أما نحن، فلا نعجب

تقول ابنتي ما معناه: يا أبي سمعت عن قوم يعملون اليوم عند أثرياء من دول البترول، وكانوا في مصر يحملون ألقابًا ورثوها، وهي ألقاب رفيعة أقصى ما تكون الرفعة سامقة أعلى ما يكون السموق، وكانوا يملكون أموالًا، ولا شك أن المال مهما يكن مصدره واللقب مهما يكن موروثًا خليقان أن يُكسبهما شيئًا من الكبرياء، وقد كنا نسمع أنهم كانوا متكبرين في الأرض، وأنا يا أبي لا أعجب لهؤلاء القوم أن يعملوا لدى أصحاب الثراء، فمن حق كل إنسان بل من واجبه أن يبحث عن الرزق، ولكن المهنة التي يمتهنون حقيرة غاية الحقارة دنيئة كل الدناءة، حتى إنني لا أسمح لنفسي أن أنطق بها. فقلت لابنتي: أحمد الله يا ابنتي أن جيلك يملك ملكة التعجب والدهشة، فإننا نحن جيل حرم علينا أن نعجب من شيء أو ندهش لأمر، فقد مرَّ بجيلنا من الأهوال ما أفقده نعمة التعجب.

وإن كنتِ عجبت من أمر هؤلاء فلأنك لا تعرفين أنهم قوم كانوا على قدر من الغباء، لم يُتَح لجماعة من الناس قط. فقد سكبت عليهم مصر من نِعَمها ما جعلهم على قمتها ثراءً ومكانة وجاهًا وسلطانًا، وبدلًا من أن يشكروا لها أنعمها، ويندمجوا بشعبها، ويبذلوا من أموالهم ومن جاههم ما يُعين بائسًا ويكسو عريانًا ويُقيت جائعًا، وبدلًا من أن يتصدروا جهات البر وجمعيات الخير طغى أغلبهم واستكبر، وشغلوا بكل حقير تافه من الحياة إلا قلة منهم كانت حيث ينبغي لها أن تكون، والشكر لهذه القلة محتم؛ لأنها اختطت في الحياة طريقًا لم يسنَّه لها الكثرة الغالبة من أسرتها.

أما الكثرة الغالبة فكانت غارقة في غيِّها وترفِها الفارغ، وكانت لا تنطق العربية وتتعلم كل اللغات إلا لغة مصر التي تعيش من جدواها ومن خيرها. فحين نزلت بهم الكارثة تمزقوا أشتاتًا من الآدميين لا يجدون ملجأ أو ملاذًا وهانوا على أنفسهم وهانوا على الناس، ولا شك أنك يا ابنتي سمعتني أُردِّد بيت المتنبي:

مَن يَهُن يسهل الهوانُ عليه
ما لجُرحٍ بميتٍ إيلام

فإن العظمة يا ابنتي والكبرياء واحترام الذات لا يكوِّنها المال والسلطان، وإنما هي تنغرس في داخل النفوس الشريفة إذا كانت لا تُقدِّم إلا صالحًا، ولا تسعى إلا لخير، ولا تعمل إلا كل ما هو شريف نقي يعود نفعُه على المجتمع بأَسْره، وليس على فرد ولا على أسرة فقط. فهؤلاء يا ابنتي لهم عذرهم إذا هم انحدروا إلى مهاوي الحضيض، فما كانوا عظماء قط وما كان انتفاخهم إلا هواء فاسدًا، ومظهرًا خداعًا لا يقتنع به إلا مَن كان تافهًا مثلهم.

فلا عليك يا ابنتي أن تعجبي، ولكن أليس الأولى بك يا ابنتي أن تعجبي من أقوام آخرين، ألَا تعجبين من قوم هبط عليهم الثراء الفاحش تصيدوه من كل طريقٍ ملتوٍ، ومن كل مظنة عفنة حتى أصبحوا على جبل من المال وإن يكن مالًا حرامًا. ألَا تعجبين منهم بعد ذلك يظلون يجمعون المال لا يشبعون. وربما قلت يا أبي إن هؤلاء أصبح جمع المال بالنسبة إليهم غاية لا وسيلة، وإنني يا ابنتي إذا قلت هذا سأوافقك عليه، ولكن ألا تعجبين أنهم لا يزالون يبيعون كرامتهم بيعَ السماح ويقبلون أن يكونوا موطئًا للنعال، ويقبلون أن يظلوا متسولين على الأبواب يسألون الرضاء أو يستجدون منصبًا، أو يتشممون أرجل كرسي فعل الكلاب التي لا صاحب لها.

