حرف الميم

  • مَابه المُوتْ وَمابه زانقة القبر: هو تعبير غريب، يقولونه للدلالة على الرجل وقع في مصيبة فما لَبِثَ أن وقع في مصيبة أخرى، كقولهم: «تَكَسَّرَتِ النِّصَالُ عَلَى النِّصَالِ»، واللفظ نفسه لا يدل على هذا المعنى، ولكن يدل عليه الاستعمال. وهو استعمال شائع في لسانهم، فيقولون: ما به كذا وما به كذا؛ للدلالة على أنه كانت تكفيه المصيبة الأولى، فجاءته المصيبة الثانية زيادة عليه.
  • مات فطيس: تعبير يعني مات بسبب لا يدعو إلى الموت.
  • مات في جلده: تعبير يعني خاف.
  • المارد: هو شر أنواع العفاريت، ويعتقدون أنه يستطيع أن يطول إلى ما لا نهاية، ويقصر إلى ما لا نهاية، وأحيانًا يتمدد في الطريق بالليل، فإذا قرأ أحدٌ عليه شيئًا من القرآن الكريم قتله. وعند مجيء الأرناءوط في مصر في عهد محمد علي باشا عرفوا خوف المصريين، فكانوا يلبسون الثياب البيض، ويلفون عصيهم بشاش أبيض، ويظهرون بالليل، ويدخلون الحواري بحجة أنهم مَرَدة، وقد يرفعون عصيهم فيظن أنهم طوال، وهم بذلك يخيفون أهل الحارة ويقضون منهم أوطارهم. وما أكثر ما يخيف المصريين، من المارد هذا، والمزيرة، وهي عفريتة تظهر على شكل امرأة تلبس لباسًا أبيض، وأبو رجل مسلخوة، وأم الشعور، والأسياد، والقرينة … إلخ، ومن شدة خوفهم تعلقوا بالجن وطلبوا منهم المعونة.
  • ماشي بالدراع: تعبير يعني يُسَيِّرُ أمره بالقوة.
  • ما شاء الله: كلمة يستعملها المصريون ثلاثة استعمالات: يستعملونها مرة للاستعظام، فإذا رأوا شيئًا حسنًا، قالوا: ما شاء الله. ومرة للاستهجان، فإذا رأوا أمرًا قبيحًا لم يكن يُنتظر قالوا: ما شاء الله. ويقولونها أيضًا للمدح والتشجيع، فإذا رُوي لهم مثلًا عن رجل يحفظ آلافًا من الشعر، قالوا: ما شاء الله. ومثلها في ذلك: يا سلام. والفارق بين الاستعمالات النغم موضع القول.
  • مافيش بيني وبينه عمار: تعبير يعني ليس بينهما ألفة.
  • مافيش في وشه دم: تعبير يعني لا حياء عنده.
  • مافيش لزوم: تعبير يعني لا داعي لهذا.
  • ما كنش عشمي: تعبير يعني خاب أملي.
  • المأكولات الخاصة: اعتاد المصريون أن يأكلوا في العيد الصغير السمك المجفف، ويسمى بالبَكَلاه، بتفخيم اللام، والكعك المنثور عليه السكر، والغُرَيِّبَة. وفي العيد الكبير ذبح الضحية والأكل من بعضها، والتصدق ببعضها. وفي شم النسيم الفسيخ والبصل الأخضر. وفي رمضان يروج الإفطار على الفول المدمس، وتكون الحلوى كنافة وقطايف وقمر الدين مطبوخًا أو منقوعًا، واعتادوا في العيد الصغير والكبير تقديم الشيكولاتة والملبس للضيوف، وأكل الرقاق في الصينية باللحم المفروم ومرق الضحية. وعند دعوة الفقهاء لقراءة ختمة أو عدِّيَّة يس أو نحو ذلك تؤكل الفتة من خبز عليه المرقة، ثم طبق من أرز، ثم اللحم المسلوق.

    ثم اعتادوا أخيرًا لغلبة المدنية الحديثة أنَّ المار إذا احتاج إلى أكل يمر على دكان أُعِدَّ لذلك يأكل منه السندويتشات بالجبن والزبد تارة، وأخرى بالكبد، وثالثة باللحم… إلخ، وقد يمرون على دكاكين خاصة بالحلوى والفطائر، وما يسمى بالبسطة. وفي الصيف يكثرون من أكل المثلجات كالدندرمة والجرانيتا.

    وفي الشتاء يشربون القرفة أو الكاكاو أو السحلب، وغير ذلك من الأشياء المدفئة. وفي الطريق ترى كثيرًا من المأكولات الخفيفة، كالبليلة في الصباح، والترمس واللب في المساء. وقد ترى الطبقة الفقيرة تمص قصب السكر، وترمي القشر في الشوارع، أو البرتقال كذلك، وتجدهم على القهاوي يأكلون السميط والبيض، أو السميط بالملح، أو الطعمية تستحضر من دكاكين جانبية. والفلاحون يعتنون بكيزان الذرة وأكلها مشوية، ومن حين لآخر يذهب بعض المصريين إلى محلات خاصة لأكل النيفة أو الكباب.

  • المال الحرام: يعتقدون أن المال الحرام — وهو ما اكتُسب من باب حرام، كالسرقة والارتشاء والقيادة ونحو ذلك — ليس فيه بركة، وأنه عرضة للزوال السريع. وأن المال الحلال وهو ما اكتسب من باب حلال تحل فيه البركة، فينعم به صاحبه، وخصوصًا ما اكتسبه الرجل من عرق جبينه. وربما كانت العلة العلمية لذلك أن المال إذا كسبه الرجل بجِدِّهِ واجتهاده حرص عليه وذكر ما لقيه من التعب في اكتسابه وصرفه بحساب. وعلى العكس من ذلك المال الحرام؛ إذ يأتي من غير تعب، فيسهل على الرجل أن يصرفه حيثما اتفق؛ ولذلك إذا رأوا مالًا مبددًا قالوا: لا غرابة! فإن أصله حرام.

    ويعتقدون أن المال الحرام قد لا يضر صاحبه في المال فقط، بل قد يضر صاحبه ومن اتصل به في النفس أيضًا فقد يموت في حادثة شنيعة، أو يمرض مرضًا كبيرًا، أو يصاب بعاهة أو نحو ذلك، وأعرف رجلًا كان موظفًا كبيرًا في الحكومة، وكان مرتشيًا، وحصل له من ذلك مال كثير، فمات هو بالحمى، وداست أحد أبنائه سيارة، ومات آخر بمرض، وخرب البيت من أجل ذلك؛ فقال الناس: إن سبب ذلك كله المال الحرام.

    وإذا فُقِدَ مال رجل ثم وجده، قالوا: مال حلال؛ لأنهم يعتقدون أن المال الحرام لا يوجد ثانيًا. والمتشددون في السلوك يحرصون أشد الحرص على أن لا يكسبوا قرشًا حرامًا، ولا يدخل في جيبهم قرش حرام؛ لأنهم يعتقدون أنهم إذا كسبوا قرشًا حرامًا وقرشًا حلالًا ذهب الحرام بالحلال.

  • ما هي دي عوايدك: تعبير يعني من معتاداتك، وليس غريبًا. وقريب منها قولهم من وحايدك؛ أي إحدى العجائب التي تأتي بها.
  • ما يردح لسالم إلا مطاوع: يظهر أنهما كانا لَسِنَيْنِ تَهَاجَيَا، وأنهما كانا نِدَّيْنِ في التهاجي، تعبير يقال لاثنين لا يقدر على أحدهما في الشر إلا الآخر.
  • ما يستاهلش ملء ودنه نخالة: تعبير يعني أنه رجل تافه لا يساوي شيئًا.
  • ما يقع إلا الشاطر: تعبير يقال عندما يزل الماهر.
  • المبخراتي: كثيرًا ما ترى في شوارع القاهرة رجلًا يحمل مبخرة فيها نار مُتَّقِدَة، وبجانبه كيس معلَّق في كتفه، فيه بخور ذو رائحة عطرية، فيأخذ منه ويضع في المبخرة، ويمر على الدكاكين يبخرها، فيمنحونه بعض المال، أو بعبارة أخرى: ما فيه القسمة.

    ومنهم من يجعل لهم راتبًا شهريًّا صغيرًا، وعند التبخير يكثر من الدعوات والصلاة على النبي. وكثيرًا ما يلبس المبخراتية عمامة حمراء. (انظر بخور).

  • المترد: هو إناء من فخار أحمر وأصفر، وهو أشهر أواني الفلاحين، يحملون فيه اللبن ويضعون فيه الطبيخ ويساويه في الشهرة (الطاجن)، فهم يضعونه في الفرن ينضجون فيه اللحم أو السمك أو الطير أو الأرز أو نحو ذلك بوضعه في الفرن. وإذا امتلأ المترد قالوا: إنه (مترد مطنبر)، خصوصًا بعد أن ينضج ما فيه وينتفخ، وهو يختلف عن الطاجن بضيق رقبته.
  • المتعوقة: هي المرأة التي تلد ويموت أطفالها، ويعالجونها بأن تحضر العجوز الزوج وزوجته وتوقف أحدهما أمام الآخر، ثم تحضر دجاجة سوداء ليس بها أي إشارة، وتذبحها وتخرج أحشاءها وتنتف ريشها، وتوصل خيطًا بين إبهامي الزوج والزوجة، وتضم كل هذه الأشياء على خلاص المرأة، وتدفن الجميع في عتبة القاعة. وقد شاهدت وأنا صغير امرأة تزعم أنها تجعل المتعوقة تلد. فطلبت طشتًا كبيرًا نظيفًا ووضعت فيه ماء، ثم وضعت فيه بعض الحلي، ثم قرأت تعزيمات مختلفة، وأخيرًا أخرجت من جيبها أداة في حجم الجرس الصغير ووضعتها وطلبت من المتعوقة ريالًا ووضعته على هذه الأداة، وبعد قليل طار الريال إلى السقف، وتضاحك الحاضرون والحاضرات واختفى الريال. وقد فهمت الآن أن هذه الأداة كان مركَّبًا فيها زمبلك مضغوط لُحِمَ بشيء يذوب في الماء بعد مدة، فلما ذاب انفك الزمبلك فطار الريال، والمهم في المسألة أن المتعوقة لم تحمل، والريال قد ضاع.
  • المجاملة: هم يجاملون كثيرًا فيظهرون من الصداقة والإجلال ما قد يضمرون مع الكُره والاحتقار، وقد يقابلون أعداءهم بالحضن والتقبيل مما لا يكون إلا بين الأصدقاء، بينما هم يضمرون البغض والازدراء، وحدثني أحدهم قال: حضر رجل ديني معمَّم كان مكروهًا لموقف معين له في السياسة المصرية ومجاهرته بذلك، قال وكنت في مأتم مزدَحِم بالناس، فما أهل هذا الرجل الكبير حتى وقف الناس كلهم على الجانبين إجلالًا له، ومنهم من انحنى على يده فقبلها، وقد كانوا يلعنونه منذ عهد قريب.

    وعلى العموم فهم تنقصهم الصراحة، وأشعارهم في المجاملة والمداراة كثيرة. ومن مجاملاتهم الكثيرة الإلحاح على الضيف والإكثار من الأصناف، وكثرة ألفاظ الترحيب، وكثرة الألقاب في الخطابات، والمقابلة بالحضن والقُبَل، وكثرة الهدايا في الأفراح … إلخ.

  • المجنون ما يعجبوش إلا عقله، ولو جبت له ألف عقل على عقله: تعبير يعني أن المجنون متمسك برأيه، وهم يعتقدون أن المجنون إنما يعرف كيفية معاملته مجنونٌ مثله. ويحكون في ذلك أن مجنونًا أخذ طفلًا وطلع به مئذنة، وأراد أن يحدف الطفل من المئذنة، فخاف أهله، فنادوا بمجنون مثله، فقال له: إن لم تنزل نشرت المئذنة، فوقعت بالطفل، فخاف ونزل، ونجا الطفل.
  • المحتسب: وظيفة المحتسب كانت وظيفةً كبرى في الدولة إلى عهد قريب، كان يُختار صاحبها ممن جمع بين العلم والوجاهة. ووظيفته مراقبة الأسواق، ومراعاة الأسعار والمصالح العامة. فمن طفَّف في الكيل والميزان عاقبه، ومن رفع السعر عاقبه، وربما كان هذا المحتسب شديدًا فيعاقَب أشد عقوبة، فمثلًا كان بعضهم إذا ضبط بائع كنافة يبيع بثمن أغلى ممَّا حدد له، وضعه على الصينية حتى يحترق، ومن باع قمحًا أو ذرة بأكثر من ثمنها عوقب عقوبة شديدة. وله الحق في أن يمنع طبيبًا لا يحسن العلاج، أو محترفًا لا يتقن حرفته، أو قاضيًا ليس أهلًا. وهو يجوس خلال الأسواق يتقدمه عامل يحمل ميزانًا ويتبعه الجلادون والخدم، وكثيرًا ما يستوقف خادمًا ما حاملًا مأكولات فيسأله عن ثمنها ووزنها، فإذا تبين له أن البائع استعمل موازين أو مكاييل مغشوشة، أو طفف الكيل والميزان، أو زاد على سعر السوق، أنزل بالبائع العقوبة في الحال، وهي الضرب أو الجلد، أو بما شاء المحتسب من العقوبات، كخرمه أنف الغشاش، وتعليقه في أنفه كعكة بطول الشبر وعرض الإصبع، وأحيانًا يجرس في الأسواق مع العقوبة، وقد قابل محتسب مرة بائع بطيخ على جمل فسأله: بكم البطيخة؟ وكان معروفًا عنه أنه يكثر قطع الآذان، فقال له المسئول: هذه أذني فاقطعها. قال له: أأنت مجنون أو لم تسمع؟ قال: بل سمعت، ولكن إذا قلت بعشرة قطعت أذني، وإذا قلت بخمسة قطعت أذني، فاقطعها بالاختصار. ومرة قابل المحتسب رجلًا يبيع قللًا من سمنود مدعيًا أنها من قنا، فأمر بكسرها، وكان الذي جربت منه هذه الأحداث في عهد محمد علي كرديًّا يسمى مصطفى كاشف، وقد أمر مرة أن يُحَمَّى حصانه في الحمام، فاستغرب صاحبه من هذا الأمر، واعتذر بأن أرض الحمام ناعمة فربما زلقت رجل الحصان، فأمر أن يطرحوه على الأرض ويضربوه حتى يأمرهم بالكف عنه، فلم يأمرهم حتى مات. وقد ألغيت هذه الوظيفة من قريب، ولكنها ربت في قلوب المصريين الرعب.
  • المحسنات اللفظية: يعتمد المصريون كثيرًا على المحسنات اللفظية من جناس وسجع وكناية ونحو ذلك؛ حتى ليغيرون الكلمات أحيانًا التماسًا للسجع أو الجناس. فمثلًا يقولون: سيدي بندق ما صدق. وبندق لا معنى لها، إلا أنها فرش للسجع، ومن مثل إمعانهم في الجناس قوله:
    محبكم داب وأنتم لم دريتوبه
    والنار بترعى فؤاده وأنتم لم دريتوبه

    فاللفظتان واحدة، والمعنى في اللفظة الأولى ما دريتم به، وفي الثاني ما درى ثوبه.

