الفصل الرابع والعشرون

أقرب إلى المأساة

كانت كلمات التحية الفعلية التي تُبُودِلت بين إليزابيث والرجل الذي تسبَّب لها مجيئُه في كل تلك المشاعر المتأجِّجة؛ كلماتٍ غيرَ مؤثِّرة. انحنى الوافِد الجديد نحوها قليلًا، واضعًا أطرافَ أصابعه على مفرش الطاولة. كان شكله، عن قرب، أقبحَ مما كان عليه عندما رآه تافرنيك لأول مرة. كان شكله مَعيبًا؛ كان ثمةَ شيءٌ منحطٌّ قليلًا في عينَيه الغائرتَين وجبينه المنحسر الشعر. كما لم تكن تعبيراتُ وجهه جذَّابة. نظر إليها كرجل ينظر إلى الشيء الذي يكرهه.

وقال: «ها أنتِ يا إليزابيث، أخيرًا قد أتت هذه المتعة!»

فأجابت: «سمعتُ أنك عُدْتَ إلى إنجلترا. اجلِس أرجوك.»

حتى ذلك الحين، لم تُغادر عيناها عينَيه. طوال الوقت بدا أنهما تتساءلان بشدة، وتبحثان عن شيءٍ في ملامحه استعصى عليهما. كان من المروِّع رؤيةُ التغيير الذي أحدثَته فيها الدقائقُ القليلة الماضية. فقدَ وجهُها الأملسُ النَّضرُ روعتَه. وبدا أن عينَيها، اللتَين كانتا دائمًا ضيقتَين إلى حدٍّ ما، قد أصبحتا غائرتَين. لقد كان مثلُ هذا التغيير حَريًّا بأن يُشعِر رجلًا شجاعًا، في مقتبل العُمر، بالخوف لأول مرة في حياته.

قال وهو يتناول قائمة الطعام: «أنا سعيدٌ لأنني وجدتُكِ تتناولين العشاء. أنا جائع.» ثم أضافَ إلى النادل الذي كان يقف إلى جانبه: «يمكنكَ إحضار بعضِ شرائح اللحم المشوية على الفور، وبعض البراندي. لا شيءَ آخر.»

انحنى النادل وأسرع مبتعدًا. عبثَت المرأة بمروحتها لكن أصابعها كانت ترتعش.

قال: «أخشى أن مجيئي كان بالأحرى صدمةً لكِ. تُؤسفني رؤيتكِ مُنزعجةً إلى هذه الدرجة.»

أجابت بشيءٍ من الشجاعة: «ليس الأمر كذلك. أنت تعرفني جيدًا لدرجة تجعلك لا تصدِّق أنني سأسعى إلى لقاءٍ كنتُ أخشاه. إنه الشيءُ الغريب الذي حدث لك خلال الأشهر القليلة الماضية … هذا العام الماضي. هل تعلم … هل أخبرَك أحد … أنه يبدو أنك أصبحتَ أكثر شبهًا … بصورة …»

أومأ برأسه متفهِّمًا.

«بصورة وينهام المسكين! الكثيرون قالوا لي ذلك. بالطبع، أنتِ تعلمين أننا كنا دائمًا متشابهَين بشكلٍ مخيف، وكانوا دائمًا يقولون إننا سنصبح أكثرَ تشابهًا في منتصف العمر. فرغم كل شيء، هناك عام واحد فقط بيننا. ربما كنا سنصبح توءمَين.»

واصلَت المرأة ببطءٍ: «إنه أفظعُ شَبه رأيتُه في حياتي. عندما دخلتَ المطعم قبل بضع ثوانٍ، بدا لي أن معجزةً قد حدثَت. بدا لي أن الميت قد عادَ إلى الحياة.»

غمغم الرجلُ وعيناه على مفرش الطاولة: «لا بد أنها كانت صدمة.»

وافقَت بصوتٍ أجش: «لقد كانت كذلك. ألا يمكنك رؤيتُها في وجهي؟ أنا لا أبدو دائمًا امرأةً في الأربعين. ألا يمكنك رؤية الظلال الرمادية الموجودة في وجهي؟ كما ترى، أعترفُ لك بكل صراحة. لقد كنتُ مرعوبة … وما زلت مرعوبة!»

