الفصل السادس

عمرُ والدَّولةُ الإسلاميَّةُ

تأسستِ الدولةُ الإسلاميَّة في خلافة أبي بكر — رضي الله عنه — لأنه وطَّد العقيدة، وسيَّر البعوث، فشرع السنة الصالحة في توطيد العقيدة بين العرب بما صنعه في حرب الردة، وشرع السنة الصالحة في تأمين الدولة من أعدائها بتسيير البعوث، وفتح الفتوح، فكان له السبق على خلفاء الإسلام في هذين العملين الجليلين.

إلا أننا نُسمي عمر مؤسسًا للدولة الإسلامية بمعنًى آخر غير معنى السبق في أعمال الخلافة؛ لأننا — أولًا — لا نجد مكانًا في التاريخ أليق به من مكان المؤسسين للدول العظام.

ولأننا من جهة أخرى لا نربط بين التأسيس وولاية الخلافة في إقامة دولة كالدولة الإسلامية؛ إذ الشأن الأول فيها للعقيدة التي تقوم عليها، وليس للتوسع في الغزوات والفتوح، وعمرُ كان على نحوٍ من الأنحاء مؤسسًا لدولة الإسلام قبل ولايته الخلافة بسنين، بل كان مؤسسًا لها منذ أسلم، فجهر بدعوة الإسلام وأذانه، وأعزها بهيبته وعنفوانه.

وكان مؤسسًا لها يوم بسط يده إلى أبي بكر فبايعه بالخلافة، وحسم الفتنة التي أوشكت أن تعصف بأركانها، وكان مؤسسًا لها يوم أشار على أبي بكر بجمع القرآن الكريم، وهو في الدولة الإسلامية دستور الدساتير، ودعامة الدعائم، ولم يزل يراجع أبا بكر في ذلك حتى استدعى زيد بن ثابت كاتب الوحي، فأمره أن يتتبع آي القرآن ليجمعها من الرقاع والأكتاف والعسب١ وصدور الرجال، فكان ذلك أول الشروع في جمع الكتاب.
هذا إلى أنَّ أبا بكر — رضي الله عنه — أسس ولم يتسع له الأجل حتى يفرغ من عمله، وجاء عمر بعده فأتم عمله وأقام الأساس، ثم أقام عليه البناء، وكانت قدرته على التأسيس هي آية الآيات فيه وفي ذلك العصر من البداوة البادية؛ لأنه التفت إلى مواضعه الخليقة بالاهتمام والتقديم، كأنه راجع تاريخ عشرين دولة مستفيضة الملك، راسخة العمران، وهي قدرة تروعنا وتدهشنا لو شهدناها من ملك تربى على الملك، وسلفه٢ على عرشه سمط٣ من الملوك. وأولى أن تروعنا وتدهشنا من رجل البادية الذي يقدم على أمر جديد لم تعنه فيه السوابق، ولم يهتد فيه إلا بما اختار هو أن يهتدي إليه.

فبعد جمع القرآن لا نعرف عملًا يقترن به، ويلازمه، ويعد من أسس الدولة العربية كالعمل على تصحيح اللغة وحفظها من الخلط والفساد، وكلاهما عمل لا يفطن إليه إلا من طُبع على سليقة التأسيس، وأخذ بها من أصولها، وكلاهما فطن إليه هذا المؤسس الكبير، على أهون ما يكون من البساطة والسهولة، فأشار بوضع علم النحو، كما أشار بجمع آي القرآن، وكان أثره في تدعيم الدولة الأدبية كأثرة في تدعيم دولة الغزوات والفتوح.

وندر في الدولة الإسلامية نظام لم تكن له أولية فيه، فافتتح تاريخًا، واستهل حضارة، وأنشأ حكومة، ورتب لها الدواوين، ونظم فيها أصول القضاء والإدارة، واتخذ لها بيت مال، ووصل بين أجزائها بالبريد، وحمى ثغورها بالمرابطين، وصنع كل شيء في الوقت الذي ينبغي أن يصنع فيه، وعلى الوجه الذي يحسن به الابتداء، فأوجز ما يقال فيه أنَّه وضع دستورًا لكل شيء، وتركه قائمًا على أساس لمن شاء أن يبني عليه.

وملاك٤ النظم الحكومية كلها نظام الشورى الذي أقامه عمر على أحسن ما يقام عليه في زمانه، فجمع عنده نخبة الصحابة للمشاورة والاستفتاء، وضن بهم على العمالة في أطراف الدولة، تنزيهًا لأقدارهم، وانتفاعًا برأيهم، واعتزازًا بتأييدهم له، ومعاونتهم إياه فيما يتولاه من ثواب أو عقاب.

وجعل موسم الحج موسمًا عامًّا للمراجعة والمحاسبة، واستطلاع الآراء في أقطار الدولة من أقصاها إلى أقصاها، يفد فيه الولاة والعمال لعرض حسابهم وأخبار ولايتهم، ويفد فيه أصحاب المظالم والشكايات لبسط ما يشكيهم، ويفد فيه الرقباء الذين كان يبثهم في أنحاء البلاد لمراقبة الولاة والعمال؛ فهي «جمعية عمومية» كأوفى ما تكون الجمعيات العمومية في عصر من العصور.

وكان عمر يستشير جميع هؤلاء ويشير عليهم، ويستمع لهم ويسمعهم، ويتوخى في جميع ذلك تمحيص الرأي، وإبراء الذمة، والخلوص إلى التبعة السليمة من العقابيل.

وإنَّ أضعف الناس رأيًا لمن يستضعف فضل الأمير في عمل تولاه لأنه عمله بمشاورة غيره.

فإن باب المشاورة مفتوح لكل إنسان، وليس كل إنسان مع ذلك بالذي يريد أن يستشير، أو الذي يعرف كيف يستشير إذا أراد، أو بالذي يحسن الموازنة بين الآراء إن عرف من يستشيرهم، ومن يقبل مشورتهم في حالة، ويرفضها في حالة أخرى.

إنَّ المشاورة لفن عسير.

وإنَّ الذي ينتفع بمشورة غيره لأقدر ممن يشير عليه.

وقد كان عمر عبقري هذا الفن الذي لا يجارى، وكان من بدعه الملهمة في هذا الفن العسير أنه لم يلتمس الرأي عند أهل الحنكة والخبرة وكفى، بل كان يلتمسه كذلك عند أهل الحدة والنشاط ممن يناقضون أولئك في الشعور والتفكير، فكان كما روى يوسف بن الماجشون: «إذا أعياه الأمر المعضل دعا الأحداث فاستشارهم لحدة عقولهم.» وإنه لإلهام في فن الاستشارة، لا يلهمه إلا صاحب رأي أصيل، فمن الرأي الأصيل أن يَخبُر٥ الإنسان كيف يستعير آراء المشيرين.

انظر إليه كيف يستشير في اختيار أمير تعلمْ أنَّ الاستشارة — كما قلنا — فن، وأنه فن عسير.

قال لأصحابه: دلوني على رجل أستعمله.

فسألوه: ما شرطك فيه؟

قال: «إذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم كان كأنه رجل منهم.»

إنَّ الذي يسأل هكذا لهو أقدر من الذي يجيبه بالصواب؛ لأنه قطع له ثلثي الطريق السديد إلى الجواب.

وكان ربما استشار العدو الذي لا يأمنه، كما فعل في سماع رأي الهرمزان في أمر الحرب الفارسية؛ لأنه بصير يطلب نورًا، فإن رأى النور استوى لديه أن يحمل له المصباح عدو أو صديق.

ومن اليسير، إذا تعقبنا٦ مشاورات عمر، أن نعلم أنه هو واضع دستور الشورى في الدولة الإسلامية، وأنَّ الشورى التي وضع دستورها هي شورى الرأي الأصيل، يستعين بكل أصيل من الآراء.
وقد وضع لقواده دستور الحرب، أو دستور الزحف من الجزيرة العربية إلى تخوم٧ أعدائها، كأحسن ما يضعه رئيس دولة لقواده وأجناده.
فأرسل المدد إلى العراق وعليه أبو عبيد بن مسعود الثقفي، وعلمه كيف يستشير مجلس الحرب الذي معه، وكيف يقدم في موقع الإقدام، ويتريث في موضع التريث، وأجمل له ذلك في قوله: «اسمع من أصحاب رسول الله وأشركهم في الأمر، ولا تجتهد مسرعًا بل اتئد، فإنها الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث٨ الذي يعرف الفرصة، ولا يمنعني أن أؤمر سليطًا «ابن قيس» إلا سرعته إلى الحرب، والسرعة إلى الحرب — إلا عن بيان — ضياع.» وزاده تبصرة بالحيطة فقال له: «إنك تقدم على أرض المكر والخديعة والخيانة والجبرية،٩ تقدم على قوم تجرَّءُوا على الشر فعلموه، وتناسوا الخير فجهلوه، فانظر كيف تكون، وأحرز١٠ لسانك ولا تفشين سرك، فإن صاحب السر — ما يضبطه — متحصن لا يؤتى من وجه يكره، وإذا لم يضبطه كان بمضيعة.»

