المحراب

بعد المحاضرة الأولى تسللت.

بعد المحاضرة الأولى تسللت خارجة من المدرج، مررت أولًا بمكتبة الجامعة.

اشتريت محبرتين، ثم خرجتُ من الباب الخلفي؛ حيثُ الطريق السريعة، تفحصتها للحظات، كأنني أبحث عن شيء ما، ثم مشيتُ نحو موقف الباص، لكنني تذكرت فجأة أنه ليس بالمحراب إلا قليل من العسل، ولا شيء من الخبز، فعدت أدراجي إلى حرم الجامعة مرة أخرى، إلى سوق التعاون، اشتريت صفيحة صغيرة من العسل وأخرى من الجبن، كيلو أرز، خبز طازج، ثم قفلت راجعة لألحق بباص العاشرة.

بالباص قليل من الطلاب كالمعتاد، هم طلاب كلية الفنون الجميلة، رسامون ومجانين، نحاتون يذهبون في هذه الساعة إلى المرسم المفتوح بالجبل، الذي ابتكره وشيده بأفكاره وماله الفنان الروسي مايازوكوف فلادمير، أو مايا العزيز كما يُسَمِّيه طلابه، لكثرة ما استقللت هذا الباص عرفت جميع طلاب كلية الفنون وأساتذته، بل أصبحت صديقة قريبة أشاركهم أحزانهم، حيثُ ليس لديهم ما أشاركهم فيه غير الحزن، هذا الحزن قد يكون مهرجانًا صاخبًا بالغناء، الأناشيد، الرقص والموسيقى، قد يكون مجرد: لا شيء إطلاقًا.

يُسمونني القديسة، فما إن توقف الباص في المحطة حتى أطلت وجوه من النافذة هاتفة في وقع واحد مجنون: القديسة … القديسة.

في الباص حافظ آدم، أيضًا سارة حسن، وأستاذ الفنون مايازوكوف فلادمير وكانت امرأة، بل وجه جديد لفتاة، لم أرها من قبل، كانت فيما فوق الأربعين من العمر، أو فيما فوق الثلاثين، لها عينان ضيقتان، لهما رمش أعترف أنه أجمل من رمشي (وأجمل من رمش أية امرأة خلقها الله في الآونة الأخيرة، إن رمشها أحلى من أذني فان جوخ.)

كما قال ذات يوم أمين محمد أحمد.

اتسعت عيناها الضيقتان قليلًا لاستقبالي أو … لدهشتها من هتاف الطلاب أو …

ثم ضاقتا مرة أخرى في سحر أسطوري شحن المرأة فيَّ بالغيرة.

كانت نحيفة تجلس على أوَّل مقعد يسار الباب، تمد ساقين طويلتين رشيقتين في غاية الرِّقة والنظافة، تمدهما أمامها بزهو وثقة، شعرها منظوم في ضفيرة واحدة مُسدلة على كتفها، وبشفتيها أحمر شفاه مرسوم بدقة وأناة، بوجهها غموض وسحر، فتحت فمها الصغير لتقول بصوت ناعم: أهلًا تفضلي، وأفسحت لي مكانًا قربها، تعانقت والآخرون، أما مايازوكوف العزيز فمد يدًا مشيعة بابتسامة: أهلًا بك القديسة الحلوة.

ابتسم مرة أخرى ثم أضاف: هل لا تزالين تحتفظين بلوحتي أسفل السُّرة؟

كان دائمًا ما يسألني هذا السؤال كلما التقينا، وكنتُ كثيرًا ما أرد إليه: لقد التهمتها الأسماك.

