إبراهيم الخليل

وُلِدَ إبراهيم، وفق الرواية التوراتية، في موطن آبائه بمدينة أور الواقعة في المنطقة الجنوبية من وادي الرافدَين (= العراق)، والتي يدعوها المحرر التوراتي بأور الكلدان نسبة إلى الشعب الكلداني السامي الذي استوطن في هذه المنطقة، وأسَّس في نهاية القرن السابع قبل الميلاد المملكة البابلية الجديدة التي كان من أبرز ملوكها نبوخذ نصر.١ ولسبب لا يذكره نص سِفْر التكوين (ولكن توضِّحه بعض الأسفار غير القانونية، على ما سنرى لاحقًا)، فقد قرَّر أبو إبراهيم المدعو تارح ترك موطنه والتوجه إلى بلاد كنعان للإقامة فيها، فارتحل مع ولدَيه؛ إبراهيم (أو أبرام) وناحور، وزوجتيهما ساراي ومِلكة، ولوطًا ابن ابنه الثالث المتوفَّى المدعو هاران، ولكن تارح توقَّف في مدينة حرَّان (أو حاران) الواقعة في الشمال السوري؛ ليقيم فيها مدةً من الزمن قبل أن يتابع طريقه إلى كنعان، ولكنه توفِّي هناك (التكوين ١١: ٢٧–٣٢).

بعد وفاة تارح خاطب الرب إبراهيم وقال له: «اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمةً عظيمةً وأُباركك وأُعظِّم اسمك وتكون بركةً.» فذهب إبراهيم كما قال له الرب، وأخذ معه ساراي امرأته وكانت عاقرًا لا تنجب، ولوطًا ابن أخيه المتوفى هاران، وكل مقتنياتهما والنفوس التي امتلكوها في حاران، وأتوا إلى أرض كنعان. أما أخوه ناحور فقد بقي في الشمال السوري (التكوين ١٢: ١–٥).

في أرض كنعان ظهر الرب لإبراهيم وقال له: «لنَسْلك أعطي هذه الأرض.» فبنى إبراهيم مذبحًا للرب في شكيم حيث ظهر له، ثم ارتحل جنوبًا إلى قرب مدينة بيت إيل، فإلى أقصى الجنوب الفلسطيني (التكوين ١٢: ٦–٩).

عاش إبراهيم وابن أخيه لوط في كنعان حياة الرعي المتنقل، وكان يُقيم مع أسرته وعبيده تحت الخيام على أطراف المدن الكنعانية. وفي إحدى سنوات الجفاف حصل جوعٌ في الأرض، فارتحل إبراهيم ولوط إلى مصر. وكانت ساراي زوجته فائقة الجمال، فقال عنها للمصريين إنها أخته لكيلا يُقْتَل بسببها وتؤخذ منه، ولكن بعض أعوان فرعون رأوها وامتدحوها لدى سيدهم، فأمر أن يؤتى بها وضمَّها إلى حريمه، وصنع لإبراهيم خيرًا بسببها، وصار له غنمٌ وبقرٌ وحمير وعبيد وإماء وجمال. ولكن الرب ضرب فرعون وبيته ضرباتٍ عظيمة بسبب ساراي، فدعا فرعون إبراهيم وقال له: «لماذا لم تخبرني أنها امرأتك؟ لماذا قلت هي أختي حتى أخذتها لتكون زوجتي؟ والآن هي ذي امرأتك خذها واذهب.» وأوصى عليه فرعون رجالًا فشيَّعوه وامرأته وكل ما كان له (التكوين ١٢: ١٠–٢٠).

عاد إبراهيم إلى جنوب بلاد كنعان، وكانت مواشيه ومواشي ابن أخيه لوط كثيرة، فاختصم رعاتهما، وقرَّر الاثنان الافتراق حتى لا تصير بينهما خصومةٌ. فارتحل لوط شرقًا وسكن في عبر نهر الأردن، وكانت هناك مدينتان مزدهرتان هما: سدوم وعمورة. فخيَّم لوط على أطراف مدينة سدوم،٢ أما إبراهيم فسكن على أطراف مدينة حبرون (= الخليل) في الجنوب الفلسطيني. وقال الرب لإبراهيم بعد اعتزال لوط عنه: «ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا؛ لأن جميع الأرض التي ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد» (التكوين: ١٣).

قصة إبراهيم في سِفْر التكوين طويلةٌ ومليئةٌ بالتفاصيل، والقرآن الكريم لم يُورد من أحداثها إلا عددًا من المفاصل الرئيسة التي من شأنها إلقاء الضوء على أصول عقيدة التوحيد الصافي التي بشَّر بها الإسلام. فإبراهيم لم يكن أبًا للشعب العبراني وإنما أبًا للأنبياء: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٩ العنكبوت: ٢٧). يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ … مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣ آل عمران: ٦٥–٦٧).

