الفصل الرابع

علم النفس والإجراءات القانونية

الجنون في المحكمة

أحد الإسهامات الكبرى لعلماء النفس في الإجراءات القانونية هو تقدير ما إذا كان المدَّعَى عليهم في وقت وقوع الجريمة كانوا غير قادرين: إما على فهم طبيعة ما هم يقومون به، أو — إن كانوا فاهمين لذلك — على إدراك أنه كان خطأ. وهذا يختلف عن عدم معرفة أنه غير قانوني؛ لأن — كما يُقال كثيرًا — «القانون لا يحمي المغفلين». بالأحرى، إنه غياب للوعي الأخلاقي بطبيعة الأفعال الخاطئة. وتلك المعلومة الدقيقة تحديدًا هي التي تسبب البلبلة في مناقشات غير المختصين حول الجرائم الشنيعة بوضوح، مثل قتل سفاح لغرباء. فقد تبدو جرائم القتل بعيدة تمامًا عما هو مقبول أخلاقيًّا لدرجة أنه يجب اعتبار القاتل مجنونًا بأية معايير معقولة. ولكن، إن كان على اتصال كافٍ بالواقع ليعي ما يقوم به — وأن ذلك خطأ — إذنْ فبموجب القانون لا يمكن الدفع بجنونه. ولهذا السبب عدد قليل جدًّا من السفاحين يُحكم لهم بالبراءة نتيجة للجنون.

كثيرًا ما يثير الفارق بين الفهم القانوني والفهم العام للجنون جدلًا؛ فرجل يأتي أفعالًا يصعب فهمها — مثل قتل أطفاله انتقامًا من زوجته، أو قتل أشخاص غرباء عنه تمامًا يأكلون في ماكدونالدز — قد يعتبره الكثيرون «مجنونًا». ولكن بالنسبة للمحكمة، إذا كان يعرف ما يقوم به وأنه خطأ، فهو سليم العقل.

يواجه الدفع بالجنون مقتضيات للتعامل مع الأطفال؛ لأن أغلب الاختصاصات القضائية تسلِّم بأن الأطفال دون سن معينة لا يمكن اعتبارهم قادرين على التمييز بين الصواب والخطأ. ومن المثير للاهتمام أن هذا الحد الأدنى لسن المسئولية الجنائية يبلغ ٧ سنوات في الهند، ١٨ سنة في البرازيل، بينما يكون ١٠ سنوات في بريطانيا وإمارة ويلز وبالنسبة للجرائم الفيدرالية بالولايات المتحدة الأمريكية. ولكن من أجل السماح للأطفال بالإدلاء بشهادتهم، قد يُستدعى عالم نفس أيضًا ليقرر أن الشاهد الصغير يعرف فعليًّا الفارق بين الصواب والخطأ، والحقيقة والأكاذيب.

ثمة تقييم صعب الإجراء بوجه خاص في القضايا التي يزعم فيها المدَّعَى عليه أنه مر بشكل ما من أشكال الجنون المؤقت، يمكن التعبير عنه بوصفه اندفاع لا يقاوَم. ولهذا عدد من الاعتبارات الدقيقة؛ فإذا كان الشخص فقد فعلًا اتصاله بالواقع، ربما بسبب الهلوسة، يمكن أن تُبرَّأ ساحته بسبب الجنون. ويوجد شكل أكثر تطرفًا لهذا وهو ما يعرف باسم «السلوك اللاإرادي»، وفيه كان الشخص غير مدرك تمامًا لأفعاله، ربما لأنه كان نائمًا حينها. وستكون تبرئة ساحة مثل هذا الشخص لعدم توافر «القصد الجنائي».

هذه المسائل كلها جزء من ادعاءات عامة بأن للمدَّعَى عليه مسئولية جنائية منقوصة بسبب شكل ما من المرض العقلي. وإذا كان هذا المرض ملازمًا للمدَّعَى عليه، فستكون مهمة عالم النفس تقييم هيمنته على حياة المدَّعَى عليه وأي دور قد لعبه في الجريمة المتهم بها. وتوجد اختبارات نفسية معتمدة يمكن الاعتماد عليها للمساعدة في الوصول إلى مثل هذا الحكم، ولكن الرؤية المهنية الحالية هي أنها في أفضل الأحوال يمكن أن تكون ذات فائدة بوصفها جزءًا من مقابلة إكلينيكية أشمل، لكن لا يُحتمل أن تكون صالحة صلاحية كافية لتُستخدم وحدها.

ثمة تقييم يمكن أن يرتبط بالدفع بالجنون لكنه مختلف نوعًا ما، ونعني بهذا تحديد ما إذا كان الشخص يتمتع بالأهلية كي يحاكَم. وأهلية المحاكمة هي قدرة الفرد العامة على إمكانية اتخاذ القرارات المناسبة وفهم ما يجري بالمحكمة. والفارق الجوهري عن تقييم الجنون هو أن الأهلية تتعلق بالقدرة العقلية في المراحل المختلفة للعملية القانونية، بينما يركز الدفع بالجنون على الحالة العقلية وقت الجريمة.

من الأمثلة الواضحة على تقييم الأهلية قضية ثيون جاكسون، وهو أصم أبكم يبلغ ٢٧ عامًا أُلقي القبض عليه للسرقة. وقد اكتُشف أنه يملك نسبة ذكاء منخفضة، وأنه كان غير قادر على التواصل تواصلًا فعالًا بشكل كافٍ للمشاركة في الدفاع عن نفسه. وأدى هذا إلى الحكم بأنه غير مؤهل للمثول للمحاكمة؛ ومن ثمَّ وجب: إما إطلاق سراحه، أو إيداعه مؤسسة تخضع للإشراف من نوع ما.