كأنه يصر على تذكيري بذلك اليوم المرعب المثير، الخبيث …

الرحلة مرحة وصاخبة، الطلاب المجانين في قمة جنونهم يغنون ويلعبون، يضحكون وينصبون الفخاخ لبعضهم في مكر وخبث وفوضوية جامحة، بعد دقائق من جلوسي قربها فاجأتني قائلة: هل تحبين شخص ما؟

دهشتُ قليلًا في بادئ الأمر وارتبكت، لكنني تماسكت وأنا أتذكر وجودي وسط حقل من فعاليات جن موقوتة، مشاريع لسفادور دالي، هنري ماتيس، فان جوخ، أو أخيلة بابيلو بيكاسو، أو كما يحلو لمايزوكوف القول: الفنانون — وأنا واحد منهم — خراء الشيطان مثلهم في ذلك إخوتهم الشعراء. أجبتها قائلة: نعم، أحب شخصًا، ولكنه ليس ما، بل يمكن تحديده وهو المحراب.

فاتسعت عيناها الضيقتان الصغيرتان قليلًا قبل أن تقول: المحراب؟! غريب أيوجد شخص بهذا الاسم؟

هنا تدخل آدم ليقطع حوارنا المجنون طالبًا منا أن ننضم إلى الثلة بالمؤخرة حيث حافظ وسارة ومايا العزيز وبقية الطلاب، ثم عرَّفني بها قائلًا: نوار، نوار سعد، الدكتورة نوار سعد، أستاذة النحت، ومحاضرة في تاريخ الفن المرئي، ثم أشار إليَّ وقال: القديسة.

حاول أن يتذكر اسمي الحقيقي أو اسم أبي ولكنه لم …

ثم حاول ولكنه لم …

لأنه لا يعرف عني شيئًا سوى الاسم الذي أطلقه عليَّ هو وأصحابه، غير مقاسمتهم حزنهم وجنون حزنهم، بدأ قليل من الخجل، خجل المجانين يرتسم على وجهه، فجأة ضحك، وبجرأة المجنون المخبول السكران قال: ما هو اسمك؟ ما هو أبوك؟ من هو؟

يعرف الجميع أنني أستقل باص العاشرة الذاهب إلى المرسم الطبيعي أو المعمل المكشوف، أنزل في خلاء قبل المرسم، بميل أو أكثر أختفي في الغابة، وقد أظهر في الطريق فجأة عند عودتهم، وقد لا يرونني إلا بعد أسبوع أو شهر، وقد يسألون: ماذا تفعلين في الغابة؟

وقد أجيب: أتعبد.

وقد أجيب: لا شيء.

وقد أجيب: أطير.

وقد أجيب: أتعلم أسرار النيرفانا والنقاء الإنساني من المختار.

وقد يمضون في استجوابهم وقد يكتفون، وقد لا يسألون ولكن كنا نستمتع ببعضنا، نغني، نقرأ الشعر، نتحدث عن المهاتما غاندي أو فان جوخ، فاسيلي كاندنسكي والكردي شيركو بيكه س. عن الخطر النووي، نهاية الحرب الباردة وبداية عصر البنقو كما يُسميه حافظ أو عصر اللاتاريخ كما يُسميه فكومايا الياباني المندهش عن مايكوفسكي، عن الديمقراطية أو ناظم الغزالي عن مصطفى المغني، أو صامتين مثل حنظلة ناجي العلي معطين ظهورنا للكارثة ووجوهنا للآتي الذي ربما لن يأتي.

ذات مرة استضفتهم بالغابة ولكن ليس بموقع المحراب، بل قريبًا من المزرعة على ضفاف النَّهر، حدث هذا قبل أعوام؛ أي في بداية علاقتي بهم، كانت هذه الاستضافة هي الفرصة الأولى لي للغوص في متاهات جنونهم وصخبهم، وعرفت فيها مايازوكوف عن قرب.

وقف طلاب الفنون العشرون صفًّا واحدًا على طول الشاطئ الرَّملي، أمامهم صعد مايازوكوف على صخرة ملساء من الجرانيت، أخذ يغني باللغة الروسية التي لا يفهم منها أحد منا شيئًا، ثم بعد ما خلص غناؤه، أو نشيده، أو مدائحه قال بصوت عال: من منكم يستطيع أن يُحَدِّثني عن الله، عندما كان وحيدًا؛ أي قبل أن يخلق هذا العالم، وقبل أن يخلق أمريكا؟

فأجابه أحدهم وقد ادعى النبوة ذات مرة بحديقة مايازوكوف يوم الاحتفال بوفاة مداح المداح.

