لغز وادي بوسكومب

كنا جالسَين — أنا وزوجتي — نتناول الإفطار في صباح أحد الأيام، عندما دخلَت الخادمة ومعها برقية. كانت البرقية من شيرلوك هولمز، وكان نصها كالتالي:

هل يمكنك أن تتفرَّغ لمدة يومَين؟ وصلتْني للتوِّ برقية من غرب إنجلترا بخصوص مأساة وادي بوسكومب، سأكون سعيدًا إذا رافقتَني، الهواء نقيٌّ والمناظر الطبيعية هناك خلَّابة. سأغادر محطة بادينجتون في قطار الساعة الحادية عشرة والربع.

نظرتْ إليَّ زوجتي وقالت: «ما رأيك يا عزيزي؟ هل ستذهب؟»

«لا أعلم حقًّا ماذا أقول، فلديَّ قائمة طويلة من المهام في الوقت الحالي.»

«سوف ينوب عنك أنستروثر في العمل. إنك تبدو شاحبًا قليلًا مؤخَّرًا، وأظن أن تغييرَ الأجواء سيكون له تأثير جيد عليك، كما أنك دائمُ الاهتمام بقضايا السيد شيرلوك هولمز.»

أجبتُها: «لو قلتُ إنني لست مهتمًّا لكنت جاحدًا، بالنظر إلى ما استفدتُ به من إحدى تلك القَضايا، ولكن إذا كنتُ سأذهب، فيجبُ أن أحزم حقائِبي على الفَور؛ فلم يتبقَّ على موعد القطار إلا نصفُ ساعةٍ فقط.»

كان لتجربتي مع حياةِ المعسكرات في أفغانستان، على الأقل، تأثيرٌ جعلني دائمَ الاستعداد والحماس للسَّفر. وكانت احتياجاتي قليلةً وبسيطة، لذلك كنتُ قبلَ الوقت المطلوب أستقلُّ عربة أجرة مع حقيبة سفري، في طريقي إلى محطة بادينجتون. كان شيرلوك هولمز يذرَع رصيف المحطة ذهابًا وإيابًا، وقد بدا قوامه النَّحيل الطويل أكثرَ نحولًا وطولًا، في معطف السفر الرمادي الطويل، وقبعته القماشية المُحكَمة على رأسه.

قال هولمز: «إنه لأمرٌ جيد حقًّا أن تأتي يا واطسون؛ فوجود شخصٍ معي يمكنني الاعتماد عليه كليًّا، من شأنه أن يُحدِث فارقًا كبيرًا بالنِّسبة لي؛ فالمساعدون المحليُّون دائمًا ما يكونون إما بلا فائدة أو متحيِّزين، لو أمكنَك أن تحجِز لنا مقعدَين في الزاوية، فسأذهب لآتِي بالتَّذاكر.»

لم يكن ثمَّة أحدٌ في عرَبة القطار سِوانا، وكمية هائلة من الجرائد جلَبها معه هولمز، اندمج في قراءتها وفحصها بعناية، وتخلَّل ذلك فتراتٌ من تدوينِ الملاحظات والتأمُّل، حتى تجاوزنا محطة ريدينج، عندئِذ قام هولمز فجأةً بلفِّ الجرائد كلِّها معًا في كرة ضخمةٍ، وألقاها على الرَّفِّ.

قال هولمز: «هل سمعت أيَّ شيءٍ عن هذه القَضيَّة؟»

قلتُ: «ولا كلمةً واحدة، كما أنَّني لم أرَ أيَّ صحفٍ منذُ أيام.»

«لم تغطِّ الصحف اللندنية الخبرَ على نحوٍ كامل؛ فقد اطَّلعت الآن على كلِّ الصُّحف التي صدرت مؤخَّرًا؛ لأتمكَّن من فَهم التفاصيل، ويبدو ممَّا فهمته أنها إحدى تلك القضايا التي تبدو بسيطةً؛ بينما هي في حقيقتها بالغةُ الصعوبة.»

«هذا يبدو متناقضًا بعضَ الشيء.»

«لكنه صحيحٌ تمامًا. والغرابةُ دائمًا ما تكون مفتاحًا لحل اللُّغز. وكلَّما كانت الجريمة عاديةً وبلا معالم، زادَت صعوبةُ حلِّها؛ غير أنَّهم في هذه القضية جمَعوا أدلةً خطيرة للغاية ضدَّ ابنِ الرجل المقتول.»

«هي جريمةُ قتلٍ إذن؟»

«يُعتقد أنَّها كذلك، ولن آخذ بأيِّ مُسلَّمات في القضية؛ حتى تُتاح لي الفرصة للاطِّلاع عليها بنَفسي، وسأشرحُ لك طبيعة الأمور حسبَما استطعتُ فهمَه، بإيجازٍ شديد.

إن وادي بوسكومب مقاطعة ريفية ليسَت بعيدة عن روس في هيرفوردشاير، ويُعدُّ السيد جون تيرنر أكبرَ مُلَّاك الأراضي في هذه المَنطقة، وقد كوَّن ثروته في أستراليا، ثم عادَ إلى وطنِه الأصلي منذ سنَوات عدَّة. وقد أجَّر إحدى مزارعه التي يمتَلكُها، وهي مزرعة هاذرلي، للسيد تشارلز مكارثي، الذي كان يُقيم فيما مضَى في أستراليا أيضًا، وتعارفا هناك في المُستعمرات؛ لذا كان من الطَّبيعيِّ أن يستقرَّ أحدهما بجانب الآخر قَدر المستطاع. كان تيرنر كما يبدو هو الأكثَر ثراءً؛ ومن ثمَّ أصبح مكارثي هو المُستأجِر منه، ولكن ظل التعامل بينهما، كما يبدو، قائمًا على التَّساوي البَحت؛ إذ كانا يقضيان معًا الكثير من الوقتِ. كان لمكارثي ابنٌ وحيد شابٌّ في الثامنةَ عشرةَ، وكان لتيرنر ابنة في السنِّ ذاته؛ لكن لم يكن لأيٍّ منهما زوجة على قَيد الحياة. والظاهرُ أنهما كان يتجنَّبان الاختلاط — اجتماعيًّا — بمن جاورَهما من الأسَر الإنجليزية، ويعيشان حياةً منعزلةً، بالرغم من ولَع مكارثي وولدِه بممارسَة الرياضة، وشُوهدا كثيرًا في السِّباقات التي تُعقَد في الجِوار. كان لدى مكارثي خادمان، رجل وفتاة، أما تيرنر، فكان لدَيه الكثير من الخدَم، ستةٌ على الأقل. هذا كل ما أمكنني جمعُه من معلوماتٍ عن العائلتَين، وسأتطرَّق الآن للحقائق.

في الثالث من يونيو الموافق يوم الإثنين الماضِي، غادر مكارثي منزلَه في هاذرلي في حوالي الساعة الثالثة مساءً، وسار نحو بُحيرة بوسكومب، وهي بُحيرةٌ صغيرة تشكَّلت بفعل اتِّساع النهر الذي يجري عبرَ وادي بوسكومب. وقد كان في الصَّباح بصُحبة خادمِه في روس، وأخبرَ الخادمَ أن عليهما الإسراعَ كي يلحَقَ بموعد مُهمٍّ في تمام السَّاعة الثالثة؛ ذلك المَوعد الذي لم يرجِع منه حيًّا.

تبلغ المسافةُ بين مزرعة هاذرلي وبحيرة بوسكومب ربعَ مِيل، وقد رآه شخصان وهو يَسيرُ في ذلك الطريق؛ أحدهما سيدة عجُوز لم يُذكَر اسمُها، أما الآخر فكانَ ويليام كراودر، وهو حارسُ صيدٍ كان يعمَل لدى السيد تيرنر، وقد شهِد كلاهما بأنَّ السيد مكارثي كان يسيرُ وحدَه. وأضاف الحارسُ أنه بعد دقائقَ من رُؤيته للسيد مكارثي، وهو يمُرُّ، شاهدَ ابنَه السيد جيمس مكارثي يسيرُ في الطريق نفسِه حاملًا بندقيةً تحتَ ذراعه، وأغلبُ ظنه أن الأب كان في مرمَى البصَر بالفعل في ذلك الوَقت، وكان الابن يتبَعه، ولم يفكِّر الحارس كثيرًا بالأمر حتى سمِع في المسَاء بالمأساة التي حدَثت.

شُوهد الأب وابنُه مرة أخرى، بعدما غابَا عن نظرِ ويليام كراودر حارسِ الصيد. إن بحيرة بوسكومب محاطة بالأشجار الكثيفة، ويَحفُّ بها القليل من الحشائِش والخيزُران حولَ الحافَّة. وكانت بيشنس موران — وهِي فتاةٌ تبلُغ من العُمر أربعةَ عشرَ عامًا، وابنة حارسِ بوَّابةِ منطقة وادي بوسكومب — تتمشى بين هذه الأشجار الكثيفة تقطِف الأزهار. وقد قالت إنها أثناءَ وجودها هناك رأَتْ عند حدود الغابة، بالقُرب من البحيرة، السيد مكارثي وابنَه، ويبدو أنهما كانا يتشاجَران مشاجرةً عنيفة. وقد سمعَت السيد مكارثي الأكبر يتفوَّه بألفاظٍ حادة جدًّا لابنه، ورأَت الأخير يرفَعُ يدَه كما لو كان سيضرب والدَه. شعرَت الفتاة بخوفٍ شديد من هذا العُنف إلى درجة أنها هُرِعَت إلى المنزل، وأخبرَت والدتها أنها تركَت السيد مكارثي وابنَه يتشاجران بالقُرب من بحيرة بوسكومب، وأنها تخشَى أن يتقاتَلا. وما كادت الفتاة تُخبر أمَّها بذلك، حتى جاء السيد مكارثي الابن مُسرعًا إلى كوخ الحارس؛ ليقولَ إنه وجَد والده ميِّتًا في الغابة، وطلب منه المُساعدة. كان في حالة من الهِياج الشَّديد، ولم يكن معه بندقيتُه ولا قبَّعتُه، ولُوحظ أن يدَه اليُمنى وكمَّه الأيمن ملطَّخان بدماءٍ حديثة. وعندما اتَّبعوه وجدوا الجثة مُلقَاةً على الحشائش بجانب البُحيرة. كان الرأسُ قد تعرَّض لضربات متكرِّرة من سلاح ثقيلٍ غيرِ حاد. من المحتمل أن تكونَ هذه الإصابات قد وقعت بواسطةِ مؤخِّرة بندقية ابنِه التي عُثِر عليها ملقَاةً على الحشائش، على بُعد بضع خُطواتٍ من الجُثَّة. وفي ظل هذه الظُّروف، قُبض على الشابِّ على الفَور، ووُجهتْ له تهمةُ «القتل العَمْد» في التَّحقيقِ الذي أُجري يومَ الثلاثاء، وعُرض يومَ الأربعاء أمامَ هيئةِ محلَّفي روس الذين أحالوا القضيةَ إلى الجلسةِ التالية. تلك هي الوقائعُ الرئيسَة في القضية، مثلما عُرضَت على قاضي التحقيق الجنائي والمحكَمة الشرطية.»

