فاتحة

ينشأ كل دينٍ في بيئةٍ ثقافيةٍ معينة تُقدم له الخلفية الاعتقادية والميثولوجية التي يُشيد بنيته الجديدة انطلاقًا من نقدها وتجاوزها، ولكن مع الإبقاء على بعض آثار تلك الخلفية القديمة. فالعلاقة بين القديم والجديد هنا علاقةٌ جدليةٌ، يتبادل الاثنان فيها التأثُّر والتأثير وصولًا إلى حالةٍ من الاستقرار يلتقي عندها الاثنان في تركيبٍ لايشبه أيًّا منهما.

إن الأمثلة التي يمكن إيرادُها عن العلاقة بين القديم والجديد في تاريخ الأديان كثيرة، ويمكن أن تأخذنا بعيدًا عن مقاصد هذه الدراسة؛ ولهذا سوف أكتفي بما يتلاءم مع هذه المقاصد، وأُقدم عرضًا سريعًا يتناول الأديان الثلاثة المعروفة بالتوحيدية أو السماوية، على الرغم من تحفُّظي على هذه التسمية؛ لأن صفة التوحيدية يمكن إسباغها أيضًا على أديان أخرى مثل الزرادشتية والمانوية، بينما يمكن الطعن بصفة التوحيدية التي تُسْبَغ عادةً على اليهودية.

فعلى الرغم من تميز كتاب التوراة عن بقية الأدب الديني المشرقي، إلَّا أنه يحتوي على الكثير من مادة ذلك الأدب، لا سيما الرافديني منه والكنعاني. وعلى الرغم من الاستقلالية التي أعلنها يسوع المسيح عن التاريخ الديني اليهودي منذ البدايات الأولى لكرازته، إلا أن سيرته التي تقصُّها علينا الأناجيل الأربعة تحتوي على الكثير من المادة التوراتية، ومؤلفوها يقتبسون في معظم الأحيان مقاطعَ توراتيَّةً من أجل توضيح مقاصدهم، وكثيرًا ما نجد مثل هذه المُقتبسات في أقوال يسوع، مثل قوله: «الحجر الذي رذله البناءون صار رأس الزاوية»، وهو مقتبس عن سفر المزامير، ١١٨: ٢٢. وقبل أن يسلم الروح على الصليب قال: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟»، وهو نداء يبتدئ به المزمور ٢٢ من سِفْر المزامير التوراتي حيث نقرأ: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني بعيدًا عن خلاصي عن كلام زفيري … إلخ». فإذا جِئنا إلى القرآن الكريم وجدناه على تفرُّده واستقلالية رسالته عن كلٍّ من التوراة والإنجيل، يُشير في أكثر من آية إلى وجود ما يربطه بهما، وإلى كونه الحلقة الأخيرة في سلسلة الوحي التي لم تنقطع منذ أيام آدم. نقرأ في مطلع سورة آل عمران على سبيل المثال: الم * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ …، أي إن القرآن قد صادَقَ على ما ورد في الكتابَين السابقَين؛ لأن الوحي واحدٌ لا يتجزَّأ من حيث جوهره، وإنما في تفاصيله التي تأتي في اتفاقٍ مع كل عصرٍ.

وهكذا نكون أمام نظريتَين في تفسير تشابك الكتب المقدسة؛ الأولى: تنظر إلى الدين باعتباره ظاهرةً ثقافيةً ينطبق عليها ما ينطبق على بقية ظواهر الثقافة الإنسانية من نشوءٍ وتطورٍ وتأثرٍ وتأثيرٍ؛ والثانية: تنظر إلى الدين باعتباره نتاج وحيٍ إلهيٍّ مباشر أُلْقِي في قلب النبي (= القرآن الكريم)، أو باعتباره نتاج إلهامٍ من الروح القُدُس خطَّتْه يدٌ بشريةٌ (= التوراة والإنجيل).

في هذه الدراسة التي أتابع فيها ما بدأته في كتابي السابق «الإنجيل برواية القرآن»، لا أنطلق من موقفٍ مسبقٍ من مسألة التشابه بين القصص القرآني والقصص التوراتي، وإنما من موقف باحثٍ يعتمد منهج علم الأديان المقارن. أما عن مادة المقارنة، وهي التي دعوتها بالقصص، فإنها لا تقتصر على القصص بمفهومه الضيق، مثل قصة يوسف والطوفان الكبير، بل تشتمل أيضًا على أخبار الأنبياء، وعلى مسائل لاهوتية معينةٍ مثل البعث والقيامة وما إليها من تصورات أخرويةٍ، وموضوعات متفرقةٍ أخرى. ومن الجدير بالذكر أن المادة التوراتية التي اعتمدتها للمقارنة لا تقتصر على ما ورد في الأسفار الرسمية للكتاب، وإنما تتعداها إلى تلك الأسفار غير الرسمية التي بقيَت على هامش التوراة، ولكنَّها أدَّت مع ذلك دورًا هامًّا في تشكيل الصيغة الأخيرة لليهودية بدءًا من القرن الثاني الميلادي، وهي اليهودية التلمودية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