القصة في القرآن موزَّعة بين عدد من السور، وهي تبتدئ بإبراهيم الشاب وقد اهتدى إلى فكرة التوحيد وعزف عن دين قومه.

(١) شباب إبراهيم في موطنه، وهدايته

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(٦ الأنعام: ٧٤). وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * … قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (١٩ مريم: ٤١–٤٨). وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ * قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (٢٦ الشعراء: ٦٩–٧٣). وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ … * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٩ العنكبوت: ١٦–١٧) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (٣٧ الصافات ٩٥–٩٦).

لم يذكر سِفْر التكوين شيئًا عن أيام إبراهيم في موطنه أور الكلدان، ولا عن قصته مع أبيه الذي يُدْعَى في التوراة تارح ويُدْعَى في القرآن آزر، ولكن هذه القصة وردت في أحد الأسفار غير القانونية، وهو المعروف بكتاب اليوبيليات. فهنا نجد أبرام بعد أن اعتزل أهله وملته، يوجِّه لأبيه خطابًا يتطابق مع خطاب إبراهيم في الرواية القرآنية، حيث يقول له:

«ما نفع هذه الأصنام التي نسجد لها ونطلب عونها؟ إنها خرساء ولا روح فيها، إنها ضلالةٌ للقلب فلا تعبدها، بل اعبد رب السماء الذي يُرسل المطر والندى، الذي صنع كل شيءٍ على الأرض، وخلق كل شيءٍ بكلمته، ومنه تُستمدُّ كل حياة. لماذا تعبد هذه الأصنام التي يصنعها الناس بأيديهم وتحملها على كتفك، وليس فيها نفعٌ لأحد. سوف يُخْزَى من صنعها ويضلُّ قلب من يعبدها. فقال له أبوه: أعرف ذلك يا ولدي، ولكن ماذا أفعل وقد أوكل إليَّ القوم أمر سدانتها؟ لو كلمتهم بالبر لقتلوني لأن قلوبهم متعلقةٌ بها. الزم الصمت يا بني لكيلا يُصيبك أذًى منهم. ثم إن أبرام حدَّث أخوَيه بما حدَّث به أباه فاستعر غضبهما عليه.»٣

ولكن إبراهيم بقيَ مُصرًّا على موقفه. وقد دفعته جرأة الشباب وتهوُّره إلى اقتحام المعبد وتحطيم تماثيل الآلهة فيه. نتابع في القرآن الكريم:

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ * قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ * … قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ * وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (٢١ الأنبياء: ٥٥–٧١). وفي الآية الأخيرة إشارة إلى مغادرة إبراهيم لموطنه في أور الكلدان والتوجُّه إلى الأرض المباركة في كنعان.

وقد وردت هذه القصة في كتاب اليوبيليات، ولكن بتنويعٍ آخر؛ فإبراهيم لا يحطم الأصنام في المعبد وإنما يُشعل النار فيه ويقضي على الأصنام:

«وكان بعد مدةٍ أن أبرام تسلَّل في الليل إلى بيت الأصنام، وأشعل فيه النار وأحرق كل ما في البيت. فهبَّ القوم لإنقاذ آلهتهم من النار، وكان هاران بينهم فاحترق ومات ودُفِن في أور. فقام تارح ومعه أبرام ولوط ابن هاران المتوفى، وارتحل من أور الكلدان قاصدًا بلاد كنعان، ولكنه توفِّي في حاران حيث أقام لفترةٍ» (كتاب اليوبيليات).

وقبل ذلك عرضت لإبراهيم الشاب تجربةٌ روحية عميقة وهو يبحث عن الله في الآفاق. نقرأ في القرآن الكريم:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (٦ الأنعام: ٧٤–٨٠).

وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ * إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ * أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللهِ تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ * فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ * فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ * فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (٣٧ الصافات: ٨٣–٩٣).

في كتاب اليوبيليات تحدث هذه التجربة لإبراهيم وهو في حران، عندما كان يُراقب النجوم أيضًا:

«وذات مساءٍ جلس أبرام في حران يراقب النجوم من الغسق إلى الفجر؛ ليستخيرها فيما سوف تأتي به السنة الجديدة من خيرٍ ومطرٍ، ولكن قلبه نبض بكلماتٍ، وحدَّث نفسه قائلًا: إن كل شارات السماء وشارات النجوم والشمس والقمر هي في يد الرب. فما الذي أنا باحثٌ عنه فيها؟ إن شاء الرب جعل الشمس تُمطر من الصباح إلى المساء، وإن شاء أغلقها؛ لأن كل شيءٍ ملك يديه. ثم قام فصلَّى قائلًا: أيها الإله العلي، أنت وحدك إلهي. لقد خلقت كل شيءٍ وكل ما في الوجود صنعة يدك. لقد اخترتك واخترت ملكوتك، فأنقذني من الأرواح الشريرة التي تُسيطر على قلوب البشر، ولا تجعلهم يضلوني عنك. ثم حدَّث نفسه متسائلًا: هل أعود إلى أور الكلدان حيث يطلبون نفسي هناك أم أمكث في هذا المكان؟ وما إن أنهى صلاته حتى جاءته كلمة الرب: اخرج من أهلك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمةً عظيمةً.»