قلتُ مُعلِّقًا: «لا يمكنني تصوُّرُ قضيةٍ أبشع من هذه القضية. ما من قضيةٍ تُشير فيها الأدلةُ الظرفية إلى القاتل مثل هذهِ القضيَّة.»

أجاب هولمز وهو مستغرق في تفكير عميق: «إن الأدلَّة الظرفيةَ شيء خادعٌ للغَاية. فقد تبدُو أنها تشير مباشَرةً إلى شيءٍ ما، ولكن إذا غيَّرت وجهةَ نظرِك قليلًا، فقد تجدُها تشيرُ بالقوَّة ذاتها إلى شيء مختلِف تمامًا. ومع ذلك، يجِب الاعترافُ بأن الأدلةَ ضدَّ الشاب قويةٌ جدًّا، ومن الوارد تمامًا أن يكون هو الجَاني بالفعل، ولكن يوجد العديدُ من الأشخاص في الحيِّ، من بينهم الآنسة تيرنر، ابنة مالك الأرض المجاورة، يؤمنون ببراءَة الشَّاب، وقد وكَّلوا ليستراد — قد تذكرُه من قضية «دراسة في اللون القرمزي» — ليُدافعَ عنه، ولكنه شعَر بالحَيْرة، فأحال بدَوْره هذه القضية إليَّ، وهذا ما جعَل رجلَين مثلِنا في منتصَف العمر يُسافران غربًا بسُرعة خمسين ميلًا في الساعة؛ بدلًا من تناول إفطارِهما في مَنزلَيهما في هُدوء.»

قلتُ: «أخشَى أنَّ الحقائق واضحةٌ، لدَرجة أنَّك لن يكونَ لك فضلٌ كبير في حلِّ هذه القَضية.»

أجاب ضاحكًا: «لا شيءَ أكثرُ خداعًا من حقيقةٍ واضحة؛ علاوةً على ذلك، ربَّما نصادف بعضَ الحقائق الواضِحة الأخرى التي ربَّما لم تكُن واضحةً بأي حالٍ من الأحوال للسيد ليستراد. وأنتَ تعرفني جيِّدًا للدرَجة التي تَجعلُك لا تظن أنَّني أتفاخر عندما أقول: إنني سوف أؤكِّد أو أدحضُ نظريته بطرُق لا يستطيع هو استخدامها أو حتى فهمَها. لنأخذ أول مثال بين أيدينا الآن؛ أدرِكُ تمامًا أن نافذةَ غرفة نومِك تقَعُ على الجانب الأيمن، ومع ذلك أتساءَل عمَّا إذا كان السيد ليستراد قد لاحظَ حتى مثلَ هذا الأمر البَديهيِّ.»

«كيفَ بالله عليك …؟!»

«إنني أعرِفك جيدًا، يا صَديقي العزيز، وأعرفُ ما تتميَّز به من دقَّة عسكريَّةٍ صارمةٍ. فأنت تَحلِق ذقنك كلَّ صَباح، كما أنك في هذا الوقت من العام تستَعين بأشعَّة الشمس في الحِلاقة؛ ولكن نظرًا لأن دِقَّة حلاقتك تقلُّ بالتدريج كلَّما اتَّجَهنا إلى الجانب الأيسر، حتى تُصبح سيئةً تمامًا عند دوران زاويةِ الفَكِّ؛ فمن الواضح جدًّا أن هذا الجانبَ أقلُّ إضاءةً من الآخر. لا يمكنني تَخيُّلُ رجلٍ، له مثل ما لك من الطِّباع، يرضَى بتلك النتيجةِ عند النظَر لنَفسه في المِرآة في إضاءةٍ متساوية. أقول هذا فقط مثالًا متواضعًا على قوَّة الملاحظَة والاستِدلال. وهنا تكمُن مهارَتي، التي من المُمكن أن تكونَ ذات نفعٍ في التحقيق الذي أمامنا. فقد ذُكِر في التحقيق نقطةٌ أو نقطتان صغيرتان جديرتان بإمعانِ النظر فيهما.»

«وما هما؟»

«يبدو أن اعتِقالَ الفتى لم يحدُث على الفور، وإنما بعد عودَته إلى مزرعة هاذرلي. فعند إبلاغِ مفتش الشرطة له أنه رهن الاعتقال، قال إنه لم يتفاجأ لسَماع ذلك، وإنه يستحق ذلك. وكان من الطبيعيِّ مع هذه الملاحظة أن يزولَ أي شكٍّ، ربَّما قد تبقَّى في أذهان هيئة المحلَّفين.»

صِحتُ قائلًا: «لقد كان هذا اعترافًا منه.»

«لا، فقد أتبَع ذلك بادِّعاءِ أنه بَريء.»

«لكنَّ قوله هذا، وسط كل هذه الأحداث البشعة، يُثير الرِّيبة إلى أبعَد الحدود.»

قال هولمز: «على العكس من ذلك، إنَّها الفُرجة الأكثر إشراقًا الآن وسطَ الغُيوم. فمهما كان بريئًا، لا يمكن أن يكُون شخصًا أبلهَ للدرجة التي لا يمكنه معها أن يرَى أن الظروف كانت سيئة جدًّا ضدَّه. ولو بدا أنه فُوجئ باعتقاله، أو تصنَّعَ الغضبَ من ذلك، لنظرتُ إلى ذلك بعين الرِّيبة إلى حدٍّ كبير؛ لأن مثل هذه المفاجأة أو الغضب لن تكون طبيعيةً في ظل هذه الظروف؛ بل قد تبدو أفضلَ ما ينتهجه شخصٌ يخطِّط لمثل هذا الأمر. إن قبولَه الصريح للوَضع؛ إما أنه إشارةٌ إلى أنه بَريء، أو أنَّه رجلٌ يتمتَّع بقدر كبيرٍ من ضبط النَّفس والثَّبَات. أما بالنسبة إلى ملاحظتِه حول استحقاقِه لذلك، فلم يكُن غريبًا أيضًا إذا وضعتَ في الاعتبار أنَّه كان يقِفُ بجوار جثَّة والِده، وأنه لا شكَّ نسِي في ذلك اليوم واجبَ الابن تجاه أبيه، ما جعله يقسُو معه في الحديثِ، حتى وصَل الأمرُ — وَفقًا للفتاةِ الصَّغيرة التي تُعتَبر شهادتُها بالغةَ الأهمية — إلى رَفعِ يدِه، كما لو كان على وَشك أن يَضربه. يبدو لي أنَّ الشعور بالذنبِ والندَم اللذَين تجلَّيَا في عبارته تلك، إنَّما هي دلالاتٌ على عقلٍ سليم، وليس عقلًا إجراميًّا.»

هزَزْتُ رأسي قائلًا: «كم من رجالٍ أُعدِموا بأدلةٍ أتفهَ من هذه بكَثير.»

«أجلْ، وكم من رجالٍ أُعدِموا ظلمًا!»

«وما أقوالُ الشابِّ عن الوَاقعة؟»

«ليست مُشجِّعةً لأنصارِه للأسف، وإن كان فيها نقطةٌ أو اثنتان لهما دِلالات، ستجدُها هنا، ويمكن أن تقرأَها بنفسك.»

والتقَط من بين كَومة الجرائد التي كانت معه نسخةً من جريدة «هيرفوردشاير» المحلِّية، وبعد أن قلب الصفحةَ، أشار إلى فقرة فيها أقوال الشابِّ السيئِ الحظِّ بشأن ما حدَث. فجلستُ في ركن عربة القطار وقرأتها بعنايةٍ شديدة، وكان هذا نصها:

تمَّ استدعاءُ السيد جيمس مكارثي، الابن الوحيد للقتيل، وقدَّم إفادته على النحوِ التالي: «لقد كنتُ خارجَ المنزل لمدة ثلاثة أيَّامٍ في بريستول، ولم أعُدْ إلا صباح يوم الإثنين الماضي الموافق الثالثَ من الشهر. لم يكُن والدي موجودًا بالمنزل وقتَ وصولي، وأبلغَتْني الخادمةُ أنه قد غادَر إلى روس بصُحبَة جون كوب، السَّائس. بعد فترةٍ وجيزة من عَودتي، سمِعت صوتَ عجلاتِ عرَبته في الفِناء، ولمَّا نظرتُ من نافذتي، رأيتُه يمضِي مُسرعًا مغادرًا الفناء، ولكنِّي لم أدرِ إلى أين سيذهب. بعد ذلك، أخذتُ بندقيتي وذهبتُ لأتجوَّل في اتِّجاه بحيرةِ بوسكومب؛ بقَصد زيارةِ أرضِ الأرانِب الواقعة على الجانب الآخر. وفي طريقِي رأيتُ الحارسَ ويليام كراودر — كما ذكَر في شَهادته — لكنه مخطئٌ في ظنِّه أنني كنتُ أتبَع والدي. فلم يكن لديَّ أيُّ فكرةٍ أنه كان يَسير أمامي. ولما صِرتُ على بُعد حوالَي مائةِ ياردة من البُحيرة، سمعتُ صيحةَ «كوي!» التي كانت إشارةً مألوفةً بيني وبين والدي. فأسرعت الخُطى؛ لأجدَه واقفًا بجانبِ البُحيرة. وبدا أنه قد فوجئَ برؤيتي فسَألني بفظاظة عمَّا أفعلُه هناك. ودار بعد ذلك بيننا حوارٌ تحوَّل إلى جدالٍ عنيف وكاد يتطوَّر إلى الضَّرب؛ لأن والدي كان رجلًا ذا طباعٍ عَنيفة للغاية. ولما رأيتُ انفعالَه خارجًا عن السَّيطرة، تركتُه وعدت إلى مزرعة هاذرلي. لم أبتعِد أكثر من ١٥٠ ياردة؛ حتى سمعتُ صرخةً بَشِعة ورائي، ممَّا دفعني للعودة مرةً أخرى ركضًا، لأجِدَ والدي يُحتضَر على الأرض، مُصابًا بجروحٍ بالغةٍ في رأسِه. فألقيت بندقيتي واحتضَنْتُه بين ذراعَيَّ، لكنه مات في الحال. جثَوْتُ بجانبه لبضعِ دقائق، ثم توجَّهت إلى منزلِ السيد تيرنر — لكَوْن منزلِه هو الأقرَب — لطلبِ المُساعدة. لم أرَ أحدًا بجوار والدي عندما عدتُ، وليس لديَّ أيُّ فكرة عن كيفيةِ إصابته. وبرغم أنه لم يكُن رجلًا محبوبًا، لأنه كان قاسيًا إلى حدٍّ ما وصعبَ المِراس، فإنه — حسَب علمي — لم يكن لدَيه أعداءٌ يُجاهرونه بالعداء، هذا كلُّ ما أعرِفه عن الموضوع.»