توجد مجموعة من الاختبارات القياسية لقياس الأهلية، ولكن المسألة متشابكة بصورة كبيرة مع الإجراءات القانونية الفعلية، لدرجة أنه يندر الاعتماد عليها باعتبارها دليلًا. ويفضل أغلب المختصين إجراء مقابلات مستفيضة، واستخدام مقاييس أشمل للمرض العقلي والقدرة العقلية. وهذا يسمح لهم بتحديد ما إذا كان المدَّعَى عليه قادرًا بالفعل على فهم العملية القانونية التي هو جزء منها وعلى التواصل بفعالية مع فريقه القانوني أم لا. وإذا كان بإمكان عالم النفس الشرعي المضي مرحلة إضافية والاعتماد على فهمه لما يمكن أن يسبب أي قصور، فهذا سيدعم أية قضية يرفعها إلى القضاء دعمًا لأهلية المثول للمحاكم أو اعتراضًا عليها. وكجزء من العملية سيُجرى تقييم لما إذا كان المدَّعَى عليه يتمارض أم لا، وسيكون عاملًا حاسمًا. وتهدف بعض الاختبارات النفسية مباشرة إلى الكشف عن محاولات التظاهر بالمرض العقلي وأشكال انعدام الأهلية الأخرى.

مساهمات متزايدة

الأدوار المختلفة التي يتقلدها علماء النفس في الإجراءات القانونية دشنت سلسلة من الموضوعات التي تتجاوز الآن اعتبارات المرض العقلي وأهلية الدفاع أمام القضاء. وهذه المجموعة المتنوعة المتسعة من الإسهامات تعتمد على الخبرة الإكلينيكية، إضافة إلى دراسات مختلفة كثيرة — أُجريت أحيانًا فيما يخص قضايا معينة — ودراسات كثيرًا ما أجريت باعتبارها أبحاثًا عامة وجدت سبيلها في النهاية إلى العملية القانونية. والالتفات إلى بعضٍ من هذه الجوانب الرحبة لشهادة الخبير يكشف عن مدى ثقل المكانة التي يأخذ علماء النفس في احتلالها في النظام القانوني.

الاعترافات الكاذبة

أحد الجوانب المثيرة للانتباه خصوصًا هو الموقف الذي قد يعترف فيه شخص كذبًا بارتكابه جريمة. وكثيرًا ما يتفاجأ الناس — وحتى ضباط الشرطة المتمرسون — باعتراف شخص بجريمة هم يعلمون أنه لم يقترفها. ولكن من واقع الاعتبارات النفسية الأولى للشهادة، من المعروف أن الاعترافات الكاذبة تحدث كثيرًا، وهو ما يؤهلها لتكون مصدرًا لقلق حقيقي للشرطة والمحاكم. وثمة مثال تاريخي بارز على هذا، كان عندما اختُطف ابن تشارلز ليندبيرج في ١٩٣٢، واعترف نحو ٢٠٠ شخص بالجريمة. وعلى نحو مشابه، اعترف ما يزيد على ١٠٠ شخص في ١٩٨٦ بقتل رئيس الوزراء السويدي أولاف بالم.

توجد أسباب كثيرة يمكن أن تجعل الناس يعترفون كذبًا، أوضحها يتعلق برغبة في حماية شخص آخر أو للهروب من الإجبار على الاعتراف في التحقيقات — أو التعذيب في الواقع — مع الاعتقاد بأنه سيُطلَق سراحهم ما إن يُدلوا بالاعتراف. بل إن عددًا صغيرًا يكتسب اعتقادًا بأنه ارتكب الجريمة بالفعل.

لفهم كيف يُقنع شخص بريء نفسه بأنه ارتكب جريمة من الجرائم، ينبغي إدراك مدى طواعية الذاكرة؛ حيث كشفت سنوات طوال من أبحاث علم النفس أن الذاكرة ليست كلوح التصوير عتيق الطراز الذي يبهت مع مرور الوقت، بل هي مصممة على أساس معرفة الاحتمالات والأنماط من شظايا ما يلاحظ في حينه. ويوجد الآن عدد ضخم من الأبحاث التي تُظهر كيف يمكن أن تتأثر هذه العملية عن طريق أحداث تقع في وقت لاحق على ما يَجري تذكُّره. ومن العوامل المؤثرة بشكل خاص الأسئلة التي تُطرح حول الحدث الرئيسي. فإن كانت هذه الأسئلة تتضمن شيئًا لم يحدث، ففي المرة التالية التي سيتذكر فيها الشخص ما حدث قد يستبطن هذه الاقتراحات ويصدق الآن أنه تذكرها. على سبيل المثال، إذا سُئل شخص عن سيارة حمراء مرت أثناء الأحداث التي شهدها — رغم أنه لم تكن هناك سيارة حمراء بالمرة — فمن الممكن في المقابلات اللاحقة أن يعتقد الشخص بصدق أنه رأى سيارة حمراء مارة.

في المواقف التي لا يتذكر فيها شخص من الأشخاص أي شيء مطلقًا عما حدث — ربما نتيجة للشراب أو المخدرات — ربما يكون أكثر ضعفًا أمام إيحاءات بارتكابه جرمًا. وقد يشعر بعض الناس بالذنب لما حدث — رغم أنهم لم يتورطوا فيه — ويعترفون لأنهم يعتقدون أنهم ينبغي أن يكونوا مذنبين.