  • محسوبية: هي نسبة تركية الى محسوب؛ أخذًا من قوله: «محسوب عليه»، وجعل المصدر للدلالة على إنهاء الشيء من رجل لرجل محسوب عليه. وهذه المحسوبية إما للرشوة، وإما لانتساب الرجل إلى الآخر بسبب ما، كالتذلل له أو قضاء مصلحة له، أو طمع عامل في الخدمة في أن يقضي له خدمة أخرى، أو لقرابة أو نسب وهكذا.

    وكل أمة فيها محسوبية لدرجة ما، ولكن ليست محسوبية سافرة كأن يخطَّى الأول من الامتحان مثلًا لأخذ من ترتيبه الخمسون، أو تفضيل غير الكفء على الكفء. واتصف المصريون بكثرة هذه المحسوبية حتى اعتقد الناس أنه ليس يُعمل عمل إلا بها؛ فالورق يبقى عند الموظف نائمًا تتراكم عليه الأتربة أو منسيًّا في درج الموظف إلى أن تأتي محسوبية فيمر مر «البرق»؛ ولذا شاع بين المصريين: إذ أردت أن تقضي عملك فابحث عن كبير يرجو لك. وسبب ذلك أن الموظف المصري غالبًا كان لا يتحرك لعمل إلا أن يكون له غرض شخصي من ورائه، ومن الرجاء فيه، أو بعبارة أخرى من لا محسوبية له أُهْمِلَ شأنُه سنين.

    ويحتاج الأمر تعويدًا قويًّا على أن المحسوبية لا فائدة منها، وأن العدل يجري مجراه، وسواء كان لصاحبه محسوبية أو ليس له. والاعتياد على هذا المنظر يقطع الرجاء، بدليل أن الناس لما ألفوا أن الامتحان في الابتدائية والبكالوريا لا رجاء فيه، فقد يرسب ابن الوزير عدلًا، وينجح ابن الحاجب عدلًا؛ امتنع رجاؤهم في هذا الباب. فمن لنا في أن تكون كل المصالح شأن الامتحان! ومن الغريب أن عدم المحسوبية بقدر ما يبطئ العمل أشهرًا وسنينَ تعطيه المحسوبية سرعة البرق فيمر في لحظة.

    أعرف مرة أن طلبت لي ترقية إلى الدرجة الثالثة فلم أوصِ أحدًا، ثم مكثت ستة أشهر دون أن أسأل عليها، فلما قلقت وسألت عن الأوراق قيل لي: إن الدوسيه فُقد، فحكيت الحكاية لكبير فأمر بإعداد دوسيه جديد، وفي ربع ساعة كان قد مَرَّ على الموظفين المختصين؛ لأن فلانًا أمر، وفي ربع ساعة أخرى صدق عليه، ومن غريب الأمر في هذا الحادث أن كان لي صديق رقي معي في قرار واحد، وكانت ترقيته استثنائية، وترقيتي قانونية، فأما هو فكان محسوبًا لوزير كبير بيده سلطة، فما تم القرار حتى أرسل إلى المالية فورًا وصدق عليه في الحال، وخرج القرار فإذا مجلس الوزراء يوافق عليه في ساعة. وأما أنا الذي مطلبه قانوني فكانت قصته ما ذكرت.

    وألعن ما في الأمر اعتياد الناس هذا واعتيادهم أن أمرًا لا يتم إلا بالرجاء؛ ولذلك تجد حجرة الموظف الكبير تمتلئ كل يوم وتفرغ، ثم تمتلئ وتفرغ، حتى يعوقه ذلك عن عمله. ومن أسوأ ما في ذلك أن من يقبل الرجاء ويعين على الظلم، أحب إلى الناس ممن لا يقبله، بل إن أحب الناس إلى الناس هو رجل يركب سيارته صباحًا فيمر على المصالح المختلفة لقضاء الحاجات المختلفة، وكلما نجح في ذلك كان أقرب إلى قلوب الناس، مع أن نجاحه قد يكون ظلمًا، وقد يكون على حساب آخرين مظلومين ليس لهم رجاء … وهكذا. وكان لي صديق — رحمه الله — رئيس مصلحة كتب على بابها: «لا محسوبية ولا رجاء!» مع ذلك لم تنفع شيئًا، فقد بقيت المحسوبية وبقي الرجاء، كما أن اللافتة المكتوب عليها «ممنوع البصق» لا تمنع البصق.

    ولكثرة فشوِّ هذه العادة في مصر قالوا: «يا بخت من كان النقيب خاله»، وقالوا: «ابن الوز عوام»، وقالوا: «اللي له ضهر ما ينضربش على بطنه» وهكذا من كثير من الأمثال التي تدل على تغلغل هذه العادة في نفوسهم، وحتى سرت هذه العادة إلى الأولياء وأصحاب الأضرحة الأموات، فقالوا: «المحسوب منسوب ولو كان معيوب»، تملقًا للمشايخ كأنهم أحياء يرزقون. وتقول لرجل: إني قدمت طلبًا في وظيفة كذا، فيقال لك: ألك واسطة كبيرة؟ فإن قلت: لا، قال: لا! وبلغ من الجرأة أن تلصق على الطلب بطاقة من أوصى عليه أو انتسب إليه للنظر في ترجيح من أوصي عليه عند البت في الأمر. وكان من مساوئ نظام الحكم عندنا أن كل وزارة تأتي يكون لها لون من المحسوبين عليها، وفي نظير ذلك يكون لها خصوم، فإذا زالت وزارة اختفى المحسوبون عليها وظهر المحسوبون على الوزارة الجديدة، وهكذا دواليك. وفي كل هذا خسارة على الأمة، هذا عدا أن أناسًا قويت عندهم حاسة الشم، فإذا أدركوا أن وزارة ذات لون خاص ستأتي أسرعوا فانتسبوا إليها وتظاهروا أنهم من رجالها. وقد كان هذا من مضار انقسام الأمة إلى أحزاب؛ فالحزبية لا تنجح مع شعب كهذا. وكثيرًا ما نسمع في الأمم الأخرى عن استقالة وزير أو رئيس مصلحة؛ لأنه طُلِبَ منه أن يفعل شيئًا لا يتفق مع العدالة، ولا يُصلح هذه الحال إلا توالي وزارات مختلفة تلتزم العدل، وتُفهم الناس أن المحسوبية لا تقدم ولا تؤخر، وتبرهن لهم على عدلها؛ لأن العدل وحده هو الحكم فيمن يصلح ومن لا يصلح، وتُقيمُ البراهين على ذلك من نفسها بتنوير الناس أنَّ رجلًا خير من رجل لكفاية لا لواسطة، وأنه يتحرى المصلحة العامة لا الخاصة.

  • محمد علي باشا: نذكره أيضًا؛ لأنه بَدْءُ مرحلة في تاريخ مصر؛ فقد غيَّر النظم التي كانت تأسست في العهد العثماني وغيَّر نظامها وحكومتها، فغيَّر تقسيمات القطر المصري وبدَّل بها تقسيمات إدارية أخرى، تكفل للسلطة حصر الموارد، وقسَّمها إلى سبع مديريات، كل مديرية عليها مدير؛ اثنتان في الوجه البحري، وواحدة في القاهرة، وأربع في الصعيد، وقسم كل مديرية إلى مراكز، وكل مركز يرأسه مأمور، والمركز يشمل جملة قرى، وكل قرية يرأسها العمدة وشيخ البلد، وشيخ البلد هو المكلف بتحصيل الضرائب وأموال الجباية.

    ونظَّم البوليس والشرطة، واهتم كثيرًا بالجيش وتقويته؛ وعلى أساس هذا الجيش أُسِّسَتِ المدارس وأوفدت البعثات وعُلِّمَتِ الحرف المختلفة ثم غُيِّرَ النظام المالي للبلد، فكانت أكثر الأطيان في ملكه، وكلف الملتزمين أن يثبتوا ملكيتهم، فلما لم يفعلوا جرَّدهم عنها ووضع لهم مقدارًا من المال محددًا يتقاضونه كل سنة، أو كل شهر، واستعان بالمصريين في أعماله، بعد أن كان لا يتولاها إلا الأتراك. وهذه الطريقة في الملكية لقيت تحبيذًا وانتقادًا، وأكثر التحبيذ كان من جانب الفرنسيين؛ لأنهم كانوا أنصاره، وأظهر النقاد كانوا من الإنجليز؛ لأنهم كانوا يكرهون تقرُّب الفرنسيين وحظوتهم؛ يمثل ذلك ما كتبه كلوت بك الطبيب الفرنسي عن محمد علي، فكل كتابه مديح، و«لين» الإنجليزي، فكتابته مسممة بالنقد، فقد قال: إن كثيرًا من أعماله قابلة للنقد.

    وأيًّا ما كان فلا يختلف اثنان في أنه أخرج مصر من الحكم العثماني وجعلها مستقلة بذاتها، وهذا الاستقلال ألزمها الاعتماد على نفسها في المصانع والجيش والإدارة، ثم نقلها نقلة جديدة لما جَرَّهُ هذا النظام من تغيير في العادات المصرية والتقاليد، ثم أفادها باعتزازه بالنفس لما كسرت الجيش العثماني.

    وقد أخذ عليه الشيخ محمد عبده في مقال له أنه أفقد المصريين شجاعتهم. ولا يزال تقديره التام وتقدير أعماله في ذمة التاريخ، كالعين إذا قربت من المبنى الضخم لم تستطع تقويمه. وقد كان الجبرتي المؤرخ رحمه الله جريئًا إذ نقده في كتابه في بعض تصرفاته. ولكن والحق يقال إن نظرات الجبرتي كانت جزئية، ولم يستطع النظرة الكلية والتقدير الشامل. وعلى كل حال فقد كان صفحة جديدة في تاريخ مصر، فيها الحسن وفيها الرديء.

  • المحمل: إطار مربع من الخشب، هرمي القمة، له ستر من الديباج الأحمر، وعليه زخارف وكتابة مطرزة تطريزًا فاخرًا بالذهب على أرضية من الحرير الأخضر أو الأحمر، وله قماقم أربعة من الفضة المطلية بالذهب، وينتهي هذا الكساء بشراريب تعلوها كرات فضية يتفرع منها سلوك دقيقة. وللمحمل مصلحة حكومية لإعداد كل هذه المواد الخام وصنعها بالقاهرة يشرف عليها موظف كبير، والناس يتبركون عادة بالمحمل ويتمسحون بالكسوة، ويقبلون شراريبها، ومن استطاع ذلك كان له الفخر حتى: كأنه قبل يد النبي ، والمحمل لا يحوي شيئًا إلا مصحفين صغيرين داخل صندوقين من الفضة المذهبة معلقين في القمة، ويُحمل المحمل على جمل ضخم، يتمتع أيضًا بما يتمتع المحمل من تبرك له، وإعفائه من العمل بقية السنة ويسمى جمل المحامل، وقد قامت ضجة حول المحمل بسبب أن المملكة العربية السعودية وهابية، وهي لا تؤمن بالمحمل ولا بالأضرحة والقباب، وقامت أزمة شديدة من أجل ذلك بين السعوديين ومصر، وحل الأمر أخيرًا بأن يحتفظ بشكل سفره، ولكن لا يدخل الحجاز على ما أظن.

    وهو قديم في القاهرة من عهد شجرة الدر، ويحتفل به في بعض شوارع القاهرة، ثم يحتفل به في ميدان القلعة، ويحضر هذا الاحتفال من ينوب عن الملك والحكومة وأمير الحج وبعثته وبعض العلماء والكبراء، وقد اعتادوا في هذا الاحتفال أن يقبِّل الأمير مقود الجمل، ويحتفل به مرتين في العام: مرة عند طلوع الناس إلى الحج، ومرة عند عودتهم منه، وهو يثير في الجماهير عواطف قوية شديدة نحو الحج، وفي الاحتفال تضرب المدافع، وتغني أغاني الحجاج … إلخ.

  • مخ الحمار: يصفونه دواء لبعض الأمراض الروماتزمية ويتعب المريض في إحضاره، ويزعمون أنه يشفى من المرض بسببه.
  • المخللاتي: المخللاتي من يصنع المخلل، ويسمونه أيضًا الطرشجي. ويكاد يكون في كل حي من أحياء القاهرة دكان أو معمل للطرشي هذا، ممَّا لم أرَ له مثيلًا في البلاد الأخرى. وهم يخللون فيه اللفت والخيار والجزر والبصل، وهو أكثرها لأنه أرخصها.

    والناس يذهبون بسلاطينهم أو مواجيرهم الصغيرة ليشتروا منه بقرش أو بنصف قرش، فيضع في القاع اللفت؛ لأنه أكثر، ثم قليلًا من الأصناف الأخرى، ثم يضع عليه مرقًا مخللًا لُوِّنَ بلون أحمر يسمى الدقة.

    والفقراء يعيشون كثيرًا على الأكل منه، وكان في مدَّتنا في الكُتَّاب يأخذ سيدنا من كل ولد نصف قرش، وفي الظهر يرسل ماجورين صغيرين، يملأ أحدهما طرشيًّا بمرقة، ويملأ الآخر فولًا نابتًا بمرقة أيضًا، ويلتف الأولاد حولهما فيأكلون من خبزهم ويلغوِصون في المواجير، وقد يكون أحدهم مريضًا فيعدي الآخرين.

    وللمرحوم محمد (بك) جلال قصة أولها كان فيه واحد بياع طرشي. يختمها بقوله: «الليفهش ما يخلهش.»