القاضي : «هل أدلَى إليك والدُك بأيِّ شيءٍ قبل وفاتِه؟»
الشاهد : «لقد غَمغم بكلماتٍ قليلة، لكنني لم أميِّزْ منها إلا كلمةَ (رات).»
القاضي : «وما الذي فهِمتَه من ذلك؟»
الشاهد : «لم يكُن لها أيُّ معنًى لديَّ. لقد ظنَنتُه يهذِي.»
القاضي : «وما الشَّيءُ الذي تسبَّب في شِجارِكما الأخير؟»
الشاهد : «أفضِّلُ عدمَ الإِجابة.»
القاضي : «أخشَى أنَّني مُضطر للإِصرار على مَعرفته.»
الشاهد : «من المستحيل فعلًا أن أخبرك؛ ولكنني أؤكِّدُ لك أنه لم يكن له علاقة بالمأساة المُؤسِفة التي تَبعت ذلك.»
القاضي : «المحكمة هي التي تُقرِّر ذلك، ولستُ بحاجة لأن أوضِّح لك أن رفضَك الإجابةَ سيضُر بمَوقفِك في القضية بشكلٍ كبير، في الجلسات التي قد تنَعقد فيما بعد.»
الشاهد : «ما زلتُ مُصِرًّا على الرَّفض.»
القاضي : «فهمتُ من كلامِك أنَّ صيحة «كوي» كانت إشارةً متعارفًا عليها بينك وبينَ والدِك.»
الشاهد : «نعم، كانَتْ كذلك.»
القاضي : «فكيف إذن أطلَق تلك الصيحة، قبل أن يراكَ، أو قبل أن يَعرِف أنَّك رجَعت من بريستول؟!»
الشاهد (وقد بدَت عليه الحَيرةُ الشَّديدة) : «لا أعلَم.»
عضو هيئة المُحلَّفين : «ألم ترَ أي شيءٍ أثارَ الشكَّ عند عودتِك بعد أن سمِعتَ الصَّيحة؛ لتَجد والدَك مصابًا هذه الإصابةَ القاتلة؟»
الشاهد : «لم أرَ شيئًا مُحدَّدًا.»
القاضي : «ماذا تعنِي؟»
الشاهد : «لقد كنتُ مضطرِبًا ومنفعِلًا عندما أسرَعتُ بالخروج إلى المنطقة المَكشُوفة، ولم أتمكَّن من التفكير في أيِّ شيءٍ سِوى والدي، بالرَّغم من الإحساسِ الغامضِ الذي راوَدني بوُجود شيءٍ كان مُلقًى على الأرض على يَساري عندما كنتُ أجري للأمام. كان شيئًا رماديَّ اللون، ربما كان مِعطفًا من نوعٍ ما، أو شَالًا؛ ولكن عندما نهَضتُ من جوار أبي وذهبتُ لأبحثَ عنه، كان قد اختَفى.»

«أتعنِي أنه كانَ قد اختفَى قبل أن تذهَب لطلَب المساعدة؟»

«أجل، كان قد اختَفى.»

«ألا يمكِنُك تحديدُ ماهيَّتَه؟»

«لا، فقط كان لديَّ شعورٌ أنه كان ثمَّة شيءٌ ما.»

«كم كان يبعُد عن موقعِ الجُثَّة؟»

«اثنتي عشرةَ ياردة، أو نحو ذلك.»

«وكم كان يبعدُ من حافَّة الغابَة؟»

«تقريبًا المسافةَ نفسَها.»

«إذن، عندما اختَفى هذا الشيء كنتَ أنت على بعد اثنتَي عشرةَ ياردة؟»

«أجل؛ ولكنْ من جِهة ظَهري.»

«وبهذا انتَهى استجوابُ الشاهد.»

قلتُ، وأنا أُطالِع المقال: «أرى أن قاضيَ التحقيقِ كان قاسيًا نوعًا ما في ملاحظاتِه النِّهائية على مكارثي الصغير؛ فهو ينبِّهُ — وهو مُحقٌّ في هذا — إلى التناقُض في قوله: إن والده صاحَ له بالإشَارة التي بينهما، قبل أن يرَاه، وأيضًا لرَفضهِ إعطاء تفاصيلِ المحادثة التي جرَت بينهما، بالإضافةِ إلى روايتِه الغريبة لكلمات والدِه الأخيرة قُبَيل موته. وكلُّ ذلك، كما يذكر، يُشكِّل دليلًا قويًّا ضدَّ الفتى.»

ضحك هولمز في نفسِه بلُطف، ومدَّد جسمَه على المِقعد ذي الوَسائد، ثم قال: «لقد بذلتَ جهدًا — أنت وقاضِي التحقيق — لانتقاءِ أقوَى النِّقاط التي تصُبُّ في صالِح الشاب. ألا ترى أنَّكما تتناوبان امتداح الشابِّ لسَعة خيالِه، ثم تعودانِ وتصفانِه بالافتِقار إليه؟! فإذا لم يتمكَّن من اختراع سبَبٍ للمشاجَرة، من شأنه أن يُعطيه تعاطفَ هيئةِ المحلَّفين، فهو يَفتَقِر للخَيال؛ وإذا استطاع أن يأتي من عقلِه الباطن بشيءٍ في مثل غرابةِ ذِكْرِ القتيل لكَلِمة «رات»، بالإضافة إلى مسألة قِطعة القماش التي اختفَتْ، فهو إذن ذو خيالٍ خِصب. لا يا سيدي، سأتعامل مع هذه القضية على اعتبار أن ما يقوله هذا الشاب صَحيحٌ، وسنرى إلى أين ستقودُنا هذه الفرضيَّة. والآن ها هو كُتيِّب قصائد بترارك للجيب خاصَّتي، ولن أقول كلمةً أخرى عن هذه القضيَّة حتى نصِل إلى مَسرح الجَريمة. سنتَناول الغداءَ في سويندن، وأرَى أننا سنكُون هناك في غُضون عشرين دقيقة.»

كانت الساعةُ تقارِب الرابعة مساءً عندما وصَلْنا أخيرًا، بعدما مرَرْنا عبرَ وادي ستراود الجَميل، وفوق نهر سيفرن الواسِع اللامع؛ لنجد أنفسَنا في مدينة روس الرِّيفية الصَّغيرة الجميلة. كان في انتظارنا على رصيف المحطَّة رجلٌ نحيفٌ يشبه حيوان ابن مُقرِض، يبدو عليه الخبثُ والمَكر، وبالرَّغم من ارتدائه مِعطَفًا طويلًا ذا لونٍ بُنِّي فاتحِ اللون، وغِطاء ساقٍ جلدية ارتدَاهما تَماشِيًا مع مُحيطه الرِّيفيِّ. لم أجِد أيَّ صعوبةٍ في التَّعرُّف على ليستراد، مفتشِ شُرطة سكوتلاند يارد. وقد استقللنا معه عرَبةً إلى فندق هيرفورد أرمز، حيثُ كانت هناك غرفةٌ محجوزة لنا.

أثناء جلوسِنا لاحتساء كوبٍ من الشاي، قال ليستراد: «لقد أرسَلتُ في طلَب عربةِ أجرةٍ. فأنا أعرف طبيعتَك النَّشِطة، وأعرِف أنه لن يهدأ لك بال؛ حتى تزُور موقعَ الجريمة.»

قال هولمز: «هذا لطفٌ وإطراءٌ شديدان منكَ، ولكنَّ الأمر يتوقَّف كليًّا على الضَّغطِ الجوي.»

بدَا ليستراد جَافلًا وقال: «لا أفْهَم.»

«إلامَ يشيرُ البارومتر؟ تسعٌ وعشرون درجةً، كما أرَى. ما مِن رياح ولا غُيوم في الأفق، ولديَّ هنا كَمية من السَّجائر التي أوَد تدخينها، كما أنَّ الأريكة أفضَل بكثير مما هو مُعتاد في الفنادق الريفيَّة المقيتة؛ ولذلك لا أعتَقد أنَّ هناك أيَّ احتمالٍ أنْ أركَب العربةَ الليلةَ لأيِّ مكان.»

ضَحك ليستراد، بتسامحٍ، وقال: «لا شكَّ أنك قد كوَّنت استنتاجاتِك من الصُّحف. فالقضيَّة في غاية الوُضوح، وكلَّما توغَّل المرء في تفاصيلِها، أصبحَت أكثرَ وُضوحًا. ولكِن بالطَّبع يظَل المرءُ عاجزًا عن رفِض طلَبٍ لسيِّدَة، خاصةً إذا كان لديها كلُّ هذا الإصرار في مَطلبِها. لقد سمِعَت عنك، وترغَب في سماعِ رأيك، برغم أنَّني أخبرتُها مرارًا وتكرارًا أنه لا يوجَد شيءٌ يُمكنُك فعلُه، ولم أقُم به بالفِعل. لكن ما هذا؟! ها هي عربتُها عند الباب.»

ولم يكَد يُنهِي حديثَه، حتى اندفعَت إلى الغرفة واحدةٌ من أجمَل الشابَّات اللائي رأيتُهن في حياتي. كانت عَيناها البنفسجيتان لامعتَين، وشفَتاها مفروقتَين، ووَجْنتاها متوردتَين بحُمرَة وَرديَّة، وقد فقدَت تحفُّظَها الطبيعيَّ، في غَمرة قلَقها وانفعالها اللذَين سيطَرا عليها.