لكن ثمة مجموعة فرعية من الأشخاص الذين تلقي الشرطة القبض عليهم يكونون ضعفاء بصورة خاصة أمام الضغوط الضمنية التي يمكن أن توجد في عملية الاستجواب. وقد يعاني بعضٌ من هؤلاء الناس من مرض عقلي، مثل الفصام؛ مما يصعب عليهم التمييز بين الخيال والواقع، أو قد يكونون معاقين عقليًّا وغير مدركين لما يعترفون به. وفي الواقع، ثمة دلالات أنه في بعض الثقافات يتوقع أن شخصًا من خلفية متواضعة سيوافق على أي شيء يقترحه شخص له سلطان عليه؛ ولذا إن قيل له إنه مذنب، فسيقبل هذا دون شك. وسيكون علماء النفس الشرعيون في موقف يتيح لهم دراسة هذه الاحتمالات، وتقديم النصح للمحكمة والمختصين الآخرين حول ما إذا كان للشخص هذه الميول التي تجعله مرشحًا للاعتراف كذبًا.

يزعم جوديونسن وآخرون — الذين درسوا الميل للإيحاء — أنه يوجد سمات أقل وضوحًا أيضًا لدى بعض الأشخاص تجعلهم مُعرَّضين دون غيرهم للتأثير. ولاختبار ذلك، ابتكر جوديونسن إجراءً لقياس مدى ميل أحدهم ليكون قابلًا للإيحاء. وقد استخدم هذا الاختبار في محاكم قانونية كثيرة في جميع أصقاع العالم، لدعم مزاعم المدَّعَى عليهم بأنهم اعترفوا كذبًا نتيجة قابليتهم للتأثر في عملية الاستجواب. وفي أبرز هذه الحالات، أدلى جوديونسن بشهادة لصالح «متهمي برمنجهام الستة»، الذين أُطلق سراحهم جميعًا في النهاية، رغم أنهم كانوا مدانين أصلًا بزرع قنابل في حانات أودت بحياة ٢١ شخصًا. حيث اكتُشف أن الأربعة الذين اعترفوا كذبًا من الستة بغرس القنابل سجلوا نتائج على مقياس القابلية للإيحاء الذي وضعه أعلى بكثير من الاثنين اللذين لم يعترفا.

يتكون اختبار جوديونسن من تلاوة قصة على مسامع الشخص الخاضع للاختبار، ثم يطلب منه بعدها أن يقول ما يتذكره من القصة. لاحقًا، يُسأل الشخص عن القصة بالتفصيل. ويتضمن بعضٌ من هذه الأسئلة جوانب من القصة لم تكن فيها ويُخبر المستجيب أنه ارتكب بعض الأخطاء الفادحة وعليه أن يجيب على الأسئلة مرة أخرى. وتكون درجة تغيير الشخص الخاضع للاختبار حينها لإجاباته والطريقة التي يغيرها بها هما المستخدمتين للدلالة على مدى قابليته للإيحاء عند الاستجواب القاسي. ولم ينجُ إجراء جوديونسن من النقد الجاد، لكن التبني السريع له من جانب المحاكم يكشف فعليًّا عن استعداد المحاكم للموافقة على تضمين التقييمات النفسية إذا كانت تتمتع بأساس قوي.

ذكريات مستعادة

يُقال إنه قد يتذكر أحد المرضى أحيانًا — كجزء من العلاج — صدمات من سنوات سابقة كان قد نسيها. وغالبًا ما تتخذ هذه «الذكريات المستعادة» شكلًا ما من أشكال الإساءة. وتُستخدم أيضًا هذه التصريحات بالتعرض للإساءة باعتبارها شهادة أمام المحكمة لإدانة الجاني المزعوم. وتوجد قضايا كثيرة أدى هذا فيها إلى سجن شخص لا يرقى له الشك — غالبًا أب أو قريب حميم آخر — لسنوات طوال. والمشكلة هي تحديد ما إذا كانت الذكرى استُعيدت أم استُحِثت زورًا في عقل المريض، وربما دون ذنب منه.

يصعب على القضاة وهيئات المحلفين تصديق أن الشخص سيتذكر كذبًا — ولكن بصدق — حدثًا مهمًّا إذا كان لم يحدث قط. ولكن قدرة بعض الأشخاص على سرد ذكريات واضحة جدًّا عن أحداث تبدو غير محتملة الحدوث أكثر من التعرض للإساءة كطفل — مثل الاختطاف على يد كائنات فضائية — توضح مدى الحرص الذي يجب أن تكون المحاكم عليه. فإذا لم تكن هناك بينة مؤيدة، فكيف يمكن تقرير ما إذا كانت الذكرى دقيقة من عدمه؟ والمعايير العادية مثل وضوح الذكرى والثقة التي يتحدث بها الشخص في سرده لها؛ قد لا تكون دقيقة إذا أُعد التقرير على مدار شهور طويلة في جلسات يباشرها معالج مقتنع أن أعراض المريض هي نتيجة للتعرض لإساءة.

جزء من الأساس القائم عليه التحليل النفسي الحديث كان تدقيق سيجموند فرويد في الأسباب التي جعلت مرضاه يزعمون أنهم تعرضوا للإساءة كأطفال، في حين لم تكن المسألة كذلك كما يبدو. ورأي فرويد هذا بوصفه تعبيرًا عن رغبات لاواعية لدى المريض التي هي جزء من المشكلة النفسية التي أتت به إليه. بمعنى آخر، ذهب فرويد إلى أن مشكلات المريض لم تكن نتيجة الإساءة. وعلى العكس من ذلك، يعتقد المعالجون العاملون في إطار منهج منحدر مباشرة من منهج فرويد أن الأحداث المتعلقة بالصدمة التي لا يستطيع المريض تذكرها حدثت بالفعل، ويمكن تسليط الضوء عليها من خلال إجراءات العلاج المناسبة. ويتمثل الاعتراض على الذكريات «المستعادة» على هذا النحو في أن الزعم بحقيقتها يتجاهل إمكانية تطويع الذاكرة البشرية، الأمر الذي أشرنا إليه فيما يتعلق بالاعترافات الكاذبة والجوانب الأخرى من إفادات الشهود.

