موت وحياة

مرت شهور والوليد بن يزيد لا يزال يزور قصر سلمى في كل أسبوع لبيع الثياب، حتى بليت الثياب، وملّ الحمار، ومرت شهور وهشام مازال يتحرق غيظًا على الوليد، وعلى أنصاره الذين تحدوه، واختطفوا ابنه مسلمة، وجعلوا رده ثمنًا لفك من اعتقلهم من أصحاب الوليد، ومرّت شهور ويزيد بن عنبسة لا يزال يلح على سعيد بن خالد في أن يزوجه سلمى، وهو يرجئه ويراوغه، ويرده خائبًا محسورًا، وفي ذات يوم أعلمته «صدوف» إحدى جواري الوليد — وكانت جاسوسة له عليه — أن الوليد يزور سلمى في كل أسبوع في هيئة بائع ثياب، فيتبادلان الحب والصبابة، فزاد حقده على الوليد، واخذ يدبّر له الغوائل.

وساقته قدماه يومًا إلى دار الخلافة، فلما بلغ قاعة الحكم رأى «يعقوب» حاجب هشام لدى الباب فسأله عن الخليفة، فقال: إنه بالقاعة مع كثير من رجال بني أمية، وهم يتحدثون في أمر ذي بال، وقد حجب الباب، وأرسل رسولًا إلى دارك.

– نبئه بقدومي يا يعقوب، فإني أود أن أحدثه أيضًا بأمر ذي بال، ودخل يعقوب وعاد سريعًا بالإذن، فلما مثل ابن عنبسة أمام هشام رآه مطرقًا، وقد اربد وجهه، وانتفض عرق لصدغه الأيسر كان ينتفض كلما غضب، ورأى عنده يزيد بن الوليد والزهري، ومحمد بن هشام المخزومي، وأخاه إبراهيم، وبني القعقاع العبسي، ثم العباس بن الوليد، ويزيد بن خالد.

سَلّم ابن عنبسة فرفع هشام رأسه متثاقلًا وقال: وعليك السلام يا ابن عنبسة! هلم إلينا فإننا بصدد أمر خطير سيكون له ما بعده، ونرجو أن نخرج بعد أن نكون قد نصحنا لله ورسوله، ولصالح المؤمنين، هذا ابن أخي الوليد قد شرد على الله شراد البعير، وجالس قرناء السوء، وركب رأسه جامحًا، ثم هو لا يزيده النصح إلا إسرافًا في العناد، ولقد عاهدت أخي يزيد بن عبد الملك، وحلفت له أوثق الأيمان أن تكون الخلافة له من بعدي، ولم أكن حين أقسمت أعلم أني أقسمت على أن أترك زمام الخلافة وهي معقد آمال المسلمين، ومعقل أمنهم في يدي مثله، ولكني أقسمت حين أقسمت وأنا أرى غلامًا أزهر الوجه، نبيل السمات، توحي مخايله بصدق الأمل فيه، وتنطق ملامحه بالثقة به، ورب سُمّ كامن في الزهر النضير! وموت راكد في الماء النمير! وأنا الآن يا بني مروان بين خلتين: إما أن أترك الأمة بعد موتي تنساق إلى الدمار بولاية الوليد، وهنا النازلة الفادحة، والقاصمة القارعة، وتمزيق أوصال الدولة، وفناء بني أمية بالموت أو بالذل والهوان، وإما أن أحمي ما ورائي، وأتخذ الأهُبة للقاء ربي، وأصون تراث آبائي، فأخلع الوليد من ولاية العهد، وأختار للمسلمين رجلًا يحمي ذمارهم، وللخلافة من يبعث فيها العظمة والقوة والشباب.

فقال يزيد بن الوليد: لا يصلح لها إلا ابنك مسلمة.

– دعك من هذا الآن يا ابن العم، فلن يحسن في هذا الأمر إلا أن ننسى أنفسنا وأبناءنا، والذي نفس هشام بيده لو علمت أن صلاح هذا الأمر في اعتزالي لاعتزلت، ولو علمت أن غير مسلمة أقوى بالخلافة كاهلًا، وأضبط يدًا لقدمته عليه، فأسرع إبراهيم المخزومي قائلًا: لن تصلح الخلافة إلا بك يا أمير المؤمنين، وإذا كان لنا في الله رجاء فهو أن تبقى فيك، ثم في ابنك مسلمة من بعدك، فإنه بضعة منك، فيه ما فيك من دين وسياسة وحزم؛ فصاح أبناء القعقاع: لن نرضى بمسلمة بديلًا، أما الأيمان التي عقدتها لأخيك لتولية ابنه من بعدك فإن الله يحلك منها.

