من فيض الكريم

أقرأ هذه الأيام كتابًا من أعظم ما كتب كاتبنا الكبير الأستاذ يحيى حقي. الكتاب بعنوان «من فيض الكريم»، وهو فعلًا من فيض الله سبحانه وتعالى على الكاتب، والكاتب الكبير يحيى من هؤلاء الذين حين تستمع إليهم تحس بشعور عميق أن الكاتب كثير التفكير يُعمل عقله في كل ظاهرة من ظواهر الكون، وهو لا يكاد يفلت خلجة من خلجات الحياة دون أن يُوسعها تفكيرًا وتقليبًا لكل وجه من وجوهها، وهو في هذا الكتاب مؤمنٌ مستقر الإيمان مطمئنٌ كل الاطمئنان أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ويطالعك هذا الإيمان المستقر المطمئن منذ العنوان الأول في كتابه «لماذا أنا سعيد لأني وُلدتُ مسلمًا».

وتُطالعك هذه المقالة بأعظم أنواع الإيمان، ذلك الإيمان الذي يمتزج فيه العقل بالروح والفكر بالشعور. يقول في مطلعه: «إننا في الأغلب الأعم نَرِث ديننا، نشبُّ على عقيدة آبائنا، فلو كنت مسيحيًّا مثلًا أسلمت بعد بحث ومقارنة واختيار لحُقَّ لي أن أكتب هذا المقال تحت عنوان «لماذا أنا مسلم» فمن أجل الصدق وحده أجعل عنوانه «لماذا أنا سعيد لأني وُلدت مسلمًا»، ولا أكتبه إلا في نطاق مبدأ عام: أن الأديان كلها طرق متباينة متفرقة، ولكنها تؤدي جميعها إلى ساحة واحدة، ومع ذلك فأنا سعيد؛ لأني وُلدت مسلمًا، لأن الإسلام جاء للإنسان بنظام يجد فيه فكرة سموه لا انحطاطه، راحته لا عناءه.»

ثم يمضي الكاتب الكبير في مقالته التي أسمح لنفسي أن ألخِّص ما حوته؛ فهو يرى أن هذا النظام الذي أتى به الدين الأعظم يستند إلى وحدانية الله سبحانه، وكل تفكير لا بد أن يؤدي إلى وحدة الكون في عقل الإنسان. وإزاء الكون الواحد لا بد من إله واحد. هو خالق هذا الكون الواحد، وبما أنه خالق الكون كله فهو رب البشر جميعًا لا يختص به شعب الرسول دون بقية الشعوب. ويقول الأستاذ يحيى حقي في نقلة أخرى إنه ليس في كتاب غير القرآن مثل هذا الإلحاح المفصل على الإنسان ليُعمِل عقله، ويتدبر الكون، ويفهم أسراره، حتى لقد ارتفع طلب العلم إلى مقام الفرائض. ثم يقول الكاتب الكبير إن العقيدة علاقة حميمة بين الخالق والمخلوق لا تحتاج لوسيط. ويمضي الأستاذ يحيى في مقاله على هذا النسق الرفيع من المنطق الذي يجعل الإيمان أمرًا يحتِّمه العقل، وإذا سرنا عمقًا مع مقالة الأستاذ يحيى هذه لوجدنا أن الإنسان الطبيعي غير ذي العوج في المنطق أو الفهم، وغير ذي الهوى لا بد أن يؤمن بوحدانية الله وبعظمة الدين الإسلامي وسموقه وتمكُّنه. وإن دعوة الكتاب المنزل للتفكير هي وحدها أعظم دليل على قوة الدين ومتانته، وأنك لتذكر آية واحدة من القرآن فلا تملك إلا أن تخرَّ ساجدًا للواحد الديان، «وفي أنفسكم أفلا تبصرون»، سبحانك جل جلالك.

وتذكر هذه الصلة المباشرة بين الإنسان وبين ربِّه فترسخ في نفسك عظمة الخالق؛ فالخالق وحده هو الذي يجعل نفسه موئلًا لكل الناس وليس لفئة دون فئة، ولا حتى لأَتْباعِ دينٍ دون دين آخر. وقد يطيب لي أن نتعمق معًا ذلك العنوان الذي اختاره الأستاذ يحيى؛ لماذا أنا سعيد لأني وُلدتُ مسلمًا، فقد يدخل في روع البعض أن معنى ميلادي مسلمًا أنني لم يكن لي اختيار في عقيدتي، وإنما هي فُرضت عليَّ بحكم المولد، وهذا معنًى مرفوض جملةً وتفصيلًا. فإننا نولد مسلمين ونظل مسلمين بحكم المولد حتى نصلَ إلى مرحلة التأمل والفكر. وحينئذٍ نتعمق ديننا، ونلبث عليه مختارين بالحرية الكاملة وبالفكر البعيد عن كل مؤثر خارجي، وإنْ فعلنا غير ذلك نكن منافقين مخادعين لأنفسنا وللناس جميعًا. ويكون إسلامنا غير مقبول عند الله؛ لأنه سبحانه في علياء سماواته رضيَ لنا الإسلام دينًا على أن ندخلَه مختارين لا مرغمين أحرارًا لا تابعين.