الشهادة اعتمادًا على متلازمة

يصعب على المحاكم استيعاب الظواهر النفسية المعقدة وتحليلها. ويرجع هذا جزئيًّا إلى اعتقاد القضاة أنهم يعرفون الكثير عن البشر، وأنه ينبغي أن يُسمح لهيئات المحلفين بالاعتماد على خبراتهم هم ليفهموا ما يُقال لهم. فإذا كان يمكن استخدام اختبار قياسي لدعم استنتاج نفسي، فهذا يضيف مستوًى آخر من الخبرة يتجاوز المستوى المتاح للمحكمة من واقع الخبرات الشخصية. وعلى نحو مشابه، إذا كان يمكن عرض المشكلات السلوكية الجاري فحصها باعتبارها مضاهية لشكل من أشكال التشخيص الطبي، فقد يكون هذا أيضًا مقبولًا أكثر من مجرد «الرأي المهني». وفي هذا السياق وجدَت مجموعة متنامية من «المتلازمات» النفسية سبيلها إلى الإجراءات القانونية. مع ذلك، من المهم أن نسارع بالقول بأنه لا المحامون ولا كثير من علماء النفس يطمئنون إلى هذا التعامل مع الأنماط السلوكية باعتبارها مسألة طبية. ولكن هذا لم يمنع هذه المتلازمات من أن تصبح جزءًا من مفردات علم النفس الشرعي.

متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة

أكثر المتلازمات النفسية شيوعًا في الاستخدام في الشهادات هي متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة. وهي لها تاريخ طويل ومتنوع، باعتبارها جزءًا من «صدمة القذيفة» التي عُرفت إبان الحرب العالمية الأولى، أو ما كان يطلَق عليه «إجهاد المعركة» إبان الحرب العالمية الثانية. بل وكانت هناك ظاهرة اكتُشفت في الحرب الأهلية الأمريكية وأطلق عليها «قلب الجندي». في البداية، لم تلقَ جميع ردود الأفعال المفرطة هذه لخبرة المعركة اهتمامًا باعتبارها جبنًا أو ضعفًا بالشخصية. وهناك حالات في الحرب العالمية الأولى أُعدم فيها جنود بسبب الجبن أو الفرار من الجندية، كانت حالاتهم ستشخَّص الآن باعتبارهم يعانون من متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة. وساعد الفهم الإكلينيكي لآثار الصدمة الشديدة على اكتساب فهم أكثر استنارة لما يمر به الناس في معمعة الحرب، وهذا قدَّم أيضًا إطار عمل لتقييم التأثير النفسي لمواقف أخرى كثيرة مرتبطة بالصدمات.

تشير بعض التقديرات إلى أن ما يصل إلى واحد من بين عشرة من إجمالي السكان يعاني من متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة خلال حياته. مثال على ذلك، إذا تعرضت لحادث قيادة وأصبحت عازفًا عن القيادة أو حريصًا حرصًا مفرطًا وأنت تقود، وتستجيب بانفعال مفاجئ من القلق متى تسمع صرير الإطارات، فأنت لديك الأساس لشكل غير حاد على الأقل من متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة. وإذا استمرت هذه الأعراض لأسبوعين أو ثلاثة، ربما يطلَق على الحالة «اضطراب الضغط الحاد».

بخلاف الأشكال الأخرى من الاضطراب العقلي، تتطلب متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة سببًا واضحًا؛ حدثًا مرتبطًا بصدمة يمكن اعتباره متجاوزًا للخبرة الإنسانية الطبيعية، ويتضمن شعورًا حادًّا بالخوف أو العجز أو الذعر. ولتحديد التشخيص، يجب أن يتضح استمرار التبعات النفسية لهذه الصدمة لأكثر من شهر، واشتمالها على ذكريات مزعجة ومشاهد استرجاعية وأحلام مقلقة، أو مزيج منها. إضافة إلى ذلك، يجب أن يشعر الشخص بالحاجة إلى تجنب أي شيء يتعلق بالصدمة، مثل أماكن أو أشخاص، أو حتى بعض الذكريات. والعنصر الرابع للاضطراب هو تنامي الحساسية للتهديدات الممكنة، لا سيما من أي شيء متصل بالصدمة، مصحوب بقلق وألم، وغالبًا ما يستدل عليه من اضطراب النوم. وفي حالة ظهور أيٍّ من هذه الأعراض الأربعة، يتم تشخيص الإصابة بمتلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة. ويُعتمد على عدد الأعراض وحِدتها واستمرارها لتحديد خطورة الاضطراب.