فهي المشاورة، ثم أناة في الاجتهاد، إلا أن تجب السرعة ببيان وثقة، فليكن الإسراع. وهذه وصية عمر بن الخطاب الذي يُظنُّ به الاندفاع، وينسى من يظن به هذا الظن أنه قوي الاندفاع وقوي الضابط في وقت واحد، وعندما يقترن الاندفاع بضابط فهو مزية وليس بعيب.

وكتب إلى سعد بن أبي وقاص بعد اختياره لحرب فارس، وفي كتابه له قبس من هذا المعنى: «إذا انتهيت إلى القادسية، وهو منزل رغيب خصيب، دونه١١ قناطر وأنهار ممتنعة، فتكون مسالحك١٢ على أنقابها١٣ ويكون الناس بين الحجر والمدر،١٤ على حافات الحجر، وحافات المدر، والجراع١٥ بينها، ثم الزم مكانك فلا تبرحه، فإنك إذا أحسوك أنغصتهم، ورموك بجمعهم الذي يأتي على خيلهم ورجلهم، وحدهم وجدهم،١٦ فإن أنتم صبرتم لعدوكم، واحتبستم لقتاله، وقويتم الأمانة رجوت أن تنصروا عليهم، ثم لا يجتمع لكم مثلهم أبدًا، إلا أن يجتمعوا وليست معهم قلوبهم، وإن تكن الأخرى١٧ كان الحجر في أدباركم، فانصرفتم من أدنى مدرة من أرضهم إلى أدنى حجر من أرضكم، ثم كنتم عليهم أجرأ وبها أعلم، وكانوا عنها أجبن وبها أجهل، حتى يأتي الله بالفتح.»

ثم كتب إليه يستوصفه المنازل التي نزل بها ويسأله: «أين بلغك جمعهم؟ ومن رأسهم الذي يلي مصادمتكم؟ فإنه قد منعني من بعض ما أردت الكتاب به قلة علمي بما هجمتم عليه، والذي استقر عليه أمر عدوكم. فصف لنا منازل المسلمين والبلد الذي بينكم وبين المدائن صفةً كأني أنظر إليها، واجعلني من أمركم على الجلية.»

وكتب إلى أبي عبيد وقد ترك حصار حلب يستضعف رأيه في ترك حصارها: «… سرني ما علمت من الفتح، وعلمت من قتل من الشهداء، وأما ما ذكرت من انصرافك عن قلعة حلب إلى النواحي التي قربت من أنطاكية فهذا بئس الرأي! أتترك رجلًا ملكت دياره ومدينته، ثم ترحل عنه، وتسمع أهل النواحي والبلاد بأنك ما قدرت عليه؟ فما هذا برأي، يعلو ذكره بما صنع، ويطمع من لم يطمع، فترجع إليك الجيوش وتكاتب ملوكها، فإياك أن تبرح حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين. وقد أنفذت إليك كتابي هذا ومعه أهل مشارف١٨ اليمن ممن وهب نفسه لله ورسوله، ورغب في الجهاد في سبيل الله، وهم عرب وموالٍ،١٩ رجال وفرسان، والمدد يأتيك متواليًا إن شاء الله تعالى.»

فكان دستوره في الحرب أن يضع الأسس العامة، ويعهد في تنفيذها إلى ذي خبرة وأمانة، ولا يتخلى عن تبعته العظمى في مصائر الحرب كل التخلي، اعتمادًا على القائد وحده؛ إذ ليس القائد بالمسئول الوحيد عن المصير.

فإذا رأى القائد رأيًا وخالفه هو في رأيه أعانه بالمدد والمشورة على الأخذ بالرأي الذي دعاه إليه، وأبطل معاذيره بتوضيح الأمر وإعانته عليه.

ولقد كان إلى جانب هذا السهر على الميادين عامة، لا يغل يد القائد فيما يحسن أن تنطلق فيه، فإذا تجاوز الأمر سياسة الحرب العامة من فتح الميادين وفك الحصار وانتظار الهجوم، فمن حقِّ القائد عنده أن يختارَ لنفسِه، ولا ينتظر الرجوع إليه، وأن يجريَ في إدارة المعركة على الوجه الذي تمليه ضرورة الساعة، ولهذا استشاره أبو عبيدة في دخول الدروب خلف العدو، فكتب إليه: «أنت الشاهد وأنا الغائب، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب، وأنت بحضرة عدوك، وعيونك يأتونك بالأخبار، فإن رأيت الدخول إلى الدروب صوابًا، فابعث إليهم السرايا، وادخل معهم بلادهم، وضيِّق عليهم مسالكهم، وإن طلبوا إليك الصلح فصالحهم …»

فهو يضع القواعد العامة للحملة كلها منذ بداءتها.

وهو يختار القائد الضليع بتسيير تلك الحملة.

وهو بعد هذا لا يعفي نفسه من التبعة، ولا يعفي القائد من واجب الرجوع إليه في المواقف الحاسمة، ولا يغل يده فيما هو أدرى به وأقدر على الاختيار فيه، ولا ينسى أن يعينه إذا خالفه في الرأي ليتفق الرأيان المختلفان، فإذا رجع القائد إلى الحصار الذي أزمع أن يتركه، رجع إليه وهو مؤمن بصواب ما يعمل ليستمد من الإيمان بالصواب قوة لن يشعر بها وهو يؤدي عملًا يخالف الصواب في تقديره.

وهذه السياسة هي السياسة التي جرى عليها عمر في جميع بعوثه وغزواته وسراياه، وهي السياسة التي لا يستطيع حاكم أن يجري على غيرها في حرب قديمة أو حديثة، وقد جرى عليها فجعلته كاسب النصر، كما يكسبه القائد في الميدان، وجعلت بطل الفرس رستم المشهور في التواريخ والأساطير يقول إنَّ عمر هو هازمه في الميدان، و«أنه هو عمر الذي يكلم الكلاب فيعلمهم العقل! أكل عمر كبدي، أحرق الله كبده …»

وربما أخطأ القائد الذي يختاره، فمسته التبعة من هذا الجانب؛ لأنه هو المسئول عن اختياره، غير أنها لا تمسه من جانب إلا أُعفِي منها من جانب آخر، أو جوانب عدة، كما حدث في وقعة الجسر التي قتل فيها قائده أبو عبيد المتقدم ذكره، ثم انهزم فيها جيش المسلمين، فهو مسئول عن اختيار هذا القائد، كما يسأل كل رئيس دولة في مثل ذلك، ولكن أعذاره على التحقيق أكبر من أخطائه في كل مسألة من هذا القبيل، وفي هذه المسألة بعينها كان اختياره لأبي عبيد إنصافًا له حجته الراجحة فيه؛ لأنه كان أول من أجاب الدعوة إلى القتال، فلم يرَ من الإنصاف أن يؤخر المتقدم، ويقدم عليه المتخلفين، وقد سوغ الرجل اختياره إياه بانتصاراته الأولى التي رفعت شأنه بين القوَّاد، فلما أخطأ جاءه الخطأ من مخالفة عمر في وصاياه، ومنها وجوب التريث والحذر من عبور الأنهار والجسور، ولم يكن على عمر لوم في تنحيه عن التنبيه والتحذير.

•••

وقبل أن يضع دستورًا للولاة وضع دستورًا لنفسه قوامه أنَّ الحكم محنة٢٠ للحاكم ومحنة للمحكومين، و«أنه لا يصلح إلا بشدة لا جبرية٢١ فيها، ولين لا وهن٢٢ فيه»، وأنَّ الخليفة مسئول عن ولاته واحدًا واحدًا في كل كبيرة وصغيرة، ولا يعفيه من اللوم أنه أحسن الاختيار.

قال يومًا لمن حوله: «أرأيتم إذا استعملت عليكم خير من أعلم، ثم أمرته بالعدل، أكنت قضيت ما عليَّ؟ قالوا: نعم. قال: لا، حتى أنظر في عمله؛ أعمل بما أمرته أم لا!»

