بعد عشرة أعوام

١

انقشعت سحب الظلام عن زرقة الفجر الناعسة، فتبدَّت صفحة النيل تتنفَّس نسائم الغسق، تنحدر عليها قافلة من السفن تولي وجهها شطر حدود مصر شمالًا، كان بحَّارتها نوبيين، أما قائداها — اللذان جلسا بمقصورة السفينة المتقدمة — فكانا مصريَّين كما يدل لون بشرتهما الأسمر، وقسماتهما الواضحة، وكان أولهما شابًّا لا يكاد يبلغ العشرين من عمره، حَبَتْه الطبيعة طولًا فارعًا، وقدًّا نحيلًا دقيقًا، وصدرًا عريضًا متينًا، ينطق وجهه المستطيل بالنضارة والجمال الفائق، وعيناه السوداوان بالصفاء والحسن، وأنفه المستقيم الأشم بالقوة والتناسق، فهو من الوجوه التي أودعتها الطبيعة جلالها وجمالها معًا، يرتدي لباس التجَّار الأثرياء، ويلف جسمه الرشيق في عباءة ثمينة، قدت على صورة جسمه، وكان صاحبه شيخًا في الستين، يميل إلى النحافة والقِصَر، بارز الجبهة في استواء وارتفاع، تدلُّ جلسته على الهدوء الذي يلازم الشيخوخة غالبًا، وأما نظرة عينَيه فتنفذ إلى الأعماق .. وكان يبدو أنَّ همه منصرف إلى العناية بالشاب، أكثر مما هو منصرف إلى التجارة التي تحملها السفن، فلما دنت القافلة من منطقة الحدود، برحا المقصورة ومضيا إلى مقدمة السفينة، يتطلعان بعينَين مشوقتَين جرى فيهما الحنين، ثم سأل الشاب بحماس وجزع: هل ترى تطأ أقدامنا أرض مصر؟ قل ماذا نحن فاعلون الآن؟

فقال الشيخ: نرسي القافلة على هذا الشاطئ، ونبعث في قارب رسولًا إلى الحدود، يبتغي لنفسه سبيلًا يمهده بقِطَع الذهب.

– إنَّ اعتمادنا كله على ما عُرف به القوم من طاعة الرشوة وتلبية نداء الذهب .. أما لو خاب ظننا …

وسكت الشاب عن الكلام وقد لاح في عينَيه القلق، فقال الشيخ: ما دام الظنُّ سوءًا فإنه لا يخيب مع هؤلاء القوم!

وعدلت السفينة إلى الشاطئ، فتبعتها القافلة وألقت مرساتها، واختار الشاب أن يكون هو مبعوث القافلة إلى الحدود، وكان عظيم الحماسة قوي التصميم، فلم يعترض الشيخ سبيله؛ وانتقل إلى قارب وجدَّف بساعدَيه المفتولَين مفارقًا القافلة نحو الحدود، وتبعه الشيخ بعينَيه وهو يقول برجاء مؤثر: «أيها الرب المعبود آمون .. هذا ابنك الصغير يسعى إلى وطنه وراء غرض نبيل؛ أن يعزَّ سلطانك، ويرفع ذكرك، ويحرِّر أبناءك، فأيِّده يا رب وانصره واحفظه …»

ومضى الشاب يجدِّف في قوة، وظهره إلى هدفه، يستدير لينظر وراءه كلَّ هنيهة وقد اضطرم صدره بالحنين، وأحسَّ لهواء الوطن وهو يدنو من جوِّه لذةً جديدة، خفق لها قلبه أيَّما خفقان، ثم رأى في إحدى التفاتاته سفينة حربية صغيرة تصعد نحوه معترضةً سبيله، فأيقن أنَّ حراس الحدود تنبَّهوا له، وجاءوا يتحقَّقون من أمره، ودنا بقاربه من السفينة حتى سمع صوت الضابط الواقف في مقدمها يصيح به: «كيف تدنو يا هذا من المنطقة الحرام؟»

فصمت الشاب حتى شارف القاربُ السفينةَ، ثم حيَّا الضابط ذا اللحية تحيَّةَ إجلال وتعظيم، وقال متبالهًا: باركك الرب ست أيها الضابط الباسط، إني قاصد وطنكم المجيد بتجارة ثمينة.

فقطب الضابط جبينه وقال بفظاظة: خسئتَ أيها الأحمق، ألا تدري أن هذا الطريق مُغلَق منذ عشرة أعوام؟ .. فأبدى الشاب الجميل دهشة، وقال: وماذا يصنع إنسان مثلي جمع متاعًا ثمينًا ليتقرَّب به من فرعون مصر المعبود ورجال مملكته؟ .. هلا أذنتَ لي بمقابلة حاكم جزيرة بيجة النبيل؟

فقال الضابط بوحشية: بل ستعود من حيث أتيتَ حيًّا، إن لم ترغب في أن تُدفَن حيث تثرثر .. فأخرج الشاب من صدره حافظة من الجلد ملأى بقطع الذهب، ورمى بها تحت قدمَي الضابط قائلًا: نحن في بلادنا نُحيِّي آلهتنا بتقديم الهدايا، فاقبل تحيتي ورجائي.