قبلت محاكم الولايات المتحدة بمتلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة باعتبارها شكلًا من أشكال المرض العقلي؛ واستُخدمت نتيجة لذلك بوصفها ظروفًا مخففة للأحكام الصادرة في حالات هجوم عنيف. ففي إحدى القضايا، قبلت المحكمة العليا في نيوجيرسي بأن هجومًا عنيفًا شنه جندي سابق، على ضابط شرطة، كان نتيجة مشهد استرجاعي حسب فيه الجندي السابق أن ضابط الشرطة جندي عدو. وقبلت محكمة كندية بهذا الاستخدام لمتلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة باعتبارها جزءًا من دفع بالجنون في قرارٍ اتخذته في قضية اعتداء جنسي على طفل؛ حيث زعم المدَّعَى عليه إصابته بمتلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة نتيجة حادث قد وقع له بينما كان في مهمة لحفظ السلام في البوسنة، حيث حال دون اعتداء جنسي على طفل بقتله المهاجم. وقال في المحكمة إن الهجوم المتهم به كان نتيجة لتمثيل تلك الواقعة؛ وقبِل القاضي أنه كان مجنونًا في وقت الجريمة، لعدم قدرته على إدراك طبيعة ما كان يقوم به. ومن نافلة القول أن كثيرًا من الخبراء قلقون من هذا التوسع في استخدام متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة باعتبارها حجة على الجنون في جرائم العنف الحميمي. ويصعب جدًّا التأكد من درجة حالات فقدان الوعي ومدى فقدان الذاكرة كجزء من متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة، كما هو الحال في جوانب أخرى كثيرة جدًّا من الذاكرة.

تُستخدم متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة بشكل رئيسي في دعاوى الحوادث؛ حيث تقدم المتلازمة مجموعة معايير مجربة وواضحة لتقييم التأثير النفسي للحادث. مع ذلك، حتى هذا التطبيق الواضح تمامًا يثير الجدل. وتوجد أدلة معقولة على أن تأثير أي صدمة يتوقف على الصحة النفسية للشخص قبل وقوع الحادث. أيضًا خبرات ما بعد الصدمة — مثل الدعم الاجتماعي أو فقد العمل — يمكن أن يكون لها تأثير على الإصابة بمتلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة. والأكثر تعقيدًا هي تلك الإشارة الواضحة على أن متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة يمكن أن تستمر لفترة أطول وتكون أشد خطورة، إذا كان هناك اختصام دائر يمكن أن تلعب فيه دورًا.

متلازمة المرأة المعنَّفة

وجدت متلازمة أخرى سبيلها إلى المحاكم — بل ربما قبل متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة — وهي متلازمة المرأة المعنَّفة. فقد استخدم محامو المرافعات هذه المتلازمة لتفسير عدم قدرة امرأة عانت من إيذاء بدني شديد على مدار فترة زمنية على إنهاء العلاقة، حتى عندما يكون المسيء لها غائبًا أو نائمًا. وتدور السمات المميزة للمتلازمة حول فكرة أن الجاني في الحقيقة يعلِّم الضحية أن تكون عاجزة. و«العجز المتعلَّم» ظاهرة لوحظت أول مرة في الحيوانات التي لم تستطع الهرب من الصدمات الكهربائية في التجارب، حيث توقفت في النهاية عن محاولة تجنب الصدمات وقبعت في مكانها في توانٍ. واكتُشفت منذ ذلك الحين هذه السلبية المرتبطة بالإيذاء الطائش الذي لا سبيل لاجتنابه لدى أفراد كثيرين.

عندما يكون الإيذاء الطائش جزءًا من علاقة بين البشر، يكون هناك مزيج من العمليات النفسية التي تشكل أساسًا للعجز. وهذا يتضمن اعتقاد الضحية أن الإيذاء خطؤها، وأنه ربما يوجد شيء بمقدورها عمله لمنع حدوثه في المستقبل، أو يوجد تهديد مباشر لحياتها أو لحياة أطفالها. وغالبًا سيكون للإيذاء عناصر ابتزاز نفسي أيضًا، مثل إخبار الضحية بأن أطفالها سيؤخذون منها إن أبلغت عن العنف. وكثيرًا ما يدعم هذا كله اعتقاد غير عقلاني بأن المجرم يملك قوة لامحدودة ومعرفة لانهائية.

بعض المتلازمات النفسية التي استُخدمت باعتبارها أدلة في المحاكم

  • متلازمة الطفل المعنَّف.

  • متلازمة المرأة المعنَّفة.

  • متلازمة الاعتداء الجنسي في الطفولة.

  • متلازمة التكيف مع الاعتداء الجنسي في الطفولة.

  • متلازمة الذاكرة الكاذبة.

  • متلازمة منشهاوزن باي بروكسي، ويُطلَق عليها أيضًا الاضطراب المفتعل باي بروكسي.

  • متلازمة الاغتراب الأبوي.

  • اضطراب توتر ما بعد الصدمة.

  • متلازمة صدمة الاغتصاب.

  • متلازمة الذكريات المستعادة.

  • إصابة الدماغ الرضيَّة.

تفسير أفعال الإناث

الملاحَظ بشأن متلازمات كثيرة تقبل بها المحاكم هو أنها ترتبط مباشرة بأفعال النساء — وليس الرجال — مما يفسر غالبًا أفعال الضحايا الإناث عندما لا تتفق والآراءَ الشائعة النمطية عن الكيفية التي يُتوقع أن تتصرف النساء بها. وكما ذكرنا، قد لا تهرب النساء المعنَّفات أو تقاوم، ويمكن أن تساعد متلازمة المرأة المعنَّفة هيئات المحلفين على فهم سبب حدوث هذا. وقد قُبلت مجموعة من المتلازمات المشابهة الأخرى أيضًا بوصفها تفسيرات لسلوك النساء المفاجئ، أو باعتبارها بينة على مسئولية منقوصة أو ظروف مخففة للحكم. وبذا هي تخلق جدلًا حارًّا حول ما إذا كانت هذه المتلازمات نوعًا متخفيًا من عداوة المرأة وليست حالات راسخة بالفعل مثل تلك التي تتمتع بطبيعة طبية.