(٢) الضيوف السماويون

في الأرض الجديدة التي نجَّاه الربُّ إليها عاش إبراهيم ولوط عيشةً رغدة، ولكن زوجة إبراهيم كانت عاقرًا، وكان راغبًا في ولد يرثه بعد أن شاخ وتقدَّم به السن. ثم جاءته بُشرى الحمل الإعجازي بواسطة ملائكة لم يذكر النص القرآني عددهم، ولكنهم في النص التوراتي ثلاثة. وقد كان هؤلاء الملائكة في طريقهم لإهلاك القوم الذين عاش لوط بينهم، وهم أهالي مدينتَي سدوم وعمورة، وذلك بسبب كثرة شرورهم. عندما وصل الملائكة ظنَّهم إبراهيم من البشر، ودعاهم إلى ضيافته، وجاء بعجلٍ فذبحه وأعطاه إلى أهله ليجهزوه طعامًا، وعندما وضع المائدة أمامهم وجد أن أيديهم لا تصل إلى الطعام، فأوجس منهم خيفة. نقرأ في سورة هود:

وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ٤* فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ * فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ * يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (١١ هود: ٦٩–٧٦).

أي: عندما رأى إبراهيم ضيوفه يأكلون دون أن يأكلوا داخَلَه الخوف، ولكنَّهم كشفوا له عن هويتهم وعن مهمتهم المزدوجة؛ فهم ينقلون له بُشرى الرب بحمل زوجته في شيخوختهما، ثم إنهم منقلبون إلى قوم لوط لإهلاكهم؛ لأن شرَّهم قد كثُر. فلما سمعت سارة زوجته بالبشرى ضحكت لأنها تجاوزت سن الحمل والولادة، فقالوا لها ألَّا تعجب من أمر الله؛ لأنه ليس شيء غير ممكنٍ لديه. وبعدما هدأت خواطر إبراهيم راح يُجادلهم في أمر قوم لوط، ويحاول ثنيهم عمَّا جاءوا من أجله، فقالوا له ألَّا يتشفع لهم؛ لأن أمر الله قد تم بشأنهم.

وفي سورة الذاريات لدينا تنويع آخر على القصة نفسها: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ٥* فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ * فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ٦ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا٧ وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ * قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ * قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ * فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٥١ الذاريات: ٢٤–٣٧)

ترد قصةُ إبراهيم وضيوفه بعناصرها القرآنية جميعها في سِفْر التكوين ١٨، مع فارقٍ واحدٍ، وهو أن الضيوف الثلاثة كانوا إله التوراة يهوه نفسه ومعه اثنان من ملائكته، وبدل الامتناع عن الأكل فقد أكل الثلاثة وهم متكئون تحت الشجرة أمام خباء إبراهيم:

«وظهر له الرب عند بلوطات مَمْرا وهو جالسٌ في باب الخيمة وقت حر النهار، فرفع عينَيه وإذا ثلاثة رجالٍ واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة وسجد إلى الأرض وقال: يا سيد، إن كنت قد وجدت نعمةً في عينيك فلا تتجاوز عبدك. ليؤخذ قليل ماء واغسلوا أرجلكم واتكئوا تحت الشجرة، فآخذ كسرة خبزٍ فتسندون قلوبكم ثم تجتازون. فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت. فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة وقال: أسرعي بثلاث كيلاتٍ دقيقًا سميذًا واعجني واصنعي خبز مَلَّةٍ. ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عجلًا رخصًا وجيدًا وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله. ثم أخذ زُبدًا ولبنًا والعجل الذي عمله ووضعه قدَّامهم. وإذ كان هو واقفًا لديهم تحت الشجرة أكلوا.

وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة. فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة٨ ويكون لسارة امرأتك ابن. وكانت سارة سامعةً في باب الخيمة وهو وراءه. وكان إبراهيم وسارة متقدمَين في الأيام، وقد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء، فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبعد فنائي يكون لي تنعُّم وسيِّدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيء؟

ثم قام الرجال من هناك وتطلَّعوا نحو سدوم، وكان إبراهيم ماشيًا معهم ليشيِّعهم. فقال الرب: هل أُخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله، وإبراهيم يكون أمةً كبيرةً وقوية ويتبارك به جميع أمم الأرض … إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدًّا، أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخهم الآتي إليَّ؟ وإلا فأعلم. وانصرف الرجال (= الملاكان) من هناك وذهبوا نحو سدوم، وأما إبراهيم فكان لم يزل قائمًا أمام الربِّ.