فتناول الضابط الحافظة وفتحها، وعبثت أنامله بقطع الذهب، فاختلجت أجفانه، وردَّد بصره بينها وبين الشاب بذهول، ثم هزَّ رأسه كأنه لا يُخفي حنقه على الفتى الذي ثناه عن رأيه قسرًا، وقال بصوت هادئ: إنَّ دخول مصر ممنوع، ولكن قد تستحق رغبتك الشريفة استثناءك من أمر المنع، فاتبعني إلى حاكم الجزيرة.

وابتهج الشاب، واتخذ مجلسه مرة أخرى في القارب، وشدَّ على المجداف بقوة ونشاط، وانحدر متتبعًا السفينة صوب شاطئ بيجة، ورست السفينة ثم القارب، ووضع الشاب قدمَيه على الأرض في حذر وإشفاق، كأنما يدوس شيئًا طاهرًا مُقدَّسًا، وقال له الضابط مرة أخرى: «اتبعني». فتبعه على الأثر، وبالرغم من تشدُّده في التسلُّط على أعصابه، أفلت زمامه وتمشَّت في حواسه نشوة، وعصر قلبه حنين سماوي، فخفق قلبه خفقانًا شديدًا متواليًا، وجع من شدة اضطرام عواطفه يذهل سريعًا، إنَّه في أرض مصر، مصر التي يحفظ لها أجمل الذكريات، وأفتن الصور وأبهج الآثار، إنه يود لو يُترَك وحيدًا فيملأ صدره من نسيمها العليل، ويمرِّغ خدَّيه بثراها .. إنَّه في أرض مصر.

واستيقظ من حلمه على صوت الضابط الغريب وهو يقول له ثالث مرة «اتبعني». فنظر فرأى قصرًا جميلًا يقف أمامه رجال مسلَّحون، فأدرك أنَّه أمام قصر حاكم الجزيرة، ودخل الضابط، فتبعه غير مبالٍ لنظرات القوم الحادة التي تُصوَّب نحوه من كل جانب.

٢

وأذن له بالدخول إلى بهو الاستقبال بعد أن سبقه الضابط إليه، كان الحاكم يستقبل فيه مَن لا يحتاج النظر في مظالمهم لغير الذهب، وألقى الشاب نظرة على الحاكم وهو يمضي، فلفتت نظره لحيته الطويلة الكثة، وعيناه اللوزيتان الحادتان، وأنفه البارز الأقنى كأنه شراع قارب، وكان الرجل يرمق الداخل بعين فاحصة، ونظرة تدل على الحذر والريبة، فانحنى الشاب بين يدَيه بإجلال عظيم، وقال بأدب بالغ: ندَّى الرب صباحك أيها الحاكم الجليل.

وكان الضابط حدَّثه عن القادم الغريب الذي يرمي في غير مبالاة بحافظة ملأى بقطع الذهب الوهَّاج، ويسوق قافلة مُحمَّلة بالهدايا ليتقرب بها من سادة مصر، فرد تحيته بإشارة من يده، وسأله بصوت غليظ أجوف: مَن أنت ومن أيِّ البلاد؟

– أُدعَى يا مولاي إسفينيس، من بلدة نباتا من بلاد النوبة.

فهزَّ الرجل رأسه بارتياب وقال: ولكني أرى أنَّك لستَ نوبيًّا، وإن صدق نظري فأنت فلاح!

فخفق قلب إسفينيس لهذا الوصف الذي نطق به الحاكم بلهجة لم تخلُ من الاحتقار، وقال: صدقَتْ فراسة مولاي، فأنا حقًّا .. فلاح، من أسرة مصرية هاجرت إلى بلاد النوبة منذ أجيال، واشتغلت بالتجارة عهدًا طويلًا حتى أُغلِقَت الحدود بين مصر والنوبة، فانقطع رزقها.

– وماذا تريد؟

– لديَّ قافلة مُحمَّلة بخيرات البلاد التي قدِمتُ منها، أرجو بها التقرُّب والزلفى من سادة مصر.

فعبث الحاكم بلحيته، وحدجه بنظراته المرتابة، وقال: أتعني أنَّك تجشَّمتَ مشاقَّ السفر، لمحض التقرُّب والزلفى من سادة مصر؟!

– سيدي الحاكم الجليل، نحن نعيش في بلاد ملأى بالوحوش والكنوز، الحياة فيها جدُّ قاسية، والجوع والجدب ينشبان أظفارهما في الرقاب، نجيد صياغة الذهب، ونضنى في الحصول على قدح من الحبوب، فإذا تقبَّل ساداتي هداياي، وأذنوا لي بالمسير بالتجارة بين الجنوب والشمال، ملأتُ أسواقكم بالنفيس من الجواهر والحيوان، وبدَّلتُ بؤس قومي أنعمًا!