وهنا قال الزهري في صوت خافت: يرى بعض المفسرين في قوله تعالى: وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ أن المعنى: لا تجعلوا القسم بالله حائلًا بينكم وبين البر والتقوى والإصلاح بين الناس، فإذا حلف رجل أن يأتي منكرًا وجب عليه أن ينقض يمينه، ويكفر عنها. فقال ابن عنبسة: هذا تفسير عظيم، وأسرع هشام فقال: إذًا أنا في حِلّ من هذه الأيمان، ولم يبق إلا أن نكتب ميثاقًا ندون فيه مساوئ الوليد ومثالبه، وأنه لا يصلح للخلافة، ونثبت فيه محامد مسلمة ومناقبه، وأنه خير من يقوم بها من بني أمية، وأن أمير المؤمنين لكل هذا خلع الوليد من ولاية العهد، ونقلها إلى مسلمة، أين سالم أبو العلاء؟ فتحرك العباس بن الوليد في مجلسه قليلًا، وهو يكبت غيظًا دفينًا، وقال: قبل أن تدعو كاتبك يا أمير المؤمنين أرى أن نبحث في الأمر حتى نصل فيه إلى غاية تثلج الصدر، وتبدد الشكوك.

فأجاب هشام غاضبًا: ألم نُمحِص الأمر بحثًا ودراية؟ ألم يصبح عبث الوليد حديث الناس، ومسلاتهم في أسمارهم؟ أليس ابني مسلمة في دينه وعقله خيرًا ألف مرة من الوليد؟ فأجاب العباس: إن الأمر يا أمير المؤمنين أعظم خطرًا من أن نتقنّع فيه بالحياء، وأجل شأنًا من أن نجتذب فيه رضاك، أو نجتنب فيه سخطك، أنا شاك غير مستيقن بكل ما قلتم، فلا الوليد قد وصل إلى تلك الهاوية التي زعمتم، ولا مسلمة قد بلغ تلك القمة من الصيانة والتقوى، ولا تلك الأيمان التي وكدتها لأخيك أصبحت لغوًا فصرت في حِلّ من نقضها؛ فبهت من بالمجلس، واصفرّ وجه هشام، واحمرّت عيناه من الغيظ، وضرب عرق صدغه، وانتفض وصاح حتى ملأ صوته القاعة: هكذا أنتم دائمًا يا أولاد الوليد بن عبد الملك! تحقدون عليّ وعلى أولادي، ولقد كاد يسلبكم الضغن عقولكم حين ازورّ عنكم وجه الخلافة بعد أن تجاذبتم أطرافها، فأصبحتم تعدون علينا الأيام، وتتمنون أن تتقلص عنا ظلالها، إنكم أعظم كيدًا للخلافة، وأكثر عدوانًا عليها من العباسيين، والعلويين، والترك، والدليم، ووالله لولا خشية منه، ولولا أن يقول الناس حارب هشام أهل بيته لبدأت بكم قبل أن أبدأ بمقاتلة المتألبين على الدولة من الخوارج، أما قولك: إنك في شك من الأمر فباطل يراد به إزهاق الحق، وإطلاق شيطان الفتنة من عقاله؛ ليعيث معكم في الدولة كما تعيثون.