  • المداراة: والمصريون يتقنونها ولهم في ذلك الحكاية المشهورة: «أنا خادم الباذنجان ولا خدام عندك» فيروون أن سيدًا سأل طاهيه: ماذا تطبخ لنا اليوم؟ قال له: أمرك! قال له: ماذا تقول في الباذنجان؟ قال له: ما شاء الله! حلو لذيذ الطعم. وظل يمدح فيه زمنًا طويلًا، ثم قال له سيده: لكنه حار يعطش. فأخذ الطاهي يذمه أيضًا، قال له السيد: إنك كنت تمدحه، فقال الطاهي: أنا خادم للباذنجان أم لك؟ وقد نظمها شوفي بك في شعره، ومن أمثالهم المشهورة: «إن دخلت بلد أهله يعبدون العجل حش واديله» وقالوا أيضًا: «ارقص للقرد في دولته.»

    وقال شاعرهم:

    ودارهم ما دمت في دارهم
    وحيِّهم ما دمت في حيِّهم
    وأحسن العشرة مع بعضهم
    يعينك البعض على كلهم

    ولهم حكايات كثيرة على أن من لم يجارِ الناس حاق به الهلاك، فيقولون مثلًا: إن سلطانًا وقع اختياره على رجل فقير، فلما استوزر أغلظ للناس ونسي فقره، فاغتاظ زملاؤه، فلما ذهب لصلاة الجمعة مع السلطان وضعوا تحت سجادته صليبًا ثم أعلنوا أمره فقتل. وهكذا، وربما كان من أسباب كثرة ما يقع عليهم من ظلم الحكام والعسف بهم وكذبهم كثرة مداراتهم، وقلة صراحتهم، وعدم تململهم. وقد رأى الجاحظ حمارًا يحمل عليه حمل ثقيل فقال: «لو هملج هذا ما حُمِلَ عليه» (انظر مجاملة).

  • مدد يا أسيادي: تعبير يقال عند زيارة شيخ يطلب منه المدد والإعانة.
  • المدفع: ليس يهمنا إلا أنه يستعمل عادة عند المصريين في مواقف خاصة، فيطلق عند الإفطار في رمضان، وعند السحور وعند الإمساك. ويطلق في أوقات الأذان في الأعياد: صباحًا، وظهرًا، وعصرًا، ومغربًا، وعشاء. يطلق في كل مرة إحدى وعشرين طلقة، وكذلك في بعض المناسبات كعيد الدستور ونحوه. هذا في الأفراح، وقد يطلق في الأحزان كإعلان موت أحد من البيت المالك سابقًا، ويطلق أيضًا كطلقة واحدة عند ظهر كل يوم.

    وإذا كان أغلب ما يستعمل في الأفراح قلَّده الأطفال في إطلاقهم البارود مصغَّرًا في الأعياد والمواسم، المسلمون في أعيادهم، والأقباط في أعيادهم.

  • المر: يستعملونه هو والصبر كثيرًا في كلامهم، بمعنى تجرُّعِ الغصص، فيقولون شربت المر، وسقاه المر من كيعانه، وشفت المر، وذقته حلو على مر، وشربت كأس المر وهكذا.
  • المرأة: المرأة المصرية مشهورة من القدم بخصائص، وحتى الأجانب الذين زاروا مصر لفت نظرهم خفة روحها، وجمال عينيها العسليتين، وحسن قوامها، ولطافة تقاطعيها، وجمال مشيتها، وظهور أنوثتها، وقد ذكرهن هيرودوت أبو التاريخ في كتابه، فوصفهن وصفًا غريبًا إذ قال: إن النساء في مصر يخرجن إلى الأسواق ويتعاطين التجارة، والرجال يقيمون في البيوت ويشتغلون في النسيج، ورجال مصر يحملون الأحمال على رءوسهم، والنساء على ظهورهن. وأولاد الرجل الذكور إذا لم يشاءوا أن يقوموا بمعاش آبائهم لا يجبرون، أما الإناث فإذا امتنعن يُجبرن.

    وقد اكتشفت أخيرًا وثيقة من وثائق قدماء المصريين فيها أن رجل يتعهد أن يمهر زوجته عند تمام الزواج بمبلغ معين ينقدها إياه لتشتري به ثيابها، ويؤكد أن يدفع المبلغ في السنة الأولى، ويتعهد بأن يجعل أكبر أبنائها منه وارثًا لكل ممتلكاته، وأن يدفع لها غرامة إذا تزوج عليها غيرها.

    ومن العوائد التي كانت مرعية قديمًا أن يتزوج الرجل المرأة سنة زواجًا مبدئيًّا، فإذا وافقت مشربه ثبت زواجها وسلم لها كل ماله، وإذا لم توافق مشربه ردها إلى أهلها بعد دفع تعويض، ثم إذا هو ثبت زواجها صار كأنه رقيق لها، فلا يخالف لها أمرًا ولا يتصرف تصرفًا إلا بإذنها، وإنما يجب عليها شيء واحد هو أن تعوله في حياته، وتقوم بنفقة مأتمه وتحنيطه في مماته. ولشدة سلطانها كان الرجل ينسب إليها فيقال: إنه زوج فلانة وينتسب أولادها إليها فيقال فلان بن فلانة، ومن أجل ذلك قال ديورودوس «إن الرجال كانوا عبيدًا للنساء.» ويقول هيرودوت: إن المرأة كانت تبيع وتشتري أيضًا كالرجل، والرجل يحيك ويغزل كالمرأة، ويظهر أن التاريخ يعيد نفسه، فنحن في مصر الآن سائرون في هذا الطريق.

    وقد جرت على ألسنة الشعب المصري أمثال تدل على نظرة الرجل للمرأة منها:
    • (١) هنيَّاك يا من عاش بلاهم، وخلص من بلاهم.
    • (٢) المرأة ضلع أقصر، ولسان أطول.
    • (٣) جو يخطبوها تدللت، راحوا تركوها تذللت.
    • (٤) لو محبة العرس تدوم، كانت القيامة ما بتقوم.
    • (٥) قال لها: يا مره اطبخي طيب، قالت: يا راجل كتر إدام … إلخ.

    والمرأة المصرية ككل نساء العالم في طباعهن ممَّا يمتزن به عن الرجل، وما يمتاز به الرجل عنهن. وقد قتل ذلك الموضوع بحثًا علماء الفسيولوجيا وعلماء النفس والاجتماع، ووصلوا من ذلك إلى نتائج مختلفة. وعلى العموم ربما كان محل اتفاق أن عواطف المرأة أرهف، وعقل الرجال أقوى … إلى آخر ما قالوا.

    وتحكى حكايات في المجالس الخاصة يفرط فيها القائلون في حوادث الغرام، ونحو ذلك مما لا تخلو منه أمة من الأمم. وهم يرون أن هذه الحوادث حين الحجاب كانت أكثر مما هي بعد السفور، والسبب في ذلك أن المرأة في القديم كانت في الطبقة الوسطى والعليا فارغة ليس لديها ما يشغل زمنها؛ إذ عندها في البيت خادمات وخادمون يقضون كل حوائج البيت، وليس لديها علم حتى تقرأ الكتب وتحسن قراءتها، وهي في المجالس تسمع من زوارها الأحاديث الفارغة وأحاديث الغرام، فتصرف بكليتها إلى ذلك فلما كثر تعلُّمها قل زللها، ومن قديم قال أبو العتاهية:

    إن الشباب والفراغ والجدة
    مفسدة للمرء أي مفسدة

    وليس الذنب ذنب النساء وحدهن بل يشاركهن الرجال في ذلك.

    وقد كنت في إستانبول في سنة ١٩٢٨ فقال لي رجل تركي مثقف: إن سمعة مصر عندنا — ولا مؤاخذة — تتلخص في ثلاث كلمات: شهوت، وغفلت، وثروت. وإلى الآن تتدفق في أوروبا كل صيف أموال المصريين الوافرة على القمار والنساء، مما لا يرى مثيله بين السائحين. وتميزت المرأة المصرية بتبرجها وبهرجتها بما تسبي به عقل الرجال من ترقيق الحواجب واستعمال الكحل في إناء صغير من الفضة أو البلور، يسمونه المكحلة يُدخِلن فيه عند الاستعمال عودًا كذلك من الفضة أو البللور يسمى المرود. ومن الأمثلة العامية المشهورة: «جبال الكحل تفنيها المراود» وهذا الكحل يجعل الأجفان سوداء برَّاقة، وهن يصبغن أظفارهن باللون الأحمر غالبًا، وكان في القديم يلون بالحناء.

    وتتزين الفلاحات بالوشم، ويسمونه الدق؛ وقد مرت المرأة الأوروبية بهذا الدور، ثم اقتصرت أخيرًا في الزينة، وهذا ما نحن سائرون إليه.

    وأجمل النساء المصريات من كانت من أصل شركسي، وكثيرًا ما كانت تتألف منهن الحَظِيَّاتُ في القصور ودور الأغنياء، وجمالهن من بياض بشرتهن، وحسن تقاطيعهن الزاهية، وقلَّما يباريهن فيه أي جنس غيره، هذا إلى عنايتهن بالملابس وتزويقها، واختيارها من الألوان، وتحليتها بالجواهر واختراع كل حين بدعًا يسمى موضة، وإكثارهن من الكلام الناعم وترقيق الصوت، والخلاعة في المشية والحديث ونحو ذلك، وعنايتهن بتفصيل أثوابهن حتى يبدين زينتهن.

    وربما كان هذا كله سبب كثرة الأحاديث عنهن واتهامهن بأكثر مما تتهم به المرأة في البلاد الأخرى، وقد يكون ذلك حقيقة إذا نظرنا إلى ما يسود الرجال من كيوف، فليس لذلك كله قصد إلا النساء.

    وقد اشتهرت المرأة المصرية بأن كيدها عظيم، وأن كيدها يغلب كيد الرجال، وكُنَّ قبل الحركات الأخيرة يعِشْنَ فيما يسمى الحريم جاهلات غير متعلمات، بين الخادمات والأغوات، مع ما يبذل الرجال من تزويق الحريم وتجميله.

    وفي الأزمان الماضية كان المحارب المهزوم إذا التجأ إلى الحريم أصبح آمنًا حتى في عهد المماليك، وكن ينتقلن قبل السيارات على حمير، وكن يقبلن هذه المعيشة عن رضا واختيار، وكل متعتهن في الغالب داخل بيوتهن، فلما تسربت إليهن أخبار النساء في أوروبا وسيطرتهن، وخضوع الرجال لهن، وحسن معاملتهن، ثار النساء المصريات على أوضاعهن.

    وكان نابليون يحكي في مصر حكاية غريبة، وهي أن أحد كبار الفرنسيين واسمه «منو»، وتسمى بعبد الله بعد إسلامه، تزوج امرأة من رشيد وعاملها معاملة السيدات الفرنسيات، فكان يُقَبِّلُ يدها ويمشي وراءها إلى غرفة الطعام، ويجلسها أوفق مجلس، وإذا وقعت الفوطة من على رجليها، ناولها لها، فلما روت الزوجة هذه المعاملة وأمثالها على النساء في أحد حمامات رشيد مِلْنَ إلى تغيير أحوالهن وتعهدن أن يحملن أزواجهن على مثل هذه المعاملة. وقد تسربت أخبار هذه الحادثة من رشيد إلى سائر القطر. هذا عدا ما تنقله السائحات المصريات من أوروبا إلى مصر.

    ومن قديم حمل الرجال كثيرًا على النساء حتى إن أبا العلاء المعري أكثر القول في لزومياته في استهتارهن ودعوتهن إلى لزوم بيوتهن.

    وقد بُنِيَ نظام الحياة الاجتماعية على فصل الرجال عن النساء، في المسكن، وفي التعليم، وفي الركوب، ونحو ذلك فسبب هذا انحطاطًا للمرأة، كما سبَّب انحلالًا في الأخلاق والعادات.

    ثم تَغَيَّرَ هذا كله فاتصلت الفتاة بالفتى في التعليم، وأصبح المسكن معدًّا للأزواج والزوجات على السواء من غير حريم، ولا بأس للمرأة أن تركب في الترام مع الرجال … وهكذا. فهذه العوامل قربت في الأخلاق بين الجنسين، وفي التعليم بين الصنفين، وأزالت كثيرًا من الفروق. ولما وجدت المرأة نفسها متعلمة اعتزت بنفسها ورأيها، وأبت أن يسود عليها الرجل، وطالبت بالمساواة في كل شيء، حتى تكون منتخَبة ومنتخِبة، وستنال ذلك قريبًا أو بعيدًا.

    وتمتاز المرأة المتعلمة بتقليلها للزينة والتبرج، كما كانت أختها من قبل، وملء وقتها بالقراءة والمطالعة والفنون الجميلة من رسم وتصوير وموسيقى، وميل إلى قلة الأولاد حتى يكون لهن وقت من الفراغ، وتربية الأولاد على أساس علمي لا خرافي، ومطالبتها بالسلطة المنزلية، وكثير منهن بلغ الغاية في ذلك؛ فأخضعن الرجال لإرادتهن كما كان الحال في عهد هيرودوت، بل بدأن في مزاحمة الرجال في العمل، فأصبح منهن المحاميات والطبيبات، بل والمهندسات والتاجرات والموظفات في الحكومة. وعلى الجملة فهن يسرن إلى غايتهن بخطوات واسعة.

  • المراباة: شاع بين المصريين التعامل بالربا مع حرمته في دينهم، ومن الغريب أنهم يستبيحون أخذ المال بالربا ولا يستبيحون إعطاء المال بالربا؛ ولذلك كان أكثر المرابين أروامًا أو أرمنًا. وكانوا فيما مضى يتغالون في الأرباح إلى أن قيدها القانون بتسعة في المائة، ومع ذلك فللمرابين وسائل ماكرة في الحصول على أرباح أكثر من ذلك. وينتشر الأروام في بلاد الفلاحين وينتهزون فرص الحاجة إلى المال ويمدونهم به، فإذا لم يدفع المدين الفائدة تضاعفت هذه الفائدة المطلوبة. أضف إلى ذلك ما يستتبع هذا من مغالطة في الحساب، ومن أساليب خداعة لا يستطيع أن يفهمها الفلاح البسيط.

    وفي القاهرة نوع من النساء المرابيات تعطين الجنيه بفائدة قرشين أو ثلاثة في الشهر، وتدَّعين أنهن يعملن ذلك خدمة للمحتاجات، وكم أفلست بيوت من جرَّاء هذا الربا!