وعهوده على نفسه هي خير العهود التي تؤخذ على ولاة الأمر، وأبينها للحدود القائمة بين الراعي والرعية، وخير ما فيها أنه كان يحث الناس على الاستغناء عن التحاكم إلى الحكام، خلافًا لأصحاب الأمر الذين يودون لو فرضوا لأنفسهم حكمًا في كل شيء، فكان يقول لهم: «أعطوا الحق من أنفسكم، ولا يحمل بعضكم بعضًا على أن تحاكموا إليَّ …»

وجمع صلاح الأمر٢٣ في ثلاث: «أداء الأمانة، والأخذ بالقوة، والحكم بما أنزل الله.» وصلاح المال في ثلاث: «أن يؤخذ من حق، ويُعطَى في حق، ويُمنَع من باطل.»
وعاهد الناس فقال: «لكم عليَّ ألا أجتني شيئًا من خراجكم، ولا ما أفاء الله عليكم إلا من وجهه، ولكم عليَّ إذا وقع في يدي ألا يخرج مني إلا في حقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله وأسد ثغوركم،٢٤ ولكم عليَّ ألا ألقيكم في المهالك، ولا أجمركم — أي أحبسكم — في ثغوركم، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا إليهم، فاتقوا الله عباد الله، وأعينوني على أنفسكم بكفها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولَّاني الله من أمركم.»

ومن أوائل عهوده في بيان الحق الذي يرشح الحاكم لولاية الحكم: «أيُّها الناس! إني قد وُلِّيت عليكم، ولولا رجاء أن أكون خيركم لكم، وأقواكم عليكم، وأشدكم استضلاعًا بما ينوب من مهم أموركم، ما وليت ذلك منكم.»

فأحق الناس بالحكم أقدرهم على البر والحزم والنهوض بالأعباء، وليس له في غير ذلك حق يرشحه للحكومة.

ومن أوائل خطبه بعد توليه الخلافة: «إنَّ الله ابتلاكم بي، وابتلاني بكم، وأبقاني فيكم بعد صاحبي، فلا والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد دوني، ولا يتغيب عني فآلو٢٥ فيه عن أهل الصدق والأمانة، ولئن أحسنوا لأحسنن إليهم، ولئن أساءوا لأنكلن بهم.»

فهو يعاهدهم أن يلي الأمر بنفسه في كل ما حضره، وألا يعهد فيه إلى غيره إلا إذا غاب عنه، ثم لا يكون وكلاؤه فيه إلا من أهل الصدق والأمانة، ثم هو لا يدعهم وشأنهم بعد ذلك، بل يراقبهم ويتتبع أعمالهم فيحسن إلى من أحسن، وينكل بمن أساء.

وقد كان يقول، ويعني ما يقول، ويعمل بما يقول.

وصارح القوم فيما لا يحصى من الخطب والأحاديث أنَّ له عليهم حق الطاعة فيما أمر الله، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وأنَّ لهم عليه حق النصيحة ولو آذوه فيها. ومن ذلك الرواية المشهورة التي سأل الناس فيها أن يدلوه على عوجه، فقال له أحدهم: «والله لو علمنا فيك اعوجاجًا لقوَّمناه بسيوفنا.» فحمد الله أن جعل في المسلمين من يقوِّم اعوجاج عمر بسيفه.

ولم يكن يبيح من مال المسلمين أجرًا لعمله، إلا ما يُقِيم أَوَدَه٢٦ وأَوَد أهله عند الحاجة إليه، فإن رزقه الله ما يغنيه عن بيت المال، كف يده عنه: «… ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف، تقرم٢٧ البهيمة الأعرابية: القضم لا الخضم.» أي كما تأكل ماشية البادية قضمًا بأطراف أسنانها لا مضغًا وطحنًا بأضراسها.
ولما سئل عمَّا يحل للخليفة من مال الله، قال: «إنه لا يحل لعمرَ من مال الله إلا حلتان: حلة للشتاء وحلة للصيف، وما أحج به وأعتمر٢٨ وقوتي وقوت أهلي كرجل من قريش ليس بأغناهم ولا بأفقرهم، ثم أنا بعد رجلٌ من المسلمين.»
وقد كان أسخى من ذاك في تقديره لأرزاق الولاة والعمال، فقدَّر لعمار بن ياسر حين ولاه الكوفة ستمائة درهم في الشهر له ولمساعديه، يزاد عليها عطاؤه الذي يوزع عليه كما توزع الأعطية على أمثاله، ونصف شاة ونصف جريب٢٩ من الدقيق.

وقدَّر لعبد الله بن مسعود مائة درهم وربع شاة لتعليمه الناس في الكوفة، وقيامه على بيت المال فيها، ولعثمان بن حنيف مائة وخمسين درهمًا وربع شاة في اليوم، مع عطائه السنوي وهو خمسة آلاف درهم، وهكذا على حسب الولايات والنفقات.

وكان يحظر على الولاة مظاهر الخيلاء والأبهة التي تبعد ما بينهم وبين الرعية، ولكنه ينظر في أعذارهم فيقبلها أو يغضي عنها، ما توقف صلاح الولاية على ذلك.

قدم إلى الشام راكبًا على حمار، فتلقاه عامله معاوية بن أبي سفيان في موكب عظيم، فلما رآه معاوية نزل وسلم عليه بالخلافة، فمضى في سبيله ولم يرد عليه سلامه، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين، فلو كلمته! فالتفت إذ ذاك إلى معاوية وسأله: إنك لصاحب الموكب الذي أرى؟

قال: نعم!

قال: مع شدة احتجابك ووقوف ذوي الحاجات ببابك؟

قال: نعم.

قال: ولمَ؟ ويحك!

قال: لأننا ببلاد كثر فيها جواسيس العدو، فإن لم نتخذ العدة والعدد استخف بنا، وهجم علينا، وأما الحجاب فإننا نخاف من البذلة٣٠ جرأة الرعية، وأنا بعد عاملك، فإن استنقصتني نقصت، وإن استزدتني زدت، وإن استوقفتني وقفت!
فقال عمر: ما سألتك عن شيء إلا خرجت منه. إن كنت صادقًا فإنه رأي لبيب، وإن كنت كاذبًا فإنها خدعة أريب،٣١ لا آمرك ولا أنهاك.

أما دستور الولاة عنده فأساسه أنَّ الولاية تمييز بالواجب والكفاءة، وليست تمييزًا بالوجاهة والاستعلاء، فكان يقول للوالي: «افتح لهم بابك وباشر أمورهم بنفسك، فإنما أنت رجل منهم، غير أنَّ الله جعلك أثقلهم حملًا.»

وشغله كل الشغل أن تخضع الرعية لواليها، رغبة في حكمه، واطمئنانًا إلى عدله، فكان يقول للوالي: «اعتبر منزلتك عند الله بمنزلتك من الناس.» ويقول للرعية: «إني لم أبعث إليكم الولاة ليضربوا أبشاركم،٣٢ ويأخذوا أموالكم، ولكن ليعلموكم ويخدموكم.»
وتستوي عنده رغبة الرعية من المسلمين، ورغبة الرعية من غيرهم. فلما رأى أقوامًا ذميين ينقضون العهد، ويثورون على الدولة، طلب من صلحاء البصرة وفدًا فيهم الأحنف بن قيس، وهو مصدق عنده، فسأله: «إنك عندي مُصدَّق، وقد رأيتك رجلًا، فأخبرني: أَلِمظلمةٍ٣٣ نَفَرَ أهل الذمة أم لغير ذلك؟»

فقال الأحنف: «لا، بل لغير مظلمة، والناس على ما تحب.»

فهدأ باله وقال: «فنعم إذن!٣٤ انصرفوا إلى رحالكم.»

وربما ذهب في إرضاء الرعية مذهبًا لم يحلم به الغلاة من المطالبين بحقوق الشعوب في هذه العصور.

فكان من قواده وولاته سعد بن أبي وقاص، قائده المظفر في حروب فارس، وقريب رسول الله والرجل الذي جعله عمر واحدًا من ستة يستشارون بعده في أمر الخلافة، فثارت به طائفة من أتباعه وشكته إلى عمر وجيوش الفرس تتجمع للغزو والثأر، فلم يشغله ذلك عن تحري الأمر من مصادره، وإيفاد من يبحث عن حقيقة الشكوى بين أهلها فبعث بوكيله على العمال محمد بن مسلمة يسأل عن سعد وسيرته في الرعية، وكلما سأل عنه جماعة أثنوا عليه، إلا من شكوه، فقد أحجم فريق منهم لم يمدحوه ولم يذموه، وقال فريق منهم: «إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يغزو في السرية.»

