الملك سليمان

الرواية التوراتية: تُوفِّيَ الملك داود بعد أن حكم مدة أربعين سنة أمضاها في الحروب وبناء الدولة الجديدة، وخلفه على العرش سليمان الابن الثاني لبتشبع زوجة أوريا الحثي الذي أنجبته لداود بعد وفاة ابنهما الأول، الذي حكم عليه الرب بالموت عقابًا على خطيئة داود. ومن المفترض لدى المؤرخين أن سليمان قد حكم بين عام ٩٦١ وعام ٩٣١ق.م.١ ويمكن اختصار أخبار سليمان الواردة في سِفْر الملوك الأول: ١–١١، على الوجه التالي:

ورث سليمان عن أبيه دولة مستقرة لا يطمع فيها أحدٌ من الأعداء الذين كسر شوكتَهم الملكُ المحارب داود، فتفرَّغ سليمان لتنظيم شئون الدولة، والعلاقات الدبلوماسية، والمشاريع العمرانية؛ فقد عقد معاهدات صداقةٍ وتعاون مع المدن الفينيقية على الساحل السوري، وأرسل إلى حيرام ملك صور طالبًا تزويده بخشب أرز من جبل لبنان، وبنجَّارين وبنَّائين فينيقيين لقاء حنطة وزيت يُرسلها له. فبنى سليمان قصورًا له ولزوجاته وسراريه اللواتي بلغ عددهن ألفًا. كما بنى في أورشليم هيكلًا للرب الذي كان قبل ذلك يُقيم في خيمة، ونقل إليه تابوت العهد. وصاهَرَ سليمان فرعون مصر وأتى بابنته وبنى لها قصرًا خاصًّا بها. وعندما تراءى له الرب وسأله ماذا يعطيه، لم يطلب سليمان من الرب سوى أن يُعطيه فهمًا وعلمًا وحكمة. فقال له الرب: «هو ذا قد أعطيتك قلبًا حكيمًا ومميزًا، حتى إنه لم يكن قبلك ولا يقوم بعدك نظيرٌ. وقد أعطيتك أيضًا ما لم تسأله، غنًى وكرامةً، حتى إنه لا يكون رجل مثلك قبلك ولا يكون رجل مثلك في الملوك كل أيام حياتك.» وفاقت حكمة سليمان حكمة جميع بني المشرق وكل حكمة مصر، وكانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان.

وتعاظم سليمان في الملك، فكان وزن الذهب الذي أتى لسليمان في سنةٍ واحدةٍ ستمائة وستين وزنة من الذهب، وذلك عدا الذي أتاه من ضرائب التجار ومن الولاة الذين عيَّنهم في المقاطعات. وفي بيته المعروف ببيت وعر لبنان، كانت جميع آنية طعام سليمان من الذهب الخالص؛ لأن الفضة لم يكن لها قيمةٌ في أيامه. وقد جعل له سُفنًا في بحر فينيقيا تُبحر مع سفن حيرام ملك صور، وتأتي له من المناطق البعيدة بالذهب والفضة والعاج، فتعاظم سليمان على كل ملوك الأرض في الغنى والحكمة، وكانت كل الأرض ملتمسةً وجه سليمان، يأتي إليه كل واحدٍ بهديته. وقد بلغ من ثراء المملكة في عهده أن الفضة في أورشليم كانت مثل الحجارة، وخشب الأرز مثل خشب الجُمَّيز الذي في السهل لكثرته، وكان لسليمان أربعون ألف مزودٍ لخيل مركباته واثنا عشر ألف فارس (الملوك الأول: ١–٩).

«وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان فأتت لتمتحنه بمسائل؛٢ فأتت إلى أورشليم بموكبٍ عظيمٍ جدًّا، بجمال حاملة أطيابًا وذهبًا كثيرًا جدًّا وحجارة كريمة، وأتت إلى سليمان وكلَّمته بكل ما كان في قلبها، فأخبرها سليمان بكل كلامها، لم يكن أمرًا مخفيًّا عن الملك لم يخبرها به. فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان، والبيت الذي بناه، وطعام مائدته، ومجلس عبيده، وموقف خُدَّامه وملابسهم، وسُقاته، ومحرقاته التي كان يُصعدها في بيت الرب، لم يبقَ فيها روحٌ بعدُ. فقالت للملك: صحيح كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك، ولم أصدق الأخبار حتى جئتُ وأبصرَت عيناي، فهو ذا النصف الذي لم أُخْبر به … وأعطت الملك مائة وعشرين وزنة ذهب، وأطيابًا كثيرة وحجارة كريمة. وأعطى الملك سليمان لملكة سبأ كل مُشتهاها الذي طلبت، عدا ما أعطاها إيَّاه حسب كرم الملك. فانصرفت وذهبت إلى أراضيها هي وكل عبيدها» (الملوك الأول ١٠: ١–١٣).