فوقف يزيد بن خالد وقفة المناضل المتحدي وقال: مهلًا يا أمير المؤمنين، فنقل الخلافة من رجل إلى رجل أمر جلل، لا يكفي فيه أن يكون أمير المؤمنين ساخطًا على هذا، أو راضيًا على ذاك، لقد قال العباس حقًّا، وإن رأى من تجمعهم اليوم من أنصارك لا يكفي لإقناع الأمة، وحملها على نبذ العهد الذي عاهَدْتك عليه، والأمر شديد الخطر على أمير المؤمنين قبل أن يكون شديد الخطر على الوليد، لقد بايعك الناس في عهد واحد وفي ميثاق واحد على أمرين لا على أمر واحد: بايعوك بالخلافة، وبايعوك على أن تكون الخلافة من بعدك للوليد بن يزيد، فإذا نقضت بعض العهد يا أمير المؤمنين انتقض كله، وتحلل الناس من البيعة لك، وصح لكل خارج عليك، أو ضجر حكمك أن يصيح في الناس: أيها المسلمون، إن هشامًا نقض العهد الذي بينه وبينكم، فليس له في رقابكم بيعة، أتريد أن يحصل هذا يا أمير المؤمنين؟ أتريد أن توقظ راقد الفتنة، وتعيد أيام صفّين حين احتكم المسلمون إلى سيوفهم في شأن الخلافة؟ إن هؤلاء يا أمير المؤمنين الذين يزينون لك ما تحب، ويقربون لك الأقصى مما تريد، أعداء في ثياب أصدقاء، أو مخبولون في مسوح عقلاء، ثم من هم أبناء الوليد الذين يكيدون لك ويدبرون السوء لدولتك؟ أتستطيع أن تشير إلى واحد منهم عن بيّنة ويقين؟ دعك من كل هذا يا أمير المؤمنين، واترك الأمر كما هو، فلسنا في حاجة إلى فتن جديدة نشعلها بين الناس، فإن الفتن تنبث في كل مكان، وإن تحت الرماد للهيبًا وضرامًا.

وما كاد يسكت حتى ابتدره ابن عنبسة قائلًا: ما هذا التهويل يا ابن خالد، أنا أعرف صلتك بالوليد، ومحبتك له، وتهاديكما الجواري الحسان، أعرف أنك تطمع أنت والعباس في أن يكون لكما شأن في خلافته بعد أن انبت بكما الحبل في هذه الدولة، ثم ما أخلوقة البيعة هذه التي إذا انتقض بعضها انتقض كلها، وهنا تمتم الإمام الزهري قائلًا: إن ما قاله ابن خالد حق؛ لأن الجزأين متلازمان، وقد تفهم البيعة على وجه آخر، هو أن الناس بايعوا هشامًا بالخلافة شريطة أن يتركها بعده للوليد، فإذا أقصى الوليد عن ولاية العهد فقد نقض شرط ما بايعوه عليه، وبهذا تسقط بيعته من أعناقهم؛ فوجم هشام، وجف ريقه، وظهرت الحيرة على وجوه أنصاره، وهنا قال العباس: قلت: إن عندي شكًّا، ولم أكن في هذا القول كاذبًا ولا متجنيًا، إن أكثر ما يشاع عن الوليد إِفْكٌ وَمَيْنٌ، وهي أكاذيب ولع الناس بها، واختلقها قوم لهم في اختلاقها مأرب ومغنم؛ فعجل الزهري وقال: لا يا ابن الوليد، لقد رأيته بعيني وحوله القيان ينقرن الدفوف، والمغنون يضربون على البرابط والطنابير.

– هذا يا مولانا أمر لا يخلو منه قصر من قصور بني أمية، ثم التفت إلى هشام قائلًا: ثم إني لا أعرف من رجال بني أمية من يبغض الوليد إلا القليل ممن يحيطون بهذا القصر، ويتزلفون إلى صاحبه، ولو أنك يا أمير المؤمنين خلعت الوليد لأثرت فتنة شعواء في حياتك، وفرَّقت كلمة المسلمين بعد مماتك؛ فإني أرى بعين الغضب — وأطال الله بقاء أمير المؤمنين — أن الناس سيختلفون بعد موتك، وسوف يعد كثير منهم نقضك الولاية للوليد أمرًا باطلًا، فينصرفون إليه، ويبقى فريق مع مسلمة، ويتقاتل الفريقان، ويأتي العباسيونَ فيضربون هذا بذاك، ويختطفون الخلافة من أيديهم، يا أمير المؤمنين: دَعِ الأمر كما هو، ودع كلاب الفتنة نائمة، فإني أخشى أن نكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا، والله يعلم أني لك ناصح، وعلى خير المسلمين أمين.

فانتفض هشام واقفًا وقال: اذهبوا عني الآن، فإن عقلي يكاد يطير من رأسي، اذهبوا فللخلافة رَبٌّ يحميها، وأين هشام إذا أراد أمرًا، وأراد الله غيره؟ فانصرف القوم في وجل ورهبة، وبقي ابن عنبسة متخلفًا، فلما خلت القاعة التفت إليه هشام وقال في ألم ممض: طار العصفور من أيدينا، وبقي على دوحته ينظر إلينا مغردًا ساخرًا، لقد خاب الأمل في بني أمية.

