جهود ملوك فرنسا في جمع المخطوطات العربية

(١) الثروة العربية في مكتبة الأمة بباريس

لم يكن سعي ملوك فرنسا بأقل من مساعي بابوات رومة؛ لإحراز كنوز المخطوطات الشرقية، فإنهم أنشأوا لها فرعًا في خزائن قصورهم ومكتبات عاصمتهم. ولتجهيز ذلك الفرع أوفدوا بعثات علمية إلى الأمصار العربية وغيرها في الحصول على تحف المخطوطات المكنوزة في المساجد والديورة والمدارس والكنائس. هكذا أصبحت «مكتبة الأمة» في باريس من أعظم مكتبات الدنيا وأهمها بندرة كتبها ووفرة مخطوطاتها؛ ففيها ألوف من فرائد المخطوطات والمطبوعات العربية الثمينة.١
وقد تألفت عام ١٧٨٧ جمعية من علماء المشرقيات في فرنسا لنشر المخطوطات الشرقية المحفوظة في مكتبة الأمة بباريس، وكانت باكورة أعمال رئيسها المستعرب دي غين De Guines ترجمة كتاب «مروج الذهب» للمسعودي إلى اللغة الفرنسية.٢

(٢) مخطوطات الطبابة العربية في كلية الطب بباريس

أثبتنا في فصل سابق أن سجلات كلية الطب بباريس حوت عام ١٣٩٥ للميلاد اثني عشر مجلدًا، اشتملت على فهارس مؤلفات خطية لأطباء العرب. ولما كان لويس الحادي عشر ملك فرنسا (١٤٦١–١٤٨٣) كثير القلق على صحته، أحب أن تكون كتب «الرازي» الطبية في خزانة قصره؛ لأنه كان شديد الثقة بطب العرب وذا اعتقاد راسخ بتفوقهم على غيرهم في تلك الصناعة. ولم يكن من كتب الرازي حينئذٍ إلا نسخة وحيدة في مكتبة كلية الطب المشار إليها، فاستعارها الملك بشرط أن يردها وفعل.٣

(٣) تفويض ملك فرنسا إلى سفيره في المغرب الأقصى ابتياع مخطوطات عربية

اشتهر لويس الرابع عشر ملك فرنسا (١٦٤٣–١٧١٥) بتعزيز اللغة العربية، إذ أنشأ منبرًا خاصًّا لتعليمها في المدرسة الملكية. وأنفذ رسلًا إلى مختلف البلدان يفتشون عن مخطوطات في تلك اللغة، وفي غيرها من اللغات الشرقية.

وأقدم ما سطره التاريخ عن البعثات الفرنسية العلمية إلى الأمصار العربية لهذا الهدف، أن الملك لويس الرابع عشر نفسه كلَّف سفيره دي مونسو De Monceaux أن يرتحل في مهمة خطيرة إلى المغرب الأقصى، فأوعز إليه بتاريخ ٣٠ ك١ ١٦٦٧ أن ينقِّب تنقيبًا دقيقًا عن مخطوطات عربية وفارسية ويونانية وغيرها، ويبتاعها له. وصرح أن أحد كبار السياح شاهد في الشرق مؤلفات تيتليف وأبولونيوس وبرغاوس وديوفانت الإسكندري وغيرها مترجمة إلى اللسان العربي. وأردف الملك تصريحه بقوله: إن من تلك المخطوطات شيئًا كثيرًا في خزائن جامع القرويين بمدينة فاس. وفوض الملك إلى رسوله مسيو دي مونسو أن يشتري له ١٧٠٠ قطعة من الجلود المراكشية Maroquin الكبيرة الحجم؛ لأنه يستطاع تجليد كتابين ضخمين بكل واحدة منها، وشرط عليه أن يكون لون اﻟ ٥٠٠ منها أخضر، ولون الباقي أرجوانيًّا.٤

(٤) وثيقة بمشترى مخطوطات لحساب لويس الرابع عشر محفوظة في دير الشير بلبنان

اطَّلَعْنَا في مكتبة دير الشير بلبنان على حاشية أثبتها أبو النصر بن أبي نوفل الخازن قنصل فرنسا في بيروت، في مخطوطة عنونها «وفيات الأعيان» لابن خلكان قال: «باسم الله الحي الأزلي وهو ثقتي ورجائي وإليه أنيب. لما كان في تاريخ سنة ١٠٨٢ﻫ / ١٦٧١م أرسل حضرة عالي الجناب الملك لويس عطا الله، سلطان فرنسا المعظم بين ملوك المسيحية إلى جميع بلدان الإسلام؛ لأجل عالم إفرنجي نمساوي من الحسكية اسمه (…)؛ لأجل مشترى كتب دواوين الشعراء وتواريخ، وفي علم النحو والهندسة والفلك والطب. ومن جميع الكتب التي تنوجد قاطبة بجميع الألسن العربي واليوناني والسرياني والتركي والعبراني. وكتب له بذلك دفتر عدَّة أسامي الكتب، ووصَّاه وأكَّد عليه من غير المكتوبين معه في الدفتر مهما وُجد كتب يشتري بأي ثمن كان. وكتب له أوامر شريفة إلى جميع القناصل الفرنساوية الذين في جميع المملكات أن مهما احتاج وطلب منهم دراهم يعطوه ويعطيهم بها المرشال المذكور تمسكات. وتوجَّه من مدينة باريس وصل إلى قبرص اشتره (اشترى) مقدار ماية وثمانين كتاب. ومنها اتجه إلى الشام واشتره جانب كتب. ومنها توجه إلى بلاد مصر حتى يدور مدنها كلهم ويشتري منهم. وبعده بيعاود إلى دير طورسين وبيشتري. ومنها بيفوت إلى أسلان بول (اسطنبول)، وجميع المدن الذي في يد العثمنلية. ومنها بيفوت لبغداد وبلاد العجم. وهذه أسامي الكتب الذي مكتوبين معه في الدفتر المذكور. وأنا الفقير إلى الله — سبحانه وتعالى — أبا النصر بن نادر بن خازن بن إبرهيم بن سركيس الخازن لمَّا قريت (قرأت) هذه الدفتر نصخت (نسخت) في هذا المجموع …»

(٥) بعثة ثالثة وجهها لويس الرابع عشر إلى فاس للتنقيب عن مخطوطات عربية

في ٣ حزيران ١٦٨٢ كتب الملك لويس الرابع عشر إلى موسيو «سنت أمان» سفيره لدى سلطان المغرب الأقصى، أنه سمع بوجود كميات عظيمة من الكتب الخطية في فاس. ولأجل ذلك وفد إليه بعض أهل المعرفة والخبرة للاطلاع عليها والتثبت في مضامينها، وأوعز إليه أن يسهِّل مهمتهم طبقًا للأوامر الملكية،٥ واقتفى فريق من الفرنسيس آثار ملكهم لويس الموما إليه في اقتناء الكتب العربية مطبوعة ومخطوطة.
١  غرائب الغرب: ج١ ص١٠٠.
٢  المستشرقون: ص٧٥.
٣  مجلة «الرسالة» في القاهرة: سنة ٥ ص٥٥٨–٥٦٠.
٤  H. de Castries: Histoire du Maroc (Archives de France, I, p.245).
٥  H. de Castries: Histoire du Maroc (Archives de France, I. p.222).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