فضحك الحاكم ضحكة عالية، وقال: أرى الأحلام تطيح برأسك .. أوَلستَ تبدأ بالسؤال والتضرُّع؟ ولكنك ترجو أن يُكلَّل مسعاك بإصدار أوامر فرعونية لمصلحتك .. حسنًا .. الحمقى كثيرون .. ولكن ماذا تحمل قافلتك من النفائس يا هذا؟

فحنى إسفينيس رأسه إجلالًا، وقال بإغراء التاجر الأريب: هلَّا تفضل مولاي بزورة قافلتي ليطَّلع بنفسه على نفائسها، ويختار ما يعجبه من كرائم جواهرها؟

وتحرَّكَتْ لواعج النَّهم والجشع في نفس الحاكم، فاستطاب الفكرة، فقال لإسفينيس وهو يهمُّ بالقيام للذهاب معه: سأمنحك هذا الشرف.

وتقدَّمَه إلى السفينة الحربية، ثم إلى القافلة، وعرضَتْ لناظريه الحُليُّ والجواهر والحيوان العجيب، فشاهد النفائس بعين يلتمع فيها نور الجشع الخاطف، وأهدى إليه إسفينيس صولجانًا من العاج ذا رأس من خالص الذهب المُحلَّى بالزمرد والياقوت فتقبَّله بلا كلمة شكر، وأخذ بنفسه أساور وخواتيم وأقراطًا ثمينة، وأنشأ يقول لنفسه: لماذا لا أسمح لهذا التاجر بالدخول إلى مصر؟ .. ليست هذه تجارة، ولكنها هدايا تُسبي العقول، وسيرحِّب بها فرعون بغير جدال، فإن حقَّق لصاحبها أمنيته نال ما تمنى، أو رفض مطلبه فلا شأن لي به .. وأمامي فرصة سانحة ينبغي أن أنتهزها، إنَّ خنزر حاكم الجنوب مُغرَم بكل نفيس، فلأبعث بالتاجر إليه فيذكر لي صنيعي على ما أهديتُ إليه من كنز، وما أتحتُ له من فرصة يزداد بها قربًا إلى مولاه .. فإذا أراد يومًا أن يختار لولاية من الولايات الكبرى حاكمًا ذكرني بلا ريب!

وتحوَّل نحو إسفينيس وقال: سأعطيك فرصة لتجرِّب حظك، فسِرْ توًّا إلى طيبة، وهاك كتابًا إلى حاكم الجنوب تذهب به إليه لتعرض نفائسك، وتسأله الشفاعة في رجائك .. واستخف الفرح إسفينيس، فانحنى للحاكم شكرًا وارتياحًا.

٣

وكان أول كلمة نطق بها إسفينيس على أثر مبارحة الحاكم لسفينته، أن قال للشيخ الذي يلازمه: منذ هذه الساعة لا أحمس هناك ولا حور، ولكن إسفينيس التاجر ووكيله لاتو.

فابتسم الشيخ وقال: نطقتَ بالحكمة أيها التاجر إسفينيس.

ونشرت القافلة شراعها، وتحرَّكت مجاديفها، فانحدرت مع الموج صوب حدود مصر واجتازتها في أمان وسلام، وكان إسفينيس ولاتو يقفان عند مقدم السفينة يكابدان شوقًا واحدًا، تكاد عيناهما تشرقان بالدمع، قال إسفينيس: بدءٌ حسن.

فقال لاتو: نعم فلنصلِّ للرب آمون شكرًا، ونسأله أن يسدِّد خطانا ويكلل مسعانا بالفوز المبين.

وجثَوَا على سطح السفينة وصلَّيَا معًا، ثم عادا إلى وقفتهما، وقال إسفينيس: إذا ظفرنا بإعادة الروابط مع النوبة إلى سابق عهدها، فقد ظفرنا بنصف النجاح، فنعطيهم ذهبًا ونأخذ رجالًا.

– اطمئن، فهم لا قِبَل لهم بمقاومة إغراء الذهب، ألم يفتح لنا الحدود المغلقة منذ عشرة أعوام؟ .. إنَّ الرجل من الرعاة عظيم العنجهية والصلف شديد البأس؛ ولكنه كسلان يستخدم غيره، ويتعالى على التجارة، ولا يحتمل الحياة في النوبة، فلا سبيل إلى ذهبها إلا بمَن يتطوَّع مثل التاجر إسفينيس بحمله إليه!

ومضيا معًا يُلقيان ببصرهما إلى مجاهل الأفق البعيد الغارق في مجرى النيل، يقلِّبان الطرف في خضرة ناضرة تكتنف القرى والدساكر، تحلِّق فوقها الأطيار، وترعاها الثيران والبقر نشاوى؛ والفلاحون يعملون هنا وهنالك عراة لا يرفعون رءوسهم عن الأرض، فأثار منظرهم في صدر الشاب الحب والغضب، واستعر قلبه حنانًا وحنقًا، فقال: انظر إلى جنود أمنمحيت، كيف يعملون عبيدًا للبيض الحمقى المتعجرفين ذوي اللحى القذرة!

وتقدَّم المسير بالقافلة، فمرت بأمبوس وسلسليس ومجنا ونخب وترت، فلم يبقَ دون طيبة سوى ساعة، وتساءل إسفينيس: أين ينبغي أن ترسو السفينة؟

فقال لاتو مبتسمًا: في الجنوب من طيبة حيث توجد أحياء الفقراء والصيادين، وجميعهم مصريون خُلَّص.