– دعه يغرد قليلًا يا أمير المؤمنين، فإننا سنعد له بعد قليل فخًّا وسكينًا.

– كيف يا ابن عنبسة؟

– إذا لم نستطع خلعه من ولاية العهد استطعنا خلعه من الحياة.

– معاذ الله أن أمد يدي إلى الوليد بسوء، لا تفكر في شيء من هذا يا ابن عنبسة، أتريد أن تجعلني أحدوثة في الناس، وأن يقول القالة: إن هشامًا قتل ابن أخيه؟

لن يكون لك يا أمير المؤمنين في هذا الأمر ورد ولا صدر، وإنما:

هو الموت يعتام الكرام ويصطفي
عقيلة مال الفاحش المتشدد

– لا، لا، يا يزيد، وإياك أن تقتل نفسًا حرم الله إلا بالحق.

– لقد كنت أفكر يا أمير المؤمنين في التخلص من الوليد، لا لأنه يزاحم مسلمة في الخلافة فحسب، بل لأنه يزاحمني في سلمى بنت سعيد.

– لقد حِلْت بينه وبين هذه الأمنية، وأمرت سعيدًا ألا يرضى به زوجًا لبنته.

– من يدري يا أمير المؤمنين؟ فإن الأحوال قد تحول، وقد يصبح سعيدًا له راجيًا بعد أن كان آبيًا.

– ماذا تريد أن تقول لا أم لك؟

– أطال الله حياة أمير المؤمنين، ومدّ في عمره.

– سمعت هذه الدعوات من آلاف الآلاف من الناس، ولكن الدعاء لا يمنع القدر.

– إن لكل نفس أجلًا يا أمير المؤمنين، لا تستقدم عنه ساعة، ولا تستأخر.

– دعك من ذكر الموت، وخض في حديث آخر.

– كانت لي جارية اسمها «صدوف» يا أمير المؤمنين، اشتراها مني الوليد من خمس سنوات، وهي لا تزال تهفو إليّ، وتحن إلى ذكراي، وتنقل لي أخباره، ولو أني أمرتها أن تثب في النار، أو تنام في خيس الأسد لفعلت مطيعة راضية، وقد كنت أريد إغراءها بقتل الوليد قبل أن يستنكره أمير المؤمنين، وينهى عنه، وأمير المؤمنين واجب الطاعة، وقد كان الأمر جد هيّن، فإن مروان بن الحكم الذي كانت تنتفض منه قلوب الأبطال رعبًا لم يقتله إلا امرأة هي زوجه أم خالد، فقد وضعت على وجهه وسادة وهو نائم، فلم ترفعها عنه حتى مات؛ فأغمض هشام عينيه وغادر الحجرة غاضبًا وهو يقول: احذر يا ابن عنبسة أن تدنس يديك بالدماء! إني أنهاك … إني أنهاك!

وخرج ابن عنبسة من عند الخليفة بعد أن خدعه وأظهر له العدول عن الفتك بالوليد، والتقى بعد أيام بصدوف في داره؛ لأنها كانت تتغفل أهلها، وتختلس زيارته بين الحين والحين، فأحسن لقاءها، وأكثر من الحفاوة بها، وطوقها بهالة من غزله وتشبيبه، وبثها كثيرًا من أشواقه؛ فأجج في قلبها نار كاد يطفئها اليأس، وفتح بابًا من الرجاء أغلقه القنوط، فمالت عليه مذهولة حيرى بعد أن أثار فيها حبًّا قديمًا كان يساورها في اليقظة والمنام، وهاج في نفسها وجدًا كامنًا لم تفل من حدته الأيام، ثم أخذت تتمتم ورأسها على كتفه قائلة: حبيبي ماذا جدّ لك؟ لقد كنت ألقاك قبل اليوم فلا أجد فيك تلك النشوة، ولا أحس لقلبك بهذا الخفقان الذي كأنه صدى وجيب قلبي.