فعاد محمد بن مسلمة إلى المدينة وسعد معه، وأعاد عمر سؤاله فلم تثبت له من أمره ريبة، إلا أنه اتقى الفتنة والخطوب منذرة، فعزله وقال لشاكيه: «إنَّ الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم لهذا الأمر، وقد استعد لكم من استعد، وايم الله لا يمنعني ذلك من النظر فيما لديكم وإن نزل بكم.» وقال لسعد يومئذ مبرئًا له من تهمة خصومه: «هكذا الظن بك يا أبا إسحاق، ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بيِّنًا.» ثم أبى أن يفارق الدنيا وفي ذمته شهادة لسعد يعلنها لملأ المسلمين، فلما حضرته الوفاة وسألوه أن يستخلف، أبى أن يخلف أحدًا من أهله، وسمى عليًّا وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعدًا «لأنهم نفر توفي رسول الله وهو عنهم راضٍ، فأيهم استُخلِف فهو الخليفة»، ثم قال: فإن أصابت سعدًا فذاك، وإلا فأيهم استُخلف فليستعن به، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة.

وهذا مثل من أمثلة الوفاء بجميع الحقوق، والرعاية لجميع الذمم من حاكمين ومحكومين، ولا يبعد أن يقع الغبن على بعض الولاة الكفاة من فرط العناية بشكايات الرعية، إلا أنَّ عمر في حزمه وعدله لم يكن يفوته مفرق الصواب بين الأمرين، فغبن والٍ أو قائد أهون من غبن أمة أو جيش، ومن أقواله في ذلك: «هان شيء أصلح به قومًا أن أبدلهم أميرًا مكان أمير.»

بل ربما جرى منه حكم العزل على الولاة الكفاة لغير سبب من أسباب الشكاية أو القصاص، وإنما هو سبب من الأسباب التي ترجع إلى سلامة الدولة، أو ما نسميه في العصور الحديثة بالسياسة العليا. وهذه أسباب لا يصح أن يغفل عنها ولاة الأمر في أيام تأسيس الدول وتجربة النظم الحديثة، وأولها عصمة الدولة من فتنة المقتدرين المحبوبين.

فربما كان الوالي المقتدر المحبوب أخطر على الدولة الناشئة في تأسيسها من الوالي العاجز البغيض، إذا لم يتعهده نظر ثاقب وحساب عسير.

فقد تزين له نفسه، أو تزين له رعيته أن يستقل بالأمر وينتحل لذلك ما شاء من المعاذير، فإن فاته الاستقلال ورئيسه قوي مهيب، لم يفته بعد زوال ذلك الرئيس، ولو جاء بعده من يضارعه في القوة والمهابة؛ لأن الفترة بين زوال عهد واستقرار عهد آخر تؤذن بمثل هذا التقلقل، وتفتح الثغرات لمن يريد أن يلج٣٥ منها بعد طول تربص واستعداد.
ولم يكن عمر بن الخطاب يعرف تاريخ الإسكندر المقدوني وتواريخ العتاة من قياصرة الرومان، ولا كان الغيب قد انكشف له فرأى ما تلاه من الأمثلة في دول المغول والعثمانيين، ودول المسلمين من الشرقيين والغربيين، ولكنه لو استقصى أخبارهم جميعًا وعرف فتنة الولاة بعد زوالهم لما ندم لحظة على عزل الذين عزلهم وهو يقول لهم: إنما عزلتكم لكيلا أحمل على الناس فضل عقولكم، أو لكيلا تفتتنوا بالناس كما افتتن الناس بكم. ولكان له سبب آخر وجيه، بالغ في الوجاهة، يدعوه إلى تغليب رغبات الرعية على مكانة الولاة، وهو عصمة الدولة من أولئك الولاة أن يطول بهم العهد، وتتم لهم القدرة، ويحوطهم الحب والولاء، فلا يبقى بينهم وبين الانتقاض٣٦ إلا الفرصة السانحة، وهي أقرب شيء سنوحًا في إبان التأسيس والانتقال.

وما لم يكن عزل العمال لسبب من أسباب السياسة العليا التي من هذا القبيل، فلا جزاء إلا بقسطاس دقيق محيط، ولا سيما في الشئون المالية؛ لأنه يعتمد في محاسبتهم على وسائل متفرقة يستدرك بعضها نقص بعض، فلا تكاد تخفى عليه خافية مما يريد الوقوف عليه.

فمن هذه الوسائل أنه كان يحصي أموالهم قبل الولاية ليحاسبهم بها على ما زادوه بعد الولاية مما يدخل في عداد الزيادة المعقولة، ومن تعلل منهم بالتجارة لم يقبل منه دعواه؛ لأنه كان يقول لهم: إنما بعثناكم ولاة ولم نبعثكم تجارًا.

ومنها أنه كان يرصد لهم الرقباء والعيون من حولهم ليبلغوه ما ظهر وما خفي من أمرهم، حتى كان الوالي من كبار الولاة وصغارهم يخشى من أقرب الناس إليه أن يرفع نبأه إلى الخليفة.

ومنها أنه كان يندب لهم وكيلًا خاصًّا يجمع شكايات الشاكين منهم، ويتولى التحقيق والمراجعة فيها، ليستوفي البحث فيما ينقله الرقباء والعيون.

ومنها أنه كان يأمر الولاة والعمال أن يدخلوا بلادهم نهارًا إذا قفلوا٣٧ إليها من ولاياتهم ليظهر معهم ما حملوه في عودتهم، ويتصل نبؤه بالحراس والأرصاد الذين يقيمهم على ملاقي الطريق.

ومنها أنه كان يستقدمهم في كل موسم من مواسم الحج ليحاسبهم ويسمع ما يقولون وما يقال فيهم، وعليهم شهود ممن يشاء أن يحضر الموسم من أهل البلاد، ونوى في أواخر أيامه أن يستكمل الرقابة بالسير في البلاد «فيقيم شهرين شهرين في الشام ومصر والبحرين والكوفة والبصرة وغيرها»، فإنه ليعلم «أنَّ للناس حوائج تُقطَع عنه، أما هم فلا يصلون إليه، وأما عمالهم فلا يرفعونها إليه.»

وكان لا يكتفي بوسائله تلك إذا استراب، فيعمد إلى الحيلة للكشف عن الخبايا التي تريبه، ومن ذلك أنه سمع بعودة أبي سفيان من عند ولده معاوية والي الشام، فوقع في نفسه أنَّ ولده قد زوده في عودته بمال، وجاءه أبو سفيان مسلمًا، فقال له: أَجِزْنا٣٨ يا أبا سفيان! قال: ما أصبنا شيئًا فنجيزك! فمد يده إلى خاتم في يده فأخذه منه وبعثه إلى هند زوجه، وأمر الرسول أن يقول لها باسم زوجها: انظري الخرجين اللذين جئت بهما فابعثيهما، فما لبث أن عاد بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم، فطرحهما عمر في بيت المال.
وكانت سنته إذا ثبتت على الوالي شبهة التصرف في بيت مال المسلمين أن يصادر المال الذي ظفر به، أو يقاسم الوالي فيما أربى٣٩ على كسبه المعقول، فيترك له النصف ويضم النصف إلى بيت المال، وهذا عدا ما يجزيه به من عزل أو عقاب.

أما حساب الشكايات من المظالم، فكانت سُنَّته فيه التحقيق، ثم الجزاء على شرعة المساواة بين أكبر الولاة وأصغر الرعية، بغير تفرقة بين السيئة وجزائها، فمن ضَرَب ضُرِب، ومن غصب رد ما غصب، ومن اعتدى قوبل بمثل اعتدائه، وعليه زيادة التأديب.

وقد يأخذ الوالي أحيانًا بوزر٤٠ ولده أو ذوي قرابته إذا وقع في نفسه أنهم يستطيلون على الناس بسلطان الولاية، ولا ينهاهم الوالي المسئول عنها.

جاء مصري فشكا إليه واليها عمرو بن العاص، وزعم أنَّ الوالي أجرى الخيل، فأقبلت فرس المصري فحسبها محمد بن عمرو فرسه وصاح: فرسي ورب الكعبة! ثم اقتربت وعرفها صاحبها، فغضب محمد بن عمرو ووثب على الرجل يضربه بالسوط، ويقول له: خذها وأنا ابن الأكرمين. وبلغ ذلك أباه فخشي أن يشكوه المصري فحبسه زمنًا، وما زال محبوسًا حتى أفلت وقدم إلى الخليفة لإبلاغه شكواه.