فسألها: «ولماذا؟»

كرَّرَت قوله وهي تنظر إليه بتساؤل: «لماذا؟ ألا يبدو لك شيئًا مرعبًا أن تُفكِّر في عودة الموتى إلى الحياة؟»

نقرَ برفق على مفرش الطاولة مدةَ دقيقة بأصابع يدٍ واحدة. ثم نظر إليها مرةً أخرى.

وقال: «هذا يتوقَّف على طريقة موتهم.»

لم يكن لجلَّادٍ في العصور الوسطى أن يتلاعب بضحيته بمهارةٍ أكبر من ذلك. كانت المرأة ترتجفُ الآن، وتحافظ على بعض هدوئها الخارجي ولكن فقط من خلال بذل جهد مُضنٍ وغير طبيعي.

سألت: «ماذا تقصد بذلك يا جيري؟ لم أكن حتى مع وينهام، عندما فُقِد. وعلى ما أعتقد، أنت تعرف كلَّ شيءٍ عن الموضوع وكيف حدث، أليس كذلك؟»

أومأ الرجل برأسه متفكِّرًا.

ثم قال معترفًا: «لقد سمعتُ الكثير من القصص. وقبل أن نترك الموضوع إلى الأبد، أودُّ أن أسمع القصة منكِ أنتِ، من شفتَيكِ.»

كان هناك زجاجةُ شمبانيا على المنضدة، طُلِبَت في بداية الوجبة. لمسَت كأسها؛ فملأها النادل. ثم رفعَتها إلى شفتَيها وأعادتها فارغة. كانت أصابعها تمسك بمفرش المنضدة.

قالت: «أنت تطلب مني طلبًا صعبًا يا جيري. ليس من السهل التحدُّث عن أي شيءٍ مؤلم إلى هذا الحد. منذ اللحظة التي غادرنا فيها نيويورك، كان وينهام غريبًا. شربَ الكثير على الباخرة. واعتاد أن يتحدَّث أحيانًا بطريقةٍ جامحة. ثم وصلنا إلى لندن. أصيبَ بنوبةِ هذيانٍ ارتعاشي. فاعتنيتُ به خلال ذلك وأخذتُه إلى الريف، إلى كورنوول. أخذنا كوخًا صغيرًا على أطراف قرية صيد … سانت كاثرين، هكذا كانت تُدعَى. وعشنا هناك في هدوءٍ بعضَ الوقت. في بعض الأحيان كانت أحواله تتحسَّن، وأحيانًا تسوء. وكان الطبيبُ في القرية لطيفًا جدًّا وكان كثيرًا ما يأتي لرؤيته. لقد أحضر صديقًا من البلدة المجاورة واتفقا على أنه مع الراحة التامة، سيكون وينهام أفضلَ قريبًا. كانت حياتي طوال الوقت بائسة. لم يكن يستطيع أن يكون بمفرده، ومع ذلك كان رفيقًا رهيبًا. قمت بأفضل ما في وُسعي. كنت أبقى معه نصفَ الوقت كلَّ يوم، وأحيانًا أكثر. كنت أبقى معه حتى بدأتْ صحتي أنا شخصيًّا تتدهور. وأخيرًا لم يعُد بإمكاني تَحمُّل العزلة. فأرسلتُ في طلب والدي. فجاءَ وعاشَ معنا.»

غمغَم مستمعُها: «البروفيسور.»

أومأت برأسها.

وتابعَت: «لقد كان الأمر أفضلَ قليلًا بالنسبة إليَّ، باستثناء أن وينهام المسكين بدأ يستاء من والدي استياءً شديدًا. إلا أنه كان يكره الجميع، واحدًا تلو الآخر، حتى الطبيبَين، اللذين كانا يبذلان قُصارى جهدهما دائمًا من أجله. وذات يوم، أعترفُ أنني فقدتُ أعصابي. تشاجرنا؛ ولم أستطع كبْحَ جِماح نفسي … فقد أصبحَت الحياة لا تُحتمَل. فهُرعَ خارج المنزل … وكانت الساعة نحو الثالثة بعد الظهر. ولم أرَه منذ ذلك الحين.»

كان الرجل ينظر إليها، وينظر إليها عن كثبٍ رغم أنه كان يطرف بعينَيه طوال الوقت.