«وأحب الملك سليمان نساءً غريبةً كثيرة مع بنت فرعون، مؤابيات وعمونيات وآدوميات وصيدونيات وحثيات، من الأمم الذين قال الرب عنهم لبني إسرائيل لا تدخلوا إليهم وهم لا يدخلون إليكم؛ لأنهم يُميلون قلوبكم وراء آلهتهم … وكان في زمن شيخوخة سليمان أن نساءه أَمَلْنَ قلبه وراء آلهة أخرى، ولم يكن قلبه كاملًا مع الرب إلهه كقلب داود أبيه، فذهب سليمان وراء عشتورث إلهة الصيدونيين، وملكوم رجس العمونيين، وعمل سليمان الشر في عيني الرب … فقال الرب لسليمان: من أجل أن ذلك عندك، ولم تحفظ عهدي وفرائضي التي أوصيتك بها، فإني أمزِّق المملكة عنك تمزيقًا» (الملوك الأول ١: ١–١١).

الرواية القرآنية: لم يُعطِنا القرآن الكريم قصةً مطَّردةً عن أخبار سليمان. وفيما عدا زيارة ملكة سبأ المفصَّل ذكرُها في سورة النمل، لا يوجد لدينا إلا إشارات موجزة ومقتضبة إلى أخباره.

ففيما يتعلق بسفن سليمان التي كانت تمخر البحر مع سفن حيرام وتأتيه بالبضائع من الأقطار البعيدة، لدينا الخبر التالي في سورة الأنبياء: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (٢١ الأنبياء: ٨١). وفي سورة النمل: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْر٣ (٣٤ سبأ: ١٢).

وفيما يتعلق بأعمال سليمان المعمارية، نقرأ في سورة سبأ وصفًا ينطبق على ما قام به سليمان من أعمالٍ تزيينية في الهيكل الذي بناه للرب: … وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ … يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ٤ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (٣٤ سبأ: ١٢–١٣). وقد ورد بالتفصيل في الإصحاح السابع من سِفْر الملوك الأول وصفٌ لزينة الهيكل وما فيه من تماثيل كروبيم وأسود وثيران، ومن قدورٍ وجفان وآنية طقسيةٍ أخرى، فَلْيراجَع في موضعه من الكتاب.

وعن حكمة سليمان نقرأ في سورة النمل: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ * وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (٢٧ النمل: ١٥–١٦).

وعن جياد سليمان الكثيرة التي قال المحرر التوراتي إنها بلغت أربعين ألف جواد تأكل من أربعين ألف مزود، نقرأ في سورة ص عن هذه الجياد وولع سليمان بها: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ٥ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ٦ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ٧* رُدُّوهَا عَلَيَّ٨ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ٩ وَالْأَعْنَاقِ (٣٨ ص: ٣١–٣٣).

وفي سورة البقرة يُبرئ الله تعالى سليمانَ من الشرك وعبادة الأوثان، مما ورد في سِفْر الملك الأول: وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ … (٢ البقرة: ١٠١–١٠٢).

وهاروت وماروت، على ما يقول المفسرون، هما ملاكان أرسلهما الله لامتحان البشر، فهبطا في مدينة بابل التي اشتهرت بالسحر والتنجيم، وراحا يعلِّمان السحر للناس، ولكن الله أخذ عليهم ميثاقًا ألَّا يُعلِّما أحدًا قبل أن يقولا له نحن فتنة فلا تكفر، وبيَّنا له طريق الخير والشر.

القصة الوحيدة التي عُولجت بتفصيل هي قصة زيارة ملكة سبأ لسليمان وما جرى بينهما. وهذا نصها الكامل:

وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي١٠ أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ * وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ١١* فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ١٢ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ١٣ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ * إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ * قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ * قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ * فَلَمَّا جَاءَ١٤ سُلَيْمَانَ قَالَ١٥ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ * ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ * قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ * قَالَ نَكِّرُوا١٦ لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ * فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ * وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ١٧ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ * قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ١٨ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً١٩ وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ٢٠ مِنْ قَوَارِيرَ٢١ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٢٧ النمل: ١٧–٤٤).

(١) سليمان والجن

إن سلسلة قصص الملك سليمان في سِفْر الملوك الأول لا تحتوي على ما أشار إليه القرآن الكريم من سُلطته على عالم الجن، وعلى عالم الحيوان ومعرفته لألسنتها، ولكن الأدبيات اليهودية خارج التوراة حافلةٌ بمثل هذه الأخبار.