قال أنس بن مالك راوي القصة: فوالله ما زاد عمر على أن قال له: اجلس … ومضت فترة إذا به في خلالها قد استقدم عمرًا وابنه من مصر، فقدما ومثلا٤١ في مجلس القصاص فنادى عمر: أين المصري؟ دونك٤٢ الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين.
فضربه حتى أثخنه٤٣ ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين! ثم قال: أَجِلْها٤٤ على صلعة عمرو! فوالله ما ضربك ابنه إلا بفضل سلطانه. قال عمرو فزعًا: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت. وقال المصري معتذرًا: يا أمير المؤمنين قد ضربت من ضربني. فقال عمر: أما والله لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه. والتفت إلى عمرو مغضبًا يقول له تلك القولة الخالدة التي ما قالها حاكم قبله: «أيا عمرو! متى تعبدتم٤٥ الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»

•••

ومن هذا العدل في شئون الولاية نستطيع أن نفهم دستوره في شئون القضاء، فلن يكون هذا الدستور إلا دستور العدل المحكم في الجزاء والفصل بين الحقوق، إلا أننا نعتقد أنَّ وصاياه في القضاء أحكم وأصلح لجميع الأزمنة من جميع وصاياه فلا تعقيب بعدها لمعقب في زمانه، أو في زمان يليه، مهما تختلف الأقوام والأوقات.

أنشأ وظائف القضاء، وتخير لها العدول٤٦ الأكفاء. ولم تكن به من حاجة هنا إلى سن الشريعة التي يحكمون بها، فإنها ماثلة في الكتاب والسنة، ولكنه كان في حاجة إلى تعليم القضاة كيف يتصرفون حين يلتبس عليهم الأمر، فأحسن التعليم.

•••

كان يكتب لأحدهم: «إذا جاءك شيء في كتاب الله فاقضِ به، ولا يلفتنك عنه الرجال، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله، فانظر سنة رسول الله فاقضِ بها، فإن جاءك أمر ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله ولم يكن فيه سنة من رسول الله، ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت: إن شئت أن تجتهد وتَقَدَّم فتقدم، وإن شئت أن تَأَخَّر فتأخر،٤٧ ولا أرى التأخير إلا خيرًا لك.»

وضرب لهم أصلح الأمثلة باجتهاده واستفتائه، فلم يقطع يد السارق في عام المجاعة رعاية للزمن، ولم يقطع يد الغلام الذي سرق من سيده رعاية لسنه، أو للعلاقة بين السارق والمسروق منه، واشتركت امرأة وصاحبها في قتل رجل فتحرَّج من قتل اثنين بواحد، حتى أفتاه علي —رضي الله عنه — بأنهما مستحقان للقتل، كما يستحق اللصوص المتعددون أن يقام عليهم الحد إذا سرقوا لحمًا من بعير واحد، فأخذ بفتواه.

•••

ومن وصاياه للقاضي: «آسِ بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك،٤٨ ولا ييأس ضعيف من عدلك، والبينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرَّم حلالًا أو أحل حرامًا، ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن ترجع عنه، فإن الحق قديم، ومراجعة الحق خير من التمادي٤٩ في الباطل. الفهم الفهم عندما يتلجلج٥٠ في صدرك ما لم يبلغك في كتاب الله ولا سنة النبي ، واعرف الأمثال والأشباه، وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد٥١ إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى، واجعل للمدَّعي حقًّا غائبًا أو بيِّنةً أمدًا ينتهي إليه، فإن أحضر بينته أخذت له بحقه، وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أنفى للشك، وأجلى للعمى، وأبلغ في العذر … المسلمون عدول٥٢ بعضهم على بعض إلا مجلودًا في حد أو مجربًا عليه شهادة زور، أو ظنينًا٥٣ في ولاء أو قرابة، فإن الله قد تولى منكم السرائر، ودرأ٥٤ عنكم بالشبهات، ثم إياك والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر، ويحسن بها الذخر، فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى، ولو على نفسه، يكفيه الله ما بينه وبين الناس.»

ومن وصاياه لمن يَلُون الحكم: «الزم خمس خصالٍ يسلم لك دينك، وتأخذ فيه بأفضل حظِّك: إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة أو اليمين القاطعة، وأدنِ الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه، وتعهد الغريب، فإنك إن لم تتعهده ترك حقه ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به، وآسِ بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبِنْ لك فصل القضاء.»

•••

تلك نماذج متفرقة من وصاياه للقضاة، وولاة الأحكام، وهي فيما نراه أحكم وصاياه، وأقربها أن يتبعها سواه.

ولذلك سبب لا يعسر تعليله؛ فقد كان عمر في الجاهلية حكمًا من قبيلة محكمين، أو سفيرًا يسعى بين الناس بالصلح من قبيلة سفراء، فهو في هذه الصناعة عريق.

إلا أنَّ المرء قد يجلس للحكم بين الناس كما جلس عمر ولا يحسن الوصية فيه كما أحسنها، وإنما بلاغ حُسنِ الوصية أن تجمع الخصلتين اللتين اجتمعتا في وصاياه لقضاته.

فما من أحد يستطيع أن يوصي قاضيًا بخير مما أوصى، وما من عقدة قضائية تأتي من قبل القضاة أو من قبل المتقاضين إلا وهي ملحوظة في كلامه، وهاتان هما الخصلتان الباديتان في دستور القضاء كما أملاه.

•••

ولا بد أن يلفت النظر في سياسته للولاية، وسياسته للقضاء، أنه كان يأخذ الواجب حيث وجب، وإن اختلف الواجبان.

ففي الولاية كان يتحرى البواطن ويمعن في تحريها، ولا يكتفي من الناس بالظواهر. وفي القضاء وما شابه القضاء كان يكتفي بالظواهر حتى تنقضها البينة٥٥ القاطعة، وكان يعلن هذه الخطة على المنبر، فيقول: «أظهروا لنا أحسن أخلاقكم، والله أعلم بالسرائر، فإن من أظهر لنا قبيحًا وزعم أنَّ سريرته حسنة لم نصدقه، ومن أظهر لنا علانية حسنة ظننا به حسنًا.» أو يقول: «إنما كنا نعرفكم إذ الوحي ينزل، وإذ النبي بين أظهرنا، فقد رفع الوحي، وذهب النبي ، فإنما أعرفكم بما أقول لكم، ألا فمن أظهر لنا خيرًا أثنينا عليه، ومن أظهر لنا شرًّا ظننا به شرًّا وأبغضناه.»

بل كان له في الأخلاق الاجتماعية مذهب ثالث يشبه مذهبه في القضاء، فكان يكره أن يكشف المرء من أخيه ما يستره عنه، وينهى أن تظن بكلمةٍ شرًّا وأنت تجد لها في الخير محملًا.

وهذه في الظاهر نقائض، وفي الحقيقة واجبات متعددة، كلٌّ منها في موضع لازم.

فالعلم بخبايا الحكومة واجب على كل ولي مسئول، لا تنصلح الأحوال بغيره، وفي الغفلة عنه مضرة محققة لجميع الناس.

والأخذ بالبينة دون الظاهر في شئون القضاء واجب لا محيص عنه لضمان السلامة ومنع الجور، وهو في أحد طرفيه لا يخلو من الحذر الشديد من الطبيعة البشرية؛ إذ فيه خشية من غواية الهوى أن تنطلق بالقضاة في الحكم بغير برهان.

وفي الأخلاق الاجتماعية لا يؤمن التقاطع بين الأصدقاء إذا جرت العلاقة بينهم على التجسس والخدعة، ولا رعاية للمودة ما لم تكن رعاية للحرمات، ومنها الأسرار.

والتفرقة بين الواجبات المختلفة هي دليل البصيرة في عرفان كل واجب منها، وأنها تصدر عن رأي أصيل، ولا تصدر عن تسخير العرف وإملاء التقليد والمحاكاة.

•••

وأنشئت في عهد عمر دواوين أخرى غير ديوان القضاء ودواوين الإحصاء والخراج والمحاسبة التي لم تكن من المؤسسات القائمة قبل عهده، فأنشأ البريد، وبيت المال، ومرابط الثغور، ومصنع السكة لضرب النقود، ودار الحبس للعقاب، ووكل معظم الدواوين إلى أبناء البلاد يزاولونها بلغاتهم؛ لأنها ليست من أسرار الدولة، وليس من الميسور أن ينصرف إليها فتيان العرب عما هو أولى بهم؛ وهو فرائض الدفاع والجهاد.