وسألها: «ماذا حدث له في رأيكِ؟ وماذا يعتقد الناس؟»

هزَّت رأسها.

وقالت: «الشيءُ الوحيد الذي كان يحرص على فعله هو السباحة. وقد عُثِرَ على ملابسه وقبعته في الخليج الصغير بالقرب من خيمتنا.»

فسألَ الرجلُ: «هل تعتقدين، إذن، أنه قد غرق؟»

أومأَت برأسها. بدا أن الكلام أصبح مؤلِمًا للغاية.

وتابعَ رفيقُها وهو يصبُّ لنفسه كأسًا من البراندي: «الغرقُ ليس ميتةً لطيفة. ذات مرة كنتُ على وشك الغرق أنا نفسي.» ثم أضافَ: «المرءُ يكافح وقتًا قصيرًا ويفكِّر … نعم، يفكِّر!»

رفعَ كأسه إلى شفتَيه ثم أعادها إلى الطاولة.

وتابعَ: «رغم ذلك، فهي ميتة سهلة، سهلة للغاية. بالمناسبة، هل تلك الملابس التي عُثِرَ عليها الخاصةُ بوينهام المسكين هي نفسُها الملابس التي كان يرتديها عندما غادر المنزل؟»

هزَّت رأسها.

وأجابت: «لا يمكن لأحد أن يقول على وجه اليقين. لم ألحَظْ قط ما كان يرتديه. كان يرتدي دائمًا النوعيةَ نفسَها من الملابس، لكن كانت لديه تشكيلةٌ هائلة منها.»

«وكان هذا قبل سبعة أشهر … سبعة أشهر.»

فأقرَّت ذلك.

فغمغَم قائلًا: «مسكينٌ وينهام. أظن أنه مات. ماذا ستفعلين يا إليزابيث؟»

ردَّت قائلة: «لا أعرف. يجب أن أذهب قريبًا إلى المحامين وأطلبَ المشورة. لديَّ القليل جدًّا من المال المتبقِّي. لقد كتبتُ عدةَ مراتٍ إلى نيويورك له ولأصدقائه، لكن لم يصلني أيُّ رد. فرغم كل شيء يا جيري، أنا زوجته. لم يُحبَّ أحدٌ زواجي منه، لكنني زوجتُه. ولي الحقُّ في نصيبٍ من ممتلكاته إذا مات. أما إذا كان قد هجَرني، فبالتأكيد سيكون لي حقوق. أنا لا أعرف حتى مدى ثرائه.»

ابتسم الرجل الذي كان بجانبها.

قال: «أكثر ثراءً مني على أي حال. لكن إليزابيث!»

«ماذا هناك؟»

«كانت هناك شائعاتٌ أنه قبل مغادرتكما نيويورك، حوَّل وينهام مبالغَ كبيرة جدًّا من الأموال إلى خطاباتِ اعتماد وسندات، مبالغ كبيرة جدًّا بالفعل.» فهزَّت رأسها. وقالت: «كان لديه خطابُ اعتماد بنحو ألف جنيه على ما أعتقد. لم يتبقَّ سوى القليلِ جدًّا من المال الذي كان معه.»

«وتجدين العيشَ هنا باهظَ التكاليف، على ما أعتقد؟»

تنهَّدَت موافقةً وقالت: «باهظ جدًّا بالفعل. لقد كنتُ أتطلَّع إلى رؤيتك يا جيري. اعتقدتُ أنك، ربما، من أجل الأيام الخوالي، قد تنصحني.»

ردَّد لنفسه بهدوءٍ: «من أجل الأيام الخوالي. إليزابيث، هل تُفكِّرين فيها أحيانًا؟»

كانت إليزابيث قد بدأت تستعيدُ نفسها. كانت هذه لعبةً قد اعتادت على لعبها. من أجل الأيام الخوالي، حقًّا! بدا كأنه بالأمس فقط أن هذين الأخَوَين، اللذين اشتهَرا في تلك الأيام بكونهما أغنى شابَّين في نيويورك، كانا تحت قدمَيها. حتى هذه اللحظة، لم تكن محظوظة. ورغم ذلك، كانت لا تزال هناك فرصة. رفعَت بصرَها نحوه. بدا لها أنه قد بدأ يفقد رِباطة جأشه. نعم، كان هناك شيءٌ من البريق القديم في عينَيه! في يومٍ من الأيام كان يُحبها بجنونٍ بما فيه الكفاية. لا بد أنه لن يصبح مستحيلًا!