قَبِلَ عددٌ من الولايات القضائية بمتلازمة التوتر السابق للحيض بوصفها شكلًا من أشكال الجنون المؤقت، وفيها يمكن أن تكون النساء في مرحلة معينة من الدورة الشهرية أكثر ضعفًا من الناحية الانفعالية، ويعانين من مزيج من العلل البدنية والنفسية. واستُخدمت هذه المتلازمة باعتبارها دفاعًا في اعتداءات عنيفة — وفي قضايا قليلة وصل الأمر إلى القتل — ارتكبتها نساء. ومن الواضح وجود عدم مساواة بالنسبة للجنس في تطبيق هذا الدفاع؛ لأنه رغم وجود بعض الأدلة على حدوث حالات تأرجح مزاجية شهرية لدى الذكور، لا يمكن أن يرتبط هذا مباشرة بتغييرات فسيولوجية بالغة؛ ومن ثَمَّ لا يُراعَى بشكل كامل أحد الأركان الأساسية للقانون، والقائل بأن الجميع سواسية أمامه، من خلال تأييد هذا الدفاع.

ثمة متلازمة أكثر إنصافًا — إلى حدٍّ ما — ترتبط عادة بالضحايا من النساء ولكن ممكنة التطبيق على الرجال، هي متلازمة صدمة الاغتصاب. وتوجد نقاط تشابه بينها وبين متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة، رغم أنها تؤكد على جوانب مختلفة نوعًا ما وغير معرَّفة بوضوح. والجدوى في المحكمة هي توضيح السبب الذي ربما يجعل ضحية اغتصاب ترجئ التبليغ عن الاعتداء. وتقترح متلازمة صدمة الاغتصاب أن الإرجاء يمكن أن يشير مبدئيًّا إلى شك الضحية في أن لها دورًا في الاغتصاب، بل قد تلوم نفسها. ويُعتقد أن هذا جزء من الآثار النفسية لصدمة الهجوم نفسها، والتي غالبًا ما تتضمن الاكتئاب والتفكير في الانتحار ومشاعر متنوعة من الخوف والقلق.

ثمة نقطة مهمة بشأن هذه التبعات النفسية لمسببات الضغوط والصدمات، وهي أنها يمكن أن تنتج عن أحداث لا تتضمن عنفًا واضحًا ومفرطًا؛ فالخوف والإهانة النفسية الشديدة يمكن أن يؤديا لصدمات مثلما يؤدي العدوان البدني الوحشي، أو يمكن أن يؤديا لصدمات تفوق الناتجة عن هذا العدوان. وتظهِر دراسات كثيرة أن الضغوط ترتبط بفقدان السيطرة؛ ونتيجة لذلك فالمواقف التي تنتقص من مشاعر السيطرة الشخصية لدى الفرد، يمكن أن يكون لها تأثير كبير على مشاعر تقدير الذات وقدرة المرء على التحكم في حياته.

علم نفس قاعة المحكمة

الشهادة التي يُدلي بها علماء النفس الشرعيون، بوصفهم خبراء في الإجراءات القانونية، مستمَدة بصورة كبيرة من تقييم الأفراد باستخدام مقابلات إكلينيكية وأدوات تشخيصية. وهذا يتعارض مع التطبيق المتنامي لعلم النفس على دراسة ما يحدث بالمحكمة والتأثير عليه، وهو ما يميل إلى الاعتماد بصورة أكثر مباشرة على علم النفس الاجتماعي أكثر من اعتماده على علم النفس الإكلينيكي واختبارات القياس النفسي. وكما هو الحال في مجالات أخرى كثيرة من تطبيقات علم النفس، احتلت الولايات المتحدة الأمريكية مركز الصدارة في هذا المجال. وثمة سبب رئيسي لهذا، هو أن النظام القانوني الأمريكي منفتح أكثر بكثير على إجراء الاختبارات، ويسمح بتدخل محامي المرافعات بدرجة أكبر بكثير مما يحدث في المملكة المتحدة. وعلى وجه الخصوص، من الممكن في بعض الولايات التحري مباشرة عن كيفية اتخاذ هيئات المحلفين في الواقع للقرارات؛ بينما في أغلب الدول التي تستعين بهيئات المحلفين، تظل طريقة عمل هيئة المحلفين سرية (رغم أنه في فرنسا غالبًا ما يكون القاضي حاضرًا أثناء اتخاذ هيئة المحلفين للقرار لضمان أنهم يؤدون مهمتهم بشكل سليم). وهذه السرية السائدة تعني بالفعل أن قليلًا جدًّا معروف عن الكيفية التي تتعامل بها فعليًّا العينة العشوائية من الأشخاص المحليين المشكلين لهيئة المحلفين مع الشهادات المقدمة في محاكمة من المحاكمات للوصول إلى قرار.
fig7
شكل ٤-١: أجواء محكمة الأسرة أقل رسمية.1

تتمثل الاختلافات الرئيسية الأخرى لدى الولايات المتحدة الأمريكية في القواعد التي تسمح لمحامي المرافعات بالتأثير على من يمكن أن يكون عضوًا في هيئة المحلفين. ورغم أن جميع الأنظمة القانونية التي تعمل بنظام المنازلة تسمح بمساحة لانتقاء هيئات المحلفين، إلا أن هذا عادة مقيَّد لأقصى حد، ولكن في الولايات المتحدة الأمريكية يمكن الشك في المحلفين إلى حدٍّ بعيد، وتجيز المحكمة استبعاد كثير منهم. وأدى هذا إلى «الانتقاء المنهجي للمحلفين»؛ وفيه يرشد علماء النفس محامي المرافعات لاختيار هيئات المحلفين، الذين يكونون أغلب الظن مؤيدين لقضيتهم. وقد يتبع ذلك تقديم النصح بشأن كيفية جعل هيئة المحلفين تتقبل الحُجج التي تُعرض عليها. تعد قضية ما إذا كان هذا يؤثر بالسلب على الإجراءات القانونية، أو أنه في الحقيقة لا يختلف عما يقوم به محامو المرافعات؛ قضية خلافية. والجدل يدور حول ما إذا كان ثمة تجاوز للحدود الأخلاقية للمهنة بسبب ما يعتبره البعض تدخلًا في سير عمل هيئة المحلفين الطبيعي. ولا يثير الدهشة لذلك أن كثيرًا من المختصين يساورهم قلق عميق إزاء هذا الشكل من النصح.