وإن شئت يا ابنتي فاعجبي من قوم أكرمهم قومهم وجعلوا لهم في المجتمع المصري وزنًا، ولكنهم يخونون قومهم ومصرهم ويتسقطون على بلاد تقف منا موقف العداء والتهجم والاستفزاز في صغار مضحك وفي طفولة تدعو إلى السخرية والهزء، يتمتعون بها في كل أنحاء العالم المتحضر وغير المتحضر على السواء. ألا يُثير عجبك يا ابنتي أن يقصد إلى هؤلاء مَن تُكرمهم بلادهم ليكونوا هناك يدًا تتسول، ولتكون البضاعة التي يبيعونها كرامة مصر وكرامة الشعب المصري.

ألم تتعجبي يا ابنتي من أقوام يظلون يطوفون ببلاد العالم ليزدادوا على الغنى مالًا هم عنه غناء، ولكن رخصت عليهم كرامتهم وهانت عليهم نفوسهم، وما دامت نفوسهم قد هانت عليهم فلا شك أن مصر التي هم ينتسبون إليها شاءوا أم أبوا أكثر عليهم هوانًا؟!

أوَلَم تعجبي يا ابنتي من قوم نالوا المناصب وشاركوا في المصائب التي تواجه مصر اليوم وفي الكوارث التي تحيط بشوارعها ومبانيها وتليفوناتها وكهربائها، وأُبعدوا عن مناصبهم، فإذا السعار يتفشاهم، وإذا هم ينقلبون صراخًا لا ينقطع، وحين كان الواحد منهم ملقًى على كرسيِّه السلطاني كالشيء لا يستطيع أن يهمس بمعارضة، ولا يجرؤ أن يحادث نفسه بكلمة واحدة من جملة تدل على أنه لا يوافق، ولكن اليوم وفي ظل الحرية ينطلق هجومه ويعلو صوته وكأنه البطل المغوار أو الأسد الرئبال، وبماذا يطالب؛ يطالب بالحرية ناسيًا أنه حين يطالب بها على الملأ يُعلن بما لا يدع مجالًا للشك أنه في ظلها يعيش وفي أجوائها يتنفس بل ويصيح أيضًا؟!

وإن شئتِ يا ابنتي فاعجبي من قوم يقوم قائمهم على إذلال الإنسان، وقتل الشعوب، وسفك دمائها، والتسلط عليها قهرًا بالسلاح والفتك والجبروت. ولا عليكِ يا ابنتي أن تفكِّري مَن هم فما يكلفك الأمر إلا نظرة إلى أفغانستان وبولندا اليوم أو نظرة أخرى إلى ما فعلوا في المجر وفي تشيكوسلوفاكيا وفي غيرها.

اعجبي لهؤلاء القوم يساندون شيعتهم في مصر، ويظاهرونهم بكل وسائل المساندة والمظاهرة ولن أفعل، ويصيح شيعتُهم مطالبين بالديمقراطية، والديمقراطية كما تعلمين هي حكم الشعب للشعب لمصلحة الشعب، فهم إذن يطالبون بحكم الشعب بالشعب، وهم الذين يقتلون الشعوب لتقبل حكمهم وهم الذين يختطفون الأطفال اليوم في أفغانستان ليلقنوهم إلحادهم، وقد سمعنا عن عصابات تختطف أطفالًا، ولكنك ما أظنك يا ابنتي سمعت عن دولة تختطف أطفالًا، شيعة هذه الدولة وأنصارها يطالبون بالديمقراطية وبالحرية ولا يجدون مَن يقول لهم إنهم حين يطالبون بالديمقراطية والحرية ويعلنون هذه المطالبة يؤكدون دون أن يشعروا أنهم يعيشون الديمقراطية أو ما يشبهها على الأقل، ويعيشون الحرية أكمل ما تكون الحرية؛ لأن البلاد الدكتاتورية لا تسمح طبعًا لأحد أن يناديَ فيها بالديمقراطية، وويل كل الويل لمن يطالب فيها بالحرية، وقد عشنا يا ابنتي أيامًا سوداء، لا تذكرينها أنتِ، كانت الحرية فيها قتيلًا لا يجرؤ أحد أن يذكر مقتلته، وكانت لا إله إلا الله لا تقال إلا خفية وكأنها جريمة.

وبعد يا ابنتي؛ فما أقل هذا الذي ذكرت مما يستحق تعجبك، أما أنا يا ابنتي فكما قلت لك فقد فقدت نعمة التعجب، لا أفقدك الله إياها، فإن تعجبك أنتِ وأبناء جيلك أملُنا في الغد ونظرتنا المضيئة إلى المستقبل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