فأمَّن الشاب على قوله، ولاحت منه نظرة إلى الأمام فرأى على البُعد سفينة تسير نحوهم فعلق بصره بها وهي تدنو رويدًا رويدًا، حتى استطاع أن يتنوَّرها؛ فرأى سفينة فخمة جميلة التركيب بادية الأناقة، تعلو وسطها مقصورة حسناء يتألَّق في جوانبها الفن الجميل، فخال أنه رأى مثلها من قبل، ولكز لاتو في ذراعه متمتمًا: انظر.

فنظر الرجل وقال بسرعة: رباه! هذه سفينة فرعونية، (ثم استدرك) إنها تسير بغير حرس، فلعل راكبها أحد رجال القصر، أو أمير يطلب الخلوة!

ودنَتِ السفينة فكادت تلتقي بالقافلة: وأثار منظر القافلة الغريب تطلُّع أصحابها، فبرزت من المقصورة امرأة يتبعها سرب من الجواري، تقدمتهن في أناة كأنها شعاع من النور الساطع يغشى العيون، شقراء يعبث النسيم بحاشية ثوبها الأبيض، ويراقص ذؤاباتها الرقيقة الذهبية، فأيقنا أنَّ صاحبتها أميرة من قصر طيبة تنتجع النسيم.

ورأياها تُشير بأناملها إلى سفينة متأخرة وقد فغرت من الدهشة فاها، وارتسم العجب كذلك على وجوه الجواري الحسان، فالتفت إسفينيس إلى الوراء، فرأى قزمًا من الأقزام التي أتى بها يسير على ظهر السفينة، فأدرك سرَّ دهشة الأميرة الجميلة، ونظر إلى لاتو مبتسمًا أن لاقت إحدى الهدايا ما تستحق من التقدير، ولكن لاتو كان يرمق المرأة بعينَين جامدتَين ووجه مكتئب، ونادى النسوة نوتيًّا، فتقدَّم من حافة السفينة، وصاح موجِّهًا خطابه إلى لاتو بلهجة أمر لا يُرَد: قِف أيها النوبي وألقِ مرساتك!

وأذعن إسفينيس للأمر، وأصدر أمره إلى القافلة بالتوقُّف، ودنَتِ السفينة الفرعونية من السفينة التي ظهر بسطحها القزم، وسأل النوتي إسفينيس: ما هذه القافلة؟

– قافلة تجارة يا سيدي.

فأشار بيده إلى القزم، وكان يفرُّ إلى باطن السفينة، وقال: هل يؤذي هذا المخلوق؟

– كلا يا سيدي.

– إن صاحبة السمو الفرعوني ترغب في مشاهدة هذا المخلوق عن كثب.

فهمس لاتو قائلًا: هذا لقب ابنة فرعون.

أما إسفينيس فخفض رأسه باحترام وقال: حبًّا وكرامةً.

وسارع إلى مفارقة السفينة إلى قارب سارَ به إلى السفينة الأخرى، وصعد إلى سطحها ليكون في استقبال الأميرة، وكانت الأميرة وحاشيتها يقتربن بقاربهن من السفينة حتى بلغنها، فصعدن إلى السطح تتقدَّمهُنَّ الأميرة، فانحنى الشاب بين يدَيها في إجلال ظاهر، وكان يقاوم شعوره بالاستهانة، ويتظاهر بالارتباك والاضطراب، فقال بتلعثُم: لقد أوليتِ قافلتي شرفًا رفيعًا يا صاحبة السمو!

ثم رفع رأسه فشاهدها عن كثب بعين خاطفة، رأى وجهًا تجسَّم فيه الحسن والكبرياء، ففيه من دواعي الفتنة بقدر ما فيه من نوازع الهيبة، ورأى عينَين زرقاوَين يتجلَّى في صفائهما التعالي والإقدام، فلم تُلقِ إلى تحيَّته بالًا، ودارت بعينَيها في المكان تبحث دون ريب عن القزم، وسألته بصوت رخيم يبعث الطرب في آذان سامعيه: أين ذهب المخلوق العجيب الذي كان هنا؟

فقال الشاب: سيكون بين يدَيك.

وذهب إلى كوة تُطلُّ على باطن السفينة، ونادى قائلًا: زولو.

وما لبث أن ظهر رأس القزم من الكوة، وتبعه جسمه، ثم أقبل على صاحبه، فأخذه من يده إلى حيث تقف الأميرة وجواريها، وكان يسير مُلقيًا بصدره إلى الأمام في خيلاء مضحكة، وبرأسه الكبير إلى الوراء، ولا يزيد طوله على أربعة أشبار؛ أما لونه فشديد السواد، وأما ساقاه فمقوستان، قال له إسفينيس: حيِّ مولاتك يا زولو.

فانحنى القزم حتى مسَّ شعره المفلفل الأرض، فاطمأنت الأميرة وسألت وعيناها لا تفارقان القزم: أحيوان هو أم إنسان؟

– هو إنسان يا صاحبة السمو.

– ولماذا لا نعدُّه حيوانًا؟

– له لغته ودينه.

– يا عجبًا، وهل يوجد مثله كثيرون؟

– نعم يا مولاتي، إنه ينتمي إلى شعب وافر العدد، فيهم نساء ورجال وأطفال ولهم ملك وسهام مسمومة يسدِّدونها نحو الحيوان المفترِس والإنسان المُغير؛ ولكن قوم زولو يأنسون إلى الناس سريعًا ويخلصون المودة لمَن يصادرهم، ويتبعونه كالكلب الأمين.

