العقل والجسم

ليس شكٌّ في تأثير العقل في الجسم، فالفتاة إذا خجلت احمرَّت وجنتاها، ومعنى هذا أن خاطر الحياء الذي خطر بذهنها قد أثر في القلب وفي ناحية عروق الوجنتين حتى أحدث تورُّدهما، والطفل إذا خاف يبول أحيانًا على نفسه، وإذا تسلط علينا الحزن العميق ساء هضمنا، فأحيانًا نقيء وأحيانًا لا نستطيع أن نأكل كما أن السرور يحسِّن الهضم.

ومعنى هذا كله أن الأفكار والخواطر التي تمرُّ بأذهاننا يتأثر بها جسمنا، وكذلك عقلنا يتأثر من جسمنا.

فقد سبق أن قلنا: إن التفكير يبدأ بالمعرفة ثم العاطفة ثم الرغبة.

وكل عواطفنا تؤثِّر في أجسامنا، ولكن يمكننا استحداث العاطفة بتحريك العضو الخاصِّ بها، فإذا تضاحكنا مثلًا وليس هناك ما يُضحكنا، فإن هذا التضاحك يحدث سرورًا عندنا وينتهي بنا إلى الضحك الحقيقي، وإذا تباكينا انتهى التباكي المصطنَع ببكاء حقيقي نشعر فيه بالحزن.

ومعنى هذا أن الجسم يؤثِّر أيضًا في العقل، والواقع أن الجسم والعقل كتلة واحدة لا يمكننا فصل أحدهما من الآخر، فالتفكير يحتاج إلى الاثنين معًا.

وكل خاطر أو فكرة تمرُّ بذهننا مهما كان مرورها خفيفًا لا بدَّ لها من أن تُحدث لنا عاطفة تؤثِّر فينا، وهذه العاطفة تنتهي برغبة وإرادة، وقد تدقُّ علينا هذه الرغبات فلا نستطيع أن نتبيَّنها في أنفسنا، ولكن وجودها لا يمكن الشك فيه.

مثال ذلك أننا نسمع قصةً يقصها علينا أحد الناس ولا نظن أننا سمعنا أسخف منها، ونقوم وكأننا قد نسيناها، فإذا نمنا في الليل حلمنا بشيء عنها يدلنا على أننا لم ننسَ شيئًا منها؛ وذلك لأن القصة أحدثت عاطفة اندسَّت في العقل الباطن واتَّصلت بعواطف أخرى لا يسمح لنا وعينا بإظهارها، ثم انتهزت فرصة النوم فبرزت.

ولهذا العقل سلطان علينا؛ فهو الذي يقرر ميولنا وأمزجتنا ويعمل لرقينا أو انحطاطنا، وسدادنا أو خطئنا، ولكن لنا نحن عليه سلطانًا أيضًا؛ فنحن نستطيع أن نجعله يخدم أغراضنا بما نوحيه إليه من الخواطر والأفكار، وقد نتوهَّم أنه لا يطيعنا؛ إذ إنه خارج عن وعينا، ولكن خروجه عن وعينا لا يدل على أنه خارج عن رقابتنا كل الخروج، ثم للتمرين فائدته أيضًا في تذليله لمصالحنا.

وهناك أمثلة عديدة تدلنا على طاعته، فقد تكون عادتنا مثلًا أن نستيقظ كل يوم في الساعة السادسة، ثم يحدث أن نحتاج إلى الاستيقاظ في الساعة الرابعة حتى ندرك قطارًا يقوم في الساعة الخامسة، فكل ما نعمله أننا قبل النوم ننوي النهوض الساعة الرابعة ثم ننام، فالرغبة في النهوض قد اندسَّت في العقل الباطن الذي لا يهمل تنفيذها، فنحن ننام مرتاحين ولكنه هو يقظ، فلا نبلغ الساعة المعيَّنة للنهوض وهي التي تخالف عادتنا حتى نتقلب ونقوم هاجسين بالميعاد، وقد يعين لنا ميعاد نلتقي فيه بأحد أصدقائنا بعد خمسة أو ستة أيام، وهذا الميعاد ننساه بالطبع لأنه لو بقي ماثلًا في ذاكرتنا هذه المدة الطويلة لأخلَّ بأعمالنا وتفكيرنا، ولكننا عندما نقترب من ساعة الميعاد يطفر عقلنا الباطن إلى الأمام ويذكرنا.

وخلاصة كلامنا:
  • (١)

    إن العقل الباطن يختزن ذكرياتنا لكيلا تعوق العقل الواعي في عمله ثم يقدمها لنا عند الحاجة.

  • (٢)

    إنه يطيعنا فيؤدي ما نطلبه منه، وتزداد هذه الطاعة بالتمرين، حتى إن ابن عربي قال إنه يمكننا أن نحلم ما نشاء في النوم.

  • (٣)

    إن جميع الخواطر والأفكار تؤثِّر في أجسامنا كخاطر الحياء يجعل الدم يذهب إلى الوجنتين.