– كنت أكظمه يا صدوف، وكنت أربأ بمروءتي أن أمد يدي إلى طعام غيري، ولكن لكل شيء طاقة، وقد عجزت طاقتي، وناء صبري بأن يحتمل أكثر مما احتمل، ولا بد للماء في مرجل أن يفور، وللسيل المحتبس أن يخترق ما أمامه من جنادل، لقد بعتك يا حبيبة قلبي في ساعة جنون، ولم أعرف الهدوء منذ ذلك الحين، ولكني كنت أخاف أن أظهرك على ما في نفسي فأجدد لك شوقًا وحزنًا أنت عنهما في غناء، ثم انكب عليها يقبلها في ظمأ ونهم، ويهمس في أذنها بما يَلقى من العصابة والهجر؛ فأحاطت وجهه بيديها الرخصتين وهي تقول: ليتني أعود إليك يا حبيبي، هل من سبيل؟ فأطرق كالمفكر وقال: ليس من سبيل إلا أن يبيعك لي الوليد.

– إنه كثير النفور مني، متجن عسوف، ولكنه شديد البغض لك، وهو يؤثر أن يبيعني لمجوسي ولا يبيعني لك، ولو وازنتني بالذهب.

– إذًا لم يبق من سبيل.

– إنني لا أستطيع الحياة بعيدة عنك يا حبيبي.

– ويل للوليد، إنه سد منيع بين قلبين.

– سد من فولاذ.

– أنستطيع أن نحطم هذا السد؟

– كيف يا حبيبي؟

– إنّ الحديد بالحديد يفلح، بهذا الخنجر، ثم قذف بالخنجر فسقط في حجرها، فقامت مذعورة وقد تفتحت عيناها، وارتعشت يداها، وأدركها ما يدرك النساء ساعة الوهل من الذهول، وارتجاف العصب، ثم همست والكلمات تتعثر بلسانها: تريد أنه يقتل؟

– نعم يقتل؛ لأن الحب لا يقف في طريقه شيء.

– لا يا حبيبي، دعني من القتل وذكر الدماء، وخذ في وسيلة أخرى.

– ليس أمامي شيء غير القتل، ولو واتتني الفرص كما تواتيك ما توانيت لحظة عن قتله.

– كما تواتيني؟ أتريد أني أقتله أنا؟

– ولم لا؟

– لا، إنني أوثر أن يقتلني الحب على أن أمد يدي لقتل رجل أعيش تحت سقف داره.

– تعيشين تحت سقف داره ذليلة منبوذة، تعيشين تحت سقف داره وتتركينه ينام ملء عينيه هانئًا سعيدًا، وحبيبك يتقلب دنفًا حزينًا على فراش من سهاد، تعيشين تحت سقف داره وتتحرجين من قتل رجل يقتل نفسين في وقت معًا، إنني لن أعيش طويلًا إذا ظلت هذه الحال، ولن تمر أيام حتى تذرفي الدموع على شهيد قتلته حبيبته؛ لأنها لم تقتل قاتله.

– إن القتل أكبر الجرائم إثمًا عند الله والناس.

– ألا يقتل بعض الناس بعضًا في الحرب فرحين متفاخرين؟

– ذلك في ميدان الحرب يا حبيبي.

– إن الوليد يحاربني ويحاربك بسلاح مسموم، فيجب أن ندفع عن أنفسنا، وأن نقتل قاتلنا.

– ولكني لا أقتل أحدًا.

– إذا لم تقتليه فخير لي أن أقتل نفسي، ثم وثب نحو الخنجر فدفعته عنه مذعورة وصاحت: لا تفعل يا حبيبي، وقل ما شئت فإنني لك سمع وطاعة، فارتمى على وسادته كالمجهود، ثم قال: إن الأمر أهون ما يكون، إن الوليد ينام وحده، فإذا هدأت الأصوات، ونامت العيون، ولم يبق من الليل إلا أقله، تسللت إلى حجرته كأنك الطيف الطارق، أو الظل الساري، فأغمدت هذا الخنجر في صدره وهو نائم، دون أن تسمع لك نأمة، أو تحس حركة، ثم عدت فغسلت يديك، ونمت مطمئنة هادئة، فإذا جاء الصباح وعلم الأمر سهل أن يتهم بقتله أحد خدمه، وبينهم رستم الفارسي الذي هو جاسوس عليه من خراسان، ثم ناولها الخنجر فخبأته تحت ثيابها، وخرجت من لدنه مضطربة ذاهلة كأن بها مسًّا من جنون.