  • المراكبي في حساب والنوتي في حساب: تعبير يقال لاثنين أو أكثر كلٌّ يرمي حسابه على أساس.
  • المسألة دي ريحتها فاحت: تعبير يعني أنه كثر فيها الكلام السيئ.
  • المستوقد: في كل حي تقريبًا مستوقد، تأتي إليه طائفة الزبالين بالزبالة يرمونها فيه، وهؤلاء الزبالون عادة من أهل الواحات الخارجة أو الداخلة وهم يوقدون هذه الزبالة، ويستخدمونها في أغراض شتى، فيحمون بها الحمام الذي يكون بجوارها عادة، وينضجون فيه قدر الفول المدمس التي يأتي بها باعة الفول في أول المساء ويستلمونها في الصباح الباكر، وما تبقَّى من رماد هذه النار كان يستعمل في البناء: يخلطونه مع الجير والرمل، ويسمونه القصرمل، وهو أسود اللون بسبب احتراقه؛ ويشبهون عادة الرجل القذر المغبر فيقولون: زي الخارج من المستوقد.
  • المسحراتي: رجل يمسك بيده اليسرى طبلة، وبيده اليمنى سيرًا من الجلد أو خشبة يطبل عليها في رمضان وقت السحور، ويغني لذلك أغانيَ مناسبة بنغمات خاصة، ويكون لأغانيه سحر خاص؛ لأنه يغنِّي ويطبل في وقت خشعت فيه الأصوات، وقلَّت الحركات، ويفعل كذلك طول شهر رمضان، ثم يمر على البيوت في العيد يتقاضى أجره.

    ومما يلاحظ غرابة هذه النسبة وهي نسبة قد يستعملها المصريون، كالمكباتي والعجلاتي والمخبراتي، وكان القياس يقال المسحِّر فقط. والنسب في اللسان العامي على أشكال مختلفة، إحداها هذه، وأخرى مأخوذة من اللسان التركي، وهي إضافة جي على الآخر، فيقولون جزمجي وخردجي وعربجي، وهناك النسبة العربية كالليثي ودمشقي، وهناك زيادة الواو والياء بعد الأف مثل طنطاوي ومعداوي وعبد اللاوي، ومنها النون والياء بعد الألف مثل معجباني، للرجل المعجب بنفسه، وكنفاني.

  • مسْكُه بهدِله: تعبير يعني أنه شهَّر به وهجاه.
  • المش: هو الطعام الأساسي للفلاحين؛ فأكثر ما تحمله المرأة الفلاحة إلى زوجها في الغيط هو المش القديم فيه جبن قريش ومعه خبز كثير «بتاو» فيأكله مع البصل الأخضر أو الكرات، ويشرب الماء القذر من القناة، وربما لا يذوق الفلاح اللحم طول السنة من العيد الكبير إلى العيد الكبير. والمش أنواع: خيره ما يسمى «مش الحصير» وهو يؤكل في المدن أيضًا بعد أن يضاف عليه قليل من الزيت والليمون، وكثيرًا ما يصاب بالدود، وهم يعتقدون أن الدود يتولد منه، وهو اعتقاد خاطئ، فقد أثبت العلم أن الحي لا يتولد إلا من الحي.

    ومن الأمثال المشهورة عندما يرون أسرة دب إليها الفساد، وتعادى بعضهم مع بعض أن يقولوا: «زي دود المش منه فيه.» وأكثر ما يخزنه الفلاحون بلاليص المش، وكثيرًا ما يحدث أن لا يتبقى للفلاح غير مش بعد أن يدفع ما عليه من مال وواجبات، وهم يعتقدون أن المش مع البصل يطرد الجرب، ومن أمثالهم: «زي المش، كل ساعة في الوش.»

  • المشروبات: أكثر المصريين المسلمين لا يشربون الخمر لنهي الإسلام عنها، ويكتفون بشرب الماء على الأكل، ولكن لهم مشروبات أخرى؛ من ذلك قهوة البن، وطريقتهم في ذلك أن يجلبوا البن من اليمن أو البرازيل أو نحوهما، ثم يحمصونه، ثم يطحنونه، ثم يغلون الماء في التنكة «الكنكة»، ثم ينزلونها من على النار ويضعون فيها قليلًا من البن المطحون، ثم يعيدونها إلى النار وينتظرون حتى تبدأ في الفوران. وهي منتشرة في مصر، وقل أن يخلو أحد من مشربها، وهي تقدَّم في الصباح عند الفطور، وللضيف عند زيارته لأي بيت في أي وقت، وهي تقدم في فناجين صغيرة تأتي عادة من اليابان أو الصين أو يوغوسلافيا، ولكل فنجان طبقه الصغير. وبعض النساء لا يتكيفن من القهوة إلا إذا عملنها بأيديهن على نار الفحم الهادئ، ويلي هذه الطريقة ما يسمى بالقهوة الفرنساوي، وهي عادة تصنع من البن الجريش، ويستعملها بعض الممدنين.

    وعندما اخترعت قهوة البن اختلف فيها علماء الدين: أهي محرمة أو محللة، وألفت الكتب في تحريمها وتحليلها، مثل: «كتاب الصفوة في حِل القهوة» ثم انجلى هذا الخلاف على إجماع على حلها.

    وبعض النساء من المصريات يتخذن فنجان القهوة وسيلة لمعرفة الغيب عن الرجل أو المرأة؟ فإذا شرب من يريد معرفة مستقبله كفأ فنجانه في الطبق وصبر قليلًا، ومن العادة إذا كفئ هكذا أن تتبين فيه خطوط وتعريجات تقرأ فيها المتنبِّئة أو المتنبِّئ بالمستقبل حسبما يرى أو ترى.

    وبعض الناس يستعملها «سادة» أو بسكر قليل أو كثير.

    وهناك في مصر قهاوي كثيرة تقدم فيها القهوة بجانب المشروبات الأخرى، فتقدم فيها القهوة في فنجان بطبق حسب الطلب، ومعها كوب من الماء على صينية من المعدن. والمقهى عادة محل لمقابلة من يراد مقابلته لحديث أو قضاء عمل أو لقضاء وقت في نرد أو شطرنج أو كلام فارغ، ومن مشروباتهم: الشاي، والقرفة، والزنجبيل، واليانسون، والمغات.

    وإذا كانت البلاد حارة والماء قليلًا يصعب الحصول عليه، وجدت دكاكين الشربتلية تبيع الخروب والتمر هندي والليمون … إلخ. ويوجد باعة متجولون في الشوارع يبيعون العرقسوس والليمون في جرة لها بزبوز أو بطرمان له بزبوز كذلك، ويشبهون الدم الخفيف بالشربات فيقولون «دمه زي الشربات.»

    وقد رأيت أهل الواحات الخارجة يستعملون الحِلبة المدقوقة شرابًا لذيذًا باردًا يدفع العطش، ومن الأشربة التي كانت مستعملة نبيذ البلح أو الزبيب أو التين. وكان أمام باب سيدنا الحسين في القاهرة محل كبير لبيع هذه الأنبذة، وفي الأيام الأخيرة وجد في مصر والإسكندرية دكاكين لبيع المشروبات سموها «جنة الفواكه»، فهي تبيع عصير البرتقال وعصير القصب في الشتاء، وعصير الأناناس والخرشوف وحب العزيز والمانجو أو العنب في الصيف. وفيها قسم لبيع مزيج اللبن بالقهوة أو الكاكو، وغير ذلك، وكلها تدار بالكهرباء على آخر طراز. وكثيرًا ما كنت ترى في القاهرة بياعي العرقسوس والخروب والليمون، وهم عادة يضعون في أيديهم بعض أطباق نحاسية، وبعضهم يستطيع أن يوقِّع عليها نغمات موسيقية جميلة، فيلفتون إليهم الأنظار.

    وفي العصور الحديثة انتشرت مصانع الغازوزة والكاكولا والبيبسي كولا، ثم قامت قيامة الناس على الاثنين الأخيرين بحجة أن فيهما مادة من عصارة معدة الخنزير، فقلت رغبة الناس فيهما رغم ما استخرجته هذه الشركات من فتاوى دينية وطبية، وحبَّذا لو ألفت شركات مصرية لبيع المشروبات المصرية، كالليمون والبرتقال والخروب والعرقسوس، وليس ينقصهم للنجاح في ذلك إلا رأس المال والنظافة.

  • مشي سنة ولا تخطي قنَا: تعبير يعني: إن احتاج الأمر إلى ممارسة ومداورة فافعل وإن طال الزمن، وذلك خير من أن تتغلب على العقبات في سرعة مع تعرضك للخطر، وقد يقع فيها من أراد تخطيها.
  • مش عارف إن كانت الدنيا بتهوي ولا بتدوي: تعبير يعني أنه لا يعرف كيف تصير الدنيا وما فيها كأنه أبله، لا يدري.
  • مش مِلاحِق: يقال فلان مش ملاحق على كده، إذا زاد عليه الطلب، وهو لا يستطيع إجابة الطلبات كلها.
  • مشي: المشي معروف، ولكن يقولون: مشي على كيفه، ومشي على حل شعره، بمعنى أطلق لنفسه العِنان. ويقولون: مشت بطنه إذا أصيب بالإسهال، ومن تعبيراتهم «الحق يمشي.»
  • مشي لحال سبيله: تعبير يعني انصرف لوجهه.
  • المصارع: هو رجل كان يلبس لباسًا من الجلد ونصفه الأعلى عريان، وبيده زخمة، ويسمى مصارعًا، يضرب بها على رجله أحيانًا. وكان يمشي في الزفات بدعوى أنه يحرسها من الخصوم، وهي مأخوذة من المصارعة، فقد كانت أشكالًا وألوانًا، فمصارعة باللُّكَّمِيَّة، وهي الضرب بجمع اليد على قوانين خاصة، والمصارعة بالنبابيت. وقد تكون المصارعة مصارعة فرد لفرد، وقد تكون مصارعة جماعة لجماعة، كمصارعة الفتوات في الجبل، وعامة المصريين ينطقونها بالسين.
  • المصايف والمشاتي: اعتاد المصريون خصوصًا أهل القاهرة أن يتغلبوا على الجو بالمصايف والمشاتي، فيصيفون في الإسكندرية، أو رأس البر عند دمياط، أو بور سعيد، ويشتون في الأقصر أو أسوان أو حلوان.

    وكثير من الذوات وأولادهم يفضلون التصييف في أوروبا، كسويسرا وشمال إيطاليا وهناك ينفقون النفقات الطائلة، حتى عُرِفَ المصريون هناك بالسرف في الترف والشهوة، وعدم المبالاة بالمال، واللعب على مائدة القمار؛ ومن أجل ذلك لا تعجبهم المصايف المصرية ولا الشرقية؛ لأنها أقل حظًّا من الملاهي وأدعى إلى التحرر من القيود التي تتطلبها معرفة الشخص.

  • المصحف: كثير من الناس يتبركون بحمل مصحف صغير الحجم على صدورهم، وقد يوضع في علبة صغيرة ذهبية، ويعلق في سلسلة ذهبية أيضًا. وكثير يضعونه تحت رءوسهم إذا ناموا ليمنع عنهم الأذى.

    وقد بالغوا في العناية بخطه وتحليته بالذهب وما إلى ذلك، واختيار الورق الذي يطبع عليه، وإليه ينسبون عدم الأذى والضرر، فإذا هب حريق في البيت فأطفئ، أو فشل سارق في سرقة شيء؛ نُسِبَ ذلك كله إلى وجود المصحف في البيت، وقد لا يكون الرجل متدينًا فلا يؤدي الصلاة ولا الصوم، ومع ذلك يحرص كل الحرص على اقتناء المصحف. وهو كثير الانتشار بين المسلمين، يعتقدون فيه الاعتقادات الكثيرة هو والبخاري، ومن حين للآخر تطبع دار الكتب مائة ألف نسخة مثلًا أو أكثر فلا تلبث أن تذهب. وهم يحافظون على خط المصحف، وهو الخط العثماني، نسبة إلى عثمان بن عفان، فيكتبون الصلاة والزكاة بالواو، ورحمة الله بالتاء المفتوحة أحيانًا والمربوطة أحيانًا؛ ومن أجل ذلك لا يُحسن قراءته إلا من كان يحفظه من قبل، وقد اشتهر الأتراك بحسن الخط في المصحف، وإذا أراد بعض المصريين تأكيد القَسَم أحضروا المصحف واستحلفوا الذي يراد تحليفه بقوله: وحياتك يا دي المصحف، أو وحياة المصحف ده واللا أعدم عيني … وهكذا.

    وشغف بعض الفنانين بجمع المصاحف الخطية المطبوعة، وأعرف منهم من أنفق كل ثروته في ذلك، كالآخرين الذين ينفقون أموالهم في جمع السجاجيد العجمية.

  • المصرية: للشخصية المصرية خصائص ظاهرة بسبب أنها تداول عليها أمم كثيرة من يونان ورومان وفرس وعرب ومماليك وشراكسة وأتراك وفرنسيس وإنجليز وطليان ومع ذلك هضمتهم أكثر مما هضموها.

    نعم قد أخذوا بعض عوائد وكلمات واستعمالات، ولكن ما أثرت هي فيهم أكثر، وربما كان أقل الأمم تأثرًا الإنجليز؛ لأنهم أبوا أن يندمجوا في المصريين وترفعوا عن مخالطتهم والزواج منهم، إلا في القليل النادر.