فما هي عبرة ذلك كله؟

عبرته أنه يمكننا أن نتسلط بأفكارنا على أجسامنا فنوحي مثلًا إلى عقلنا خواطر عن الصحة والنجاح فيصح جسمنا وننجح في عملنا، فأنت تعرف مثلًا أن الخوف يقتل بعض الناس، والخوف فكر أو خاطر، فكونه يقتل الناس برهان قوي جدًّا على أن العقل يؤثِّر في الجسم إلى حدِّ الموت, فقد حدث مثلًا في اليابان عند حدوث الزلزال الأخير أن وُجد ناسٌ قد ماتوا لا لأنهم جُرحوا بل لشدة ما استولى عليهم من الرعب، وبعبارة أخرى نقول: إنهم ماتوا بالوهم.

فإذا كان توهُّم الموت يُحدث الموت، وإذا كان الفكر يقتل الجسم، فلماذا لا يُحدث توهُّم الصحة هذه الصحة المرغوب فيها، ولماذا لا يُحدث توهُّم النجاح هذا النجاح الذي نرغب فيه؟

يروى عن امرأة أنها كانت تخاف الضفادع، فعمد صديق إلى خرقة فلفها ثم ألقاها على صدرها صائحًا: هذه ضفدع، فماتت المرأة.

ومعنى هذا أنه أوحى إليها أن هذه الخرقة ضفدع فصدَّقت، وعمل الفكر في الجسم فأوقف حركة القلب فقتلها.

ومما يروى عن شفاء المرضى الذين يذهبون إلى الكنائس ويتشفَّعون بالأولياء والقديسين أنهم لا يُشفون فقط من أمراضهم، بل أيضًا يجدون على أجسادهم شارة الصليب مرسومة على الجسم كالجرح أو كندب الجرح، وهذا يحدث بإيحاء سابق يوحيه الكاهن إلى المريض بأنه بعد الصلاة والشفاء سيجد صليبًا في هذا المكان أو ذاك من جسمه، فيتأثر المريض ويعمل عقله الباطن في إحداث هذا الجرح. وهذا بالطبع شيء يجب ألَّا يُصدق حتى يُرى عيانًا؛ إذ لا تكفي فيه الرواية، ولكن يجب مع ذلك أن نعرف أن إحداث الجرح على الجلد بقوة الإيحاء الذاتي ليس أخطر من إحداث القيء أو الإسهال أو الموت من إيحاء الخوف أو الاشمئزاز، وإذا كان هناك فرق فهو فرق في الدرجة وليس في النوع.

وحادثة الفتاة تريزا نومان الألمانية من أغرب ما ذُكر وحُقِّق من هذا النوع، وأقول: «حُقِّق»؛ لأن جامعة أيرلانجن أوفدت لجنة من الأطباء والأساتذة لتحقيق ما يجري لهذه الفتاة التي ما تزال حية، فلم يجدوا في كل ما يحدث لها غشًا أو خداعًا منها أو من أحد أقاربها.

وخلاصة قصة هذه الفتاة أنها أصيبت عقب حريق شب في المصنع الذي كانت تعمل فيه بغيبوبة دامت معها عدة أشهر، وخرجت منها وهي مصابة بالشلل في الساقين وبالعمى، ودام العمى ثلاث سنوات ثم شُفيت منه، ورأت رؤيا غريبة فهمت منها أنها شُفيت من الشلل ولكنها ستتألم آلامًا عظيمة، ونهضت من فراشها بالفعل وسارت على قدميها.

وفي يوم الجمعة الكبيرة السابقة لعيد القيامة أخذت تمثل في جسمها محاكمة المسيح وصلبه، فبدت في يديها وقدميها جروح عميقة نافذة كانت تتألم منها كثيرًا، وكانت الدموع تنزل من عينيها وهي دم خالص، وأخيرًا يتكون تحت القلب جرح واسع يدمي، ولا تزال كذلك حتى يوم السبت حين تشرع الجروح تلتئم وتستفيق الفتاة وتعود إلى نفسها، وبعد ذلك صارت تمثل هذه الآلام كل يوم جمعة على طول السنة.

وتفسير هذه الحادثة أن الفتاة مدَّة مرضها السابق عقب الحريق أوحت إلى نفسها أن المسيح سيشفيها، ولشدة رغبتها في الشفاء أحبت المسيح حبًّا عظيمًا، ثم لشدة هذا الحب تمثَّلته في نفسها، فصار عقلها الباطن يحكي ما حدث له مما تعلمته وقرأته عن حياته في جسمها هي نفسها، واشتد إيحاء العقل الباطن حتى مثل في جسمها آلام الصلب.

ومن هنا نفهم معنى الكرامات التي تُنسب إلى الأولياء والصالحين والآثار المقدسة والرُّقَى والطلاسم المكتوبة ونحو ذلك، فإن كثيرين من المرضى يُشفون لأنهم يؤمنون بالشفاء إذا تمسَّحوا بقبر هذا الولي، أو إذا حملوا طلسمًا مكتوبًا، أو إذا رقاهم رجل له شهرة أو مقام، وشفاؤهم يرجع في الحقيقة إلى إيمانهم؛ أي إلى أنهم قد أوحوا إلى أنفسهم هذا الشفاء إذا هم تمسَّحوا، وهذا الإيحاء اندسَّ إلى العقل الباطن الذي تسلط على العضو المريض ووجهه نحو البرء.

ولكن هذا الإيحاء يمكننا كلنا أن نعمله لأنفسنا أو لغيرنا.

وكان كويه النفسلوجي الفرنسي يعمل هذا الإيحاء ويجعل المريض يمارسه بنفسه كما سنرى في الفصل الثاني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