قالت: «جيري، لقد أخبرتُكَ بهذه الأشياء. لقد كان الأمر مؤلمًا جدًّا جدًّا بالنسبة إليَّ. ألن تُحاول الآن وتكون لطيفًا؟ تذكَّر أنني وحيدةٌ تمامًا وكل هذا صعبٌ جدًّا عليَّ. لقد كنت أتطلعُ إلى قدومك. لقد فكَّرتُ كثيرًا في تلك الأوقات التي قضيناها معًا في نيويورك. ألن تكون صديقي مرة أخرى؟ ألن تساعدني لاجتياز تلك الأوقات المريرة؟»

لمسَت يدُها يدَه. وللحظةٍ سحبَ يده بعيدًا كما لو كان قد لدَغه عقرب. ثم أمسكَ بأصابعها وأحكم قبضتَه عليها. فابتسمَت ابتسامةَ مَنْ تُدرك قوتها. كان الجمال يتدفق مرةً أخرى إلى وجهها. هذا المسكين، إذن فهو لا يزال مغرَمًا! كانت أصابعه التي أحكمَت على أصابعها تحترق. يا له من أمر مؤسف أنه لم يكن أكثر وسامةً قليلًا!

تمتمَ قائلًا: «بلى، يجب أن نكون أصدقاءَ يا إليزابيث. كان وينهام يمتلك كلَّ الحظ في البداية. ربما يكون قد حان دوري الآن، أليس كذلك؟»

ومالَ نحوها. فضحكَت في وجهه لحظةً ثم فجأةً شحبَ لونُها مرة أخرى، وتجمَّدَت الابتسامة على شفتَيها. وبدأت ترتجف.

سأل: «ما الأمر؟ ما الأمر يا إليزابيث؟»

تلعثمَت وهي تقول: «لا شيء، كلُّ ما هنالك أنني كنتُ أتمنى … كنت أتمنى حقًّا أنك لم تكن قريبَ الشبه بوينهام بهذا القدر. أحيانًا نبرة صوتك، الطريقة التي ترفع بها رأسك … هذا يُرعبني!»

ضحكَ بغرابة.

وقال: «يجب أن تعتادي على ذلك يا إليزابيث. فأنا لا أملك إلا أن أكون شبَهه كما تعلمين. لقد كنا صديقَين حميمَين دائمًا حتى أتيتِ. أتساءل لماذا فضَّلتِ وينهام.»

أجابت متوسِّلة: «لا تسألني … أرجوك، لا تسألني هذا السؤال. حقًّا، أعتقد أنه تصادفَ وجوده هناك في اللحظة التي شعرتُ فيها بالرغبة في تغيير حياتي كلها، وفي مغادرة نيويورك والابتعاد عن كل الناس وبدءِ حياة جديدة تمامًا، واعتقدتُ أن وينهام يعني ذلك. اعتقدتُ أنني سأكون قادرةً على منعه من الشرب ومساعدته على بدء حياة جديدة تمامًا هنا أو في أوروبا.»

قال: «يا لكِ من فتاة مسكينة! أخشى أن آمالكِ قد أُحبِطَت.»

فتنهَّدَت.

واستطردَت: «أنا مجرد بشر، كما تعلم. أخبرني الجميعُ أن وينهام كان مليونيرًا أيضًا. انظر كم استفدتُ منه. أنا شِبهُ مُفلِسة تمامًا، ولا أعرفُ إن كان حيًّا أم ميتًا، ولا أعرفُ ماذا أفعل للحصول على بعض المال. هل كان وينهام شديدَ الثراء يا جيري؟»

ضحكَ الرجل.

ثم قال مطمئِنًا إياها: «أوه، لقد كان شديدَ الثراء حقًّا! إنه لَأمرٌ فظيع أن تُترَكي هكذا. سنتحدَّث عن ذلك معًا الآن، أنتِ وأنا. وفي الوقت نفسه، يجب أن تسمحي لي بأن أكون البنك الخاص بك.»