    وكما أن لرجولتهم سحنة خاصة، ربما كان من أصعب الأشياء وصفها، فهي شخصية ذكية فنية، تدرك الجمال وتتذوقه، ذات عواطف حادة يؤثر فيها الكلام الناعم، شهوانية تستعين كثيرًا بالعقاقير التي تثير الشهوة، وتكثر من الكلام في وسائلها، تحب الأرض وتحب الالتصاق بها، وتكره السفر من بلد إلى آخر، صبورة على تحمل المشاق، حتى كاد صبرها أن ينقلب رذيلة، فهي قل أن تثور لظلم يلحقها ولا لكارثة تنزل بها ففعلت بها الأمم المحتلة الأفاعيل الشنيعة، ومع ذلك تحملت وارتقبت الفرج، ولكن مع صبرها وحملها، إذا ثارت حطمت كل ما أمامها من دون إدراك للعواقب، وقبل أن تثور تفرج عن نفسها بنكتة لاذعة أو أغنية لامعة أو مَثَلٍ تستعمله، يغلب عليها الكرم أكثر مما تغلب عليهم الشجاعة، وهم سريعو النسيان للحوادث، فمن عاملهم معاملة سيئة ثم أعقب ذلك بحسنة نسوا السيئات بجانب الحسنة، كالحاكم التركي قد يغلو في الظلم ثم يتبع ذلك ببناء مسجد أو حجة يحجها أو سبيل ينشئه أو مصحف يحمله أو نحو ذلك فيغتفرون له إساءته. يغلب عليهم السرور حتى كان من الغريب أن أكثر الناس شقاءً أكثرهم مرحًا وغناءً، كأنَّ الطبيعة تعوِّضهم بذلك عن بؤسهم، وهم كثيرًا ما يُخدعون بالمظاهر، ويميلون إلى الكسل حتى لتجد الرجل ليس عنده قوت يومه ثم لا يتحرك لكسب الرزق، وإذا كسب مالًا انقطع لينفقه في سخاء، ولم يحسب حساب المستقبل، وقال: اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب. يتجلى ذلك كله في الأمثال الدائرة على ألسنتهم، والأقوال الشائعة التي ينطق بها عجائزهم، كما يتجلى ذلك بمقارنتهم بغيرهم من الأمم.

  • المعجون: المعجون والمنزول بمعنى واحد، وهو منتشر بين الطبقات وخصوصًا طبقة الفقير. وهو مما يضرها ضررًا بليغًا، والقصد الأكبر منه تخدير الأعصاب عند الاتصال الجنسي، وهو مزيج من بعض العقاقير يضاف إليه بعض من الحشيش، ويعجن جيدًا؛ ولذلك يسمى المعجون.

    ويسمون الرجل الذي يبيعه «تحفجي» ويسمى المعجون نفسه «تحفة»، وكم له من ضحايا كثيرة بسبب الحشيش الداخل فيه، وسبب تهييج ما يضاف إليه من بهارات للأعصاب. وقد يضيفون إليه شيئًا من العنبر لتحسين رائحته ولتنشيط الدورة الدموية.

    وأعرف شابًّا من أولاد الأغنياء كان ذكيًّا مؤدبًا في سن الثلاثين، ورث أموالًا طائلة، وكان متزوجًا، فلما حصل على هذا الإرث احتاط به جمع من الشباب الفاسد، فتزوج بأخرى. وبعد أسابيع قليلة تزوج بثالثة، ثم برابعة، وسقط في هذه العادة الرديئة ويجمع هؤلاء الأربع كل ليلة ويتلاعبون ويرقصون ويغنون ويفعلون الأفاعيل الشائنة؛ لأنه في حالة الذهول. وأخيرًا ضعف عقله، وانحطت قوته، حتى صار لا يقوى على المشي، وإذا تحرك للضرورة أسندوه إلى أن يعود إلى فراشه، ولا يقوى على وضع اللقمة في فمه، واستمر على هذه العادة الرديئة حتى مات.

    وكنا في مجلس فأتت هذه السيرة فقال الآخر: كنت أعرف رجلًا أفغانيًّا ادَّعى أنه يستحضر الجان، وكان يتاجر في بعض السلع فاشترى حمارًا ووضع عليه خرجًا، وكان ينتقل في الأرياف حتى وصل أمره إلى المنصورة ونزل ضيفًا على رجل وادَّعى أنه يستحضر الجان. كان المضيف مضطرًا إلى مباشرة أطيانه، فكان يتركه في البيت ويذهب إلى عمله، وهو يدعي أنه يستحضر الجان، فاتصل بنسائه، وما زال على ذلك الحال وهو يتعاطى المنزول إلى أن صار لا يفيق منه، فوقع في إغماء شديد واضطر من معه لإحضار الطبيب، فلما أفاق هرب.

    وقال آخر: كنت أعرف شابًّا متعلمًا من ذوي الشهادات العالية، ثم وُظِّفَ في الحكومة، وورث عن أبيه بعض المال، وانهمك في المعجون حتى كان يسكن في ماخور من المواخير، واختلط عقله أخيرًا، فكان يتكلم كلامًا رفيعًا، ولكن سرعان ما ينتقل من موضوع إلى موضوع ثم يطيل الصمت ثم يرفع رأسه ويلتفت يمينًا وشمالًا ويقول: حسبي الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وكثيرًا ما كانت تنهمر الدموع من عينيه إذا أفاق.

    وقال ثالث: كنت أعرف رجلًا تجاوز الخامسة والثلاثين، كاتب حسابات في إحدى المديريات، وكان أديبًا لطيفًا، لا يأخذ عليه من جالَسه أقل شيء ثم وقع في المعجون فأصيب في عقله، فكان إذا رأى من بعيد مطربَشًا هرب منه خوفًا من أن يعرفه.

    وقال رابع: جاء رجل كردي إلى مصر وأقام بها وتزوج، ثم ماتت زوجته فورث بعض الشيء من قريب له، ثم وقع في هذا المعجون، وأخيرًا أشعل النار في نفسه … وهكذا، من ضحايا …

    وهم يسمون المعجون أحيانًا «لسان العصفور» و«البلبل» و«حلاوة سمسمية» و«خلطة عنبرية» و«حجر الذخيرة» … إلخ. وهو منتشر في مصر انتشار الحشيش لأنه نوع منه؛ حتى اضطرت الحكومة أخيرًا إلى تشديد العقوبة عليه.

  • المعدِّدة: هي امرأة تُدعى للغناء بنغمة حزينة في مجتمع النساء من المآتم. وهي تستفسر أولًا عن الميت ومن هو، وعلى أي حال كان، وما فضائله ومزاياه. وتصوغ من كل ذلك كلامًا في تعديدها يثير كوامن النفوس، ولها لسان فصيح وقدرة تامة على الإبكاء، وبعضهن يصحبن معهن الدف، فيثرن بذلك دوافع اللطم على الوجه، خصوصًا في الأوساط الدنيا. وبعضهم يستعملن في هذا أيضًا النيلة يصبغن بها وجوههن، ولها طرائق في التعديد، فتشعب حديثها إلى نواحٍ كثيرة، مرة على الغرقى ومرة على الحرقى ومرة على القتلى، ومرة على الموتى بأنواع مختلفة، وفي كل مرة تثير شجون بعض من يمسهن كلامها. وهن في الفصاحة يشبهن الأدباتية في فصاحتهم، ويقابلهن في ذلك العوالم في الأفراح يثرن السرور، ولكل نغمات. ويشجع العوالم الرقص والضرب على الدربكة، ويشجع المعددات اللطم والضرب بالدف والنيلة، وقد قلَّت هذه العادة حتى كادت تفنى.
  • معلهش: يكثرون عادة من استعمالها عند نزول كارثة في ولد أو مال؛ إعلانًا بالرضا بالقضاء والقدر. فإذا مات ابنه قال: «معلهش»، وإذا تلف زرعه قال: «معلهش» … وهكذا، وقد يتضاحك الفرنج على مصر فيقولون: بلاد معلهش.
  • المغاوري: هو شيخ في جبل الجيوشي، يعتقد النساء أنه من زارته وكانت عقيمًا ولدت، ولعله حدث ذلك مرة أو أكثر بسبب وجود رجال من سيئي الأخلاق، انتهزوا هذه الفرصة واتصلوا بالمرأة وكان العيب من زوجها فحملت، فأشاع هؤلاء الرجال والنساء هذا الخبر؛ الرجال لإرواء شهواتهم، والنساء لستر موقفهن، والله أعلم.
  • المغسل: كان في جار بيتنا قريبًا من ميدان المنشية مكان مُعَدٌّ لغسيل القتلى والمشنوقين، وكانت تحضر إليه القتلى ملوثين بدمائهم، وكان النساء يهجمن على هذا المغسل إذا علمن بقتيل، فتغمسن بعض الثياب في دمائهم، يدعين أن ذلك يحبل من لم تحبل.
  • المفارقات: هي نوع من أشهر أنواع الفكاهات المصرية، ويعنون بها الجمع بين شيء ونقيضه، أو ما يبعد عنه ويخالفه … ذلك مثل قولهم: «البردان يقلع عريان» وفي هذا الباب طرف مليحة كثيرة. وقد أكثر منها الشيخ حسن الآلاتي في كتابه «مضحك العبوس»؛ من ذلك قوله: «روح خد لك مكان في خان جعفر، بيع جلة ونيفة وكدب أخضر»، وخان جعفر هذا سوق مشهورة في طنطا، يباع فيها الحرير والجوخ والأصواف القيمة، ومثل قوله: «قال لها وحياة جمالك وافتنانك، قصدي في الهوى أقلع سنانك»، والمفارقة في قوله: «قصدي أقلع سنانك»، ومن ذلك أن رجلًا فلاحًا من أهالي الشرقية كان ذكيًّا وكان خفيف الروح ذهب إلى خان جعفر هذا، ووقف على دكان من دكاكينه المشهورة بالأجواخ والأصواف والحراير وأخذ يقلب النظر فيها، ودعاه صاحب الدكان وقال له: تفضل يا عمدة! فلم يأبه به، ومكث ينظر طويلًا، ثم اتجه على دكان آخر ينظر إليه، فقام صاحب الدكان وشده من يده ليعرض عليه ما عنده، وقال له: والله العظيم ما عندي لا يوجد عند غيري. وقدم له سيجارة كبيرة ثم فنجانًا من القهوة ثم سيجارة أخرى، ثم قال له: ماذا تطلب. قال له الفلاح: لا أظن أن طلبي يوجد عندك! قال التاجر: أتريد جوخ أمبريال من أحسن الأصناف؟ قال الفلاح: لا. قال التاجر: كشمير صوف معتبر؟ قال: لا. قال: شاهي أو قطني من أحسن صنف؟ قال: لا. قال التاجر: عصب حرير أو أثواب كريشة أحسن ملبس؟ قال: لا. قال: إذا ما هو مرادك؟ قال الفلاح: إني أريد طواجن فخار لقلي السمك. فاصفر وجه التاجر وقال: يا فلاح يا حمار! أفي دكان الحراير والجوخ تسأل عن الطواجن الكبار؟ وقام من عنده بعدما شرب القهوة والسجاير.

    وتعجبني قصيدة في هذا لصريع الدِّلاء عارض بها مقصورة ابن دريد يقول فيها:

    من لم يرد أن تنتقب نعاله
    يحملها في كفه إذا مشى
    من دخلت في عينه مسلة
    فاسأله من ساعته عن العمى

    … إلخ.

    •••

    وهناك قصيدة أخرى في هذا المعنى:

    الأرض أرض والسماء سماء
    والماء ماء والهواء هواء
    والبحر بحر والجبال رواسخ
    والنور نور والظلام عماء
    والحَرُّ ضد البرد قول صادق
    والصيف صيف والشتاء شتاء
    والمسك عطر والجمال محبَّب
    وجميع أشياء الورى أشياء
    والمر مر والحلاوة حلوة
    والنار قيل بأنها حمراء
    والمشي صعب والركوب نزهة
    والنوم فيه راحة وعناء
    والماء قيل بأنه يروي الصدى
    والخبز واللحم السمين غذاء
    ويقال إن الناس تنطق مثلنا
    أما الخراف فقولها مأماء
    كل الرجال على العموم مذكَّر
    أما النساء فكلهن نساء
    الميم غير الجيم جاء مصحَّفًا
    وإذا كتبت الحاء فهي الحاء
    إن المُدام لدى التعاطي مُسكِر
    ويشربه قد جنت العقلاء
    ما لي أرى الثقلاء تُكره دائمًا
    لا شك عندي أنهم ثقلاء
    إذا سئلت عن الثقيل فقل لهم
    الناس عندي كلهم ثقلاء
  • المفتَّقة: وتسمى «حلاوة مفتقة»، وهي سوداء اللون، يُفطِر بها بعض الناس، ويصفونها للنحيفة حتى تسمن. وتصنع من جملة مواد يبلغ عددها على قولهن نحو أربعين صنفًا، أكثرها من الثمار الزيتية، وهي عسيرة الهضم، أَبْيَنُ ما فيها العسل الأسود والزيت، ويضعون في داخلها بندقًا مقشرًا، وقد يرشون عليها سمسمًا، ويزعم بعض الناس أن بعض النساء مبالغة في السمن يُضِفْنَ عليها بعض الخنافس.
  • المقاطعة: إذا قال الرجل سأفعل كذا، قالوا: بلاش مقاطعة. أي لا تسبق الزمان، فلعل المقدر يعاكسك، وقل: إن شاء الله.

    ويحكون أن رجلًا كان عنده جرة كبيرة مملوءة لبنًا ومعلَّقة في السقف، فنام في سريره ونظر إلى الجرة فتمنى الأماني أن يبيع اللبن ويشتري بثمنه بيضًا، ثم إذا كثر البيض باعه واشترى نعجة، والنعجة تلد له شياهًا كثيرة، فيسرح بها، وإذا خالفته إحداها ضربها بعصاه هكذا. وحرك عصاه فأصابت الجرة فكسرت وذهب سدى ما فيها من لبن. يحكونها للدلالة على أن الأماني قد لا تتحقق، ويسمون هذه مقاطعة، وأن المقاطعة قد تنعكس على صاحبها، بل إنها كثيرًا ما تدعو القدر إلى معاكسته.

    وتستعمل كلمة المقاطعة أيضًا في أن يقاطع الإنسان الآخر أثناء كلامه، فلا ينتظره حتى يتم كلامه، واشتهر المصريون بذلك أيضًا، فلا يكاد يبدأ المحدث حديثه حتى يقاطعه سامعوه؛ ولذلك يسرع المتحدث في حديثه شاعرًا بالخشية من أن يقاطعه أحد. وهم في حاجة إلى أن يتعلموا فن السماع، فللسماع فنٌّ كفنِّ الكلام، فيتركون المتحدِّث في حديثه إلى أن يتمه، ثم لهم الحق في أن يردوا عليه إلى أن يتموا ردَّهم.