راحت توزِّعُ نظراتِها بيننا، وأخيرًا — وبحَدس المرأةِ السَّريع — ثبَّتَت عينَيها على صديقِي، وصاحَت قائلةً: «أوه! سيد شيرلوك هولمز، أنا سعيدة جدًّا لقُدومك. لقد جئتُ خُصُوصًا؛ لأخبرَك بذلك. أعلمُ أن جيمس لم يقُم بتلك الجَريمة. أنا على يقينٍ من ذلك، وأريدُك — أنت أيضًا — أن تَعرِف ذلك قبل أن تشرعَ في عمَلك. لا تدعِ الشكوكَ تساورك مطلقًا في ذلك الأمر. لقد عرَف أحدُنا الآخر منذ نعومة أظفارِنا، وأعلم عيوبَه وزلاتِه أكثرَ من أيِّ شخص آخر؛ ولكن قلبَه أرقُّ من أن يؤذِي ذبابة. وكلُّ من يعرف جيمس بحق، يعرِف أنَّ من السُّخف اتهامَه بتُهمة كهذه.»

قال هولمز: «آمل أن نتَمكَّن من تبرئتِه، يا آنسة تيرنر. يمكنُك أن تثقِي بأنني أبذُل كلَّ ما في استطاعتي في سبيلِ ذلك.»

«لكنَّك قرأتَ أدلةَ الاتهام، فهل كوَّنتَ أيَّ استنتاج؟ ألا ترَى أيَّ ثغراتٍ أو أخطاء يمكِنُ الطعنُ بها؟ ألا تظنُّ أنتَ نفسك أنَّه بريءٌ؟»

«أعتقد أنَّ هذا واردٌ للغاية.»

صاحتْ قائلةً، وهي تلتَفت ناحيةَ ليستراد، ناظرةً إليه بتَحَدٍّ: «هذا ما أردْتُه، هل سمِعتَ؟ لقد بعَث في نفسِي الأمَل.»

هزَّ ليستراد كَتفيه قائلًا: «أخشَى أن زميلي قد تسرَّعَ قليلًا في تكوينِ استنتاجاتِه.»

«لكنَّه مُحق، أوه! أنا على يقينٍ أنه مُحقٌّ. إن جيمس لم يفعَلْها قطُّ. وبخصوص مشاجرَتِه مع والده، أنا متأكِّدةٌ أنه لم يُطلعِ القاضي على تفاصيلِها؛ لأنَّ الأمر كان يتعلَّق بي.»

سألها هولمز: «وكيفَ ذلك؟»

«لا يمكِنُني إخفاءُ الحقيقةِ أكثرَ من ذلك. لقد كان بين جيمس وبين أبيه خلافاتٌ كثيرةٌ بسببي؛ فقد كان السيِّد مكارثي في غايةِ اللهفة لتَزويجي لجيمس، بينما كنت أنا وجيمس متحابَّينِ كالأخوَين، ولكنَّه بالطبع لا يزالُ في مقتبل العمر، ولم يمرَّ بالكثير من التجارِب في الحياة بعدُ، وبالطبع لم يكن راغبًا في أن يُقدِم على شيء كهذا الآن؛ لذا كثيرًا ما كانت تَنشِبُ مشاحناتٌ بينهما بسبَب ذلك، وأنا متأكِّدة أن هذه كانَت إحدَاها.»

سألها هولمز: «وماذا عن والدِك. هل كان مؤيِّدًا لهذا الارتِباط؟»

«لا، كان معارِضًا له أيضًا. لم يكن أحدٌ مؤيِّدًا لذلك سِوى السيد مكارثي.» وتضرَّج وجه الفتاة بحُمرة الخجَل، عندما رمَقَها هولمز بإحدى نظراتِه الثاقبة المُتفحِّصة.

قال: «شكرًا على هذه المَعلومات، هل يُمكنني رؤية والدِك غدًا إذا جئتُ لزِيارته؟»

«أخشى أن الطبيبَ لن يسمَح بذلك.»

«الطبيب؟»

«نعم، ألم تعلَم بذلك؟! لم يكن أبي المسكين بصحَّةٍ جيِّدة منذ أعوامٍ طويلة، ولكنَّ ما حدث حطَّمه تمامًا وجعله ملازمًا للفِراش، ويقولُ الدكتور ويلوس: إن حالتَه بالغةُ السوء، وإن جهازَه العصَبي قد دُمِّر. لقد كان السيد مكارثي هو آخر مَن تبقَّى على قيدِ الحياة ممَّن عرفهم أبي في فيكتوريا، في الأيام الخوالي.»

«ها، في فيكتوريا! هذا مُهِم.»

«نعم، كانا يعمَلان في المَناجم.»

«تمام، في مناجم الذَّهَب، هناك حيث جنَى السيد تيرنر ثروتَه حسبما أفهَم.»

«نعم، بالتَّأكيد.»

«شكرًا يا آنسة تيرنر، لقد ساعدْتِني كثيرًا.»

«أرجو أن تبلِّغني بأيِّ مستجداتٍ غدًا. لا بدَّ أنك ستذهَبُ لمقابلة جيمس في السِّجن؛ فلو فعلْت، يا سيد هولمز، فأخبِرْه أني أثِقُ ببَراءَته.»

«سأخبره، يا آنسة تيرنر.»

«عليَّ أن أنصرفَ الآن؛ فأبي مريضٌ بشِدَّة، وهو يفتقدني إذا غِبتُ عنه. وداعًا، وكان الله في عَونك فيما كُلِّفتَ به!» واندفعت الفتاة خارجةً من الغرفة مثلما دخلَتها، ثم سمِعنا صوتَ عجلاتِ عرَبتها، وهي تبتَعد عبرَ الشَّارع.

قال ليستراد بإباء، بعد عدَّة دقائق من الصَّمت: «أشعُر بالخِزي مما فعلتَه يا هولمز. لِمَ تغرس في قلب الفتاةِ آمالًا سوف تخيبُ حتمًا؟ لستُ بصاحِب قلبٍ رقيق؛ إلا أنني أعتَبر ذلك من القَسوة.»

قال هولمز: «أظنُّ أني أعرِف كيف سأبرِّئُ جيمس مكارثي، هل لديك إذنٌ بزيارته في السِّجن؟»

«نعم، لكِن لنا نحن الاثنينِ فقَط.»

«إذن، يجب أن أُعيد النظَرَ في قراري بشأنِ الخُروج. ألا يزالُ لدينا متَّسعٌ من الوَقت لاستقلال قِطار إلى هيرفورد وزيارتِه الليلة؟»

«بلى، ما يكفي من الوَقت ويَزيد.»

«لنفعلْ إذن. أخشَى أنك ستَجد الوقت يمرُّ ببطء يا واطسون؛ لكنني لن أغيبَ أكثرَ من بضع ساعاتٍ فقط.»

سرتُ معهما إلى المحطَّة، ثم تجوَّلتُ عبرَ شوارع المدينة الصَّغيرة، وأخيرًا عُدْتُ إلى الفندق، حيث استلقَيتُ على الأريكة، وحاولتُ أن أشغَل نفسي بإحدَى الرِّوايات المُثيرة الرَّخيصة؛ غيرَ أنَّ الحبكة الدِّرامية للقِصة كانَت ضعيفةً للغاية، مقارنةً باللُّغز العميق الذي كُنَّا نَبحَث عن سبيلٍ لحلِّه؛ لذا وجدتُني أشرُد بتفكيري باستمرارٍ من الخيالِ إلى الواقع، حتى رميتُها في آخر المطاف عبرَ الغرفة، واستسْلَمت تمامًا للتَّفكير في أحداثِ اليوم. لنفترضْ أن قصةَ هذا الشابِّ التعِسِ كانت حقيقيةً تمامًا، فما الكارثةُ المفاجِئة والاستثنائيةُ التي يمكن أن تكون قد حدثَت بين الوقت الذي ترَك فيه الشاب والدَه، وبين اللحظَة التي عادَ فيها مسرعًا إلى الممرِّ الخالي من الأشجار بعدما سمِعَ صرخات والدِه؟ لقد كان شيئًا فظيعًا ومُميتًا. فماذا عسَاه أن يكون؟! أليسَ من المُمكن أن يَكشِف حدسي الطبِّيَّ شيئًا من طبيعة الإصاباتِ؟ قرَعْتُ الجرسَ، وطلبتُ صحيفةَ المقاطعة الأسبوعية، التي كانت تحتوي على بيانٍ حرفيٍّ للتَّحقيق. وردَ في شهادةِ الجرَّاح أن الثُّلُث الخَلفيَّ من عظمة الجُمجمة اليسرى والنِّصفَ الأيسر من عظمة مُؤخِّرة الرأس قد تهشَّما، إثرَ ضربةٍ قويةٍ من سلاحٍ غيرِ حادٍّ. حددتُ البقعةَ المذكورة على رأسي. كان من الواضِح أن مثلَ هذه الضربةِ يجبُ أن تكونَ من الخَلف. وكان هذا إلى حدٍّ ما لصالح المتَّهم؛ لأنه عندما شُوهِد يتشاجَر مع والده، كان يقِف أمامه وجهًا لوَجه. ومع ذلك، لن يؤثِّر هذا كثيرًا؛ لأن الرجل العَجوز ربَّما يكونُ قد أدار ظهرَه قبل تسديد الضَّربة؛ ولكنَّه قد يستحقُّ أن نلفِت انتباهَ هولمز إليه. ثم كان هناك تلك الإشارةُ الغَريبة لكلمة «رات» وهو يُحتضَر. ماذا يمكِن أن يعنِي ذلك؟ لا يمكن أن يكون الأمرُ هذيانًا؛ فالشخصُ الذي يموتُ من ضربةٍ مفاجئةٍ لا يُصاب عادةً بالهذيان. لا، بل ربما تكون على الأرجَح محاولة لشرحِ الكيفية التي لقِيَ بها مصيرَه؛ ولكن إلامَ قد تشيرُ تلك الكَلمة؟ لقد اعتصَرْت ذهني؛ لأجد تفسيرًا ممكنًا لهذه الكَلمة. ثم هناك واقعةُ قطعة القماشِ الرمادية التي رآها مكارثي الصَّغير. لو كان هذا الأمرُ حقيقيًّا، فلا بد أنَّ القاتلَ قد أسقط قطعةً من لِباسه، ربَّما معطفه، أثناءَ فراره، ولا بدَّ أنه يَمتلك من الجَرأة ما دَفعه للرُّجوع مُجدَّدًا والتقاطِها في اللحظة التي كان الابن فيها جاثِيًا على رُكبتَيه، مُوَلِّيًا ظهرَه له على بعد اثنتَي عشرة خطوةً فقط. يا لَها من شبكةِ مُعقَّدة من الألغازِ والاحتمالات! لم أتعجَّب من رأي ليستراد، لكنَّني كنتُ أومن كثيرًا برُؤية شيرلوك هولمز، لدرجة منَعتني من فقدان الأمَل؛ ما دامت كلُّ حقيقةٍ جديدةٍ — كما يبدو — تُعزِّز قناعتَه ببراءَةِ مكارثي الصغير.