فهمسَت: «عزيزي جيري، كنت دائمًا كريمًا.»

ذكَّرَها فجأة: «إنكِ لم تتحدَّثي عن المحتشِمة الصغيرة … عزيزتي الآنسة بياتريس.»

فتنهَّدت إليزابيث.

وقالت: «كانت بياتريس مصيبةً كبيرة من البداية. أنت تعرف كم كَرهتْ كِلَيكما … كانت مهذَّبةً بصعوبةٍ مع وينهام، ولم تكن لتأتيَ إلى أوروبا معنا لو لم يُصرَّ أبي على ذلك. أخذناها إلى كورنوول معنا وهناك أصبحَت غيرَ محتملة على الإطلاق. كانت دائمًا تتدخل بيني وبين وينهام وتتخيَّل أسخفَ الأشياء. وذات يوم تركَتنا دون كلمةِ تحذير. ولم أرها منذ ذلك الحين.»

حدَّق الرجلُ بعبوس في طبقه.

وتمتم: «لقد كانت فتاةً صغيرة غريبة. كانت صالحة، ويبدو أنها كانت تحبُّ أن تكون صالحة.»

ضحكَت إليزابيث، ليس بسرور.

وقالت: «أنت تتحدَّث كما لو كان بقيتُنا يختارون ألا يكونوا صالحين.»

صبَّ لنفسه المزيدَ من البراندي.

وقال: «فكِّري في الماضي. فكِّري في تلك الأيام في نيويورك، والحياة التي عشناها، والأشياء الجامحة التي ارتكبناها أسبوعًا بعدَ أسبوع، وشهرًا بعد شهر، والدائرة الأبدية نفسِها من تحويل الليل إلى نهار، والمحاولة المستميتة في كلِّ مكان من أجل العثور على مَلذَّات جديدة، وتحليل الرذائل إلى أجزاء صغيرة مثل الأطفال الذين يُحاولون استكشافَ ما بداخل ألعابهم.»

قاطعَته قائلة: «أنا لا أحبُّ حالتك المزاجيةَ على الإطلاق.»

دقَّ بأصابعه على مفرش المنضدة للحظة.

ثم قال: «كنا نتحدَّث عن بياتريس. إذن، فأنت لا تعرفين حتى أين هي الآن؟»

صرَّحت إليزابيث: «ليس لديَّ أيُّ فكرة.»

سأل: «هل ظلَّت معكِ مدةً طويلة في كورنوول؟»

عبثَت إليزابيث بكأس النبيذ الخاصة بها برهةً.

ثم اعترفَت: «ظلَّت هناك نحوَ شهر.»

فسألها: «ولم توافق على الطريقة التي تتصرفين بها أنتِ ووينهام؟»

«على ما يبدو لا. لقد تركَتنا على أي حال. لم تفهم وينهام على الإطلاق» وتابعَت إليزابيث: «لن أندهشَ إذا سمعتُ أنها تعمل ممرضةً في مستشفًى، أو تتعلم الكتابة على الآلة الكاتبة، أو موظفةً في مكتب. كانت شابةً ذات أفكار كئيبة، رغم أنها كانت أختي.»

اقتربَ منها قليلًا.

وقال: «إليزابيث، لن نتحدَّث بعد الآن عن بياتريس. لن نتحدَّث بعد الآن عن أي شيء باستثناء أنفسنا.»

فسألتْه بنعومة: «هل أنت مسرورٌ حقًّا لرؤيتي مرة أخرى يا جيري؟»

أجابها بصوتٍ هامس: «لا بد أنكِ تعرفين ذلك يا عزيزتي. لا بد أنكِ تعرفين أنني أحببتُكِ دائمًا، وأنني عشقتُكِ. أوه، لقد عرَفتِ ذلك! لا تقولي إنكِ لم تفعلي. كنتِ تعرفين يا إليزابيث!»

نظرت إلى مفرش المنضدة.

واعترفَت برقَّة: «نعم، كنت أعرف ذلك.»

فواصلَ قائلًا: «ألا يمكنكِ تخمينُ ما يُمثله لي أن أراكِ مرة أخرى هكذا؟»

فتنهَّدَت.

«إنه يمثِّل لي الكثير، أيضًا، أن أشعر أن لديَّ صديقًا في الجوار.»