فلو وجد منهم من يفي٥٦ لتلك الأعمال؛ لكانت خسارة الدولة في قيامهم بها أعظم من ربحها، ولكنهم غير موجودين، ولا عملهم فيها باللازم اللازب للمصلحة الكبرى، وقد يكون عمل الفارسي في مصلحة فارس، والسوري في مصلحة سورية، والمصري في مصلحة مصر أحرى٥٧ أن يعصمهم إن كان بهم عاصم، وإلا فلا تثريب.٥٨

ووضع عمر نظامًا لتحصيل الجزية، وتصرف في وضعها على حسب الأمم والبلاد، فأعفى التغلبيين بالشام من الجزية، وفرض عليهم بديلًا عنها ضعف صدقة المسلم؛ لأنهم أنفوا أن يؤدوها، وأزمعوا اللحاق بأرض الروم.

وكان له نظام اقتصادي يوافق مصلحة الدولة في عهده، فكان يحضُّ على التجارة، ويوصي القرشيين ألا يغلبهم أحد عليها؛ لأنها ثلث الملك. ولكنه أبقى الأرض لأبنائها في البلاد المفتوحة، ونهى المسلمين أن يملكوها على أن يكون لكلٍّ منهم عطاؤه من بيت المال، كعطاء الجند في الجيش القائم. وإذا أسلم أحد الذميين أُخذت منه أرضه، ووزعت بين أهل بلده، وفرض له العطاء، وكان غرضه من ذلك أن تبقى لأهل البلاد موارد ثرواتهم، وأن يعتصم٥٩ الجند الإسلامي من فتن النزاع على الأرض والعقار، ومن فتن الدعة٦٠ والاشتغال بالثراء والحطام، وربما أغضى٦١ عن كثير في سبيل الإعانة على تعمير البلاد بأهلها، فصفح عن أهل السواد «العراق» ليأمنوا البقاء فيه، مع أنهم حنثوا بالعهد، وعاونوا الفرس على المسلمين في أثناء القتال.
ويلوح من كلامه في أخريات أيامه أنه كان على نية النظر في تصحيح النظام الاقتصادي، وعلاج مشكلة الفقر والغنى على نحو غير الذي وجدها عليه، فقال: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت٦٢ لأخذت فضول٦٣ أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء.»
ولم يرد في كلامه تفصيل لهذه النية، ولكن الذي نعلمه من آرائه في هذا الصدد كافٍ لاستخلاص ما كان ينويه، فعمر على حبه للمساواة بين الناس كان يفرق أبدًا٦٤ بين المساواة في الآداب النفسية والمساواة في السنن الاجتماعية، فكتب إلى أبي موسى الأشعري: «بلغني أنك تأذن للناس جمًّا غفيرًا،٦٥ فإذا جاءك كتابي هذا فأذن لأهل الشرف وأهل القرآن والتقوى والدين، فإذا أخذوا مجالسهم فأذن للعامة.» ولكنه لما رأى الخدم وقوفًا لا يأكلون مع ساداتهم في مكة غضب، وقال لساداتهم مؤنبًا: ما لقوم يستأثرون على خدامهم؟ ثم دعا بالخدم فأكلوا مع السادة في جِفَان واحدة.
فالمساواة في أدب النفس لم تكن عند عمر مما ينفي التفاضل بالدرجات، ولم يكن يرضيه كذلك أن يعتمد الفقراء على الصدقات والعطايا، ويعرضوا عن العمل واتخاذ المهنة، فكان يقول لهم في خطبة: «يا معشر الفقراء، ارفعوا رءوسكم فقد وضح الطريق، فاستبقوا الخيرات، ولا تكونوا عيالًا على المسلمين.»٦٦ وكان يوصي الفقراء والأغنياء معًا «أن يتعلموا المهنة، فإنه يوشك أن يحتاج أحدهم إلى مهنة وإن كان من الأغنياء.»

فيسوغ لنا أن نفهم من هذا جميعه معنى ما انتواه من أخذ فضول الغني، وتقسيمه بين ذوي الحاجة، وهو تحصيل بعض الضرائب من الثروات الفاضلة، وتقسيمها في وجوه البر والإصلاح.

على أنَّ عمر يصح أن يُسمَّى مؤسسًا لديوان الوقف الخيري على الوجه الذي نعهده الآن، فقد أنشأ بيت الدقيق لإغاثة الجياع الذين لا يجدون الطعام، وأصاب قبل خلافته أرضًا بخيبر فاستشار النبي — عليه السلام — فيها، فاستحسن له أن يحبس أصلها، ويتصدق بريعها، فجعلها عمر صدقة لا تباع ولا توهب ولا تُورَّث، وينفَق منها على الفقراء والغزاة وغيرهم، ولا جناح٦٧ على من وليها؛ يأكل بالمعروف، ويطعم صديقًا فقيرًا منها.

•••

وعرضت لعمر مسائل التعمير على حسب الحاجة إليها في وقته، فلم تجده مسألة منها دون ما تحتاج إليه من إصابة الرأي وحسن الروية، فكانت نصائحه في تخطيط المدن واختيار مواقعها من أنفع النصائح، وكانت دواعيه إلى بنائها من أشرف الدواعي وأليقها بالأمير.

شاهد في الجند هزالًا وتغير ألوان فسأل قائدهم سعدًا: ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فأجابه: إنها وخومة٦٨ المدائن ودجلة. فكتب إليه: «إنَّ العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سليمان وحذيفة فليرتادا٦٩ منزلًا بريًّا بحريًّا ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر.» وأمر أن تبلغ مناهج٧٠ المدينة أربعين ذراعًا وما يليها ثلاثين ذراعًا وما بين ذلك عشرين، وألا تنقص الأزقة عن سبع أذرع ليس دونها شيء، وألا يرتفع بناء الدور، فبُنيت الكوفة على هذا التخطيط.

وعلم أنَّ الجند يشكون الشتاء، ويعوزهم الملجأ الذي يسكنون إليه بعد الغزو في حدود فارس، فكتب إلى عتبة بن غزوان أن «ارتَدْ لهم منزلًا قريبًا من المراعي والماء»، ووصف له ما يلتزم من مواقعه وخططه، فبنيت البصرة عند ملتقى النهرين.

وهو الذي أشار على عمرو بن العاص أن يحفر خليجًا بين النيل وبحر القلزم٧١ لاتصال المرافق بين مصر وعاصمة الدولة، وضرب له الموعد حولًا يفرغ فيه من حفره وإعداده لمسير السفن فيه، فساقه من جانب الفسطاط إلى القلزم، ولم يأت الحول حتى جرت فيه السفن، وسُمي خليج أمير المؤمنين، ولم يزل مفتوحًا حتى ضيعه الولاة وغفل عنه الخلفاء.
فسياسته التعميرية وافية بالغرض منها لعصره، وقد يلاحظ عليها أبناء العصر الحاضر شيئًا لا يوافقهم، كالحد من ارتفاع الدور، والزهد في تشييد القصور، أما هو فالوجه الذي توخاه في سياسة التعمير أن يحمي الدولة في نشأتها من الترف والبذخ، وأن يحول بين الجند وبين الاستنامة٧٢ إلى متاع القصور المشيدة، والصروح الممردة، وما فيها من بواعث الوهن والفتور. ومن فلاسفة العصر الحاضر من يحسب ضخامة البناء دليلًا على ابتداء الضعف وعفاء٧٣ العقيدة، ويقول «شبنجلر» أحد هؤلاء الفلاسفة: «إنَّ الأمم في نهوضها تعبر طريقين مختلفين: طريق العقيدة وقوة النفس، وتلازمه بساطة الظواهر وعظمة الضمائر، وطريق الفخامة المادية والوفرة العددية، وفيه تنحل الضمائر، وتخلفها العظمة التي تقاس بالباع والذراع، وتقدر بالقنطار والدينار، وكانت قبل ذلك تقاس بما لا يحس من العزائم والأخلاق.»

وعمر على كلتا الحالتين لم يتعد طبائع الأشياء، ولم يأخذ في زمانه بغير الصالح من الآراء.