لم يعُد شيرلوك إلا مُتأخرًا، وقد عادَ بمفرده؛ لأنَّ ليستراد كان يُقيم في مَسكنٍ في المَدينة.

قال وهو يَهُمُّ بالجلوس: «لا يزالُ البارومتر يُشير إلى ارتفاع الضَّغط الجوِّي، المهمُّ ألا تُمطر قبل أن نتمكَّن من فَحص الأرضِ. ومن ناحيةٍ أُخرى، على المَرء أن يكونَ في أفضلِ حالاتِه وأَوجِ حِذَقِه وحَماسته للقيام بمِثل هذه المُهمَّة اللطيفة؛ لذا لم أرغَب في القِيام بها عندما كنتُ مرهقًا؛ جرَّاءَ الرحلة الطَّويلة. لقد قابلتُ مكارثي الصَّغير.»

«وبماذا خرجتَ من هذه المُقابلة؟»

«لا شَيء.»

«ألم يستطِع شرحَ أيِّ شيء؟»

«لا شيءَ على الإِطلاق. لقد كنتُ أميلُ في وقتٍ من الأوقات إلى الاعتِقادِ بأنه يعرِف القاتلَ، وأنه يتستَّر عليه، لكنَّني مقتنعٌ الآن أنه في حَيرة من أمرِه، شأنُه شأنُ الجميع. إنه ليس شابًّا فطِنًا للدرَجة، بالرَّغم من وَسامته التي تسرُّ الأعين، وأظنُّ أنه سليمُ القَلب.»

قلتُ معلِّقًا: «ولكن لا يمكنني أن أوافقه على ذَوقه في النِّساء، لو أنه بالفِعل يرفُض الزواج من شابَّة في مثلِ جمالِ وجاذبيةِ الآنسَة تيرنر.»

«آه، ثمَّة قصةٌ مؤلِمة وراءَ هذا المَوضوع؛ فهذا الفتَى عاشقٌ لها حتى الجُنون، ولكنَّه قبل عامَين — وكان حينَها فتًى صغيرًا، وقبلَ أن يعرِفها حقَّ المعرفة؛ لأنها قضَتْ خمسَ سنوات في مدرسَة داخلية بعيدة — وقَع ذلك الأحمَقُ في حبائل نادلةٍ في حانَةٍ في بريستول، وتزوَّجها في مكتبٍ لتوثيقِ الزواج. لا أحدَ يدري أيَّ شيءٍ عن ذلك؛ ولكن لك أن تتخيَّل كَم هو مثير للغضَب والجنون أن يوبَّخ على عدم فعل ما يتمنَّى أن يفعلَه من صميمِ قلبه؟! لكنه يعلمُ مدَى استحالةِ حُدوثِه. وقد كانت نوبةٌ من نَوبات الجنون هذه هي ما جعلَه يُلوِّح بيدَيه في الهواء عندما كان والدُه — في آخِر مقابَلة له — يحثُّه بشدَّة على التقدُّم للزَّواج من الآنسة تيرنر. من ناحيةٍ أخرى، لم يكُن لديه أيُّ مصدرِ دخلٍ لإعالَة نفسه، ووالِدُه — الذي كان بشَهادة الجميعِ فظًّا غليظًا للغَاية — كان سيتَخلَّى عنه تمامًا لو عرَف الحقيقةَ. لقد قضَى مع زوجتِه النَّادِلة الأيامَ الثلاثةَ الأخيرةَ في بريستول، ولم يكُن والدُه يعرِف مكانَ وجودِه. سجِّل هذه النقطة؛ فهي ذاتُ أهميةٍ. ومع ذلك، رُبَّ خيرٍ يولَد من رَحِم الشَّرِّ؛ لأنَّ النادلةَ علِمت عن طريقِ الصُّحف أنه في مأزِق خطيرٍ ومِن المحتمل أن يُعدَم، فتخلَّت عنه تمامًا وكتَبت تخبِرُه أنها متزوجةٌ — بالفعل — من رجُل يعمَل في حوض برمودا لبناءِ السُّفن؛ ولذا فلا يوجَد ما يَربِطُهما. وأعتقد أنَّ هذا الخبر كان بمثابة عزاءٍ لمكارثي الصغير وسطَ كلِّ ما يُعانيه.»

«ولكن إن كان بَريئًا، فمَن القاتل؟»

«نعم، مَن إذن؟ أودُّ أن ألفِت انتباهك، على نحوٍ خاصٍّ جدًّا، لنُقطتَين؛ أُولاهما: أنَّ القتيلَ كان على موعدٍ مع شخصٍ ما عند البُحيرة، وأن ذلك الشخصَ ليسَ ابنه؛ لأن ابنَه كان مُسافرًا في ذلك الوَقت، ولم يكن يدرِي متى سيعود؟ والنقطةُ الثانية: أن القتيل سُمع يَصيح ﺑ «كوي!» قبل أن يعرف بعودَة ابنِه. تلك هي النِّقاط الحاسِمةُ التي تعتمِد عليها القَضية، والآن، لنَتحدَّث من فضلك عن الكاتب جورج ميريديث، ولنَترك كلَّ الأمور الثانويةِ للغَد.»

في صباح اليوم التالي لم تمطرِ السماء، كما توقَّع هولمز تمامًا، وكان الجو صَحْوًا صافيًا بلا غُيوم. وفي التاسعة جاء ليستراد في العربة واستدعانا، ثم انطلَقنا إلى مزرَعة هاذرلي، وبحيرة بوسكومب.

قال ليستراد: «ثمَّة أخبار خطيرَة هذا الصَّباح. يقالُ: إنَّ السيد تيرنر مالك مزرعة هول مريضٌ جدًّا، ولا يُرجَى شفاؤُه.»

سأل هولمز: «أظنه رجلًا مُسنًّا، أليسَ كذلك؟»

«في نحو الستين من العُمر، ولكن بِنيتُه ضعفت من عمَله خارجَ البلاد، وكانَت حالتُه الصحيَّة في تدهوُر منذ حِين، يبدو أن عملَه هذا كان له تأثير سيئٌ للغَاية على صحَّتِه. لقد كان صديقًا قديمًا لمكارثي، ويمكِنُني أن أضيفَ أنه كان خيرَ معين له أيضًا؛ فكما علِمت، فقد أعطاه مزرعةَ هاذرلي دونَ مطالبتِه بدَفْع إيجار.»

قال هولمز: «حقًّا! هذا مثيرٌ للاهتِمام.»

«أوه، نعَم! وقد ساعدَه بطُرق أخرى عديدَة، كلُّ مَن في هذه الأنحاء يحكِي عن كرَمه معه.»

«حقًّا! ألا تريان بعضَ الغَرابة في أن يتحدَّث هذا المدعُو مكارثي، والذي يبدُو أنه لا يملِك الكثيرَ من المال، وهو المُحاط بكرَم تيرنر وأفضالِه، بتلك الطريقةِ الواثقة عن تزويجِ ابنِه بابنةِ تيرنر، والتي يُفترَض أنها وريثةٌ لأملاكِه، كما لو أنَّ الأمرَ متوقِّفٌ فقط على عَرض الزواج، وبعده ستَسير الأمور بسلاسةٍ بلا أيِّ عائقٍ؟ ويشتد الأمر غرابةً في ظِل علمِنا بأن تيرنر نفسَه، كان معارِضًا للفِكرة. لقد أخبرتْنا الابنةُ بالكثير. ألا تَستَنتجانِ شيئًا من ذلك؟»

قال ليستراد، وهو يَغمِز لي بعينِه: «ها قد جِئنا للاستنتاجات والاستِنباطات، يا هولمز. إنني أجِد صعوبةً في فَهم الحقائق، ما بالُك بالتَّحليق خلفَ النظَريات والتَّخيُّلات؟!»

قال هولمز بوقار وتحفُّظ: «معَك حقٌّ، أنتَ تجد صعوبةً في فهم الحقائِق.»

قال ليستراد ببعض الانفعال: «على كلِّ حالٍ، لقد تمكَّنتُ من إدراك حقيقةٍ، يبدو أنَّك تجد صعوبةً في إدراكِها، وهي أن مكارثي الكبير قد لقِي حتفه على يد مكارثي الصَّغير، وأن كل النَّظَريات التي تُشير إلى غير ذلك هي محضُ هراء.»

فقال هولمز ضاحكًا: «حسنًا، قد تكونُ هُراء، ولكنِّي على يقين تام أن مزرعة هاذرلي، هي تلك التي على يَسارِنا.»

«أجل، إنها هِي.» كان مَبنى المزرعة متراميَ الأطراف، مكوَّنًا من طابقَين، يسُرُّ الناظرين، مسقوفًا بألواح الإردواز، وتُلطِّخ جدرانَه الرماديةَ بقعٌ صفراءُ كَبيرة من الطَّحالب والفِطريات، وإن كانت السَّتائر المُسدَلة والمداخنُ التي لا يتصاعَد منها الدُّخان قد أعطَت المكان مظهرًا يوحي بالنَّكبَة التي حلَّت عليه، وكأنَّه لا يزالُ يرزَح تحتَ وطأة تلك الكارِثة المُرعبة. وقَفنا بالباب، بَينما عرَضت علينا الخادِمة — بناءً على طلَب هولمز — الحذاءَ الذي كان يَرتديه سيِّدُها عند وفاتِه، وكذلك حذاءً يخصُّ الابن؛ ولكنَّه لم يكن الحذاءَ الذي كان يرتدِيه في ذلك الوَقت. وبعد أن أخَذ قياساتِ الحِذاءَين بعنايةٍ فائقة من سبع نقاط مختلفة، أو ثمانٍ، رغِب هولمز في الذَّهَاب إلى فِناء المنزل، ومن هناك اتَّبَعنا جميعًا المسارَ المتعرِّج الذي أدَّى بنا إلى بحيرة بوسكومب.