يعتمد النصح المقدم لمحامي المرافعات على محاولات لفهم كيفية عمل هيئات المحلفين والعمليات الاجتماعية والنفسية التي تؤثر على القرارات التي تتخذها. وتُطرح أسئلة نفسية عامة كثيرة بالنسبة لاتخاذ هيئة المحلفين للقرارات. وتتضمن هذه الأسئلة كلتا المسألتين المتعلقتين بالتوجهات الفردية نحو ما يُعرض عليها في المحكمة وبفهمها له، إضافة إلى العمليات الاجتماعية للتأثير. وفي الفيلم القديم «اثنا عشر رجلًا غاضبًا»، صُورت الأجواء النفسية الاجتماعية بحجرة هيئة المحلفين تصويرًا رائعًا، عندما تمكنت الشخصية التي يمثلها هنري فوندا من التأثير على رأي الأحد عشر عضوًا الآخرين في هيئة المحلفين.

تثير هذه العمليات مشاعر أسف خاصة عندما تتخذ هيئة المحلفين قرارًا بشأن الحكم الذي ينبغي تسليمه إلى القاضي. ويمكن أن يتعلق هذا بمبالغ تعويضات، أو بما إذا كان ينبغي توقيع عقوبة الإعدام على المدَّعَى عليه في بعض قضايا القتل في الولايات المتحدة الأمريكية. وتُظهر الدراسات التي أُجريت على اتخاذ هيئات المحلفين للقرارات أن التوجهات نحو المسائل محل النظر — لا سيما توجهات الناس العامة نحو تقبُّل عقوبة الإعدام — يمكن أن يكون لها تأثير أكبر بكثير من أي دليل يُعرض في المحكمة.

ثمة نقطة مهمة تنبثق من الدراسات التي أُجريت على هيئات المحلفين، وهي مدى ضعف فهمهم للتعليمات التي تعطَى إليهم؛ وهذا نتيجة لمزيج من الجوانب المنفرة للغة القانون، وتعقُّد القضايا محل النظر، والتباينات بين المحلفين من حيث مستويات تعليمهم وتحيزاتهم، والأفكار التي كوَّنوها مسبقًا بشأن القانون. فعلى سبيل المثال، في اسكتلندا تقدَّم وثيقة مكتوبة بلغة قانونية متخصصة مهجورة إلى المحلفين تصف التهمة التي يواجهها المدَّعَى عليه. وهذا يميل إلى زيادة احتمالات اعتقاد المحلفين أن المدَّعَى عليه مذنب، أكثر مما لو قدمت إليهم المعلومات نفسها في تقرير بسيط مكتوب بلغة إنجليزية متداولة.

المحاكم بالطبع على دراية بالتحديات التي تشكلها نقاط الضعف هذه، ويحاول علماء النفس إيجاد طرق أكثر فعالية لمحامي المرافعات والقضاة من أجل التفاعل مع هيئات المحلفين. وهذا يتضمن تحليل التعليمات بحيث يؤخذ في الاعتبار المستوى التعليمي الذي تفترضه هذه التعليمات، وتقديم نماذج قرارات خاصة للمحلفين كي يكملوها، وأيضًا مخططات التدفق التي يمكن أن ترشد هيئات المحلفين إلى كيفية دراسة الشهادة والوصول لقرار. ولكن تأثير التقاليد القانونية يبطئ السرعة التي يمكن بها تنفيذ هذه الابتكارات.

تحاول عملية اختيار هيئات المحلفين — لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية — التعامل مباشرة مع المشكلة بالغة الأهمية المتمثلة في التحيز لدى محلف من المحلفين. فسيضعف إصدار هيئة المحلفين لحكم نزيه موضوعي على الوقائع الماثلة أمامها، إذا حمل محلف من المحلفين تحيزات تجاه المسائل الحاسمة في قضية، لدرجة أنه سيتجاهل الوقائع ويقرر على أساس الاعتقادات الموجودة لديه مسبقًا. ونتيجة لهذا الجدل يعتمد محامو المرافعات على مستشارين لاختيار هيئات المحلفين.

أُلفت كتيبات عن فنيات المحاكمات لمساعدة محامي المرافعات على التعرف على التحيزات لدى المحلفين، والتي ستحملهم على أن يكونوا ضد طرفهم من النزاع. وهي تقدم إرشادات بشأن الأسئلة المقبولة قانونًا للطرح على المحلفين قبل بدء المحاكمة، والنواحي التي قد تشير فيها إجابات تلك الأسئلة إلى التحيزات التي يمكن أن تكون لدى محلف من المحلفين، مثل زيادة احتمالات إصدار المتقدمين في السن عادة لقرار بالإدانة. ومع ذلك، هذا الأسلوب البسيط قد يعطي نتائج عكسية، في بعض القضايا، عندما يكون المتقدمون في السن أكثر تعاطفًا مع المدَّعَى عليه. وحتى الفرض بأن المحلفين سيميلون إلى أن يكونوا أكثر تساهلًا نحو أفراد المجموعة العرقية التي ينتمون إليها؛ لا يجد تأييدًا كبيرًا من واقع الدراسات. ويمكن أن يوجد ميل لدى الناس يُشعرهم أن المدَّعَى عليه يُخيِّب أمل مجموعتهم العرقية، وهو ما يُطلق عليه أحيانًا «تأثير الخروف الأسود».