– ولكنا نبعد عن المدينة كثيرًا وأيضًا عن الكهوف قرابة الميل، ألا تلاحظ ذلك؟ قد لا يأتي الباص العام إلا بعد غروب الشمس.

فانفجر الطلاب بالضحك والتصفيق والصفير، وقد رقص بعضهم، قال آخر: سأحدثك عن ما تشاء وأيضًا عن لحوم البشر المخمرة تحت الشمس في انتظار من يضع منها العرق، على شرط أن ترينا كيف أغوى الشيطان الرَّجيم ذو السبعة رءوس وسبعة أذناب، كيف أغوى نعجة التقوى؟ فضحك قائلًا: إذن طالما أردتم ذلك، وأنتم بكامل إرادتكم وحرياتكم المدنية فلا … لا بأس، هنا على ضفاف نهر القديسة الجميلة ذات الفم المغري بالتقبيل، الفم الصدفة.

ثم وجه إليَّ حديثه قائلًا: أتعرفين أنَّ فمك الحلو الصغير هذا بإمكانه أن يغوي طنًّا من القديسين ورجال الله؟ قال: هنا على ضفاف هذا النهر سترون كيف أغوى الشيطان نعجة التقوى، ثم خاطبني قائلًا: هل تسمحين لي بأن أشغل فضاءك كله؟

في الحق لم أفهم ما قال، أو أنني لم أك مُنتبهة تمامًا لما يقول. كنت أتخيل كيف بإمكان فمي أن يغوي ولو صعلوكًا واحدًا، لم أك أعلم أنَّ لفمي كل هذا السحر، لكن قد أكدت لي نوار سعد فيما بعد قائلة: هل قبلك المختار كثيرًا؟ على قدر علمي بالرجال أعرف أن لفمك إغراء قاتلًا، ليته فمي وليتها شفتاي. قلتُ وأنا شبه منومة لمايازوكوف: لك ذلك.

هنالك انفجر الطلاب بالضحك، الطلاب المجانين وهم يهربون في عمق الغابة أو يتخفون في عشبها وبين شجيراتها.

ولم … أيضًا أفهم شيئًا، وقفت كالمأخوذة أرقب الموقف، كان مايا يجري هنا وهناك مُحاولًا القبض على هذا أو هذه، فتهرب من بين مخالب جنونه، إلى أن انقضَّ عليَّ كما ينقضُّ نسرٌ مُسن على سنجاب صغير، وأخذ يُجردني من ملابسي، قطعة قطعة؛ كان في البدء متوترًا منفعلًا، كنت في البدء أصرخ أقاوم لكني انهرت أخيرًا، استسلمت تمامًا فاقدة المقدرة في الدفاع عن النفس ساقطة على الأرض.

هدأ هو، أصبح مُتماسكًا وهو يخرج من بين ثيابه فرشاة صغيرة وعلبة ألوان، ثم أخذ يرسم عليَّ تحت السرة بقليل، بكل هدوء وبرودة أعصاب، بل كان يترنم بلحن بدوي سوري رشيق، رسم حدأة، حدأة لها جناحا فراشة ومخالبها أظافر سيدة جميلة، في مكان منقارها فمي.

ثم بعد أن فرغ قال بصوت عالٍ جهوري، وكأنه يُخاطب شعبًا بأكمله: إنَّ الذي حطم الاتحاد السوفيتي ليست أمريكا، وحربها الباردة، وليسوا هم الجواسيس، ولكن الجينز، ولكن الحشيش، ولكن اللواط. والبعض يتهم الفنانين سرًّا وهو دافنًا رأسه في الرمال، فالفنَّانون أخطر من مليون من الرءوس النووية، ثم خاطبني قائلًا — وكنت أرتدي ملابسي على عجل وخوف: أليس كذلك؟

قلت غضبانة: أنت شرير ولئيم.

فرد مبتسمًا ابتسامة خبيثة: أنت جميلة ومغرية، أنت موحية بأخبث الشعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