قال: «تعالي، إنهم يُطفئون الأنوار هنا. تريدين أن تعرفي ممتلكات وينهام. اسمحي لي أن أصعد معكِ إلى الطابَق العلويِّ بعضَ الوقت وسأخبركِ بقدر ما تُسعفُني الذاكرة.»

دفعَ الفاتورة وساعدها في ارتداء عباءتها. بدَت أصابعُه وكأنها بقعٌ مشتعلة على لحمها. صعدا في المصعد. وفي الممرات جذبَها إليه وبدأتْ ترتجف.

تلعثمَت وهي تنظر في وجهه وتقول: «ما هو الغريب فيك يا جيري؟ أنت تُخيفني!»

«هل أنتِ سعيدة برؤيتي؟ قولي لي، هل أنتِ سعيدة برؤيتي؟»

فهمسَت: «نعم، أنا سعيدة.»

تردَّدَت خارج باب شقتها.

واقترحَت بصوتٍ خافت: «ربما … أليس من الأفضل لو أتيتَ غدًا صباحًا؟»

مرةً أخرى لمسَتها أصابعُه، ومرةً أخرى بدا أن هذا الشعور غير العادي بالخوف يُجمِّد الدم في عروقها.

أجابَ: «لا، لقد أرجأتُكِ مدةً كافية! يجب أن تسمحي لي بالدخول، يجب أن تتحدَّثي معي مدةَ نصف ساعة. وأعدك أنني سأذهب بعدها. نصف ساعة! إليزابيث، ألم أنتظر ذلك منذ الأزل؟»

أخذ المفاتيح من أصابعها وفتحَ الباب وأغلقه مرةً أخرى خلفهما. قادته إلى غرفة الجلوس. كان المكان كلُّه مظلمًا لكنها أشعلت الضوءَ الكهربائي. انزلقت العباءة من فوق كتفَيها. فأخذ يدَيها ونظر إليها.

وهمسَت: «جيري، يجب ألَّا تنظر إليَّ هكذا. أنت تُرعِبني! دعني أذهب!»

انتزعَت نفسها بجهد. وتراجعَت إلى ركن الغرفة، بقدر ما تستطيع أن تبتعدَ عنه. كان قلبها يخفق بشدة. بطريقةٍ أو بأخرى، لم يكن أيٌّ من هذين الشابَّين، اللذين أثَّرَت في حياتهما تأثيرًا شديدًا مكَّنها من أن تأخذ منهما كلَّ ما تريد، قد جعل قلبها يخفقُ بهذا الشكل من قبل. تساءلت ماذا كان الخَطْب؟ ماذا كان معنى ذلك؟ لماذا لم يتكلم؟ لم يفعل شيئًا سوى النظر، وقالت عيناه أشياءَ لا يمكن الإفصاحُ عنها. هل كان غاضبًا منها لأنها تزوجَت من وينهام، أم أنه يلومها لأن وينهام قد رحل؟ كان ثمة شغفٌ في وجهه، لكن يا له من شغف! ربما رغبة، ولكن ماذا أيضًا؟ أمسكَت ببرقيةٍ مُلقاة على مكتبها وفتحَتها. لقد كانت هروبًا لبرهة. قرأت الكلمات وحدَّقت فيها وقرأتها بصوت عالٍ غير مُصدِّقة. كانت من والدها.

«جيري جاردنر أبحرَ إلى نيويورك اليوم.»

نظرَت إلى الرجل، وبينما تنظر إليه شحبَ وجهُها وسقطَت الورقة الرقيقة من بين أصابعها التي فقدت الحياةَ على الأرض. ثم بدأ يضحك وعرَفَت.

صرخَت: «وينهام! وينهام!»

كان وجهُه يُنبئ بالقتل، وحتى ضحكتُه كانت تكاد تُنبئ بالقتل.

فأجابَ: «زوجُكِ المُحِب!»

قفزَت نحو الباب ولكن حتى أثناء تحركها سمعَت صوتَ إغلاق الترباس. ولمسَ المفتاح الكهربائي فغرقَت الغرفة فجأةً في الظلام. وسمعته يقترب منها، وشعرت بأنفاسه الساخنة على خدها.

قال هامسًا: «زوجتي المُحِبة! أخيرًا!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