فهزَّت رأسها المُكلَّل بخصلات الذهب عجبًا، وافترَّ ثغرها عن دُرٍّ نضيد، وتساءلت: وأين يعيش قوم زولو؟

– في أقاصي غابات النوبة، حيث يرقد النيل المعبود.

– دعه يُحدِّثني إن استطعت.

– إنَّه لا يستطيع أن يتكلم لغتنا، وقصارى جهده أن يفهم بعض الأوامر، ولكنه سيُحيِّي مولاته بلغته.

وقال إسفينيس للقزم: ادعُ لمولاتك دعاءً طيبًا.

فاهتزت رأس القزم الكبير كأنه يرعش، ثم نطق بكلمات غريبة بصوت أدنى إلى الخوار، فلم تملك الأميرة إلا أن تضحك ضحكة عذبة، ثم قالت: حقًّا إنَّه غريب، ولكنه قبيح لا يسرني أن أقتنيه!

فبدا الأسف على وجه الشاب، وقال بلباقة التاجر الماكر: ليس زولو يا صاحبة السمو خير ما في قافلتي .. إليك دررًا تفتن النفوس وتسلب الألباب.

فتحولت في استهانة عن زولو إلى المتباهي بنفائسه، وألقت عليه نظرة فاحصة لأول مرة، فهالها طوله الفارع ونضارة شبابه، وعجبت أن يكون هذا المظهر لتاجر من عامة الشعب، وسألته: هل لديك حقًّا حُليٌّ تستحق الإعجاب؟

– نعم يا مولاتي.

– إذَن أرِني عيِّنة .. أمثلة مما عندك.

وصفق إسفينيس، فجاءه عبد فألقى إليه كلمات بصوت خافت، فغاب الرجل هنيهة، ثم عاد يحمل صندوقًا من العاج بمعاونة رجل آخَر، فوضعاه أمام الأميرة وفتحاه، وتنحَّيَا جانبًا. ونظرت الأميرة في داخل الصندوق، واشرأبَّتْ أعناق الجواري، فرأت ما يسرُّ القلب من لآلئ لامعة، وأقراط وأساور، وتفحَّصَتْها بعين واعية، ثم مدَّت يدها البضة الرخصة إلى عقد آية في السذاجة والكمال، قلب من الزمرد في سلسلة من خالص الذهب، وأمسكت القلب بأناملها وتمتمت: من أين لك بهذا الحجر النفيس؟ .. ليس في مصر نظيره؟

فقال الشاب بابتهاج: إنه درة من كنوز النوبة.

فتمتمت قائلةً: النوبة .. بلاد زولو .. ما أجمله!

فابتسم إسفينيس وهو ينعم النظر إلى أناملها، وقال: أما وقد حاز إعجاب سموك، فلا يجوز أن يُردَّ إلى صندوقه.

فقالت في سهولة: نعم .. ولكن ليس لديَّ ثمنه .. هل أنت ذاهب إلى طيبة؟

فقال: نعم يا مولاتي.

فقالت: ما عليك إلا أن تقصد القصر فتقبض ثمنه.

فانحنى الشاب إجلالًا، وألقت الأميرة نظرة وداع على زولو، ثم تحوَّلَت ماضيةً بقوامها اللدن الرشيق، يتبعها الجواري، وتعلَّقَت بها عينا الشاب حتى غيَّبَها عنه حائط السفينة، ثم تنبَّه إلى نفسه، فعاد إلى سفينته حيث كان لاتو ينتظره على جزع، وقد بادره: ما وراءك؟

فأجمل له أقوال الأميرة، وتساءل ضاحكًا: ترى هل هي حقًّا ابنة أبوفيس؟

فقال لاتو بامتعاض: هي الشيطانة ابنة الشيطان.

وأيقظته لهجة لاتو الخشنة ونظراته الغاضبة من سباته، وأدرك أنَّ التي أثارت إعجابه ابنة مذل شعبه وقاتِل جدِّه، وأنَّه لم يشعر في محضرها بما هي أهل له من المقت والكراهية. وتضايق وخشي أن تكون لهجته وهو يروي قولها نمَّتْ عن إعجاب ساءَ الشيخ الأمين، وقال لنفسه: ينبغي أن أكون أهلًا للواجب الذي جئتُ هنا من أجله، ولذلك لم يلتفت إلى سفينة الأميرة وأطال النظر إلى الأفق، وحاول أن يحقد على الأميرة، وأحسَّ أنها قوة حقيقة بكل مقاومة .. لقد ذهبت من سبيله إلى الأبد، ولكن .. رباه .. إنَّها جمال يجري في أعطافه السحر، ولا يسَع مَن يُبتلى برؤيته إلا أن يُغمض جفنَيه من قوة نوره!

وذكر في تلك اللحظة زوجه الصغيرة نيفرتاري، بقوامها المعتدل، ووجهها الأسمر الخمري، وعينَيها السوداوَين الساحرتَين، فلم يزِدْ على أن تمتم قائلًا: «يا لهما من صورتَين متناقضتَين جميلتَين!»

