الاستهواء والنجاح

كان فرح أنطون فقيد الأدب المصري يتوهَّم أنه لا بدَّ يومًا ما من أن يعثر بعربة تكسر له ساقًا أو تفعل به ما هو شر من ذلك، وقد تحقق وهمه في أحد الأيام كما شاء عقله الباطن، وذلك لأن هذا الوهم كان قد اندسَّ في عقله الباطن، ولهذا العقل سلطان على أعضاء الحركة حتى تمكن مع الوعي واليقظة أن يُزلَّ القدم نحو العربة. كما لو قلنا للبهلوان الذي يمشي على الحبل إنه سيقع، فإن هذا الوهم يتسرَّب إلى عقله الباطن ويُخيِّل له السقوط، وبعد الفكرة؛ أي الخيال تنشأ الرغبة، وإن كانت رغبة غير واعية، وعندئذٍ يغلب على هذا البهلوان المدرَّب أن يسقط.

وقد سبق أن قلنا: إن العقل الباطن يعبِّر عن المعاني المجردة بخيالات محسوسة، ففي الحلم يكون الرجل العظيم ضخمًا والرجل الحقير صغير الجسم، فإذا قلنا للماشي على الحبل إنه سيسقط تخيل العقل الباطن هيئة السقوط فيما يحدث للساقين من الزلل والتخبل، ولما كان من طبيعة الإنسان أن يحاكي الصورة التي يراها وهو لا يدري فإننا نحاكي صورة السقوط في حركتنا ونسقط بالفعل.

وهذه المحاكاة كثيرة، كلنا يفاجئ نفسه وهو يحاكي غيره على غير وعيٍ منه. مثال ذلك أننا نرى رجلًا يسير على حبل أو سور دقيق فنفاجئ أنفسنا ونحن نتحرك حركاته كأننا نحن القائمون دونه بالسير على الحبل أو السور، ونحن لا نحاكيه على وعي ودراية بل على غير وعي؛ أي إن العقل الباطن هو الذي يقوم بهذه المحاكاة.

وقد سبق أن فهمنا أن العقل الباطن يصوِّر لنا المعاني والأفكار المجردة في خيال محسوس. فالسقوط في نظره ليس مصدرًا معنويًّا، بل هو رجل يسقط، فإذا تخيلنا هذا الرجل يسقط حاكيناه في السقوط على غير وعي فنسقط بالفعل.

ومن هنا نعرف أن الرجل الذي يتخيل النجاح ينجح، والرجل الذي يتخيل الفشل يفشل؛ لأن كلًّا منهما يرسم صورة في عقله الباطن يبقى طول حياته يحاكيها وهو لا يدري، فالرجل الناجح يرسم في عقله الباطن صور النجاح من استقامة في المعاملة واعتدال في المطعم والمشرب واقتصاد في النفقات ومجاملة مع الأصدقاء، وهو لرغبته في النجاح يستهوي نفسه على غير وعيٍ منه حتى يحب هذه الصفات نفسها فيمارسها بلا أدنى تكلُّف أو مشقة. أما الرجل الذي يتخيل الفشل فإنه يرسم في عقله الباطن صورًا للخوف الاستهتار والإهمال، فيستهوي نفسه على غير وعيٍ منه حتى يحب هذه الصفات ويمارسها.

ولكن قد يسأل القارئ هنا: كيف نحب صفات مكروهة؟ وكيف يشتغل العقل بها مع أنها مكروهة؟

وهنا نحتاج إلى أن نعود إلى أطوار التفكير؛ فهي كما سبق أن قلنا: معرفة ثم عاطفة ثم نزوع أي رغبة.

وهذه المعرفة قد تأتي عن طريق الحواس أو عن طريق الخواطر، فأنا أشعر بالخوف إذا رأت عيناي رجلًا مقتولًا أو إذا خطر هذا الخاطر في بالي (عقلي الباطن)؛ فأنا أكره الخوف ولكنِّي لا أتمالك من أن تخطر ببالي الخواطر عن الحادثة التي رأيتها فتحدث فيَّ عاطفة الخوف، وتبقى الخواطر تجري برأسي على غير رغبتي.

وعلى هذا النسق يحدث الفشل، فإنه غرسٌ قد نبت في العقل الباطن وأخذ ينمو ويزكو خواطر عفوية تهيئ صاحبها للفشل، فكما كان فرح أنطون يخشى الزلل أمام إحدى العربات ثم زلَّت قدمه بالعقل الباطن، وكما أن البهلوان يقع إذا أوهمته أنه سيقع، كذلك من توهَّم الفشل فقد دخل في أول درجات الفشل.