فتقدم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارًّا في المدينة أفتهلك المكان ولا تصفح عنه من أجل الخمسين بارًّا الذين فيه؟ … فقال الرب: إن وجدت في سدوم خمسين بارًّا فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم. فأجاب إبراهيم وقال: إني قد شرعت أُكلِّم المولى وأنا ترابٌ ورماد، ربما نقص الخمسون بارًّا خمسة، أتهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال: لا أُهلك إن وجدت هناك خمسة وأربعين، فعاد يكلِّمه أيضًا وقال: عسى أن يوجد هناك أربعون. فقال: لا أفعل من أجل الأربعين. فقال: لا يسخط المولى فأتكلم، عسى أن يوجد هناك ثلاثون. فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين. فقال: إني شرعت أُكلِّم المولى، عسى يوجد هناك عشرون. فقال: لا أهلك من أجل العشرين، فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط، عسى أن يوجد هناك عشرة. فقال: لا أهلك من أجل العشرة. وذهب الرب عندما فرغ من الكلام مع إبراهيم، ورجع إبراهيم إلى مكانه» (التكوين: ١٨).

وكما نلاحظ من قراءة الروايتين القرآنية والتوراتية بخصوص الضيوف السماويين فإنهما تسيران على التوازي وتقومان على العناصر نفسها، على ما تظهر المقارنة:

الرواية التوراتية الرواية القرآنية
(١) بينما هو جالس في باب الخيمة وقت حرِّ النهار، رفع إبراهيم عينيه، وإذا ثلاثة رجال واقفون لديه. فلما نظر ركض لاستقبالهم. هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٥١ الذاريات ٢٤–٢٥)
(٢) ثم ركض إبراهيم إلى البقر وأخذ عِجلًا رخصًا وجيدًا وأعطاه للغلام، فأسرع ليعمله، ووضعه قدامهم. فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (٥١ الذاريات ٢٦–٢٧)
(٣) وقالوا له: أين سارة امرأتك؟ فقال: ها هي في الخيمة. فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة ويكون لسارة امرأتك ابن. … فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (١١ هود ٧١)
(٤) فضحكت سارة في باطنها قائلة: أبَعد فنائي يكون لي تنعُّم وسيدي قد شاخ؟ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ … قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (١١ هود ٧١–٧٢)
(٥) فقال الرب لإبراهيم: لماذا ضحكت سارة؟ هل يستحيل على الرب شيءٌ؟ قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ … (١١ هود ٧٣)
(٦) صراخ سدوم وعمورة قد كثر وخطيتهم قد عظمت جدًّا. أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخهم الآتي إليَّ؟ وإلا فأعلم. قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ * لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ * مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٥١ الذاريات ٣٢–٣٤)
(٧) فتقدَّم إبراهيم وقال: أفتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارًّا … (بقية الحوار). فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (١١ هود ٧٤)

وهناك قصتان من سلسلة قصص إبراهيم في التوراة سوف نتعرَّض لهما عندما نأتي إلى الحديث عن إسماعيل، وهما الخلاف بين سارة زوجة إبراهيم وجاريتها هاجر وما نجم عن ذلك من إبعاد هاجر وابنها إسماعيل إلى البرية، وكيف همَّ إبراهيم بتقديم إسحاق (أو إسماعيل) قُربانًا للرب.

١  إن إطلاق اسم أور الكلدان على هذه المدينة، يدل على أن أخبار إبراهيم التوراتي قد دُوِّنَت لأول مرة خلال تواجد سبي يهوذا في منطقة بابل؛ لأن الشعب الكلداني لم يكن معروفًا أثناء الحقبة التي من المفترض أن إبراهيم قد عاش فيها، وهي النصف الأول من الألف الثاني ق.م.
٢  لم يرِد ذكر اسم هاتَين المدينتَين في سجلات ثقافات الشرق القديم.
٣  J. H Charlesworth, the Old Testament Pseudepigrapha, Dobleday, New York, 1983, vol. 2 p. 7 FF.
٤  عجل حنيذ: أي مشوي على الحجارة المحماة.
٥  قوم منكرون: أي قوم لا نعرفهم.
٦  في صرَّة: أي في جلبة وضجة.
٧  صكَّت وجهها: أي لطمت وجهها براحتيها، على عادة النساء الشرقيات.
٨  أي: بعد تسعة أشهر، وهي المدة اللازمة للحمل والإنجاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