ففي الفلكلور الشعبي اليهودي هناك حكايات كثيرة عن السلطان الذي وهبه الله لسليمان على عالم الجن والعفاريت وطيور السماء، وكل ما يدبُّ على الأرض. وهناك ملاك مسخَّر له يحمل بيده سوطًا ناريًّا يجلِد كل من تُسوِّل له نفسه عصيان أمر سليمان، فيحوله إلى رماد. وقد بنى له الجن هيكل الرب في أورشليم، وقصورًا وأبنية إدارية ومرافق عامة كثيرة، وحفروا له في أرضه نهرًا، وبعضهم كان يغوص في البحر لاستخراج اللؤلؤ والمرجان، والبعض الآخر يحفر في المناجم لاستخراج الياقوت والزمرُّد وغيرها من الأحجار الكريمة.٢٢
ويقول ترجوم sheni في التعليق على ما ورد في سِفْر الملوك الأول: «وتكلَّم سليمان بثلاثة آلاف مثل، وكانت نشائده ألفًا وخمسًا، وتكلم عن الأشجار من الأرز الذي في لبنان إلى الزوفا النابت على الحائط، وتكلم عن البهائم وعن الطير وعن دبيب السمك» (٤: ٣٣–٣٤). بأن سليمان كان مُتسلطًا على كل الحيوان الذي يدبُّ على الأرض، وعلى طير السماء، وكان يفهم ألسنتها جميعًا، حتى إنه كان يتحدث مع الأشجار، كما كان مُتسلطًا على الجن وعلى أرواح الظلام.٢٣
ووصلنا نصٌّ في أكثر من نسخةٍ معروف بعنوان ميثاق سليمان Solomon’s-Testament، مكتوب باليونانية الهيلينستية وهي لغة الأناجيل، ويرجع تاريخه إلى الفترة بين القرن الثاني والقرن الرابع الميلاديَّين، والنص يهوديٌّ من حيث الأصل، ولكنه خضع للمسة تحريريةٍ مسيحيةٍ تتحدث عن ظهور يسوع المسيح في المستقبل، وهو مكرسٌ لوصف سلطان سليمان على عالم الجن والعفاريت من خلال خاتم سحريٍّ يضعه في إصبعه، وتسخيرها في أعماله العمرانية، وهو يذكر بالتفصيل أنواع هؤلاء الجن ووظائفهم ومهاراتهم.٢٤

وفي ميثاق سليمان، لدينا قصةٌ عن العفاريت الذين يطيرون نحو قبة السماء من أجل استراق السمع ومعرفة الأوامر التي يُصدرها الله إلى الملائكة، وبذلك يتنبئون بالحوادث المقبلة:

فقد احتكم رجلٌ عجوزٌ إلى سليمان شاكيًا ابنه الوحيد الذي يُعامله معاملةً سيئةً ويضربه ويهدِّده بالموت، فاستدعى سليمان الشاب وسأله عن حقيقة الأمر، فأنكر التهمة وطلب إنصافه من أبيه الذي تجنَّى عليه، ولكن الأب أصرَّ على طلب الموت لابنه. وكان العفريت المدعو أورنياس حاضرًا فضحك. ولما سأله سليمان غاضبًا عن سبب ضحكه، قال له: إن الوالد سوف يموت بعد ثلاثة أيام موتًا طبيعيًّا. فأمر سليمان الأب والابن أن يعودا إليه بعد ثلاثة أيام. وعندما انصرفا سأل سليمان العفريت عن الوسيلة التي تُعينه هو وأقرانه على كشف حجب المستقبل. فقال له: نحن نطير نحو قبة السماء ونتجوَّل بين النجوم، فنسمع الأوامر التي يُصدرها الله إلى الملائكة بخصوص حيوات البشر، ولكن بما أننا لا نملك قدرة الملائكة على الطيران الطويل، فإننا نتعب لعدم وجود شيءٍ نستند إليه أو نستريح عنده، فيقع بعضنا من الأعالي ويهوي مثل وميض البرق، فيظن الناظر إلينا أننا نجومٌ تتساقَط من الأعالي.٢٥

وقد ورد في القرآن الكريم ذكر الشياطين التي تطير كي تسترق السمع في السماء، وعن شُهبٍ تنقضُّ من السماء لإتلافهم:

وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ … (٦٧ الملك: ٥).

إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ * وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ * لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (٣٧ الصافات: ٦–٨).

وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ * وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ * إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (١٥ الحجر: ١٦–١٨).

ولدينا في الرواية القرآنية أيضًا قصةٌ عن سليمان كثيرة الغموض، ولكن يبدو أن لها صلةً بعلاقة سليمان بالجن، نقرأ في سورة ص هذه التتمة للمقتبس الذي أوردناه أعلاه:

وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨ ص: ٣٤–٣٨).