  • المقويات: أولع المصريون من قديم بالمقويات على أشكال مختلفة، من منزول ومعجون، وكذلك الشرقيون. وتقرأ القاموس المحيط للفيروزابادي، فلا تكاد ترى صفحة من صفحاته خالية من دواء أو نبات، ينص على أنه يقوي الرجل، كأنه اختصاصي في هذا الموضوع، وأخيرًا زعم الفرنج أنهم اكتشفوا أشياء تفعل فعل هذه الأشياء الشرقية وردوها إلى الشرق، كخصا الثعلب وغيره. (انظر معجون ومنزول).
  • مقياس الروضة: كان مقياسًا قديمًا من قبل الإسلام، فلما اختل بناؤه بنى سليمان بن عبد الملك الأموي العمود الموجود الآن للمقياس؛ بدليل الكتابة التي عليه، وقد اختل مرارًا ثم أعيد ترميمه. قد اعتنى المصريون من قديم بهذا المقياس؛ لأن النيل عندهم هو رب ثروتهم والعامل لخيرهم، ولولاه لكانت مصر صحراء قاحلة.

    وقد أنشأوا المقياس ورتبوا عليه تحصيل الضرائب؛ لأنه إذا لم يرتفع أو علا كثيرًا فغرق الأرض لم يكن من العدل تحصيل الضرائب كالمعتاد، والزيادة المعول عليها هي ما بين ستة عشر ذراعًا وأربعة وعشرين. وجعل هذا المقياس في الروضة بحيث يدخل الماء إلى حجرة لا يفعل فيها الهواء، فتنقطع الأمواج، ويمكن مقياس النيل مقياسًا صحيحًا.

    وقد عين للمقياس محمد علي باشا رجلًا اسمه الشيخ علي، ولقب بالمنادي؛ لأنه ينادي هو وأتباعه على النيل كل يوم، وجعل له مرتبًا. ولما مات عين مكانه ابنه وأمر المهندسين بالكشف على المقياس كل عام، وإجراء ما يلزم له من التطهير والتعمير.

    وأقيمت مقاييس أخرى في أعلى الصعيد ليستدل منها على ما سيكون الحال في مصر، حتى إذا كان النيل في أعلاه، اتخذت الاحتياطات الكافية لاتقاء الغرق. وعمل مقياس في الخرطوم، ومقياس في مدينة أسوان، ومقياس في القناطر الخيرية.

    وقد جرت العادة بأن النيل متى بلغ ستة عشر ذراعًا احتُفِلَ بوفائه، وسمي اليوم يوم وفاء النيل، وكتب سجل يثبت أن النيل بلغ حدًّا يجوز معه للوالي أن يحصل الضرائب. والاحتفال به قديم، وكان بالغًا حد العظمة، وإلى اليوم تزين مركب تسمى العقبة، ويكون فيها الموسيقيون وغيرهم. وكان الموكل بالمقياس يطلق عليه اسم قاضي المقياس، وهو الذي يقيس كل يوم زيادة النيل أو نقصه ويخبر بذلك الحكومة وينادي بذلك في المدينة، ويقيد في دفتر مخصوص. ولهذا كان شيخ المقياس يعرف فيضان النيل يومًا فيومًا من ابتدائه إلى انتهائه.

    وفي عهد إسماعيل باشا نظم مقياس جزيرة أسوان، وأمر العامل عليه أن يخبر مصر كل يوم بواسطة التلغرافات ترسل إلى مصر.

    والمصريون أيضًا يسمون بلوغ النيل فيضانه، والاحتفال به جبر الخليج؛ لأن خليج القاهرة كان يُمَدُّ بالماء في هذا العيد … والمنادون وأولادهم يسيرون في شوارع القاهرة يوم عيد جبر الخليج وبأيديهم الجريد عليها الرايات من البفتة الملونة: الأخضر والأحمر والأبيض، ويقولون: البحر زاد غرق البلاد! ويرد عليهم آخرون يقولون: عوفا الله! بإمالة الألف في الله، وأصل عوفا الله: أوفى الله؛ أي أوفى الله النيل.

    وبعد تحرير المحضر بوفاء النيل تطلق الصواريخ وتعزف الموسيقى … إلخ، ويكون يومًا مشهودًا، ويبدأ الجو بعده بالتلطف.

  • المكتبة: كانت المكتبات كثيرة في المساجد، ولكنَّ خَدَمَتَهَا لم يعتنوا بها، فكانت تُسرق أو تباع، وأكثرها كتب توحيد أو فقه أو تفسير. ويقتني بعض الأغنياء في بيوتهم مكتبات حسنة، حتى ولو لم يقرءوا فيها، وأكثر الكتب يوضع في غلاف مجلد. وكثيرًا ما تكون الملازم مفكوكة، حتى يمكن أكثر من واحد استعارة ملازم منها.

    وكاتب الكتب عادة يستعمل الورق المتين ويسطره على مسطرة هي قطعة من الورق المقوى، يشد عليها بعض الورق وطوله خيوطًا ملصقة بالغراء، فيجعل المسطرة تحت الورقة ويضغط على كل خيط بخفه، فتؤثر في الورق المراد الكتابة عليه، وقد جمع هذه الكتب كلها الموجودة في المساجد علي باشا مبارك وجعلها في بناء في درب الجماميز حِفظًا لها من الضياع، ثم بنى لها مكانًا خاصًّا في باب الخلق.

    وبدأت مكتبة باب الخلق هذه تنشئ مكتبات صغيرة في أحياء مختلفة في القاهرة والإسكندرية، وهناك مكتبات لا بأس بها في الأرياف، كمكتبة دمياط وسوهاج وأسيوط، وهناك مكتبة لا بأس بها أيضًا في الإسكندرية. وهذه المكتبات صورة من عقلية المصريين، ففيها الكتب القيمة النافعة، وفيها كتب التدجيل، وكتب الكيمياء واليازرجة، ونحو ذلك. والمصريون يطلبونها أكثر من الكتب الجديدة وقد يستعيرونها، وبعض الأفراد مولع باقتناء الكتب، فهم ينشئون في بيوتهم مكاتب خاصة، كتيمور باشا وطلعت باشا، ولكن مع الأسف قلَّ الراغبون فيها اليوم.

  • ملَّا: كلمة تستعمل للتعظيم، يقال: ملا راجل، وملا كتاب؛ أي رجل عظيم، وكتاب عظيم، إلا إذا قصد بذلك الاستهزاء.
  • الملاهي: أولع المصريون بالملاهي كغيرهم من الأمم، وكانت لهم في القديم أنواع من الملاهي البدائية مثل: القراجوز، أو خيال الظل، وابن رابية، والرقص، ولعب البرجاس ونحو ذلك. ثم لما تقدم الزمن غيرت هذه الألعاب بسبب الاقتباس من المدنية الغربية، فحلت السينما والتمثيل محل القراجوز، وحل الرقص الإفرنجي محل الرقص البلدي، وأصبح عندنا ملاهٍ متنوعة على شكل مصغر من الملاهي الأوروبية.
  • الملاية: كانت المرأة خصوصًا من الطبقات الوسطى والدنيا تلبس الملاية، وقد تتخذها وسيلة من وسائل العياقة؛ إذ تشدها على جسمها حتى تظهر تقاطيعه.

    وقلَّ الآن استعمالها بسبب السفور، وفرش الملاية يستعملونه كناية عن الردح وكثرة السِّباب فيقولون: فرشت له الملاية.

  • ملَّة: يقولون ملة كل يوم! وملة كانت عشوة! أي يا له من يوم! ويا لها من عشوة! ويستعملون الملة بمعنى مذهب أو دين، ففي سبابهم أيضًا سب الملة؛ أي الدين.
  • الملح: هو المادة المعروفة، والذي يهمنا منه أنه يستعمل في البخور كثيرًا، كما يستعمل في دفع أثر العين، فيرشونه على من تُراد وقايته من العين؛ ويقولون في ذلك: ملحة في عين اللي ما يصلي على النبي. ومن قديم يستعمل في توثيق الروابط بين شخصين أو جماعة، فيقال: أكل معه عيش وملح، ويخونه العيش والملح. ومن استعمالهم أيضًا قولهم مثلًا: «فص ملح وداب» يقولون لمن تغيب فجأة ولم يعرف مقره!
  • المَلق: يكثر فيهم الملق، خصوصًا ملق المرءوس للرؤساء، وملق الفقراء للأغنياء؛ يدل على ذلك أمثالهم المشهورة، مثل: «إذا دخلت بلد يعبد العجل حش واديله»، وكقولهم: «عاز الغني شقفة، كسر الفقير زيره!» وأمثال ذلك كثيرة، وهم معذورون في ذلك؛ لأن ما مر عليهم في عهود طويلة من الظلم والاستبداد — خصوصًا في عهد الأتراك — علَّمهم الملق والإفراط في المديح غير المصقول؛ ولذلك قلما تجد مرءوسًا يقول الحق لرئيسه، أو يتوقف عن تنفيذ أمر وُجِّهَ إليه مهما اعتقد أنه خطأ. وهو أشكال وألوان، يظهر ذلك في خطاباتهم وجميع تصرفاتهم.

    ففي الخطابات من ألفاظ الملق وأساليبه ما ليس له حصر، ومن أعمالهم في مخاطبة الرؤساء وإظهار علامات التعظيم الذي قد يصل إلى تقبيل الأرجُل ما ترى منه الكثير.

  • الملوخية: من طعام مصر المألوف، فملوخية أهل الحضر يأخذونها ويخرطونها بالمخرطة خرطًا جيدًا، ويطبخونها باللحم الضاني أو الفراخ أو الوز، يستبشرون بالملوخية في أول طلوعها؛ لأنها خضراء، وهم يستبشرون عادة باللون الأخضر، ويقولون دائمًا اللهم اجعلها علينا سنة خضراء، ومن ذلك أنهم إذا أرادوا أن يسكنوا بيتًا جعلوا معهم سلقًا أخضر.

    وهناك نوع آخر من الطبخ ويسمونه ملوخية بوراني، نسبة إلى بوران بنت الحسن زوج المأمون، وطريقتها أن يخرطوا الملوخية ثم يحمروها بالسمن حتى تجف ثم يدقوها فتكون لذيذة جدًّا.

    ومن غرائب ما يروون في أمر الملوخية هذه أنها تكون على يد النساء ألذ مما يطبخها الطباخون، وينسبون ذلك إلى العادة المتبعة وهي أن المرأة بعد أن تطبخ الملوخية تضع لها التقلية، وهي ثوم محمَّر بالسمن، فإذا أرادت أن تضعه عليها فلا بد من أن تشهق، وربما كانت هذه الشهقة هي السر في لذتها.

    وكان لنا أستاذ يعلمنا الرياضة أُغْرِمَ بالملوخية حتى كان يطبخها كل يوم، فإذا حضر من عمله سأل زوجته: طبختم اليوم ملوخية وأي شيء آخر؟ كأن الملوخية شيء لا بد منه ومن أغانيهم:

    أبو قردان
    زرع فدان
    ملوخية
    وباذنجان

    وهو قول سمعته ولم أفهم معناه.

  • المماليك: حُكِمَت مصر بالمماليك مدة طويلة، وحكمهم هو جزء من حكم الأتراك وقبله، فلما فتحها السلطان سليم سنة ١٥١٧ أيقن أنه لا يمكنه حكمها مباشرة لبُعدها، فتركها للمماليك. وعهد إلى ديوانٍ أعضاؤه من كبار المماليك ومن رؤساء فرقهم وطوائفهم وزعمائهم أن يديروا البلد، وكان لهم الحق في فرض الضرائب وجبايتها، يأخذون منها الحصة ويرسلون منها الباقي إلى خزانة الدولة العثمانية، وقد أعادوا الترف والنعيم، فأخلدوا للراحة وإن لم يفقدوا صولتهم. وغَلَوا في سلطانهم حتى كان سلطة السلطان في الآستانة سلطة اسمية، بل في سنة ١٧٦٦ رفع علي بك — أحد بكوات المماليك — لواء العصيان على الدولة وضرب النقود باسمه، ودحر الجيش العثماني، وبايعه شريف مكة سلطانًا على مصر. وكثيرًا ما نقصوا ما يرسلونه إلى الدولة العثمانية معتذرين باعتذارات كثيرة، كإنفاقها في مصالح الدولة، فما كان يسع السلطان إلا قبول عذرهم.

    وقد أورثوا الشعب صفات كثيرة، بعضها حسن وبعضها رديء، فقلدهم الأغنياء في الترف والنعيم وحب الفخفخة واعتيادهم بعض العادات التركية حسنها ورديئها، كتقليدهم في النظافة والنظام، وأحيانًا كانوا يقلدونه في الغطرسة والاستبداد إذا ولوا أمرًا من الأمور، ونظر الأغنياء إلى الفقراء نظرة احتقار وازدراء. ومن أسوأ ما ورثوا عنهم الإسلام السطحي والإيمان بالخرافات والأوهام؛ فالتركي عادة يرتكب المظالم ويعتقد أنه يُكَفِّرُهَا ببناء مسجد أو سبيل أو إقامة صلاة ونحو ذلك، فيحترم القرآن إذا قرئ فلا يضع رجلًا على رجل في مجلسه ولا يدخن، ولكن لا يدخل جوهر الإيمان في قلبه. وربما كان للمماليك أثر كبير في أن المصريين يعبدون الله عبادة ظاهرية، فلا يصل فيها الإيمان إلى قلوب أكثرهم. وكثير من عادات المماليك دخلت على المصريين في أكلهم وشربهم واختلاف طبقاتهم، بل أثروا كذلك في موسيقاهم وألاعيبهم وأمثالهم، وربما أيضًا في جمال المصريين، فقد كان بعض المماليك يتزوجون من مصريات، وبعض المصريين يتزوجون من مماليك، والمماليك في الحقيقة أجمل؛ ولذلك إذا وصفوا أحدًا بالجمال يقولون إنه جميل كالمملوك. واستقصاء هذا الباب — أعني ما أثر المماليك في المصريين — يحتاج إلى بحث طويل لا محل له الآن، وقد ذكرنا في ثنايا الكتاب أمثالًا تدل على ما لقيه المصريون من المماليك.

