علم الأطياف التابعة للأكاديمية البولندية للعلوم.

كانت جهودها وعملها محل تقدير واحترام على مستوى واسع، وفازت بالكثير من الجوائز القومية، وجوائز مجلس الدولة للاستخدام السلمي للطاقة النووية، والجائزة الخاصة للعلوم البولندية والجوائز الممنوحة من قِبل وزارة التعليم العالي. بالإضافة إلى ذلك حصلت على شهادات دكتوراه شرفية في: الجامعة التقنية في براتيسلافا (١٩٧١)، وجامعة موسكو الحكومية (١٩٧٩) وجامعة فروتسواف للتكنولوجيا (١٩٨٠) وجامعة فروتسواف (١٩٨١)، وكُرمت بميداليات كثيرة.

كان نطاق اهتمامات الأستاذة بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا العلمي والأبحاث التي أجرتها واسعًا بدرجة مثيرة للإعجاب، ولم تكن كيمياء الرينيوم حبها الأول والأخير. كان نشاطها العلمي الذي يفوق الوصف سببًا في أن تحمل على عاتقها الكثير من المسائل البحثية الجديدة والمبتكرة، وكانت هذه في الغالب دراسات فريدة ورائدة في العديد من مجالات الكيمياء والكيمياء الفيزيائية، ولا سيما في مجال الكيمياء التناسقية. رأست وأطلقت الكثير جدًّا من المشروعات البحثية، ومن بينها دراسات حول المغناطيسية غير الحديدية للمركبات المعقدة والمغناطيسية والتحليل الطيفي لعناصر إلكترون إف، ورابطة الأكسجين (باعتبارها واضعة نظرية جسر الأكسجين، وأصبحت شخصية بارزة في تاريخ العلم على مستوى العالم)، وما يطلق عليه رابطة الهيدروجين.

كرست سنوات عمل كثيرة للبنية الإلكترونية والجزيئية للمركبات المعقدة، ولدراسة الخصائص التناسقية لعناصر الإلكترون دي، وإجراء أبحاث في مجال الكيمياء الحيوية غير العضوية والفيزياء الحيوية والكيمياء الإشعاعية، ودراسات حول تنشيط جزيئات الغاز الصغيرة أو العمليات التحفيزية. وبفضل حماسها ومشاركتها، تطور العديد من مناهج التحليل الطيفي (التحليل البنيوي للمركبات المعقدة، أو دراسات النظائر المشعة لتركيب وآليات التفاعلات الكيميائية) في معهد الكيمياء، كما قامت بإطلاق دراسات مكثفة عن التحليل الطيفي وسطوع المركبات التناسقية، واكتشفت من بين أشياء أخرى، العديد من المواد الجديدة النشطة بالليزر بالاستناد إلى مركبات اللانثانيد. وتمكنت من جمع فريق نشط من العلماء حولها، وهم أناس يشاركونها في شغفها العلمي؛ ولذا قاموا بتولي واستئناف هذه الدراسات. كانت تتمتع بموهبة إثارة التوق للمعرفة لدى الآخرين.

لم تكن إنجازاتها التعليمية تتلخص في إلقاء محاضرات ممتازة والإشراف على أكثر من ٧٠ رسالة دكتوراه فحسب، ولكنها كانت ترعى أيضًا العديد من المدارس الثانوية في منطقتنا، ومن المستحيل أن نغفل عن ذكر التعاون مع الصناعة والدراسات والتوضيحات العديدة التي أجريت خصوصًا لصناعة النحاس.

كانت الأستاذة مخلصة إخلاصًا تامًّا لعملها وطلابها ومعهدها، وكانت تطلب الكثير من الآخرين، ولكنها كانت تطلب أكثر بكثير من نفسها، وكانت تسعد بنجاح زملائها وتشجع تطويرهم لأنفسهم، وتقول دائمًا: «ما يهم حقًّا هو ببساطة أن تتمكن من العمل، ومن ابتكار شيء، وأن تخدم ليس فقط العلم والاكتشافات، ولكن أيضًا الناس، أو بالأحرى طلابي، وهذا أقصى طموحي، وما يُحزن هو قصر الوقت الذي مُنح للإنسان.»

كانت امرأة جميلة وأنيقة تتمتع بحس راقٍ ودأب ومثابرة، وكانت صلابتها النفسية وشجاعتها وشخصيتها القوية، وكمالها وقدرتها على التعامل مع كل ما يلقيه القدر في طريقها، واستعدادها التام لمساعدة الآخرين، تضيف إلى كونها إنسانة رائعة.

ماتت الأستاذة بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا ميتة مأساوية في ١٦ ديسمبر ١٩٩١، أما أسس الكيمياء التي وضعتها فقد خدمت، وسوف تخدم، الكثير من أجيال العلماء البولنديين. وبوفاة الأستاذة بوجوسلافا يتسوفسكا-تريبياتوفسكا خسر العلم في فروتسواف، بل في بولندا والعالم أجمع، خسارة عظيمة؛ فنادرًا ما يولد مثل هؤلاء العظماء في العمل والمعرفة.

المراجع

  • Kozl⁄owski, H. and Legendziewicz, J. (1993) Nauka Polska, 2-3, 201–205.
  • Stasicka, Z. and Ziól⁄kowski, J. (2005) Coord. Chem. Rev., 249, 2133–2143.
  • Ziól⁄kowski, J. (2000) Coord. Chem. Rev., 209, 15–33.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