لا يعطينا النص أي مفتاحٍ لفهم هذه القصة الشديدة الاختزال، ولكننا نجد في الأدبيات اليهودية خارج التوراة ما يُلقي الضوء عليها. فقد ورد في إحدى الملاحم اليهودية أن العفريت المدعو أسموديوس تحدَّى الملك سليمان لأن ينزع خاتم القوة من إصبعه، ولما فعل ذلك ضرب أسموديوس بجناحه سليمان فرماه إلى مسافة أربعمائة فرسخ في الفلاة، ثم اتخذ شبهه وجلس على عرشه. أما سليمان فقد راح يهيم على وجهه شريدًا يستجدي طعامه. وكلما كان يقول للناس بأنه الملك كان يلقى الهزء والسخرية منهم، واعتبر مجنونًا وفاقدًا للرشد. أخيرًا وصل إلى شاطئ البحر واستجدى من أحد الصيادين سمكةً، وعندما شقَّها وجد خاتمه في بطنها فوضعه في إصبعه وعادت إليه قوته، فعاد إلى عاصمته واستردَّ مُلكه.٢٦

وقد ورد في تفسير ابن كثير ما يأتي:

يقول تعالى: «وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ» أي اختبرناه بأن سلبناه المُلك. «وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا»: قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم: يعني شيطانًا. «ثُمَّ أَنَابَ»: أي رجع إلى مُلكه وسلطانه وأُبَّهته. وقيل: إن اسم ذلك الشيطان صخر، وقيل أيضًا: صرد، وحقيق، وآصف.

ومن القصص التي يوردها ابن كثيرٍ عن بقية المفسِّرين والأخباريِّين، أنَّ سليمان قال لشيطان اسمه آصف: كيف تفتنون الناس؟ فقال: أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إيَّاه نبذه آصف في البحر، فساح سليمان وذهب مُلكه، وقعد آصف على كرسيه. فكان سليمان يستطعم ويقول: أتعرفوني؟ أطعموني أنا سليمان. فيكذِّبونه، حتى أعطته امرأةٌ يومًا سمكة ففتح بطنها فوجد خاتمه، فرجع إليه ملكه وفرَّ آصف فدخل البحر.

ويعلق ابن كثير على هذه القصة وغيرها قائلًا: وأرى هذه كلها من الإسرائيليات.

على أن مَنْ رفض مثل هذه التفسيرات لم يأتِنا بما هو أقرب إلى مقصد الآية الكريمة. يقول الفخر الرازي في التفسير الكبير أن الفتنة المذكورة في الآية هي فتنةٌ واختبار في الجسد. فقد ابتلي الله سليمان بمرضٍ شديدٍ أصابه بالهُزال، حتى صار لشدة المرض كأنه جسدٌ مُلقًى على كرسي، ثم أناب بعد ذلك أي رجع إلى حالة الصحة.

وهذا التفسير للرازي ينطبق على الآية الكريمة لو أنها قالت: «وألقينا على سريره جسدًا»؛ لأن المريض لا يجلس على العرش وإنما يأوي إلى السرير. والله أعلم.

١  لم يرد ذكر سليمان ومملكته في أي وثيقةٍ من وثائق الشرق القديم.
٢  في عصر سليمان، أي في مطلع القرن العاشر، لم تكن مملكة سبأ المعروفة تاريخيًّا قد نشأت بعدُ.
٣  عين القطر: أي النحاس الذائب.
٤  الجفان هي الطسوس، والجواب هي الأحواض العظيمة.
٥  الصافنات هي صفة للجياد السريعة.
٦  حب الخير: أي حب الخيل.
٧  توارت بالحجاب: أي غابت عن البصر.
٨  أي: أعيدوها لي.
٩  السوق هي السيقان.
١٠  أي: ألهمني.
١١  أي: ببرهان واضح على سبب غيابه.
١٢  أي: حضر الهدهد ووقف غير بعيد.
١٣  أي: الشيء المستور.
١٤  أي: جاء الرسول الذي بعثت به الملكة إلى سليمان.
١٥  والقول هنا لسليمان.
١٦  أي: غيِّروا وموِّهوا عرشها لنرى إن كانت تعرفه.
١٧  ومنعها سليمان عما كان تعبد.
١٨  أي: القصر أو ساحته.
١٩  أي: مجمع ماء.
٢٠  مستوٍ.
٢١  أي: زجاج.
٢٢  K. Sanadiki, Legends and Narratives of Islam, Chicago, 2000, p. 206. citing: L. Ginzberg, Legends of the Jews, IV, pp. 140-145.
٢٣  J. H. Charlesworth: The Old testament Pseuepigrapha, Doubleday, New york, 1983, Vol. 2, p. 947.
٢٤  المرجع نفسه، ص٩٣٥ وما بعدها.
٢٥  المرجع نفسه، ص٩٨٢–٩٨٣.
٢٦  K. Sanadiki, legends and Narrative of Islam, kazi publications, Chicago, 2000, p. 223. citing: louis Ginzberg, legends of the jews, IV, p. 169.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