ولما بلغت القصر لمحها أبو رقية، وقرأ بعينه البلهاء ما على وجهها من خوف وحذر، ورأى في اضطراب مشيتها، وفي حديثها الذاهل المتعثر ما يريب؛ لأن المسكينة على ما بذلت من جهد لم تستطع أن تكبت ما يجيش في صدرها من أمواج الدسيسة، لمحها أبو رقية فأخذ يغالط نفسه، ويتهم عينيه، ويلوم عقله المختبل على إساءة الظن بفتاة قد يكون عصف بها مطل حبيب، أو فراق خليل، ثم إنه يعرف بصورة مبهمة أن الوليد ينأى عنها بحبه، ويخص بغرامه سعاد الكوفية، فلعل ثورة من الغيرة طافت بها في هذه اللحظة، والنساء لغز معقد لا يُهتدى إلى حله، وتيه مضلل تدور فيه ولا تخرج منه، ولكنه رجع إليها البصر فلمح نتوءًا لا يكاد يرى عند أعلى فخذها اليمنى، فعاوده الشك، وتملكته الحيرة: أتخفي صدوف شيئًا تحت ثيابها؟ ولم تخفيه إذا لم تقصد شرًّا؟ وما هو؟ ولعب الشيطان بعقله، وتزاحمت هواجسه، فصمم على أن يتابع حركاتها دون أن تشعر ليرى إلى أي مدى تنتهي، وجاء المساء، وانصرف أهل القصر إلى شيء من اللهو والطرب كعادتهم، وصلى الوليد العشاء الآخرة بعد أن مرَّ هزيع من الليل، وتحين أبو رقية غفلة العيون فدلف إلى حجرة نوم الوليد، واختفى تحت سريره، ثم ذهب الوليد لينام، وأوى من بالقصر إلى مضاجعهم، ولما سكتت الأصوات، ولف القصر ضرب من سكون الموت بعد أن كان يضطرب بضجيج الحياة، وأوشك الليل أن يزمع الرحيل، قامت صدوف من مرقدها خائفة مرتعشة، ولكنها استعانت ببقية من مذخور عزيمتها، فأسرعت الخطا في حذر وترقب، حتى بلغت الحجرة فدخلتها، فسمعت تنفس الوليد هادئًا فأدركتها رجفة، ولكنها لم تأبه لها، وتقدمت والخنجر في يمينها، وسمع أبو رقية خطواتها فتزحزح ليخرج من تحت السرير، فرأى صدوف ويدها تمتد بالخنجر إلى صدر الوليد، فوثب من مكانه وقبض على يدها بقوة ليست في طوق البشر، وذعرت الفتاة للمفاجأة؛ فصرخت وقذفت بالخنجر، ودهمتها موجة جارفة من البكاء والنحيب، واستيقظ الوليد؛ فدهش لما رأى وصاح: ما الخبر يا أبا رقية؟

– شيء تافه، فتاة تريد أن تنافسني في الجنون.

– قل لي ما الخبر قبل أن أكون مجنونًا ثالثًا.

– سَلْها يا سيدي.

وكان من بالقصر قد تيقظ للجلبة والصياح، فهرع الجواري والخدم إلى حجرة الوليد، وجاءت أمه ترتعد من الخوف، حتى إذا رأته رمت بنفسها بين ذراعيه وهي تجهش بالبكاء، وقبض الوليد على ذراع الجارية وقال: قولي ماذا كنت تقصدين بهذا الخنجر؟ فأجابت بين الشهيق والعويل: كنت أقصد أن أقتلك.

– ولم تقتلينني يا فتاة؟

– ذلك سرًّا أطويه لنفسي.

– هل أغراك أحد بقتلي؟

– لم يغرني أحد، فازداد غيظ الوليد، ولكنه كبح غضبه، وأمر سبرة أن يحبس الفتاة، وألا يمسها بسوء، ثم التفت إلى أمه وهو يقول مشيرًا إلى أبي رقية: لقد أنقذني هذا المجنون.

– إنه ليس بمجنون يا بني، إنه إذا أراد كان أعقل العقلاء، حياك الله أبا رقية! لقد نجيت ولدي.

– لعل من أكبر علامات جنوني أني أهتم دائمًا بهذا الوليد الذي لا يساوي جناح بعوضة؛ فضحك الوليد وقال: الآن عاد إليك الجنون، قل لي بالله: كيف وصلت إلى حجرتي؟

– لقد ارتبت في أمر الفتاة منذ الصباح، وجال في نفسي أنها تريد بك شرًّا لا أدري لماذا، فاختبأت تحت سريرك قبل أن تنام، وقد صدق ظني، وتحققت وساوسي، فقالت أم الوليد: هذه مؤامرات من أعدائك حركت ساعد الفتاة بالخنجر يا بني، فإنك تمشي فوق أرض ملئت بالفخاخ!

