المكتبة الأمبروزيانية في ميلانو

(١) وصف رتاج المكتبة

في مدينة ميلانو مكتبة عظيمة تأسست عام ١٦٠٩ بهمة مطرانها الكردينال فردريك بوروميو. ومن جملة كنوزها مخطوطات عربية ثمينة نادرة يحسدها عليها أكبر متاحف الشرق، وأوسع مكتبات الغرب. وقد زارها أحد أدباء حلب فكتب عنها وصفًا يجدر إثباته هنا؛ لبيان اعتناء أهل أوروبا بالحرص على تراث الأقدمين قال:١

«تعد مكتبة الأمبروزيانا من أزهى المكتبات لدراسة الثقافة العربية في أوروبا، يدخل إلى هذه المكتبة من باب استكمل فيه فن الهندسة من روعةٍ وهيبة وأناقة. وقد وضع بجانبي هذا الباب رمزان يحيِّيان الزائر لدى دخوله، وينبئانه عن البيئة ومشتملاتها. فالرمز الأول عبارة عن نخلة من النحاس تذكر مناظر الشرق الفتَّانة الساحرة، وتدل على أن العادات العربية ما عتَّمت أن دخلت في هذه الربوع، وقد كتب باللغة العربية على هذه النخلة بحروف بارزة تسترعي اهتمام الزائر عبارة الترحيب المعروفة، وهي: «أهلًا وسهلًا»، وأما الرمز الثاني فهو عبارة عن أبيات شعرية للملك آخر يدوم الفارسي وهي:

الأيام صحائف الأعمال
فخلدوها بأحسن الأعمال

(٢) اهتمام الكردينال بوروميو بالمخطوطات العربية القديمة

يرجع عهد اهتمام مكتبة الأمبروزيانا بالمباحث الشرقية إلى القرن السادس عشر، وذلك عندما أخذ فردريك بوروميو يعنى بجمع خزائن الكتب العربية القديمة من الربوع الإسلامية الشاسعة الممتدة من بلاد فارس إلى آسيا الصغرى، ومن جزيرة العرب إلى مصر وطرابلس الغرب والجزائر والمغرب الأقصى. فبلغ عدد ما جمع من الكتب الإسلامية القيمة ١٤٠٠ مجلد، يضمُّ مصاحف قرآنية في غاية الأناقة كُتبت في عصور الإسلام المختلفة وفي الأزمنة القريبة من عهد النبي، ومن جملة هذه الكتب القيمة تفسير البيضاوي، وهو من أهم المؤلفات الإسلامية. وقد كان السفير العثماني رفعت بك يقصد مكتبة الأمبروزيانا، حين زيارته إيطاليا ليرى ذلك الكتاب، وكان يقول إنه من أجمل وأندر الكتب، ومن بينها أيضًا عدد لا يُستهان به من الموضوعات القضائية على المذهب الزيدي وغيرها من أصول القضاء والفقه على المذهب الشافعي والمالكي والحنفي والحنبلي.

ومعظم هذه المؤلفات يكوِّن مجموعة أدبية تشريعية للمذهب الزيدي، وهي التي تشتمل على قسم عظيم من مصنفات جنوبي الجزيرة العربية، أو بعبارة أخرى من المؤلفات اليمانية لأصحابها المشاهير، كالإمام القاسم والإمام أبي طالب والإمام علي بن حسين والغاني والكافي وابن حبيس الدواري والغزالي. فبين هذا المزيج من المؤلفات سجل طريف للمعاملات الجمركية اليومية في الحديدة في شهر الحج؛ كما توجد بين هذه المجموعة كتب عديدة في علم اللغة، وفي العقائد والأحكام التعبدية، ومن بينها مجموعة نفيسة من حكم أرسطوطاليس وأفلاطون ومائتان من أقوال منظومة لناظمها علي.

وإن ندرت هذه المجموعة من المؤلفات في علم الهيئة والفلك، غير أنها غنية في المؤلفات الطبية لأشهر أطباء العرب، كابن سينا والمارغني الميموني وغيرها لجالينوس وأبوقراط وأفلاطون الحكيم. على أن هذه المجموعة تحتوي على كتب قيمة وأصلية في الأدب، وفي جغرافية جزيرة العرب، وفي مباحث عن مناخ القسم الجنوبي منها، وعن أصل اشتقاق أسماء البلدان في البلاد اليمانية، وفي وصف العالم المعروف وقتئذٍ، ومن بينها كتاب نفيس جدًّا في تاريخ صنعاء عاصمة اليمن.

وأغنى ما في مجموعة مكتبة الأمبروزيانا من الكتب المطبوعة في عهد حداثة فن الطباعة، أو من المخطوطات هي الكتب التاريخية ودواوين الشعر، ومن بينها مؤلفات في تاريخ قبائل جزيرة العرب قبل الإسلام، وبعض أساطير يمانية عن الوثنية وكتب تبحث عن سيرة محمد. وعن مباحثات ومناظرات في الهيئات.