كان شيرلوك هولمز يتحوَّل عند تعقُّبِ مثل هذه الآثار بتركيزٍ حادٍّ، حتى لَيعجز مَن يعرِف المفكِّرَ الهادئ، والرجل المنطقيَّ المُقيم في شارع بيكر أن يتعرَّف عليه وهو في مِثل هذه الحَالة؛ فقد احتقَن وَجهُه حمرةً وامتَلأ غموضًا، وتحوَّل حاجباه إلى خطَّينِ أسودَينِ مشدُودَين، بينما التَمعت من تحتهما عيناه بلَمعة قوية كَلمَعان الفولاذ. كان وجهُه منكفِئًا للأسفل وقد احدَوْدَب ظهره، وزمَّ شفتَيه ونفرَت عروقُ رقبتِه الطَّويلة القوية؛ لتُصبح كحَبْل مُبرَم، وبدتْ فتحتا أنفِه متَّسعتَين كَحيوان برِّيٍّ يتُوق لمُطاردة فريستِه، وقد ركَّز جُلَّ تفكيرِه في الأمر الذي كان بصدَده؛ حتى إنَّه لم يكُن يَلتفِت إلى أيَّةِ ملاحظةٍ أو سؤال، أو في أفضل الحالات يردُّ سريعًا بزَمجرةٍ ونفادِ صبر. شقَّ هولمز طريقَه بين المُروج برشاقة وهُدوء، عبرَ طريق الغابة المؤدِّي إلى بحيرة بوسكومب. كانت الأرضُ رَطبة ومُوحِلة، كسَائر أراضي المَنطقة، وبها العَديد من آثار الأقدَام، سواءٌ على الطريق أو وسط العُشب القَصير الذي يحدُّه من كِلا الجَانبَين. كان هولمز يُسرع أحيانًا ويتوقَّف تمامًا في أحيانٍ أخرى، كما انعطَف قليلًا مرَّةً نحو طريقٍ جانبيٍّ وسط المروج. كنتُ أنا وليستراد نمشي خلفه، وكان المحقِّق يَسير هازِئًا بما يَفعله وغيرَ مبالٍ به، بينما رُحْتُ أنا أراقب صديقي باهتمام انطلاقًا من قناعَتي الشخصية بأن كلَّ حركة يقومُ بها موجَّهةٌ لغرَض معين.

تقَع بحيرة بوسكومب — وهي عِبارة عن صَفحة مياهٍ صَغيرةٍ مُطوَّقةٍ بحِزام من القصَب عرضُه حوالي خمسين ياردة — على الحُدود بين مزرَعة هاذرلي والمنتزه الخاصِّ المملوك للسيد تيرنر الثري. كان يُمكِن رؤيةُ الأبراج الحَمراء البارِزة التي تميِّز موقعَ منزلِ مالِك الأرض الثريِّ من فوقِ الغابات المُصطَفَّة عبر البحيرة من الجِهة الأَبعد. كانَت الغاباتُ ناميةً على نحو كثيفٍ للغاية على الجانب المُطِلِّ على مزرعة هاذرلي للبحيرة. وكان يوجَد حزامٌ ضيِّق من الحشائش المبلَّلة يمتدُّ على مسافة عشرين قدَمًا بين حافَّة الأشجار والقصَب المتراصِّ عبرَ البحيرة. وقد دلَّنا ليستراد على الموقع الذي عُثِر فيه على الجُثَّة بالضبط، وكانَت الأرض رطبة، لدَرجة أنني استطعت أن أرَى بوضوحٍ الآثار التي تخلَّفت جرَّاءَ سُقوط الرجل بعد ضربِه. أما هولمز فقد رأيتُ في عينَيه المُحَملقتَين ووجهِه الناضح بالشغَف واللَّهفَة أنَّ ثمَّة العديد من الأشياء يمكن قراءَتُها بين الحشائش المتكسِّرة. ظلَّ هولمز يدورُ في المكَان كالكَلب الذي يقتفي أثرًا، ثم استدَار صوبَ مرافقي.

سأله: «عمَّ كنتَ تبحثُ في البُحيرة؟»

«لقد مشَّطتُها بواسطة جرَّافة؛ ظنًّا مني أنه قد يكون هناك أيُّ سلاحٍ، أو أيُّ أثَر آخر، لكن كيفَ بحق السماء …»

«لا لا، لا وقتَ لديَّ للشَّرح. إن آثارَ قدمِك اليُسرى التي بها اعوجاجٌ للداخل منتشرَةٌ في المكان برُمَّته، حتى خلد المَاء يُمكنه تتبعُها، وها هو الأثَر يتوارَى بين القصَب. آه، كما كان الأمرُ سيصبح أسهَل لو كنتُ قد جئتُ قبل أن يأتي الجميع ويجتاحوا المكان كقَطيع من الجامُوس. ها هو المكان الذي جاء منه الجَمع الذي جاء برفقة حارس المُنتجع، وقد غطَّت آثارُهم كلَّ الآثارِ الموجودة لمسافةٍ تتراوح بين ستٍّ إلى ثماني أقدامٍ حَول الجثة، لكن ثمَّة ثلاثة مسارات منفَصِلة للقدَم نفسِها.» ثم أخرج عدستَه، وانبطح على الأرضِ فوق مِعطَفه المُقاوِم للماء؛ ليحظى برؤية أفضل، وهو يتحدَّثُ معظمَ الوقت إلى نفسِه؛ وليسَ إلينا. «هذه آثارُ أقدام مكارثي الصَّغير، مشَى مرَّتَين، ثم جرَى مهروِلًا فجأةً؛ ولذلك ترَك نعلُ الحذاء آثارًا عميقةً، بينما الكَعب يكَاد لا يُرى، وهذا يدعَم روايتَه. لقد ركَض عندما رأى أباه مُلقًى على الأرض، وها هي آثار قدمَيْ والدِه عندما خطَا ذهابًا وإيابًا. ما هذا إذَن؟ هذا أثَرُ عَقِبِ البندقية عندما وضعها الابنُ ووقفَ يستمِعُ لوالده، وهذا؟ ها ها! ماذا لدينا هنا؟ إنها آثارُ أقدامٍ لشخصٍ يمشِي على أطرافِ أصابعه، ومُقدِّمةُ حذائِه مُربَّعةُ الشَّكل، يا له من حذاءٍ غير عاديٍّ! الآثارُ تأتي وتذهب ثم تعود ثانيةً؛ عادَت لأخذ المعطَف بالطَّبع. والآن لِنَرَ من أين جاءتْ؟» ركض هولمز ذهابًا وإِيابًا، يجِد الأثرَ تارةً ويفقِده تارةً، حتى وجدنا أنفسنا عند حافةِ الغابة تظلِّلنا شجرةُ زانٍ ضَخمة، كانت هي الأضخَم وسطَ أشجارِ المنطقة. تتبَّع هولمز الأثرَ، حتى وصَل إلى الناحية الأبعَد من الشجرة، ثم استلقَى مرةً أخرى على وجهِه، وهو يُطلق صيحةَ ارتياحٍ خافتَة. وظلَّ هناك لفترةٍ طويلة، يقلِّب الأوراق والعِصيَّ المُجفَّفة، ويجمَع — ما بدا لي — غبارًا في مَظروف ويفحَصُ بعدَسته الأرض، وما أمكنه الوصولُ إليه من لِحاءِ الشَّجرة. كان ثمَّة حجرٌ مُسنَّن بينَ الطَّحالب، وقد فحصَه أيضًا بعنايةٍ واحتفَظ به، ثم اتَّبع طريقًا عبرَ الغابة؛ حتى وصَل إلى الطَّريق الرئيسيِّ حيث فُقدَت كلُّ الآثار.

قال هولمز، وقد عاد إلى طبيعتِه: «إنها قضيَّةٌ مثيرةٌ للاهتِمام. أعتقدُ أنَّ هذا المنزلَ الرَّماديَّ على اليمين هو منزِل الحارِس. سأدخُل وأتحدَّث مع موران، وربَّما أكتبُ رسالة صغيرة، بعد ذلك يمكننا أن نعودَ لتناوُل الغداء. يمكنُكما التوجُّه نحو عرَبة الأجرة، وسأكون معكما بعدَ قليل.»

مرَّت حوالي عشْرِ دقائق قبل أن نستعيد عربتَنا، ونعود إلى روس. كان هولمز لا يزالُ يحمِل معه الحجَر الذي التقَطه عندما كان في الغابَة.

قال هولمز، وهو يستعرض الحجَر: «قد يعينُك هذا يا ليستراد. إنه السِّلاحُ الذي نُفذَت به الجَريمة.»

«لا أرى عليه أيَّ علاماتٍ تدلُّ على ذلك.»

«كلا، ليس به أيةُ علاماتٍ.»

«كيف عرفتَ إذن؟»

«كانت الحشائشُ ناميةً تحته؛ فهو لم يوضع هناك إلا منذ أيامٍ فقط، كما لا يوجد أثرٌ يدل على المكان الذي أُخذ منه، كما أنه يتَطابق مع الإصابات، ولا يوجد أثرٌ لسلاحٍ آخر.»

«وماذا عن القاتِل؟»

«رجلٌ طويلُ القامة أعسَر اليَد، مصابٌ بعَرَج في قدَمه اليمنى، يرتدي حذاءَ صيد ذا نعل سَميك، ومعطفًا رماديًّا، ويدخِّن سجائرَ هندية باستخدام المبسم، ويحمِل في جَيبه مطواةً غير حادَّةٍ. توجد علاماتٌ كثيرة أخرى؛ إلا أن هذه قد تكونُ كافيةً لمساعدتنا في البحث.»

قال ليستراد ضاحكًا: «أخشى أنَّني ما زلتُ مُتشكِّكًا، فبرغم جودةِ نظريَّاتِك، فإن علينا أن نتعامل مع هيئة محلَّفين من الإنجليز شديدي المِراس.»

أجاب هولمز بهدوء: «فلْيَعمل كلٌ منَّا بطَريقتِه وسنَرى، سأكونُ مشغولًا بعد ظهرِ اليوم، وربَّما أعود إلى لندن في قِطار المَساء.»

«وهل ستَتركُ قضيَّتك دونَ أن تُنهيَها؟»

«لا، بل أنهَيْتُها.»

«وماذا عن اللُّغز؟»

«لقد حلَلتُه.»

«مَن القاتلُ إذَن؟»

«الرجل الذي وصفتُه لك.»

«لكن مَن يكونُ؟»

«بالطَّبع لن يكون العثورُ عليه صَعبًا؛ فهذه المنطقة ليسَت مزدحمةً بالسُّكان.»

هزَّ ليستراد كتفَيه، قائلًا: «أنا رجلٌ عمَلي، ولا أستطيع أن أتعهدَ بتفتيش البلدَة بحثًا عن رجُلٍ أعسرِ اليد ذي ساقٍ عرجاء؛ وإلا فسأصبح أضحوكةَ سكوتلاند يارد.»

قال هولمز بهدوء: «لا بأسَ، لقد منحتُك الفرصة. ها هو مسكنُك، وداعًا! وسأترك لك رسالة قبل مغادَرتي.»

ذهبنا إلى فندقِنا بعد أن تركنا ليستراد في مَسكنه؛ لنجد الغداءَ جاهزًا على الطَّاولة. كان هولمز صامتًا مُستغرقًا في التَّفكير، وترتَسم على وجهِه ملامحُ الانزِعاج والضِّيق، كمَن يجِد نفسَه في موقف مُحيِّر.