  • من دقنه وافتل له حبل: تعبير يقال بمعنى أنك تعمل له حبلًا من صميم عمله، وأحيانًا يقولون: من دقنه وافتل له كعك.
  • من شاف بلوة غيره هانت عليه بلوته: تعبير يعني من رأى مصائب غيره، هانت عليه مصيبته.
  • من طقطق لسلام عليكم: طقطق حكاية صوت الباب عند الدخول، وسلام عليكم علامة الانتهاء من الزيارة: تعبير يضربونه في أن الرجل حكى الحكاية كلها ولم يترك منها شيئًا.
  • المندل: شاهدت مرة مندلًا لإظهار سارق شيء، فأتى صاحب المندل بطفل في نحو السابعة أو الثامنة واختاره بواسطة رسم كفه، فهم يعتقدون أنهم إذا كان رسم كفهم يقرأ ٧١ أو ١٧، كان الأطفال أقرب إلى نجاح المندل. وبعد أن أحضر صاحب المندل الطفل صب في يده اليمنى نقطًا من زيت مع إطلاق البخور، ثم سأل الطفل هل ترى مكانًا مرشوشًا وكراسي مصفوفة؟ ولا يزال بالطفل حتى يقول رأيت. ويسأله عن صفة هذا الرجل وما يلبسه فيقول أرى رجلًا أو امرأة صفته كذا، ثم يطبقون هذه الأوصاف على شخص يعرفونه فيكون هو اللص، وهو نوع من الإيحاء.

    وروى الأستاذ لين الإنجليزي الذي كان في القاهرة منذ حوالي مائة عام أن ساحرًا أحضر غلامًا وأجلسه على كرسي وأمر خادمه الإنجليزي أن يحضر مجمرة فلما أحضرها وضع فيها لبانًا وكسبرة ثم أمسك يد الصبي اليمنى ورسم على راحته مربعًا سحريًّا، ثم صب في وسطه قليلًا من الحبر وطلب من الصبي أن ينظر فيه ويخبره إذا كان يمكنه رؤية وجهه معكوسًا فيه، فأجاب الصبي أن نعم، فأمر الساحر الصبي بأن يظل يحدق النظر وأن لا يرفع رأسه، وأخذ الساحر ورقًا مكتوبا عليه أدعية وألقاها في المجمرة على الحبر والبخور حتى امتلأت الغرفة بالدخان وأخذ الساحر يدمدم دمدمة لم تفهم ثم سأله: هل يري شيئًا في الحبر؟ فأجابه بالنفي، ولكنه لم يلبث أن ارتعش وخاف وقال: أري رجلًا يكنس الأرض، قال الساحر: أخبرني بعد أن ينتهي من الكنس، ثم سأل الساحر الصبي: على تعرف البيرق؟ فقال: نعم. فسأله هل أحضر الجن بيرقًا؟ قال: نعم. قال الساحر: على أي لون هو؟ قال: أحمر. فقال له: اطلب بيرقًا آخر. فقال: إنهم أحضروا بيرقًا آخر. قال: اطلب بيارق. قال الصبي: إنهم أحضروا بيارق أخرى، أبيض وأخضر وأسود وأحمر وأزرق، حتى صارت سبعة. ثم وضع الساحر في المجمرة لبانًا وكسبرة مرة أخرى، وقال للصبي: قل لهم أن يحضروا خيمة السلطان، فأخبره الصبي أنهم أحضروها، وهي خيمة كبيرة خضراء وقد نصبوها. فقال الساحر للصبي: مر الجنود بالحضور ونصب معسكرهم حول الخيمة. فقال الصبي: قد حضروا واصطفوا. فقال الساحر للصبي: مرهم أن يحضروا ثورًا. فقال الصبي: قد أحضروه. فقال له: مرهم بذبحه وتقطيعه ووضع لحمه في أوعية وطهيه. ثم قال: قل للجنود يأكلون …

    قال الأستاذ لين: إن الساحر سألني إذا كنت أرغب في أن يرى الصبي شخصًا غائبًا أو متوفى، فذكرت اللورد نيلسون، ولم يكن الطفل قد سمع به؛ لأنه قد نطق اسمه بصعوبة كبيرة فقال الرجل للصبي: أحضر هذا الرجل، فقال الصبي: أرى رجلًا يلبس ملابس أوروبية زرقاء وهو قد فقد ذراعه اليسرى، وكان لورد نيلسون من عادته أن يعلق كفه الخالي إلى صدره، وكان قد فقد ذراعه اليمنى لا اليسرى فسألت الساحر فقال: إن الصورة تنعكس في المرآة فاليمنى تظهر يسرى وبالعكس. وقد استغرب لين من ذلك، ولم يكن مخرفًا، وكان يستدعي الصبي والساحر كلما أراد أن يظهر الإنجليز على عجيبة.

  • المنسج: المنسج إطار كان يقضي النساء فيه أكثر أوقات فراغهن في المنزل، فهن يشتغلن عليه بالإبرة أو يطرزن مناديل أو طرحًا بالحرير المذهب. والفقيرات وحتى الأوساط كن يتاجرن في هذه العملية فيعطين عملهن لدلالة تبيعه في السوق أو في حريم آخر. وكثيرًا ما تجتمع بعض الشابات على المنسج يقضين أوقاتهن للتسلية ويتحدثن أثناء ذلك حديثًا ظريفًا.
  • المنظرة: ينطقونها عادة بالضاد، وهي في أغلب بيوت الأوساط والأغنياء، وقد كانت هذه المناظر موضع المسامرات في الليل وتلاقي الرجال فكان بكل حارة بيوت، ولكل بيت منظرة يُستقبل فيها الزائرون، وبعض البيوت له مناظر بهيجة تجذب إليه الناس للطف صاحبها وكثرة أصحابه، فأحيانًا تقضي لياليها في السِّيَر، وأحيانًا في قراءة القرآن، وأحيانًا في سماع الموسيقى والغناء، بل وأحيانًا يتواعدون على أن يحضر كل واحد ما عنده من العشاء في بيته ويتعشوا جميعًا من كل ما يحضر، وكم كانت هذه المناظر معهدًا لتخريج سُمَّارٍ وآلاتية ومغنين وغير ذلك.

    وقد اشتهرت منظرة العمدة بأنها محكمة للمتخاصمين وحالَّة المشاكل التي تعرض لهم أثناء النهار، وسمر لذيذ في الليل وغير ذلك.

  • منفوخ ع الفاضي: تعبير يعني متكبر على لا شيء.
  • الموالد: الموالد عند المصريين ذكرى ميلاد الولي، وأشهرها مولد النبي ، وقد كان يقام له حفلات عظيمة، فيجتمع رجال الطرق الصوفية، وكان الاجتماع في باب الخلق، وكل طائفة بأشايرها. وعند تكاملها تسير في موكب كبير، كل موكب ينشد نشيده الخاص على نغماته الخاصة مع دق الدفوف وقرع ما يسمى البازة، وهي آلة نحاسية، حتى يصلوا أخيرًا إلى مشيخة الصوفية في بيت البكري، فتقرأ الفاتحة والصلوات، ويُعلن السيد البكري افتتاح المولد. وفي مساء ذلك اليوم يدعى الأمراء والعلماء في ساحة المولد، ويأتي طوائف الصوفية وأمام كل طائفة فانوس أو أكثر كبير غُطِّيَ بالقماش الأبيض بدل الزجاج. وبعد الصلوات تقام مجالس الذكر، وتعتري بعض الذاكرين جذبات وإغماءات، فيرش على وجوههم الماء، ويتصاعد من أفواههم رغاء كرغاء الإبل. وبعض أهل هذه الطرق يدخلون النار في أفواههم أو الجمرات فلا تضرهم، وربما يكون ذلك بسبب دهن حلوقهم بمادة خاصة تعدم أثر النيران. ومنهم من كان يقذف قطعة من الحديد على الحائط ثم يتلقاها على رأسه فيسيل دمه دون مبالاة.

    وبعد ذلك تنصب الصواوين، في كل صيوان من يقرأ القرآن أو يقرأ السيرة النبوية أو يقيم حفلة ذكر.

    ومن أشهر ذلك حفلة «الدوسة» ففي يوم (١١) ربيع الأول يجتمع أرباب الطرق بميدان باب الخلق على نظام خاص، ويسير الموكب بأهم شوارع المدينة، ومنهم كثيرون من المشعوذين، بعضهم يأكل الزجاج، وبعضهم يأكل الثعابين، وبعضهم يضرب شدقه بدبوس ذي رأس غليظ في عنف وقسوة، ومنهم من كان يضع حد السيف في بطنه ثم ينام فوقه، ويأتي الشيخ فيبل يده بريقه ثم يمسح على بطن المريد حتى لا يتأذى من حد السيف. وعندما تصل هذه المواكب إلى ساحة المولد ينبطح الكثيرون على وجوههم في صف كبير فيمر فوقهم شيخ السادة السعدية بحصانه يقوده اثنان من أتباعه، ويعتقدون أنهم سينالون من ذلك بركة كبيرة.

    وكان الناس يروِّحون عليهم بمراوح إذا تحرك الموكب من شدة الحر. ومن الغريب أن لا تحدث من ذلك أضرار كثيرة كالذي كان ينتظر.

    وبعد صلاة العشاء يشرِّف الصوانَ الخديو والكبراء فيسمعون المولد، ثم توزع الحلوى وشراب الليمون ويزدحم الناس في هذه الليلة ازدحامًا كبيرًا، ويهيص بعض الشبان في هذا الازدحام، وكثيرًا ما تحدث أفاعيل ومراسلات بين راكبات العربات وراكيبها؛ ممَّا يجعل الليلة فتنة، وقد أبطل الخديو توفيق عادة «الدوسة» هذه لما ينشأ عنها من أضرار.

  • موت يا حمار على ما يجيلك العليق: تعبير يعني انتظر طويلًا، حتى يحدث ما تأمل، ولن يحدث ومثله حتى يجيء الترياق من العراق.
  • الموسيقى والغناء: للموسيقى والغناء عند المصريين مقام كبير وشغف عظيم، يظهر ذلك في كثير من عاداتهم، فترى الباعة فيهم يغنون على بضائعهم، حتى حب العزيز تقام له زفة كزفة العروس، والدين دخل فيه الغناء؛ فالأذان يقال في غناء، والذكر يغنى له، والقرآن يغنى به، وكثيرًا ما كان يمر بحارتنا رجل يغني بقصائد نبوية وهكذا، ولكل نوع من أنواع الحياة الاجتماعية غناء خاص، فغناء في الأفراح، وغناء المعددات في المآتم، وغناء المسحراتية في رمضان، وغناء لليالي المولد، وهكذا …

    لكنهم كانوا مع ذلك ينظرون إلى المغني نظرة فيها شيء من الاحتقار، إلا في الأيام الأخيرة، وكانوا يسمون الموسيقي مزيكاتي والمغني آلاتي.

    ومن المؤكد أن الموسيقى المصرية مأخوذة من عدة نواح من موسيقى قدماء المصريين، كالذي يظهر في موسيقى الكنائس ومن الفرس ومن الترك، وهي تختلف في المقام عن الموسيقى الإفرنجية، والموسيقى المصرية تناسب ذوق المصريين وآذانهم، ولا يستسيغون الموسيقى الأجنبية، ومع أنها قد تكون أرقى، كما أنه لا يستسيغ الفرنج الموسيقى العربية.

    والغناء موضوعه الحب غالبًا والمصريون أميل إلى النغمات الحزينة لما تواتر عليهم من ظلم الحكام واستبدادهم، وهم لا يسمعون الغناء في صمت وسكون كما يفعل الأوروبيون ولكنهم يهيصون ويهللون، ويعتقدون أن في ذلك تشجيعًا للمغني والمغنية؛ من مثل قولهم: الله الله! كمان يا عيني! ونحو ذلك.

    وإذا أتم قارئ القرآن، قراءته بالغناء قالوا له: أحسنت، ومنهم من اعتاد أن يغني غناء خاصًّا للتعاون على الصنعة كالفعلة، وأرباب المهن الصغيرة؛ كأن الغناء يسليهم عن متاعبهم، كالحداء للجمل وكالمراكبية؛ ولهم أغان خاصة بهم، وكبائعي حب العزيز، وكالسقايين، وقد يتوارثون الأغاني من عصر إلى عصر، مثل أغنية «الحنا يا حنا يا قطر الندى» فيظن بعضهم أنها ميراث من العهد الطولوني، أيام زفت قطر الندى بنت خماروية إلى الخليفة العباسي. والمغنون من طبقات شتى، ويختلف منبع غنائهم، فبعضهم من طبقة راقية مثقفة، وبعضهم من طبقة شعبية مثال الأولى ما حكي من أن مفتيًا للديار المصرية وضع أغنية «الله يديم دولة حسنك» ومثال للثاني «سبع سواقي بتنعي لم طفولي نار.»

    وأكثر المغنين والمغنيات يظهرون «شيطاني» من غير تعليم ولا مدرسة، إنما منحو حسن الصوت الطبيعي فاتجهوا بعد ذلك إلى التعلم، وهي هبة يهبها الله من يشاء، لا نستطيع أن نعللها، فقد كانت من مشاهير المغنيات السيدة ساكنة، وكانت تشتغل فاعلة تحمل المونة في القوالب، تغني للفعلة، ثم اكتشف حسن صوتها بالمصادفة، وفي حفلات الغناء يكون عادة رجل مخصوص يسمى «مطيباتي»، من وظيفته تطييب خاطر المغني أو المغنية بإظهار علامات الإعجاب؛ وقد يحترف المطيباتي حرفة بيع اللب، وقد يكون سافلًا فيكون صلة الغرام بين الرجل والمغنيات، أما الآلات الموسيقية فهي كثيرة بسيطة ومركبة، فالبسيطة كالمزمار والطبل البلدي والرق والنقرزان، والكاسات والصاجات والمركبة كالناي والعود والقانون، ومن آلاتهم الجديرة بالذكر الربابة، وهي عبارة عن كمنجة ينقصها التجويف، ويستخرجون منها نغمات شجية.

    والمغنيات في مصر تسمين «العوالم» وهي تسمية غريبة، ولهن أغان خاصة، وخصوصًا عند زفة العروس وزفة العريس، وقد يأخذن أجرًا صغيرًا في مقابل النقطة الكثيرة التي مر ذكرها في موضعها، وقد أدخلت الموسيقى الغربية في الجيش المصري مع الموسيقى العربية، ولذلك يلقى الجيش في الحفلات والميادين أدوارًا من الموسيقى الشرقية وأدوارًا من الموسيقى الغربية، ثم ارتفع حديثًا شأن المغنين والمغنيات حتى لم يعد يستنكر أن يجلس العظيم في مجلس مغن كبير أو مغنية كبيرة، وقدروا الغناء كفن جميل.