إلى أن يقول الأستاذ يحيى: «لا عجب أن بدأ البخاري بحديث شريف كأنه لحن افتتاحية لسيمفونية عظيمة لا حدَّ لإعجابي به وحبي له ولا ينقطع لساني عن ترديده كأنَّ كلماتِه فصوصٌ من الماس …» إلى أن يذكر الحديث الشريف وهو قوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.»

وقد أُعجبت بهذه المقالة في الكتاب كلَّ الإعجاب، ورُحْتُ أفكِّر، وما لبث أن ومضَ ذهني خاطرٌ مضيء كأنه نورٌ مشعٌّ. إنما الإسلام كله مسئولية ونية، المسئولية هي ظاهر الأعمال والنية هي الباعث الخفي، ونحن أمام البشر أجمعين ليس لهم منَّا وليس علينا لهم إلا الأعمال إما خافية نفوسنا فهم لا يريدون منها شيئًا، وإن حسبوا أنهم يعلمون، أما نحن أمام الخالق فمحاسبون على العمل وعلى النية جميعًا. وقد نخطئ في عملنا مع البشر فيحاسبنا البشر حسابًا عسيرًا؛ لأنهم لا يعرفون ما تنطوي عليه ضمائرنا. أما إن أخطأنا عن غير قصد في مسئوليتنا الدينية أمام الله سبحانه الذي يعلم السر وأخفى والمطَّلع على طوايا النفس وأحنائها فإنه يمحو عنَّا خطأنا وكأننا ما أخطأنا؛ ولذلك فإنني أندهش حين أسمع قائلًا يقول لآدمي: «يا أخي، اغفر خطأ فلان فإن الله يغفر.» وهذا منطق مقلوب؛ إن الله يغفر لأنه الله، ولأنه الرحمن، ولأنه الرحيم، ولأنه الغفور، ولأنه المطلع على خفايا الضمائر وأعماقها. أما البشر فما هو برحمن ولا هو برحيم ولا بغفور ولا هو بمطلع على الضمائر وإن ادَّعى ذلك. ومن أجل هذا فإنه لا يغفر إلا القومُ الأقربون إلى الله جل علاه.

ومن هنا أعجب معي مرة ثانية وثالثة وألْفًا من هؤلاء الذين نصَّبوا أنفسهم قوامًا على ديننا. أين هم من ذلك؟ وَهِموا وضلُّوا وضللوا وخاب سعيهم، وفشل رجاؤهم من أيِّ تشريع أعطوه لأنفسهم هذا الحق. وما هو لهم حق. أيحسبون أنفسهم آلهة. أين هم من ضمائرنا ومن إيماننا الذي لا يدريه إلا الله وحده، والذي اختص نفسه سبحانه بالاطلاع عليه، أم يريدون أن يجعلوا الناس أمامهم يقومون بمظاهر الدين وما يبدو منه، أفهذا هو الدين عندهم، ساء ما يحكمون، إن الدين لله وحده، وهو وحده سبحانه موئلنا وملاذنا إليه صلاتنا وصيامنا وزكاتنا وحجنا. وإن لم نؤدِّ هذه الفروض بالنية الخالصة لذاته — جلَّت ذاته — فهو وحده القادر على أن يردَّها علينا غير مقبولة. فما هو بحاجة إلى توحيدنا ولا إلى صلاتنا، ولا صيامنا ولا زكاتنا ولا حجنا، فإنه سبحانه هو الغني عن العالمين، فكيف لهؤلاء المتطرفين أن يعرفوا عن أي مصدر في نفوسنا نقوم بطقوسنا الدينية؟!

إنهم يريدون أن يركبوا الدين وسيلة إلى التحكُّم فينا، وويلٌ لنا كلَّ الويل إذا تمكَّن هؤلاء، وأي فئة أكثر ضلالة من فئة تستغل دين الله وهو دين الله ليصلوا به إلى مطامع دنيوية فانية، وإذا كانوا لا يعرفون أن كل سلطان إلى زوال إلا سلطان الله. فما شأنها بالدين إذن؟! وإذا كانوا لا يعلمون أن الدين إنما هو احتقار للدنيا وسعيٌ إلى العليا، وعزوف عن الفانية نظرًا إلى الباقية، وإذا كانوا لا يعلمون أن الإنسان كادح إلى ربه كدحًا فملاقيه، فهم إذن أبعد ما يكونون عن جوهر الدين ولبابه؛ فليتخذوا لأنفسهم ملعبًا يلهون فيه وبه، وليتركوا الدين لعلمائه وفقهائه وليتركوا الناس ليعبدوا ربهم الذي خلقهم والذي يعلم ما ظهر منهم وما بطن وهم له عابدون. حبًّا وأملًا ورغبًا ورهبًا، وأن الناس في غناء عن قوم يريدون أن يفرضوا أنفسهم عليهم طواغيت وجبارين، والله سبحانه وتعالى جل أن يكون الجهلاء دعاة لدينه الأقوم ولكتابه الكريم.