وعندما رُفع الطعام عن المائدة، قال هولمز: «انظر يا واطسون، اجلِس على هذا الكُرسي، ودعني أُضجرك قليلًا؛ فأنا لا أدري بالضبط ما عليَّ فعلُه، وسأقدِّرُ لك نصيحتك. فلتُشعل سيجارًا، ولتدعْني أشرَح لك الموضوعَ.»

«كلِّي آذانٌ مُصغية.»

«حسنًا، الآن، عندما بحَثنا هذه القضيةَ، كان هناك نقطَتان في قصَّة الشابِّ مكارثي استوقفَتانا معًا على الفور، على الرغم من أنني اعتبَرتها دليلًا في صالحِه، وأنت اعتبَرتها دليلًا ضدَّه؛ النقطةُ الأولى كانت حقيقةَ أنَّ والده صاحَ — بحسَب روايتِه — «كوي!» قبلَ رؤيتِه. والنُّقطةُ الأخرى أنه ذكَر كلمة «رات» وهو يُحتضَر. لقد غمغَم بعدَّة كلماتٍ، كما تعلَم؛ ولكن كان هذا كلَّ ما استطاع الابنُ أن يسمَعه. الآن يجِب أن ينطلِق بحثُنا من هذه النقطة المُزدَوجة، وسوف نبدؤه بافتراضِ أنَّ ما قاله الفتَى حقيقيُّ تمامًا.»

«إذن، ماذا عن صَيحة «كوي!» هذه؟»

«حسنًا، بالطبع لم تكن موجَّهةً إلى الابن؛ فقد كان يعلم أن ابنَه في بريستول، وكان وجودُ الابنِ في مَجال سَماع الصيحة مجردَ صُدفة بحتة. لقد أطلَق القتيل الصيحةَ؛ لجذب انتباهِ الشخص الذي كان على موعد معه، أيًّا كانت هويتُه. لكن «كوي» صيحةٌ أسترالية مميَّزة، وهي مستعملَةٌ بين الأستراليِّين، ولديَّ افتراضٌ قويٌّ أنَّ الشخصَ الذي كان يتوقَّع مكارثي ملاقاتَه، عند بُحيرة بوسكومب، كان يعيشُ في أستراليا.»

«وماذا عَن كلِمة رات إذن؟»

أخرج شيرلوك هولمز ورقةً مطويَّة من جَيْبه، وبسَطها على الطَّاولة، ثم قال: «هذه خريطةٌ لمُستعمرة فيكتوريا، وقد أرسَلتُ في طلَبها من بريستول عبرَ البرق.» ثم وضع يدَه على جزءٍ في الخَريطة وقال: «ماذا تَقرأ؟»

قرأتُ: «أرات.»

ثم رفَع يدَه وقال: «والآن؟»

«بالارات.»

«بالضَّبط. كانت تلك هي الكلمة التي نطَق بها الرجُل، ولم يسمَع ابنُه سوى المقطعِ الأخير منها. لقد كان يُحاول النُّطق باسمِ قاتلِه. شخص ما من بالارات.»

صحتُ قائلًا: «هذا رائِع!»

«إن الأمر واضِح. والآن، كما ترَى، لقد ضيَّقتُ نطاق البحثِ إلى حدٍّ بعيد؛ أما حيازة معطف رمادي — إذا سلَّمنا بصحة أقوال الشَّاب — فتلكَ نقطةٌ ثالثة مؤكِّدة. ها قد خرَجنا من نِطاق الغُموض التَّام وتوصَّلنا إلى تخيُّلٍ محدَّد لشخصٍ أسترالي من بالارات، يرتدي مِعطفًا رماديًّا.»

«بالتَّأكيد.»

«وهو شخصٌ سكن بالمنطقة؛ إذ لا يمكن الوُصول إلى البحيرة إلا عن طريق المزرعة، ويصعُب على الغُرباء أن يتجوَّلوا فيها.»

«بالضَّبط.»

«نأتي الآن إلى رِحلتنا التي قُمنا بها اليوم. من خِلال فحصِي للأرض، عرَفتُ التَّفاصيل التَّافهة التي زوَّدت بها ليستراد الأبلَه، فيما يتعلَّق بشَخصية المُجرِم.»

«ولكن كيف حصَلت على تلك المعلومات؟»

«أنت تعرفُ أسلوبي، وهو قائمٌ بالأساس على ملاحظة تَوافِه الأمور.»

«أعرف أنَّك قد تكون خمَّنتَ طولَه من اتساع خطوته، وحذاؤه أيضًا يمكِن معرفته عن طريقِ آثاره على الأَرض.»

«أجَل، لقد كان حذاءً مميَّزًا.»

«ولكن كيفَ عرفت أنه أعرَج؟»

«كان أثر القدم اليُمنى دائمًا أقلَّ وضوحًا من القدَم اليسرى. إنه يضَع ثقلًا أقلَّ عليها، لماذا؟ لأنه يعرَج؛ إذن فهو أعرَج.»

«ولكن كيف عَرفت أنه أعسَر؟»

«لقد لفتَ نظرَك طبيعةُ الإصابات التي ألمَّت بالقَتيل كما سجَّلها الجرَّاحُ في التحقيق. فبالرغم من أن الإصابة وُجِّهت من الخَلف، فقد وقعَت على الجانبِ الأيسَر من الرَّأس، فكيف يُمكن أن يحدُث هذا؛ إن لم يكُن القاتل أعسَر؟ لقد كان واقفًا خلفَ الشَّجرة خلال المُقابلة التي جرَت بين الأب وابنِه، بل إنَّه دخَّن، ووجدتُ رمادَ سيجار هناك، وتمكَّنت عن طريق مَعرفتي الخاصَّة برَماد التَّبغ من الحُكم بأنه سيجارٌ هِنديٌّ. فقد كرَّستُ بعضًا من اهتمامي لهذا الأَمر، كما تعلَم، وكتبت دراسةً صغيرة حول رماد ١٤٠ نوعًا مختلفًا من الغليون، والسيجار، وتَبغ السجائر. وبعد أن وجدتُ الرَّماد، نظرتُ حولي فوجَدتُ العقب وسطَ المستنقع حيثُ رماه. لقد كان سيجارًا هنديًّا من النَّوع الذي يُلف في روتردام.»

«وماذا عن المبسم؟»

«لقد استطعتُ أن أخمِّن أن عقب السيجار لم يلمس فمه، إذن فقد كان يَستخدم مبسمًا، كما أن السيجار كان مقطوعًا وليس مقضومًا، ولكنَّ القطع لم يكُن متساويًا، لذا علمتُ أنه قُطع بمطواة غيرِ حادة.»

قلت: «لقد أحكمتَ الحصارَ حول ذلك الشخص، يا هولمز؛ بحيث لا يمكنُه الفرار، وأنقذْتَ روح إنسان بريءٍ من المَوت، كما لو أنك قطَعتَ الحبل الذي كان سيُشنق به. أرى الاتِّجاهَ الذي تسير فيه كل هذه النِّقاط. المُجرم هو …»

صاح نادل الفُندق، وهو يفتح بابَ الصَّالون الذي كُنَّا نجلس فيه، ويدخل زائرًا: «السيد جون تيرنر.»

كانت بنية الرَّجل الذي دخلَ غريبةً ومثيرةً للإعجاب؛ فقد أعطَت خطوتُه البطيئة العَرجاء وانحناءةُ كتفَيه إيحاءً بالهرَم والعجز، بينما دلَّت ملامحُ وجهه القاسية الخَشنة وخطوطُه العميقة على قوةٍ غير عاديةٍ في الجِسم والشَّخصية. وبدت لحيتُه الكثَّة، وشعرُه الرمادي، وحاجباه المتدلِّيان البارِزان، قد اتَّحَدوا معًا لإضفاءِ انطباعٍ بالوَقار والقُوة على مَظهره، وإن بدا وجهُه شاحبًا كالمَوتى، بينما اصطبغَت شَفتاه وزوايا منخارَيه بزُرقة خفيفة. كان واضحًا لي، من نظرةٍ واحدة، أنه فريسةٌ لأحد الأمراض الفتَّاكة والمُزمِنة.

قال هولمز بلطف: «أرجو أن تجلِسَ على الأريكة، هل وصلَتْك رسالتي؟»

«نعم، سلَّمها لي الحارس، قلتَ إنك توَدُّ مقابلتي هنا؛ تجنُّبًا للفضيحة.»

«فكَّرتُ أن الناس سيُثرثرون، إذا ذهبتُ إلى القَصر.»

نظر إلى رَفيقي وفي عينَيه المُرهقتَين نظرةُ يأس، وكأنه قد تلقَّى الإجابةَ على سؤاله قبل أن يسمَعها.

«ولماذا رغبتَ في رُؤيتي؟»

قال هولمز، وكأنه يُجيب عينَي الرجلِ، لا سؤالَه: «حقيقةُ الأمر أنني أعرِف كلَّ ما حدَث لمكارثي.»

أخفَى الرجلُ العجوز وجهَه في كفَّيه، وصاح قائلًا: «فليساعِدني الرَّب! لكنني ما كنت لأدَع أيَّ مكروهٍ يحدُث للشاب، أقسِم لك أنَّي كنت سأعترف، لو حكَموا عليه في المَحكمة.»

قال هولمز بجدِّيَّة: «أنا سعيدٌ لسَماع ذلك منك.»

«كنت سأعترف الآن لولا ابنتي العزيزة، قد يفطُر الأمر قلبَها، وقد يتحطَّمُ فؤادُها عندما تعلَم أنني اعتُقِلت.»

قال هولمز: «قد لا يصِل الأمرُ إلى هذا الحَدِّ.»

«ماذا؟»

«أنا لستُ ضابطًا رسميًّا، وأتفهَّمُ أن ابنتَك هي مَن طلبَت حُضوري هنا، وأنا أعمَل لصالحها، ولكن مكارثي الصَّغير يجِب أن يخرُج.»

قال السيد تيرنر العجوز: «أنا رجلٌ أُحتضَر، فقد أُصبتُ بداء السُّكري منذُ أعوامٍ، ويقول الطبيب إنني قد لا أعيشُ شهرًا آخَر، ولكنِّي أفضِّلُ الموت على فراشِي، على الموت في السِّجن.»

