كشف الجريمة بالعقل الباطن

سبق أن ذكرنا أنه بالتحليل النفسي يمكننا أن نكشف عن حادثة قديمة مخبوءة مكونة في العقل الباطن لا يدري صاحبها نفسه بها، وقد تحدث له هذه الحادثة أحلامًا مزعجة كالكابوس أو تنشئ فيه تغرُّضات ومركَّبات تصوغ له خلقًا خاصًّا قد يدعوه إلى كراهة أشياء أو حبها بدون أن يعرف وجه الميل أو الإعراض عنها، وأحيانًا أخرى قد تُحدث له هوسًا أو جنونًا أو جمودًا في الأعضاء.

فالتحليل يستثير هذه الحادثة القديمة، فإذا وقف عليها صاحبها عرف منها الأصل الذي ترجع إليه علَّته من حلم مزعج أو تغرُّض أو مرض آخر نفسيٍّ، وبوقوفه عليها يصطلح العقل الباطن مع العقل الواعي وتذهب العلَّة.

والتحليل هو بالسؤال والجواب: يسأل المحلِّلُ المريضَ عن الخواطر التي تخطر في باله كلما ذكرت الألفاظ التي تدل على تفاصيل الحلم، وعلى المريض أن يجيبه بسرعة وبلا تفكير؛ أي يجيبه بما يخطر في باله، والخواطر كما سبق تخطر لصاحبها من العقل الباطن إذا ضعف الكبت، فنحن في حال اليقظة التامَّة نكبت هذه الخواطر، ولكن إذا أسرعنا في إجابة المحلل عن الخاطر الذي يخطر لنا عقب ذكره للفظة خاصَّة ولم نفكر وندَّبَّر في الجواب؛ فإن العقل الباطن يكشف عن نفسه ويذكر شيئًا له علاقة بالحادثة القديمة التي كانت خافية عن وعينا؛ وذلك لأن السرعة تمنع العقل الواعي من الرقابة وتدبير الجواب المخالف، وعلى المحلل عندئذٍ أن يجمع هذه الخواطر ويستخرج منها تلك الحادثة القديمة المكبوتة.

وقد وجد الدكتور يونج أنه يمكنه كشف الجريمة في المجرم بالتحليل النفسي، فالمجرم الذي ينكر جنايته يسهر عليها بعقله الواعي حتى لا تفلت من لسانه كلمة عند السؤال عنها تدل عليها. فإذا فرضنا أن رجلًا قد اتُّهم بقتل رجل آخر، وهو ينكر الجريمة بتاتًا، ولكن الاشتباه فيه شديد، فإن المحلل يعمد إلى ظروف الجريمة من سكين أو مسدس أو دم أو ملابس المقتول وهيئة الغرفة وما فيها من أثاث ويختار منها نحو ٥٠ اسمًا، ثم يختار أيضًا نحو ٥٠ اسمًا لا علاقة لها البتَّة بالجريمة، ثم يسأل المحلل المتهم أن يخبره بما يخطر في باله كلما ذكر له اسمًا من هذه الأسماء بحيث يجيب على البديهة بلا رويَّة وبأقصى ما يمكنه من السرعة، فإذا كان المتهم بريئًا لم يشتغل باله قط بالجريمة المعيَّنة فإنه يجيب إجابات لا علاقة لها بالجريمة؛ لأنه لم يرها، ويصير تداعي الألفاظ عنده عموميًّا لا يختص بالحادثة. أما إذا كان قد ارتكب الجناية فإن لفظة سكين أو دم أو اسم المقتول أو اسم بعض الأثاث الذي كان بالغرفة تدعو لفظة أخرى تدل على الجناية، وهذا هو تداعي الألفاظ؛ أي إن اللفظة التي تعيِّن خاطرًا ما في النفس تدعو لفظة أخرى تدل على خاطر قريب منها.

وهذا إذا أجاب المتهم على البديهة وبسرعة، ولكنه إذا كان قد ارتكب الجناية فإنه يرفض أن يجيب بسرعة، ولو أنه يحاول أن يوهم المَجانة كأنه لا يبالي، فهو يجيب بسرعة على ما ليس له علاقة بالجناية، فإذا عرض سؤال خاص بالجناية تريَّث قليلًا وأجاب، وهناك مقاييس تقيس السرعة في الإجابة بكسور الثانية، فتأخره في الإجابة عن الألفاظ الخاصَّة بالجريمة يدل على اشتغال باله بها ومحاولته كبت الذكرى، ولكنه مع التريث تفلت من لسانه ألفاظ تدل على الجناية.

وأنا أنقل فيما يلي حادثة سرقة حقِّقت بالتحليل النفسي، وقد لخصها الأستاذ محمد فتحي في كتابه «علم النفس الشرعي»، والذي قام بهذا التحليل هو الدكتور يونج.