٤

وبدا سور طيبة الجنوبي وأبوابها الرائعات تتصاعد من ورائه الهياكل والمسلَّات، فبدا الجلال مُجسَّمًا يروع الناظرين، ورَنَا الرجلان إلى المدينة بعينَين لاحَ فيهما الحنين والحزن، وقال لاتو: حيَّاكِ الرب يا طيبة المجيدة!

وقال إسفينيس: وأخيرًا يا طيبة .. بعد أعوام طوال في المنفى!

وانعطفت السفينة نحو الشاطئ، تتبعها على الأثر سفن القافلة، وقد ضمَّت الشُّرُع ورفعت المجاديف، فشقَّت طريقها بين عدد وافر من زوارق الصيد ملأى بالسمك، منه ما تزال تدبُّ فيه الحياة، ويقف في أوساطها الصيادون بأجسادهم العارية النحاسية وعضلاتهم المفتولة؛ فانبعث في نفس إسفينيس نشوة طرب لرؤيتهم، وقال لرفيقه: عجِّل بنا، فنفسي مشوقة إلى محادثة أيٍّ من المصريين.

وكان الجو معتدلًا لطيفًا، والسماء صافية الزرقة، والشمس مشرقة تغمر أشعتها النيل والشطآن والحقول والمدن، فنزلا إلى الشاطئ يلتفان في عباءتَيهما، ويضعان على رأسَيهما قلنسوتَين مصريتَين ككبار التجار، وتقدَّما خطوات نحو حي الصيادين، وكانت جماعات منهم تقف على الشاطئ، وأيديها آخِذة بحبال الشِّباك التي ترميها الزوارق في لُجَّة النيل، يغنون وينشدون، وكان غيرهم يملأ العربات بالسمك، ويلهبون ظهور الثيران المشدودة إليها صوب الأسواق، وعلى مسير دقائق من الشاطئ أُقيمَت أكواخ صغيرة أو متوسطة الحجم من الآجرِّ، مسقوفة بجذوع النخيل، يدلُّ مظهرها على السذاجة والفقر.

وكان إسفينيس ينتقل من مكان إلى مكان، مرهف الحواس، مفتوح العينَين، يتفحص الصيادين ويتتبع حركاتهم ويُصغي إلى أناشيدهم، وكان يشعر نحوهم بالحنان والحزن المقرونَين بالإعجاب والإكبار، وخالط قلبه وهو يشق جموعهم إحساس أُلْفة وطمأنينة ومحبة، فتمنى لو يستطيع أن يعترض سبيلهم ويضمهم إلى صدره ويقبِّل وجوههم السمر المعناة بالكفاح والفقر، وذكر ما حدثته به عنهم توتيشيري؛ فقال لصاحبه: يا لهم من رجال أشدَّاء صابرين!

فقال لاتو، وكان يشارك الشابَّ جُلَّ عواطفه: أحسب هؤلاء الصيادين أسعد حالًا من الفلاحين. لأن الرعاة يترفعون عن النزول إلى حيهم، فيعفونهم من غير قصد من صلف أخلاقهم وسوء صنيعهم.

وقطَّب الشاب غضبًا وتألمًا ولم يتكلم، وجدَّا في السير يلفتان الأنظار بوجاهة منظرهما وفخامة لباسهما، ورأى إسفينيس عن كثب شابًّا يافعًا يتجه نحوهما يحمل سلة، وكان يرتدي وزرة قصيرة في خاصرته، أما بقية جسمه فعارٍ، وقد بدا طويلًا رشيقًا ووجهه حسنًا، فقال إسفينيس: انظر يا لاتو إلى هذا الشاب، ألم يُخلَق ليكون فارسًا في فرقة العجلات لولا أن خانه زمانه؟

واقترب الشاب منهما، فرغب في الحديث إليه، وحيَّاه بيده وقال: حيَّاك الرب أيها الشاب .. هل تدلنا على مكان نستريح فيه ولك الشكر؟

فوقف الشاب عن المسير وهَمَّ بالردِّ عليه، ولكنه حين وقعَتْ عيناه عليهما أغلق فمه، وألقى عليهما نظرة غريبة تفصح عن الغضب والاحتقار، وولَّاهما ظهره ومضى، فتبادل الرجلان نظرة دهشة وإنكار، وتبعه إسفينيس على الأثر واعترض سبيله قائلًا: أيها الأخ، ما الذي جعلك تزهد الرد علينا وتولينا ظهرك غاضبًا؟

فصاح الشاب مزمجرًا: إليك عني يا عبد الرعاة.

وابتعد غاضبًا وهو يوسع الخطى، تاركًا الشاب في ذهول وحيرة، ولحقه لاتو وهو يقول: إنه لمجنون بلا ريب.

– ليس مجنونًا يا لاتو .. ولكن لماذا يدعوني عبد الرعاة؟

– إنه لدعاء يثير الضحك.

– نعم .. نعم .. ولكن هبنا صنائع الرعاة، فكيف تؤاتيه شجاعته فيتحدانا؟ .. إنَّه لشاب جسور حقًّا يا لاتو، ويدل سلوكه معنا على أنَّ عشرة أعوام من حكم الرعاة الخانق لم تستطع أن تستأصل الغضب من النفوس الكريمة.