تعد سمات الشخصية والتوجهات أكثر فعالية إلى حدٍّ ما في التنبؤ بالقرار الذي سيتخذه محلف من المحلفين. ونتج عن إمكانية إعطاء المحلفين استبيانات ليكملوها محاولاتٌ لابتكار وسائل قياسية من شأنها أن تتوقع مثلًا احتمال إصدار محلف من المحلفين لقرار بالإدانة. أحد هذه الاستبيانات «مقياس تحيز المحلف»؛ وهو يسأل ما إذا كان المحلف يوافق أم لا على عبارات مثل: «بوجه عام، تلقي الشرطة القبض على أحدهم عندما تكون متأكدة من أنه ارتكب الجريمة»، أو «إذا هرب مشتبه به من الشرطة، فمن المرجح أنه ارتكب الجريمة»، وهذا لا يرتبط إلا ارتباطًا ضعيفًا جدًّا بالقرار الذي يمكن أن يصل إليه فرد، ولكن عوامل كثيرة في القضية يمكن أن تخفي هذا التأثير.

سيكون من المطمئن إدراك أن محاولات علماء النفس عمومًا للتأثير على نتيجة القضايا، من خلال اختيار هيئات المحلفين، وتقديم النصح إلى محامي المرافعات؛ لم تكن بالقوة التي يزعمها أحيانًا أولئك الراغبون في كسب المال من هذه الاستشارات. ولا تزال قوة الأدلة حتى الآن أقوى ما ينبئ بنتيجة أي قضية. ولكن، عندما تكون الأدلة دامغة، تزداد احتمالات اعتراف المدَّعَى عليه. ولذا من المرجح أن تُعقد المحاكمات التي يشترك فيها محلفون في القضايا التي تتكافأ فيها الأدلة على نحو متساوٍ؛ ومن ثَمَّ يمكن في هذه المواقف لتأثيرات بسيطة نسبيًّا من السمات المميزة للمحلفين، أو كيفية عرض القضية أمامهم؛ أن تشكل الفارق بين قرار الإدانة أو البراءة.

خاتمة

تسبق الإجراءات والمبادئ القانونية علم النفس بوصفه علمًا في الوجود بنحو ألفَي عام على الأقل؛ ومن ثَمَّ لا ينبغي أن يدهشنا أن المحامين — بوجه عام — يعزفون عن تبني معلومات من علماء النفس. ونتيجة لذلك، كان الموقف نحو شهادة علم النفس هو السماح بها مبدئيًّا لغرض معين محدد جيدًا، لا سيما في حالات الدفع بالجنون أو عدم الأهلية للخضوع لمحاكمة. وعلى مدار ربع القرن الأخير، اتسع نطاق هذه المساهمات، بحيث — على سبيل المثال — يمكن طرح جوانب «الجنون المؤقت» بالاعتماد على المتلازمات النفسية، لا سيما متلازمة اضطراب توتر ما بعد الصدمة.

اتسع نطاق هذه المشاركة في المحاكمات للمساعدة في تفسير ما قد يبدو سلوكًا مفاجئًا؛ مثل امرأة تمكث مع شريك مؤذٍ لها، أو تتأخر في الإبلاغ عن اعتداء جنسي. ولكن ما إن سُمح لعلماء النفس بالاشتراك باعتبارهم خبراء، حتى استمر نصحهم في الوصول إلى جوانب أكثر بكثير من الإجراءات القانونية، والآن يُبدون ملاحظاتهم بشأن مجموعة متنوعة من الجوانب الأخرى من إجراءات المحكمة. واتخذ هذا أشكالًا متنوعة مثل المساعدة في اختيار هيئة محلفين ستكون ميالة مسبقًا إلى اتجاه منشود، أو اقتراح سبل يمكن بها عرض المعلومات في المحكمة.

كل هذه التفاعلات بين علم النفس والمحاكم هي علاقة تبادلية التأثير بين ثقافتين مختلفتين للغاية؛ فعلماء النفس الشرعيون يتطلعون إلى تطوير واستخدام اختبارات قياسية وإجراءات للمقابلات الإكلينيكية من شأنها أن تضع الأفراد داخل إطار عمل شامل. في المقابل، تسعى المحاكم إلى التعامل مباشرة مع شخص بعينه والتفاصيل الخاصة بقضية بعينها. علاوة على ذلك، تتحدد إمكانات مساهمات علم النفس من خلال تفاصيل الإجراءات القانونية المستقلة، والتي تتنوع باختلاف الولايات القضائية. عندما لا توجد هيئات محلفين بالمحاكم، تتاح الفرصة لعلماء النفس بشكل أكبر؛ ومع ذلك، تقابل مساهماتهم بحرص أكبر بكثير. ويشعر المختصون المشاركون في إجراءات النظام القضائي بقدرة أكبر على الاستعانة بأي معلومات يقدمها الخبراء أو التغاضي عنها. وبينما يعتبر كثيرون من العاملين في مهنة القانون أن استفادة أي النظامين استفادة عظيمة من الوضع الحالي لعلم النفس أمرًا مشكوكًا فيه، فمما لا شك فيه أن تأثير علم النفس على إجراءات المحاكم يتنامى بسرعة حول العالم.

هوامش

(1) © Bob Daemmrich/PhotoEdit.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