  • الموظفون: ويسمون أيضًا المستخدمين، وكان يسمي العوام الواحد منهم «ابن عيشة»، أو أنه خضع للوظيفة التي عليها قوام معاشه، ويكثرون من ذكر هذه الكلمة للاعتذار عن خضوعه للرئيس، وأنه مضطر لتحمل مشاق الوظيفة، للحصول على العيش الذي هو الخبز.

    وللموظفين عادات رديئة، منها التزامه الخطط المرسومة حتى كأنهم آلة صماء، ومنها انتظار الموظف آخر الشهر لقبض المرتب، فلا يسعى في جلب رزق آخر، ومن سوء هذه العادات الأخيرة أن الموظف إذا رفت من وظيفته أو أحيل إلى المعاش لا يجد نفسه صالحًا لأي عمل حر آخر.

    وقد قال البوصيري صاحب البردة قصيدة لطيفة في المستخدمين، وتكاد تكون حالتهم كحالة الموظفين اليوم وهي:

    يا أيها المولى الوزير الذي
    أيامه طائعة أمرهْ
    ومن له منزلة في العلا
    تكل عن أوصافها الفكرهْ
    إليك نشكو حالنا إننا
    حشاك من قوم أولي عسرهْ
    في قلة نحن ولكن لنا
    عائلة في غاية الكثرهْ
    قد أقبل العيد ما عندهم
    قمح ولا خبز ولا فطرهْ١
    فارحمهمو إن عاينوا كعكة
    في كف طفل أو رأوا تمرهْ
    تشخص أبصارهم نحوها
    بشهقة تتبعها زفرهْ
    كم قائل يا أبتا منهم
    قطعت عنا الخير في كرهْ
    ما صرت تأتينا بفلس ولا
    بدرهم ورق ولا نقرهْ
    وأنت في خدمة قوم فهل
    تخدمهم يا أبتي سُخرهْ
    ويوم زارت أمهم أختها
    والأخت في الغيرة كالضرهْ
    قالت لها كيف تكون الناس
    كذا مع الأزواج يا عرَّهْ
    قومي اطلبي حقك منه بلا
    تخلف منك ولا فترهْ
    وإن تأبى فخذي ذقنه
    ثم انتفيها شعرة شعرهْ
    فقالت لها ما هكذا عادتي
    فإن زوجي عنده ضجرهْ
    أخاف إن كلمته كلمة
    طلقني وقالت لها بعرهْ
    وهوّنت قدري في نفسها
    لجاءت الزوجة مُجْترهْ
    فقاتلتني فتهددتها
    فاستقبلت رأسي بآجُرَّهْ
    وحق من حالته هذه
    أن ينظر المولى له أمرهْ

    فهم من عهد البوصيري وقبله طلاب علاوات.

  • مولد السَّيِّد: يقام في طنطا كل عام مولد كبير، تجتمع فيه حلقات الذكر، وأهل الدعارة والخلاعة، والطبل والزمر، وتجار المأكولات، وعلى الأخص الحمص والحلاوة وحب العزيز، وقد اشتهرت حلاوة السيد اشتهارًا كبيرًا، حتى يسمع المار في طنطا أو عليها «حلاوة السيد، حلاوة السيد!»، وأصل مولد السيد أن أتباعه كانوا كثيرين متفرقين في البلاد، فاستدعى مرة خليفته عبد العال أتباعه، وأوثق الروابط بينهم، وقالوا له هذه العادة لا تنقطع إن شاء الله وفي الميعاد حضروا وظلوا يحضرون، واستمرت العادة إلى يومنا، وحدث أن أحد المشايخ المنتمين إلى السيد حضر هو وتلاميذه وجماعته وأقام الأذكار، وتعاهدوا على العودة في الميعاد، فكان من ذلك المولد الصغير؛ وأما الأول فالمولد الكبير، وكان من أحد أتباعه شيخ يقال له الشيخ الرجبي، حضر هو وأتباعه ومعهم مقدار كبير من الشاش المصبوغ بالأخضر، لتجديد عمامة السيد وفكوا العمامة القديمة ووضعوا عمامة خضراء جديدة، فسمي المولد: المولد الرجبي، وكانت مدينة طنطا مدينة صغيرة فنصبوا المولد خارجها حيث يقام الآن؛ وقد جددوا ميعاد المولد بعادات البلاد الزراعية من النيل وانغمار الأرض للريّ وكثرة المال في جيوبهم بعد الزرع ونحو ذلك؛ ولذلك يحدد المولد بالتاريخ القبطي؛ لأنه أثبت، والحكومة تحدد الموعد رعاية لذلك، وهو في العادة يكون في أوائل شهر مسرى، والمولد الصغير في أوائل شهر برمودة، والمولد الرجبي قبل المولد الصغير بنحو مائة يوم، ويرحل إليه الناس من كل فج.

    وهذا المولد وغيره من الموالد كان مستعملًا نظيره عند قدماء المصريين حسب ديانتهم، ذكر ذلك هيرودوت المؤرخ، فكانوا يقيمون مولدًا في تل بسطة في مديرية الشرقية، وصال حجر في الغربية، وهليوبوليس، وهي المسماة الآن عين شمس، وكانت هذه الأعياد مرتبطة بأوقات الزراعة، وهي في العادة ترمز إلى أشياء هامة؛ وسار على ذلك قدماء المصريين فاحتفلوا بأول السنة القبطية، وهو المسمى بعيد النيروز، فيشعلون فيه النيران، ويرش بعضهم على بعض الماء؛ وكان في العهد الفاطمي يركب فيه أمير يسمى أمير النيروز ومعه جمع كثير، واستمر على ذلك حتى أبطله السلطان برقوق، وكان للأقباط في شهر توت عيد الصليب، وهو في السابع عشر منه، يقولون: إن المسيخ صلب فيه.

    وقد منع من إقامته الخليفة الفاطمي العزيز بالله، وكان قدماء المصريين أيضًا يعملون في سادس «بابة» عيدًا يزعمون أن إيزيس حملت فيه بولدها، يشيرون بذلك إلى وضع بذور الزرع في الأرض بعد نزول ماء النيل.

    وفي الثامن والعشرين من «بابة» عيد يسمونه عيد الشمس كانوا يرمزون إلى أن إيزيس تبحث عن جثة أوذوريس … وكانوا في بعض الاحتفالات يظهرون الحزن والكدر لنقص النيل وغلبة الريح الجنوبية إلخ إلخ …

    وكان عيد الميلاد، وليلة الغطاس وغير ذلك، فيظهر أن الأقباط أخذوها من قدماء المصريين، وأخذها المسلمون من الأقباط وصبغوها بالصبغة الإسلامية، كمولد النبي، ومولد السيد، ومولد الحسين، والسيدة زينب إلخ …

    والحكام تشجع هذه الموالد لترويجها للحركة التجارية ومسايرتها للعواطف الشعبية.

  • المولويَّة: حضرت مرة ذكرًا للمولوية في تكية بالقاهرة في شارع المظفر، وكانت تكية نظيفة ذات حديقة نظيفة، واجتمع المولوية بعد صلاة الجمعة واستداروا على شكل حلقة كبيرة، وقد لبسوا لبدة طويلة على رءوسهم، وتحزموا في أوساطهم على سراويل واسعة، وهم يتقنون الضرب على الناي، ويستخرجون منه أصواتًا جميلة؛ وقد بدءوا بذكر الله، ويحنون في كل مرة رءوسهم، وبدأ درويش منهم يدور على حركات الناي وسط الحلقة ويتحرك برجليه ويداه ممدوتان، ثم أسرع في حركات رجليه فانتشرت سراويله على شكل شمسية وظل يدور نحو عشر دقائق ثم انحنى أمام شيخه الجاس داخل الحلقة منسحبًا إلى الدراويش الذين يذكرون، ثم تحلقوا ووضع كل رجل يديه على كتفي الآخر وأخذوا في الذكر بسرعة شديدة، ثم استراحوا، وبعد ربع ساعة قاموا للذكر ثانية، واستمروا على هذه الحال نحو ساعة أو ساعة ونصف، فكان منظرًا عجيبًا يمتع السمع بنايه، والنظر بسراويله المفرودة، والحركات العجيبة.
  • الميري: أصلها أميري، مثل ميرالاي؛ أي أميرالاي، ومرجوشي؛ أي أمير الجيوش، والميري هو الحكومة، والرغبة في التوظف في الحكومة رغبة شديدة، حتى من أمثالهم الشائعة «إن فاتك الميري تمرغ في ترابه»، ولعل السبب في ذلك أن الوظيفة الحكومية هينة مضمونة الأجر، ومن أسباب ذلك أيضًا عدم مغامرة المصريين في المشاريع التجارية ورغبتهم في وضع أموالهم في البنوك أو شراء الأطيان والعقارات؛ ولذلك كان أكثر الشركات المؤسسة للأعمال الحرة أجنبية، وهذه الشركات لم تكن ترغب في تخديم المصريين؛ ومن الأسباب أيضًا إجلال المصريين للموظف الحكومي وتفضيلهم له على الموظف الحر، أضف إلى ذلك أن أصحاب الأعمال الحرة يتطلبون عملًا يوازي الأجر الذي يتقاضاه، وليس كذلك في الحكومة.

    ومع أنه قد كثرت الأعمال الحرة في هذه الأيام ونال أصحابها من الأرباح ما لا يحلم به موظفو الحكومة، فلا يزال الإقبال على الوظيفة أكثر، فإذا أعلنت الحكومة عن عمل خال عندها تقدم لها مئات يطلبون هذا العمل.

    وإذ كانت الحكومة تربط الماهية بالشهادة دون نوع العمل، فقد كثر الإقبال على التعليم الجامعي كثرة منقطعة النظير لا تجد مثلها في الأمم الأخرى.

  • ميزانية البيت: عثرت على ميزانية بيت لعام، وضعت لبيت متوسط الحال، ومن نحو مائة عام، فكانت كالآتي:
    قرش
    ٤٠٠ قمح في السنة
    ٥٠ طحن القمح
    ٤٠ خبزه
    ٥٥٠ لحم كل يوم رطل ونصف
    ١٨٥ خضراوات نصف قرش في اليوم
    ١٠٠ رز
    ٣٣٥ قنطار سمن في العام
    ١٨٥ بن
    ٢٠ تنباك جبلي لصاحب البيت
    ١٠٠ قنطار سكر
    ١٠٠ ماء
    ٧٥ خشب للوقود سبعة أحمال
    ١٠٠ فحم حطب
    ١٢٥ زيت لقنديلين أو ثلاثة
    ١٠٠ شمع
    ٥٠ صابون
    ٢٥٫١٥ المجموع

    هذا عدا الملبس والطوارئ.

    وهو يدل دلالة واضحة على تغير المعيشة وتغير الأسعار، وإذا قورنت هذه الميزانية بميزانية بيت متوسط اليوم وجدناها مثلًا كالآتي:

    جنيه
    ١٨٠ أجرة مسكن في السنة بواقع ١٥ جنيهًا في الشهر.
    ٢١٦ لحم وخضار وما يتبعهما على الأقل.
    ٣٦ مسلي
    ١٨ ماء في السنة
    ١٠ كهرباء
    ٩٦ كسوة للزوج وزوجته وللأولاد على الأقل
    ٣٦ دخان
    ٥٠ خدم
    ٥٠ مصاريف نثرية للطوارئ كدواء وطبيب
    ٣ بن بواقع رطل ﺑ ٣٠ قرش كل شهر
    ٢٤ مواصلات
    ٢٤ السينما والتمثيل بواقع ٢٠٠ قرش كل شهر
    ٢٤ لبن بواقع كيلو في اليوم بسعر ٧ قروش
    ١٨ خبز بواقع ١٠ أرغفة ﺑ ٥ قروش كل يوم
    ٧٨٥ المجموع

    وهذه تقريبًا ميزانية الموظف المتوسط الحال؛ أي إن نسبة الجنيه الآن إلى نسبة الجنيه فيما مضى تساوي ١ إلى ٣٠ وهي نسبة غير معقولة.

  • الميضة: كان في كل مسجد تقريبًا ميضة، وهي حوض من الماء مربع تقريبًا، أو شبه مربع، يُملأ بالماء من حين لآخر، ويُتوضأ منه، وكان بجانبه في الغالب بئر تملأ الميضة منه، والذي يتولى هذا يسمى الملَّاء.

    وكثيرًا ما نشأ عنها الضرر الكبير؛ لأن بعض المتوضئين يكون مصابًا بمرض معدٍ في عينه أو جسمه، فينتقل منه المرض إلى الصحيح الذي يتوضأ بعده، ولأجل هذا دعا المصلِحون للاستغناء عنها بالحنفيات، ولكن مع الأسف كان مما أُخِذَ على الشيخ محمد عبده أنه أبطل ميضة الأزهر، واستعاض عنها بالحنفيات، فقالوا: إنه أذهب البركة. وما زالت الحنفيات تهاجم الميضة حتى هزمتها؛ لأن الحنفيات أصح وأنظف.

    وقد حدثت لي حادثة سيئة في الميضة، ذلك أني أردت أن أتوضأ فتزحلقت رجلي وانكفأتُ في الميضة، ولم يكن أحد يتوضأ معي، وكدت أغرق لولا أن سمعنى أبي، فالتفت ليرى ماذا حدث فرآني فأنقذني. وكم للميضة من ضحايا! ومما يزيد الميضة ضررًا الملَّاية لها من بئر قريبة القاع من مراحيض المسجد، يتسرب منها بعض الميكروبات إلى البئر، ومنها إلى الميضة، فيزيد بذلك الضرر؛ ولذلك تتصاعد روائح كريهة من المراحيض على المصلين، وعلى أولاد الكُتَّاب الذين يكونون عادة بجوار هذه المراحيض.

  • الميعة: هي مزيج من عقاقير مختلفة، تجهز وتباع في الأيام العشرة الأولى من المحرم، ينادون عليها: يا بركة عاشوراء المباركة! يا شهر يا مبارك! يا ميعة مباركة! والمنادي يحمل على رأسه طبلية عليها عقاقير مختلفة، تتوسطها مادة قاتمة حمراء، تحيط بها أكوام من الملح الملون بالأزرق والكركم الأصفر؛ فإذا دعي المنادي للرقيا، قال تعويذة معروفة: بخرت اللحاف من وجع الأكتاف، بخرت كذا، من كذا … إلخ.
١  الفطرة في لسان المصريين: النقل، من خروب وبلح وبندق ولوز وجوز ويستخدمونها في رمضان والعيدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