•••

وقصارى القول أنَّ هذا رجل لم تواجهه في ولاياته الواسعة صعوبة أكبر منه وأحوج إلى قدرة أعلى من قدرته، أو هيبة ودراية أجلَّ مما كان له من هيبة ودراية، فإذا عرضت الصعوبة الطارئة فهناك الحزم اللازم لمواجهتها، والحيلة الصالحة لتدبيرها، كأنما كان لها على استعداد، وكأنما عاش حياته كلها يتمرس٧٤ بهذه الأمور.
وكان اضطلاعه٧٥ بتفريج الأزمات والكوارث كاضطلاعه بتدبير الحاجات إلى التعمير والتنظيم، ففي السنة الثامنة عشرة للهجرة فاجأه قحط الرمادة المشهور، وهو القحط الذي لا يقال في وصفه أوجز من قولهم يومئذ إنَّ الوحش كانت تأوي فيه إلى الإنس، وإنَّ الرجل المتضور من الجوع كان يذبح الشاة فيعافها لقبحها.
فنهض لهذه الكارثة نهوضه لكل خطب، واستجلب القوت من كل مكان فيه مزيد من قوت، وجعل يحمله على ظهره مع الحاملين إلى حيث يعثر بالجياع والمهزولين العاجزين عن حمل أقواتهم، وآلى٧٦ على نفسه لا يأكلن طعامًا أنقى من الطعام الذي يصيبه الفقير المحروم من رعاياه، فمضت عليه شهور لا يذوق غير الخبز والزيت، ونظر في كل شيء حتى في تعليم كل بيت كيف ينتفع بالرزق الذي يرسله إليهم مع عماله … فقال للزبير بن العوام: «اخرج في أول هذه العير فاستقبل بها نجدًا، فاحمل إليَّ أهل كل بيت قدرت أن تحملهم إليَّ، ومن لم تستطع حمله فمر لكل أهل بيت ببعير بما عليه، ومرهم فليلبسوا كساءين، ولينحروا البعير فليحملوا شحمه، وليقددوا لحمه، وليحتزوا٧٧ جلده، ثم ليأخذوا كبة من قديد، وكبة من شحم، وحفنة من دقيق فليطبخوا ويأكلوا حتى يأتيهم الله برزق.»

•••

وهذه السهولة في مواجهة كل حالة بما يوائمها هي التي تبرز لنا «مؤسس الدولة الملهم» في هذا الرجل العظيم.

فكل عمل من هذه الأعمال سهل على القرطاس، صعب عند تصورنا إياه، وإحاطتنا بما يستدعيه من تدبير وإنجاز وخلق وهيبة، فكم بين المدينة وتلك الأطراف في زمن أسرع وسائله بعير سريع! وكم عمل عمر لملاحقة كل جيش يسير، وكل بلد يفتح، وكل أمة تحكم، وكل عارض يطرأ على غير رقبة٧٨ ولا سابقة خبرة.
تجنيد الجيوش لشتى الميادين، وليس بسهل، واختيار القواد على حسب ما يُندَبون له، وليس بسهل، والأمر بكل حركة على حسب كل ميدان، وليس بسهل، والسؤال عن قادة الأعداء ومداوراتهم٧٩ ليستقصي خبرهم، ويعرف ما يقابلهم به من الكيد العدة، وليس بسهل، وإنشاء المدن والعمائر في مواضعها، وإقامة الدواوين عند الحاجة إليها، وإرضاء الأمم والجيوش بالإصغاء إلى شكاياتهم ولو جاءت في غير أوانها، والنهوض للكوارث والأزمات بما ينبغي لها، والمشاورة لمن تسمع منه المشورة بغير ما شكاة، وخدمة الناس في دينهم وخلقهم كخدمته إياهم في دنياهم ودولتهم، وتجدد هذه المتاعب يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وعامًا بعد عام، وهي شاقة لا سهولة فيها على غير صاحبها القدير عليها ولو زاولها عرضًا إلى أيام.
وجليل بعض هذا غاية الجلال لو أنَّ صاحبه قنع منه بالإشراف والمراجعة، ولم يعمل بيده فيه كأنه خادم البيت المرهق، وأجير الديوان الصغير، لكنه — كما تعلم — كان يكدح بيده، ويحمل على ظهره ويتعقب٨٠ بعينه، ولا يدع أحدًا من خدام الدولة الواسعة إلا وهو شريك له في مثل ما يتولاه.
وأكبر ما يستحق الإكبار في هذا الرجل الكبير أنه كان قادرًا على تأسيس الدول وعلى فتح الأمصار، ولكنه راض٨١ القدرتين، فلم يقدم على فتح الأمصار إلا بمقدار.
فليس الفتح شهوة عنده، ولا المجد الحربي لبانة٨٢ من لباناته، وهو على علمه بأن الله وعد المؤمنين أن يورثهم الأرض، لم يكن يرى في ذلك داعيًا إلى العجلة بالفتح، كما كان يرى فيه دواعي للتبصر والأناة، حتى لا يُسفَك دم في غير موجب، ولا تعتسف خطة بغير روية.
فكان همه الأكبر تأمين الجزيرة العربية من أطرافها، وحماية الإسلام في عقر داره. ولولا أنَّ الدول العظمى التي كانت تحدق بجزيرة العرب تحفزت٨٣ للبطش بها، وقمع دعوتها في مهدها؛ لكانت للدولة الإسلامية سياسة أخرى في مصاولة أولئك الأعداء.
فدولة الروم كانت ترسل البعوث إلى تخوم٨٤ الجزيرة، وتهيج القبائل لحرب المسلمين من عهد النبي — عليه السلام — وكان المسلمون يعيشون في فزع دائم من خطر هذه الدولة وأتباعها. يدل عليه كلام عمر وهو يتحدث عن أزواج النبي حيث يقول: «… وكنا تحدثنا أنَّ غسان٨٥ تنتعل النعال لغزونا، فنزل صاحبي يوم نوبته فرجع عشاء، فضرب بابي ضربًا شديدًا وقال: أثم هو؟ ففزعت فخرجت إليه، وقال: حدث أمر عظيم. قلت: ما هو؟ أجاءت غسان؟ قال: لا، بل أعظم منه وأطول، طلَّق النبي نساءه!»

ومن هذا الحديث يتبين لنا مبلغ الفزع من تهديد الروم للجزيرة العربية بالليل والنهار. أما فارس فقد بلغ بطغيانها أنَّ عاهلها غضب من دعوته إلى الإسلام، فأوفد إلى الحجاز رسولًا مع نفر من الجند ليأتيه بالنبي العربي حيًّا أو ميتًا! ولولا أنه مات قبل إنجاز وعيده، واشتعلت نيران الفتن في بلاده؛ لوطئت الجيوش الفارسية أرض الجزيرة قبل أن ينهض العرب للدفاع، وما هو إلا أن حفظ العرب حدودهم من قبل العراق الفارسي حتى سكنوا إلى ذلك، وود عمر بن الخطاب «لو أن بيننا وبين فارس جبلًا من نار لا يصلون إلينا ولا نصل إليهم»، ولم تتغير خطته هذه إلا حين استوى «يزدجرد» على عرش فارس، وتأهب للغارة على المسلمين، وإخراجهم من حيث نزلوا، فتجدد القتال.

وقد طال تردد عمر في فتح مصر، ولم ينبعث إلى غزوها حبًّا ولهجًا٨٦ بالفتوح، ولولا أن علم أنَّ أريطون قائد الروم في بيت المقدس قد فر منها إلى مصر ليحشد فيها الجنود ويتأهب للكر على الشام، لطال تردده في الزحف عليها. ومع هذا أوشك أن يسترجع عمرو بن العاص بعد إشخاصه إليها، ونهاه عن الإيغال في المغرب بعد فتحها؛ لأن السطوة — وهو مقتدر عليها — لم تكن تزدهيه٨٧ ولا تغويه، ولأن الضن بالأرواح أغلب في طبعه من الشغف بالفتوح، و«أنَّ رجلًا من المسلمين أحب إليَّ من مائة ألف دينار!»

فلا يخطئ القائل الذي يقول إنَّ الأناة في السطوة أكبر ما يستحق الإكبار من هذا الخلق الرفيع، وإنَّ دلالته الإنسانية أكبر دلالة يشتمل عليها هذا السجل الحافل بالمآثر؛ لأنه يرينا القوة كيف تكون نعمة إنسانية عالية ولا تكون لزامًا نقمة من نقم الأثرة والأنانية، ويرينا الرجل كيف يقوى؛ فلا يخافه الضعيف، بل يخافه من يخيف الضعفاء.

وبحق يتزود بهذه القوة مؤسس دولة تقوم على دين؛ لأن الدولة قد تقيمها القوة الطاغية، أما الدين فلا يهدمه شيء، كما تهدمه قوة الطغيان.