واستأنفا المسير حتى جذب انتباههما ضجيج عالٍ، فنظرا يمنةً فرأيا بناءً كبيرًا ذا مدخل صغير في أعلى حائطه كوات ضيقة، يدخل إليه جماعات ويخرج منه جماعات، فسأل الشاب صاحبه: ما هذا البناء؟

فقال لاتو: هذه حانة.

– هلُمَّ نشاهدها.

فابتسم لاتو وقال: هلُمَّ!

٥

ودخلا الحانة معًا، فوجدا نفسَيهما في مكان متَّسع، حوائطه عالية، يتدلى من سقفه مصباح يعلوه الغبار، وفي وسطه وضعت الدنان، يحيط بها سور طوله ذراعان وعرضه ذراع، اصطفت عليه أكواب الفخار وأحاط به الشاربون، ويقف في دائرته صاحب الحانة فيملأ الأقداح للملتفين به، أو يرسلها مع ساقٍ يافع إلى الجلوس في الأركان على أرض الحان، وكان لا يكاد يرفع رأسه عن دنانه، فإذا آذاه أحد الشاربين بنكتة أو دعابة انتهرَهُ بخشونة وسب وقذف، فجال الرجلان ببصرهما في المكان، وأراد إسفينيس أن يزحم الوقوف حول الساقي، فأخذ صاحبه من يده، وشقَّ بمنكبَيه طريقًا إلى السور حتى ارتقاه وسط الأعين المحدِّقة فيهما دهشةً وإنكارًا، وكان أحسَّ شيئًا من التعب، فقال للخمَّار مسترسلًا: أيها الرجل الطيب هل نجد عندك مقعدَين؟

فازداد إنكار مَن حوله للهجته وغرابة طلبه، أما الخمَّار فرد عليه دون أن يعيره التفاتًا: عفوًا أيها الأمير .. إنَّ روَّاد حانتي ممَّن يقنعون باقتعاد الغبراء.

وضحك منه ومن صاحبه قوم السكارى، ودنا منهما رجل قصير القامة غليظ الوجه والرقبة عظيم الكرش، فانحنى لهما في هزء، وقال بتلعثم الثمل: أيها السيدان، إنِّي أنزل لكما عن كرشي تقتعدانه.

وأدرك إسفينيس خطأه الذي أساء به إلى نفسه وإلى صاحبه، فقال يُصلح منه: إننا نتقبل هديتك شاكرين، ولكن كيف يمكن أن تشرب خمرك المعتقة بغير هذا الكرش؟

وسُرَّ السكارى بسؤال الشاب، وصاح بعضهم بالرجل الأكرش: أجِب يا طونا .. أجِب .. كيف تشرب أقداحك إذا نزلتَ للسيدَين عن كرشك؟

وقطب الرجل مفكِّرًا، وهرش رأسه متحيِّرًا وقد تدلَّت شفته السفلى كقطعة كبد دامية، ثم أضاءت عيناه المحمرتان كأنَّما وجد الحل السعيد، وقال: أشرب خمرًا مهضومة!

فضحك الرجال، وسُرَّ إسفينيس لإجابته، وقال له متلطفًا: إنِّي أعفيتك من النزول عن هذا الكرش العظيم، الذي خُلق ليكون زقَّ خمر لا مقعد جلوس.

ثم نظر إسفينيس إلى الخمَّار وقال له: أيها الرجل الطيب املأ ثلاثة أقداح لنا وللظريف طونا.

وملأ الرجل الأقداح وقدَّمها إلى إسفينيس، فخطف طونا قدحه وأفرغه في فمه دفعةً واحدة وهو لا يصدِّق، ثم مسح فمه بكفه، وقال لإسفيني: أنت غني بلا شك أيها السيد الكريم.

فقال إسفينيس مبتسمًا: حمدًا للرب على نعمائه.

فقال طونا: ولكنكما كما أرى من مشابه وجهيكما مصريان؟

– صدقَتْ فراستك، وهل من تناقض بين أن نكون مصريَّين وغنِيَّين؟

– نعم، إلا أن تكونا من المقرَّبين إلى الحاكمين.

وهنا قال رجل آخَر: وهؤلاء يقلِّدون سادتهم فلا ينزلون إلى مخالطتنا.

فتجهَّم وجه إسفينيس، وعاودته صورة الشاب الذي صاح به غاضبًا منذ حين قائلًا: «يا عبد الرعاة»، ثم قال: نحن من مصريي النوبة، وجئنا مصر حديثًا.

وساد الصمت، ودوَّت كلمة النوبة في الآذان دويًّا غريبًا، ولكن كان القوم سكارى لا يملك هذيان الخمر ناصية عقولهم، فلا يقدرون على جمع شتات أفكارهم، فنظر أحد الرجال إلى كأسَي الرجلَين اللذَين لم يقرباهما، وقال بلسان ثقيل: لماذا لا تشربان، سقاكما الرب أطيب خمر الجنان؟

فقال لاتو: قليلًا ما نشرب، وإذا ما شربنا فعلى مهل.