فالبهلوان يقع لأنه قد أُوحي إليه الوقوع.

ونحن نفشل أو ننجح لأننا قد أوحينا إلى أنفسنا الفشل أو النجاح.

وهذا هو معنى الإيمان وقوته، ولأن الإيمان يوحي إلى النفس الثقة والنجاح فهي تسير على هذه الهداية إلى الغاية، وليس الإيمان سوى العقيدة التي تندسُّ إلى العقل الباطن، وعلى ذلك يجب علينا إذا أردنا أن ننجح أن نوحي إلى أنفسنا هذه العقيدة.

ونحن نعرف أننا نُحدث في الناس عقائد مختلفة بما نقوله لهم، فلماذا لا نُحدث هذه العقائد لأنفسنا بما نقوله ونكرِّره لأنفسنا؟

إن كل كلمة ننطق بها لن تذهب هباء؛ لأنها قوة من قوى هذا الكون، فهي تُحدث معرفة ثم عاطفة ثم رغبة، فإذا كرَّرنا على أنفسنا عبارة كويه: «أنا في تحسن مستمر كل يوم من كل ناحية.»

وخاصَّة في أوقات الغفوة الأولى التي قبل النوم أو الغفوة الأخيرة بعد النوم أو عندما نسترخي؛ أي حين يكون العقل الباطن متنبِّهًا حتى تنطبع عليه هذه الخواطر حدثت في نفوسنا الرغبة في التحسن والارتقاء وطُبعت أذواقنا بهذه الرغبة، فلا نمارس من الأعمال إلا ما وافق نجاحنا.

ومعنى ذلك أننا نستهوي أنفسنا إلى النجاح بالإيحاء والتلقين؛ لأنه ما دام الاستهواء حقيقة نراها في غيرنا كذلك هو حقيقة نراها في أنفسنا، فبالاستهواء الذاتي يمكننا أن نوجه جهودنا إلى الغاية التي نرجو تحقيقها، وقد يكون هذا الاستهواء إيحاء بالتلقين أو إيحاء بالخيال حين نترك الخواطر تنساب فنتخيل أنفسنا في مراكز سامية من حيث المال والوجاهة ونحو ذلك.

وهذا الاستهواء يأتي عفوًا عند العظماء، فنابليون لم يكن يفكر قط في الهزيمة، وهو لو فعل لحدث له ما يحدث للماشي على الحبل إذا خطر بباله السقوط. وقد دبَّ في قلبه الشك مرة واحدة، وكان ذلك في معركة واترلو التي انهزم فيها. ونجاح الأنبياء يُعزى إلى قوة عقيدتهم التي لا يعتريها الشك أصلًا، فجميع خواطرهم لذلك عن النجاح؛ ولذلك فهم أعرف الناس بقوة العقيدة.

وقد قيل: إن أماني الصبا هي حقائق الرجولة، وهذه الأماني هي بالطبع الخواطر الطارئة مدَّة الصبا تستحيل إلى خيالات في العقل الباطن تُحدث رغبات تؤدى بأدنى مجهود.

ولسنا نعني أن الاستهواء هو كل ما تحتاج إليه للنبوغ والعبقرية؛ فإن لذلك شروطًا أخرى سيراها القارئ في فصل قادم، ولكننا نعني أن الاستهواء من أهم هذه الشروط.

ومجرد الرغبة الواعية في النجاح لا تؤدي إلى النجاح، وإنما العبرة بأن تندسَّ هذه الرغبة إلى العقل الباطن حتى يكون عملها عفوًا لا تكلُّف فيه، ولا بأس من أن نبتدئ بوعي ودراية، ولكن يجب أن نُحدث للعقل الباطن خيالات وخواطر وتلقينات حتى تتَّجه قواه نحو تحقيق النجاح؛ لأنه عندئذٍ لا يكلفنا أدنى مجهود محسوس، كالرجل الذي يعزف على أوتار الكمنجة يبتدئ واعيًا يدري ما يعمل، ويتعثر ويراجع نفسه، حتى إذا أتقن العزف صار عزفه عفويًّا لا يُتكلَّف، فهو يكلمك وهو يعزف. كذلك يحتاج الناجح إلى أن تتجه قواه إلى النجاح وهو لا يدري بهذا الاتِّجاه؛ لأن عقله الباطن يقوم به حتى يتوفر على عمله اليومي بعقله الواعي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