إنَّ البأس الذي رزقته نفس عمر لحظ عظيم، ولكنه لو كان في يدي غيرها لقد يكون نصيبها منه أوفى من نصيبها وهو في يدها، فلم يشحذه عمر قط لغرض يخصه دون غيره، ولم يضرب به قط بمعزل عن الإيمان حتى في أيام الجاهلية. فلو لم يقع في روع٨٨ عمر أنَّ محمدًا أهان قريشًا وانتقص دينها لما تصدى له بأذى، ولولا حرمة الإيمان الجاهلي عنده لما ثار على إيمان محمد وصحبه.

وغاية ما هنالك أنه فرق بين إيمان وإيمان، ففي الجاهلية كان إيمانه مضللًا فعقم ولم يأتِ بطَائِل، وفي الإسلام كان إيمانه رشيدًا، فأتى بأطيب الثمرات.

•••

قبل أن يقال إنَّ عمر كان أكبر فاتح في صدر الإسلام، ينبغي أن يقال إنه كان يومئذ أكبر مؤسس لدولة الإسلام، وإنه أسسها على الإيمان، ولم يؤسسها على الصولجان،٨٩ فكان مؤسسًا لها قبل أن يلي الخلافة، وينفرد بالكلمة العليا، وكان من يوم إسلامه آخذًا في تشييد هذا البناء الذي تركه، وهو بين دول العالم أرسخ بناء.

إنَّ تاريخ عمر وتاريخ الدولة الإسلامية لا يفترقان، فإذا بدأت بهذا فقد بدأت بفصل من تاريخ ذاك، ولن يطول بك الاستطراد، حتى تثوب إليه كرة أخرى.

١  الأكتاف: جمع كتف، والعسب: جمع عسيب، وهو جريد النخل، كانوا ينزعون خوصه، ويكتبون في طرفه العريض، وكان العرب يكتبون كذلك على صفائح الحجارة، وعلى الأضلاع والأكتاف … إلخ.
٢  سلفه: تقدمه.
٣  سمط: خيط تنظم فيه حبات العقد، والمراد عدد.
٤  ملاك الأمر: قوامه وأساسه، يقال: القلب ملاك الجسد.
٥  خبر الأمر يخبُره من باب نصر: علمه.
٦  تعقبنا: تتبعنا.
٧  تخوم: حدود، جمع تخم.
٨  المكيث: الذي لا يتعجل في الأمر.
٩  الجبرية بفتح الجيم وسكون الباء مع تشديد الياء: الكبر مثل الجبروت.
١٠  أحرز: الحرز المكان الحصين، فالمراد حصن لسانك، واضبطه ولا تثرثر.
١١  دونه: بينك وبينه.
١٢  مسالحك: جمع مسلحة على وزن مصلحة، جند المراقبة على الحدود.
١٣  أنقابها: جمع نقب، وهو هنا الطريق في الجبل.
١٤  المدر: جمع مدرة، وهي القرية والحضر، وعكسها الوبر؛ أي البادية، والمراد بالحجر من أرض العرب الأرض الجبلية الوعرة.
١٥  الجراع: جمع أجرع، وهو الأرض ذات الحزونة، تشاكل الرمل ولا تنبت.
١٦  حدهم وجدهم: يقال «فلان له جد وحد»؛ أي له بأس وقوة.
١٧  الأخرى: يقصد النكسة أو الانهزام.
١٨  مشارف الأرض: أعاليها.
١٩  الموالي: يطلق على العتقاء والنصر والحلفاء.
٢٠  محنة: اختبار، ومحنه — من باب قطع — وامتحنه: اختبره، والاسم المحنة؛ ولذا سُمِّيت المصائب بالمحن؛ لأنها اختبار للإنسان.
٢١  جبرية: جبروت وطغيان.
٢٢  وهن: ضعف.
٢٣  أي أمر الدولة.
٢٤  الثغور: جمع ثغر، وهو من البلاد الموضع الذي يُخاف منه هجوم العدو، ويقصد بسد الثغور: الدفاع.
٢٥  ألا يَأْلُو: أي قصر يقصر من باب عدا؛ فآلو أي أقصر، ومنه: لا آلوك نصحًا؛ أي لا أقصر في نصحك، ولا أدخر جهدًا فيه.
٢٦  أود: أود من باب طرب: عوج؛ فالأود العوج، والمراد ما يكفي حاجاته الضرورية.
٢٧  قرم: أي أكل أكلًا ضعيفًا، والمراد أكل أخف أكل من أخشن طعام.
٢٨  الحج معروف، والعمرة: الحج الأصغر، وهي مأخوذة من الاعتمار؛ أي الزيادة.
٢٩  الجريب: مكيال كان يُستَخدم، يمكن أن يقدَّر بما يعادل ٣٦٠ رطلًا.
٣٠  البذلة: الابتذال وترك الكلفة.
٣١  أريب: ذكي.
٣٢  أبشاركم: جلودكم.
٣٣  المَظلِمة بفتح الميم وكسر اللام: اسم لما تطلبه عند الظالم كالظلامة.
٣٤  أي لا ضير إذن.
٣٥  يلِج: مضارع ولج؛ أي دخل.
٣٦  المراد الخروج على الدولة والاستقلال بالولاية.
٣٧  قفلوا: رجعوا.
٣٨  أجزنا: المقصود أعطنا.
٣٩  أربى: زاد.
٤٠  الوزر: الذنب.
٤١  مثلَا: مثل بين يديه: انتصب قائمًا، وبابه: دخل.
٤٢  دونك: اسم فعل بمعنى خذ.
٤٣  أثخنه: أضعفه وأوجعه وأوهنه.
٤٤  أجلِهَا: أدرها.
٤٥  تعبَّدتم: استعبدتم.
٤٦  العدول: جمع عدل، وهو العادل.
٤٧  تقدم: تتقدم، وتأخر: أي تتأخر.
٤٨  حيفك: ظلمك.
٤٩  التمادي: الاستمرار والإصرار.
٥٠  يتلجلج: يتردد ويتحير.
٥١  اعمد: اقصد.
٥٢  عدول: تُقبَل شهادتهم.
٥٣  ظنينًا: متهمًا.
٥٤  درأ: منع العقوبة.
٥٥  البينة: الدليل والبرهان.
٥٦  يفي: يكفي ويصلح.
٥٧  أحرى: أجدر.
٥٨  تثريب: لوم وذنب.
٥٩  يعتصم: يمتنع ويتحصن.
٦٠  الدعة: الخفض والرفاهية.
٦١  أغضى: أغمض عينه وصفح.
٦٢  المراد لو رجع من عمري ما فات.
٦٣  فضول: ما زاد عن الحاجة، جمع فضل.
٦٤  أبدًا: دائمًا.
٦٥  جمًّا غفيرًا: جميعًا، الشريف مع الوضيع في كثرة.
٦٦  لا تكونوا عيالًا على المسلمين: لا تعتمدوا على أن يعولوكم.
٦٧  لا جناح: لا إثم ولا حرج ولا ذنب.
٦٨  وخومة: فساد الجو والبيئة.
٦٩  فليرتادا: فليختارا بعد البحث.
٧٠  مناهج: طرق.
٧١  القلزم: مدينة السويس الحالية، وكان البحر الأحمر قديمًا يسمَّى بحر القلزم، نسبة لهذه المدينة.
٧٢  الاستنامة: الاطمئنان والرغبة والرضا.
٧٣  عفاء: انتهاء وفناء.
٧٤  يتمرس: يتدرب ويتمرن ويعالج.
٧٥  اضطلاعه: احتماله وقيامه.
٧٦  آلى: حلف.
٧٧  حز الجلد واحتزه: قطعه.
٧٨  رقبة: ترقب وانتظار.
٧٩  المداورة: المحاربة والافتنان في أساليب القتال.
٨٠  يتعقب: يتبع ويفحص.
٨١  راض: روَّض وذلَّل.
٨٢  لُبانة: حاجة ورغبة.
٨٣  تحفزت: استعدت وتوثبت.
٨٤  تخوم: حدود.
٨٥  غسان: عرب الشام.
٨٦  لهجًا: اللهج بالشيء: الولوع به.
٨٧  تزدهيه: تستهويه وتستخفه.
٨٨  الرُّوع بالضم: القلب والعقل والبال.
٨٩  الصولجان: عصا الملك، فارسي معرَّب؛ إذ لا يجتمع في كلمة عربية صاد وجيم، الجمع «الصوالجة». والمراد أنه لم يؤسسها على الطغيان والأبهة وغطرسة الملوك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