نهَض هولمز، وجلَس على الطاولة مُمسكًا بقلَم في يدِه، وأمامه حزمةٌ من الأوراق، وقال: «أخبِرنا فقط بالحقيقة، وسأدوِّنُ الحقائق، وستُوقِّع عليها، وها هو السيد واطسون، يمكِنه أن يشهَد على ذلك، عندئذٍ يُمكنني تقديمُ اعترافِك للمحكمة ملجأً أخيرًا لإنقاذِ مكارثي الصغير، وأعدُك أنني لن أستخدِمها إلا إذا اضطرَّتني الظروفُ لذلك.»

قال العجوز: «هذا جيِّد، ليسَ مؤكَّدًا إن كنت سأظل حيًّا حتى موعِد المحاكمة؛ لذا فالأمرُ لا يهمُّني كثيرًا، ولكن كل ما أريده أن أجنِّبَ ابنتي أليس ويلاتِ الصدمة، والآن سوف أوضِّح لك كلَّ شيء. لقد وقعَت الأحداثُ على مدار زمنٍ طويل، ولكنني لن أطيلَ في سردها.

أنتما لم تعرفا القتيلَ، السيد مكارثي، لقد كان شيطانًا في صورةِ إنسان. أدعو الله ألا تقعا في براثن شخصٍ مثلِه. لقد أحكم سيطرته عليَّ على مدار العشرين عامًا الماضية، ودمَّر حياتي. سأخبِركما كيف وقعتُ تحت قَبضته.

كانت البداية في أوائل السِّتينيات في المَناجم. كنتُ وقتَها شابًّا يافعًا مُتهوِّرًا، مُستهتِرًا، مُستعِدًّا لفعل أي شيء. صاحبتُ رِفاق السوء، وأدمنتُ الخَمر، وحينما لم نوفَّق في استخراج الذَّهب، توجَّهت نحو الأدغال. باختصارٍ أصبحت قاطعَ طريق، كما تطلقون عليه هنا. كُنَّا ستةَ رجال، وكنا نعيشُ حياة همجية بلا أيِّ ضوابط، نسطُو على محطةٍ من حينٍ لآخر، أو نستوقِف العرَبات المتوجِّهة للمناجم، وكان الاسم الذي اخترتُه لنفسي «بلاك جاك، من بالارات»، ولا يزالون يتذكَّرون اسمَ عصابتنا في المُستعمرة باسم عصابة بارالات.

ذاتَ يومٍ، مرَّت قافلةٌ محمَّلة بالذهب في طريقِها من بالارات إلى ملبورن، فتربَّصنا بها وسطَونا عليها. كان هناك ستة حراسٍ في مواجهة ستةٍ مِنَّا، وكانَت معركة عصيبة وكِدنا نُهزم، ولكننا أسقَطنا أربعة منهم في الجولة الأولى؛ غير أن ثلاثة من فتياننا قُتلِوا قبل أن نحصُل على الغنيمة. صوَّبتُ مسدسي على رأس سائقِ العربة، وكان ذلك المدعو مكارثي. ليتَني قتلتُه في ذلك الوقت، ولكنني تركته، وإن كنتُ قد رأيت عينَيه الضيقتَين الماكِرتَين تحدِّقان في وَجهي كما لو كان يريدُ أن يتذكَّر تفاصيلَه، بعد ذلك هرَبنا بالذَّهب وصِرنا أغنياء، وجِئنا لإنجلترا، دون أن يشكَّ فينا أحدٌ، ثم ترَكتُ أصدقائي القُدامى وقرَّرتُ الاستقرار وبناءَ حياةٍ هادئة محترمة؛ فاشتريتُ هذه المزرعة، التي تَصادف أن كانت معروضةً للبيع، وقرَّرت أن أستخدِم بعض المال في القيام بالقليلِ من الأعمال الخيرية؛ للتَّكفير عن الطريقة التي حصلتُ عليه بها، وتزوَّجتُ أيضًا، وبالرغم من أن زوجتي قد ماتَت في رَيعان شبابها، فقد تركَت لي صغيرتي الحَبيبة أليس، حتى عندما كانَت رضيعة، كانت يدُها الصَّغيرة كأنها تقُودني عبرَ الطريق القويم، كما لم يفعل أي شيء آخَر من قبل، باختصار فتحتُ صفحةً جديدة، وبذلت قُصارى جهدي للتَّعويض عن الماضي، وكان كلُّ شيءٍ يسير على ما يرام، حتى أحكَم مكارثي قبضتَه عليَّ.

كنت ذاهبًا إلى المَدينة؛ لمتابعة أحد الاستثمارات، وقابلته في شارع ريجنت، ولم يكُن يرتدي سوى معطفٍ مهترئٍ، وحذاءٍ بالٍ.

لمَس ذراعي وقال: «ها قد التَقينا يا جاك، وسنكونُ لك بمثابة العائِلة. نحن اثنان أنا وابني، ويمكِنك أن تتكفَّل بنا. إن لم تَفعل، فلا ضَيْرَ؛ فإنجلترا بلدُ القانون، ورجالُ الشرطةِ في كل مكان دائمًا.»

حسنًا، لم أستطع التخلُّصَ منهما؛ فانتَقلا إلى ضَيعتي، وعاشا منذ ذلك الحين في أفضل مَزارعي دون دفعِ أيِّ إيجار، ولم أشعُر من وقتها بالسَّلام أو النسيان، فحيثُما أذهب أجِد وجهَه الماكر المستهزئ. وازداد الأمر سُوءًا عندما كبرَت أليس؛ إذ سرعان ما أدرك أن خَوفي من اكتشاف ماضيَّ كان أكبرَ من خوفي من الشُّرطة. وهكذا صار لزامًا أن يحصل على كلِّ ما يريد من أرض، ومال، ومنازل، دون تردُّد؛ حتى طلب أخيرًا شيئًا، لم يَكن بمقدوري أن أمنحَه إياه؛ لقد طلَب أليس!

كان ابنُه، كما تعلَم، قد كبِر، وكذلك ابنتي؛ ولعلمه بسُوء حالتي الصحية، بدا له أن استيلاءَ ابنه على كل مُمتلكاتي سيكون ضربةً موفَّقةً له، ولكني وقفتُ بصرامةٍ أمام هذا الأمر؛ فلم أكُن لأسمَح لسلالته الملعونة بالاختلاط بسلالتي، ليس لأنني أحمل أي ضغينة للفتى، ولكن لأنه يحمل دمه، وكان هذا كافيًا؛ لذا تصدَّيت لهذا الأمر، وهدَّدني مكارثي، فتحدَّيته أن يُخرِج أسوأَ ما في جَعبَته، وكان مُقرَّرًا أن نتقابل عند البحيرة، في مكان محايِد بين منزلي ومنزله؛ كي نناقشَ الأمر.

عندما ذهبتُ إلى هناك، وجدته يتحدَّث إلى ابنه، فأشعلتُ سيجارًا، وانتظرتُ خلفَ إحدى الأشجار؛ حتى يصبح بمفرده. ولكن عندما استمعتُ لكلامه، بدا كلُّ ما بداخلي من شرٍّ وعُنف ومرارةٍ، وقد طفَا على السَّطح؛ فقد كان يحثُّ ابنَه على الزواج من ابنتي، دونَ اعتدادٍ برأيِها، وكأنها بائعةُ هوًى من الشارع. وحينما فكَّرت بأنني أنا وأعزَّ ما لديَّ في الوُجود، سنكون تحتَ رحمة هذا الرجل، دفَعني هذا إلى الجنون ولم أتمالَكْ نفسي، ألا يُمكنني كسرُ هذا القَيْد؟! أنا رجل يائسٌ على شَفا الموتِ على أيَّةِ حالٍ. وبرغم أنني كنتُ حاضرَ الذِّهن قويَّ الأوصال، فقد عرَفت أنَّ مَصيري مَحتوم، لكن ألا يُمكنني أن أُنقذ ابنتي وذكرايَ؟ نعم، يمكنني إنقاذُهما فقط لو أخرَستُ فمَ هذا القذِر. لقد فعلتُها يا سيد هولمز، وسأفعلها مجدَّدًا لو عاد بي الزمن، لقد أذنبت كثيرًا، إلا أنَّني عشتُ حياةً مليئة بالعذاب تكفيرًا عن ذنوبي، لكن أن تقعَ ابنتي في الشَّرَك الذي وقعتُ فيه، فهذا يفوق قدرتي على التحمُّل. لقد ضربته دون أيِّ ندمٍ، كما لو كان وَحْشًا سامًّا قذرًا. دفعَتْ صرخته ابنَه للعودة فاختبأتُ بين الأشجار، ولكنني اضطررتُ للعَودة؛ لاستعادَة معطفي الذي سَقط أثناء فراري. هذه حقيقةُ ما حدَث أيها السادة.»

قال هولمز، بينما كان العجوزُ يوقِّع على الشَّهادة التي كتَبها: «حسنًا، ليس لي أن أحكُم عليكَ، وأرجو ألا أخضَع لمثل هذا الإغرَاء.»

«أرجو ذلك يا سيدي. وماذا تَنوي أن تفعَل؟»

«بالنظر إلى حالتِك الصحية، لا شَيء. لا بدَّ أنك نفسك تدرِك أنك سوف تقف قريبًا أمام محكمة أعلى؛ لتُحاسَب على أفعالك. سأحتفظ باعترَافك، وإذا ما أُدِين مكارثي، فسوف أكون مُجبَرًا على استخدامِه؛ أما إذا برَّأت المحكمةُ ساحتَه، فلن تقع عليه عينا مخلُوق، وسيكون سِرُّك في أمانٍ معنا؛ سواء كنتَ حيًّا أم ميتًا.»

قال العجوز في وقار: «الوداع إذن. حينَ يأتي الأجل، ستشعران بالرَّاحة، وأنتما على فراش الموت، عند تفكيرِكما بالأمان الذي مَنحتماه لي.» وخرَج من الغرفة، وهو يمشِي ببُطء وصعوبة، وجسدُه العِملاق يرجُف ويرتعد.

قال هولمز بعد صمت طويل: «فليُعِنَّا الله! لماذا تحدثُ مثل تلك الأمور للمساكِين والبؤساء؟ إنني لا تمرُّ بي قطُّ قضية مثل هذه، إلا وقلتُ، كما قال باكستر من قبل: «الحمد لله الذي عافَى شيرلوك هولمز».»

بُرِّئ جيمس مكارثي من تهمةِ القتل؛ بناءً على عدد من الاعتراضات التي قدَّمها شيرلوك هولمز إلى محامِي الدفاع، وعاش تيرنر العَجوز سبعة أشهر بعد مقابلتِنا، ولكنَّه ميت الآن، ومن المُحتمل أن يكون الابن والابنة قد تزوَّجا، وعاشا في سعادة دونَ أن يعرفا بالسحابة السوداء التي ألقت بظِلَالِها على ماضِيهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