وانتهت الحادثة، ومرت أيام وأيام، وعرف ابن عنبسة من اختفاء صدوف أن المؤامرة لم تفلح.

وفي أحد الأيام خرج الوليد للصيد مع فريق من ندمائه، وبينما كان يعدو فرسه «السندي» خلف غزال ظهر فارس من عبيد بني أمية كان مختفيًا خلف أكمة، فلمحه الوليد وهو يصوّب إليه سهمًا فراغ منه، فرماه بثان وثالث فأخطأه، وعجل الوليد فدار ووثب عليه بالسيف فأطاح رأسه وقال:

ألـم تر أني بينما أنـا آمـن
يخب بي السندي قفرًا فيافيـا
تطلعت من غور فأبصرت فارسًا
فأوجست منه خيفة أن يرانيا
ولما بدا لي أنما هو فـارس
وقفت له حتى أتى فرمانيـا
رمـاني ثـلاثًا ثم إني طعنتـه
فروّيت منه صعدتي وسنانيا

وقد علم الوليد بعد هذه المخاتلات المتكررة أن حياته أصبحت في خطر داهم، وأنه إذا نجا مرة وأخرى فلن ينجو في كل مرة، وتحدث مع أمه وندمائه في الأمر، فعقدوا العزم على أن يفر بنفسه في البوادي، وأن يتنقل بين المنازل والمناهل فلا يعلم مستقرّه إلا أخلص خلصائه، فهجر دمشق مع بعض جواريه وأصحابه، وخلف كاتبه عياض بن مسلم بالرُّصافة ليكون له جاسوسًا على هشام، ولينبئه بأخباره.

ونزل على ماء يسمى «الأغدف» بعمان بين أرض بلقين وفزارة، ونسي الناس بدمشق الوليد، وأطرقت أفاعي أعدائه إلى حين.

ومرت أيام وشهور على الوليد وهو يعاني الهم والضيق، وينتقل بين أحياء العرب كالطريد المنبوذ في خشونة لم يتعودها، وجفوة ليس له بها عهد.

وفي ليلة الأربعاء لستٍّ خلون من شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين ومائة، أحس هشام ضيقًا في صدره واختناقًا، فأخذ يئن أنينًا، ويدلي رأسه من النوافذ ليلتقط بعض النسيم، ويهمس في ضعف ويأس: هذه الذبحة! هذه الذبحة! لقد عاودتني، ليس لي منها نجاة هذه المرة، مُروا فيروز يحضر دواء الذبحة فإني ما أراني إلا مائتًا.

وأسرع فيروز فأحضر الزجاجة، ولم يكن بها إلا ماء ملون، فجرع هشام منها مرات فلم تفده شيئًا، واشتد به الداء فألقى رأسه على الوسادة، وأخذ يردد أنفاسًا قصارًا.

وعلم عياض بن مسلم بمرضه وإشرافه على الموت، فأسرع وختم على خزائن الأموال، وأمر خُزّانها أن يحتفظوا بما في أيديهم، وألا يخرجوا من خزائنهم شيئًا، وإلا كان جزاؤهم الموت.

وأفاق هشام من غشيته فطلب مروحة من بيت المال يجتذب بها بعض الهواء إلى صدره، فقيل له: إن الخزائن مقفلة موصدة، فزفر زفرة قصيرة، ثم قال بصوت يزاحمه الموت: «أرانا كنا خُزّانًا للوليد»، ثم مات، وحينما هم أهله بغسله طلبوا قميقمًا ليسخن فيه ماء الغُسل، فقيل لهم: إن الخزائن مقفلة موصدة، فاستعاروا قمقمًا من الجيران، ثم طلبوا له كفنًا، فقيل لهم: إن الخزائن مقفلة موصدة، فكفنه أحد عبيده من حرّ ماله.

وهكذا يموت من ملك الدنيا، ودانت له الأرض، فلا يجد إناء لماء غُسله، ولا يجد كفنًا فيكفنه العبيد، فسبحان من له الملك الدائم، والعزة التي لا تبيد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