ومما يستحق الإشارة إليه من هذه المجموعة المؤلَّفات الفقهية والدينية. غير أن الكتب الأساسية التي تحويها هذه المجموعة هي الكتب النحوية والمباحث اللغوية، ومن بينها عدد كبير من المعاجم العربية التي استعان بها المستعرب الإيطالي الشهير أنطونيو جيجي. وهي من جهابذة مكتبة الأمبروزيانا وأول من ألَّف قاموسًا عربيًّا في أوروبا، وذلك في مبادئ القرن السادس عشر، ويعد قاموسه هذا من أثمن المعاجم حتى اليوم. وقد أضيفت فيما بعد إلى مجموعة الكتب، التي جمعت على عهد بوروميو الآنف الذكر مؤلفات أخرى في الحساب، وفي علم التنجيم والأخلاق، ومن ضمنها مؤلفات نفيسة لابن سينا والبخاري. كما أنها كانت مشتملة على مجموعات قانونية مكتوبة على الورق بمداد لامع مختلف الألوان، وهي تعد من أندر وأنفس المصنَّفات، فكانت مجموعات القوانين هذه والمخطوطات العربية للقرن السادس عشر نواةً صالحة لما وصلت إليه فيما بعدُ مكتبةُ الأمبروزيانا من توسيع نطاقها في المصنفات الإسلامية في مبادئ هذا العصر.

وهناك قسم ثانٍ من مجموعات القوانين العربية جمعته مكتبة الأمبروزيانا في سنة ١٩٠٩، وهو يؤلف مجموعة عظيمة من المخطوطات يبلغ عددها ١٨٤٦ مخطوطًا، كما يشتمل على سبعة آلاف مؤلَّف من أصل يمني وإسلامي محض. وبين هذه الكتب مؤلَّفات كثيرة في القرآن والسُّنَّة لأشهر المؤلفين كالبخاري والعسقلاني. كما أن بين تلك الكتب مؤلَّفات لا تقل قيمة عن الأولى في الإلهيات على ما يراه الإسماعيليون والزيديون من أهل الشيعة. ومؤلفات أخرى في المذهب الملكي، والمذهب البرهمي، وفي المذاهب اليهودية والإسلامية والمسيحية، ومناظرات أدبية في الدفاع عن الزيدية.

أما في دواوين الشعر فإننا نجد مؤلفات للشعراء القدماء، كامرئ القيس والبستي والبحتري والعريسي والمتنبي واليشكري. ومن شعراء اليمن المشهورين نجد العيزي، وجمال الدين والقاسم، وقدام بن قديم ناظم تلك القصيدة المشهورة، التي تعد مثالًا صحيحًا للشعر الوطني في جنوب الجزيرة من حيث القومية والديانة.

ومن بين المؤلفات المتنوعة التي لها صبغة من الثقافة العربية الساحرة، نجد قاموسًا كبيرًا للقهواري، وبعض مؤلفات ثانوية في البلاغة والعروض والنثر. وأما وجوه مجموعات القوانين فهي على قدر عظيم من النفاسة والقيمة الفنية، من حيث خطوطها القديمة المختلفة الأنواع من النسخي إلى العماني إلى المغربي الطرابلسي. فما عدا هاتين المجموعتين اللتين نوَّهنا بهما آنفًا، واللتين يكوِّنان القسم الأساسي لمكتبة الأمبروزيانا توجد مجموعات ثانوية أخرى من أصل كوفي أو شمالي إفريقي، ومجموع هذه الكتب كلها يكوِّن ثروة عظيمة من الكتب العربية التي نفاخر بها الغرب».

(٣) مخطوطة أول كتاب فلكي نقل عن اليونانية إلى العربية

ألمع المستعرب الإيطالي «كرلو نلينو»، أستاذ التاريخ العربي والعلوم الفلكية في الجامعة المصرية إلى مخطوط فريد من نوعه محفوظ في المكتبة الأمبروزيانية. وينطوي هذا المخطوط على ترجمة كتاب «عرض مفتاح النجوم» المنسوب إلى هرمس الحكيم المصري، وموضوعه تحاويل سني العالم، وما فيها من الأحكام النجومية، وهو أول كتاب نُقِلَ من اليونانية إلى العربية بقطع النظر عن كتب الكيميا.٢

(٤) ثروة المكتبة الأمبروزيانية ومشاهير مديريها

تعد مكتبة الأمبروزيانا في عهدنا من أغنى مكتبات أوروبا بوفرة مطبوعاتها النادرة، ومخطوطاتها القديمة البالغة خمسمائة ألف كتاب بنيِّف، ويعود الفضل في تعزيزها إلى مديرها الأب أنطون تشرياني († ١٩٠٧)، وإلى خلفه الأب أخيل راتي الذي اشتغل فيها مدة اثنتين وعشرين سنة (١٨٨٨–١٩١٠)، فسعى لتحصيل مخطوطات قديمة زادت في ثروتها العلمية وتحفها الفاخرة، واعتنى اعتناء خاصًّا بالمخطوطات الشرقية ولا سيما العربية، فاقتنى منها نحو ستة آلاف كتاب أتى بها بعض السياح من أنحاء اليمن، وهي التي وصفها المستعرب الشهير السنيور غريفيني.٣

وبعد هذا انتقل الأب راتي إلى المكتبة الواتيكانية، وتقلَّب في الرتب البيعية حتى استوى على عرش البابوية باسم بيوس الحادي عشر (١٩٢٢–١٩٣٩).

١  مجلة الرابطة العربية في القاهرة: المجلد ٦ الجزء ١٣٠ ص٣١–٣٢.
٢  كتاب علم الفلك: بقلم كرلو نلينو ص١٤٢.
٣  المشرق: مجلد ٢٠ سنة ١٩٢٢ ص٣٢٤–٣٢٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