•••

كان شاب متعلم في الثامنة عشرة من عمره يقيم في منزل عمه الذي كفله وتولى رعايته بعد وفاة أبيه، حدثته نفسه أن يسرق نقود عمه، فلاحظ العم فقد نقوده من آنٍ إلى آخر، تارةً من جيبه وطورًا من خزانته، فلم يخامره في بادئ الأمر أي شك في سلوك ابن أخيه الذي أكرم مثواه وأنزله منزلة الولد الأمين، بل اتجهت كل شبهته نحو بعض الخدم، فكتم الأمر مدَّة مكتفيًا بمراقبتهم، ولكن لما تعددت وقائع السرقة ولم يفُز بطائل، بلَّغ الشرطة وطلب إليها أن تحقق القضية لمعرفة الفاعل، غير أنه بعد التبليغ لاحظ على الغلام قلقًا عصبيًّا واضطرابًا نفسيًّا أثار شكوكه فيه.

ولكي يتثبَّت من حقيقة ذلك ذهب به إلى الدكتور يونج في زيورخ بدعوى معالجة أعصابه، فعمد الطبيب إلى تحليل خواطره «بالتداعي اللفظي» متذرعًا بحجة درس حالته المرضية وتشخيص علَّة قلقه واضطرابه، فجهَّز له قائمة من مائة كلمة دسَّ لها فيها ٣٧ كلمة لها علاقة بالسرقة وظروفها ومكان حفظ النقود والعقوبة المقررة للسرقة وما يترتب عليها من النتائج وغير ذلك، ثم بدأ الاختبار بأن وجَّه للفتى بضع كلمات عادية، وطلب منه أن يجيبه عن كل كلمة تُلقى عليه بأول كلمة تخطر بباله، وبأقصى ما يمكنه من السرعة، فكانت النتيجة أن كلمة «رأس» نبَّهت عنده كلمة «أنف» وكلمة «أخضر» نبَّهت عنده كلمة «أزرق» «وماء – هواء» «وطويل – قصير» «وخمسة – ستة» «وصوف – ملابس» وهكذا.

ولوحظ أن متوسط سرعة خواطره في التداعيات السالفة كان ثانية وستة أعشار الثانية، ولما جاء دور الكلمات التي لها اتصال بحادثة السرقة ظهر أن كلمة «لص» نبَّهت «نشَّال» وهي تلبية طبيعية، ولكن زمنها كان ٤٫٦ من الثانية وأن كلمة «شرطة» نبَّهت «سرقة» في ٣٫٦ من الثانية، والتداعي، «سجن – عقوبة» تم في ٤٫٢ من الثانية، وشوهد في بعض الأحيان أن التلبية قد تحصل بسرعتها الطبيعية في بعض التداعيات المحرجة، غير أن أثر الانفعال النفسي يظهر في تلبية التداعي التالي، مثلًا كلمة «مفتاح» نبَّهت في ذهن الغلام كلمة «مصطنع» في ١٫٦ من الثانية، بينما التداعي الذي تلاه «أبله – ذكي» لم يتم إلا في ثلاث ثوانٍ، ثم تلاه التداعي «جريمة – سرقة» تم في ١٫٨ من الثانية وهو زمن يكاد يكون طبيعيًّا، غير أن الصدمة النفسية في التداعي الذي أعقبه كان لها أثر شديد في نشاطه العقلي لدرجة أعجزته عن استحضار أية تلبية لكلمة «طباخ» مع أنها عادية، بل استمر عشرين ثانية واجمًا، ثم أعقبه التداعي «خبز – ماء» وقد تم في ١٫٦ من الثانية؛ أي كان زمنه طبيعيًّا، ولما هو معروف عن الخبز والماء من أنهما طعام السجون فقد أثار هذا الخاطر في نفس الغلام انفعالًا قويًّا ظهر أثره في التداعي الذي تلاه بأن أعجزه أيضًا عن الجواب.

وعلى هذا النحو تمَّت عملية الاختبار ودوِّنت الأجوبة مع أزمنتها المختلفة، وبعد الفراغ منها أعيد الاختبار بنفس القائمة المئوية دفعة ثانية فشوهد أن ردود الكلمات التي لها اتصال بالسرقة تغيَّرت، فإن كلمة جريمة، كان جوابها في الاختبار الأول: «سرقة»، وفي الثاني: «قتل»، وكلمة ينكشف، كان جوابها أولًا: «خطأ»، وثانيًا: «يقبض»، أما الكلمات العادية فإن ردودها لم تتغيَّر.

فبتحليل تداعيات كلَا الدورين وملاحظة ما طرأ على تداعيات الدور الثاني من التغيير ودرس التأخيرات الزمنية والشذوذ الطارئ على سرعة بعض الخواطر أمكن هذا العالم المحنَّك أن يقف على كثير من تفصيلات الحادث وتشخيص موقف الفتى تشخيصًا دقيقًا، فوجَّه إليه الأستاذ يونج تهمة السرقة فأنكرها الفتى في مبدأ الأمر محتجًّا بشدة، فسرد له الطبيب الوقائع التي كشف الاختبار عنها النقاب وقصَّ عليه كيف كان يسرق نقود عمه تارة من خزانته وتارة من كيس نقوده، وشرح له الطرق والسبل التي كان ينفق فيها تلك النقود ومن ضمنها أنه اشترى ساعة وأشياء أخرى قدَّمها هدية لأخته وهلمَّ جرًّا، فما كان من الغلام إلا أن بُهت واعترف في الحال بكل شيء اعترافًا صريحًا، وبذلك أمكن عمه أن يتدارك الأمر لإنقاذه من السجن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