فقال طونا: نِعمَ ما تفعلان، فما جدوى الفرار من حياة سعيدة؟ أما أنا فشقائي بمهنتي جلل، وشقائي بأسرتي وأولادي أجلُّ، وشقائي بنفسي أفدح، ومُناي ألا أرفع القدح عن شفتَي.

فصفَّقَ ثمِلٌ مسرورًا بقول طونا، وقال وهو يهزُّ رأسه طربًا: هذه الحانة مهجر البائسين، مهجر مَن يُقدِّمون موائد الطعام الشهية وهم جياع، ومَن ينسجون فاخر اللباس وهم عراة، ومَن يهرِّجون في أفراح السادة وهم جرحى قلوب، صرعى نفوس.

فقال رجل غير هذين: اسمعا يا رجلَي النوبة، لن تطيب الحياة لشارب حتى تخذله ساقاه، فيهوي فاقد الوعي، ولأضرب لكما مثلًا بنفسي، فما من ليلة أعود إلى كوخي إلا محمولًا.

وانتفض إسفينيس، وأدرك أنه بين جماعة من مبتئسي البشر، وسألهم: هل أنتم صيادون؟

فقال طونا: جُلُّنا صيادون.

وهزَّ صاحب الحانة كتفَيه استهانةً، وقال دون أن يحول رأسه عن عمله: أما أنا فخمَّار يا سيدي.

فقهقه طونا، ثم أشار بأصبع غليظة إلى رجل قصير القامة، نحيف القد، دقيق الأطراف، واسع العينَين براقهما، ثم قال: وإن أردتَ التدقيق فهذا الرجل لص!

فنظر إسفينيس إلى الرجل بغرابة، فارتبك، وأراد أن يطمئنه فقال: لا يساورك القلق يا سيدي، فأنا لا أسرق في هذا الحي جميعه.

وعلَّق طونا على قول الرجل بقوله: يعني أنَّه لما كان لا يوجد في حيِّنا ما يستحق مشقة السرقة، فهو يعاشرنا كأحدنا، ويمارس فنه في أطراف طيبة، حيث المال موفور، والسعادة وارفة الظلال.

وكان اللص نفسه ثملًا، فقال بلهجة الاعتذار: لستُ لصًّا يا سيدي، ولكنني سائح يضرب الأرض ويشرِّق ويغرِّب كما تسوقه قدماه، فإذا عثرتُ في سبيلي بأوزَّة ضالة أو دجاجة تائهة، هديتُها إلى مأوى، وهو كوخي في الغالب.

– وهل تأكلها؟

– معاذ الرب يا سيدي، إنَّ الطعام الحسن يسمِّم بطني، ولكني أبيعها لمَن يشتري.

– ألا تخشى الخفراء؟

– أخشاهم أكبر خشية يا سيدي، لأنه غير مسموح بالسرقة في هذا البلد لغير الأغنياء والحكام.

فأمَّن طونا على قول اللص قائلًا: القاعدة المتبعة في مصر أن يسرق الأغنياء الفقراء، ولكن لا يجوز أن يسرق الفقراء الأغنياء.

وكان يتكلم وعيناه تحدقان في القدحَين المترعَين بنهم وجشع، فغيَّر مجرى الحديث وقال باستياء: لماذا تتركان قدحيكما فتنةً للشاربين؟

فابتسم إسفينيس وقال مسترسلًا: هما لك يا طونا.

فتحلَّب ريقه وقبض على القدحَين بيدَيه الغليظتَين، مرسلًا لمَن حوله نظرات وعيد، ثم أفرغهما في جوفه قدحًا إثر قدح، وتنهَّد بارتياح، وأدرك إسفينيس معنى الوعيد الذي يهدِّد به، فطلب للقريبَين منه جعة ونبيذًا مما يشتهون، فشرب الجميع وضجوا فرحين، وانطلقوا في الأحاديث والغناء والضحك، وكان الشقاء والفقر يرتسمان على وجوههم جميعًا، ولكنهم بدوا في تلك الساعة سعداء ضاحكين لا يحسبون حسابًا للغد، واندمج إسفينيس في جوِّهم جذلًا مسرورًا، تعتاده الكآبة بين الحين والحين، وقضى بينهم زمنًا ليس بالقصير، حتى دخل الحانة رجل تدل هيئته على أنَّه منهم، فحيَّاهم بإيماءة وطلب قدحًا من الجعة، ثم قال لمَن حوله بلهجة لا تدل على شيء: قبضوا على السيدة إبانا وساقوها إلى المحكمة.

ولم يُعره الأكثرون التفاتًا لما أذهل الشراب من عقولهم، وسأله آخَرون: ولِمَه؟

– يُقال إن ضابطًا كبيرًا من الرعاة اعترض سبيلها على شاطئ النيل، ورغب في أن يضمها إلى نسائه، فقاومته ودفعته عنها.

فزمجر الكثيرون، وسأله إسفينيس: وما عسى أن تصنع بها المحكمة؟

فحدجه الرجل بنظرة إنكار، وقال: ستحكم عليها بدفع غرامة لا قِبل لها بها حتى تعجزها، فتأمر بجلدها بالسياط، والزج بها في السجن.

فتجهَّم وجه إسفينيس وامتقع، وقال للرجل: هل لك أن تدلنا على طريق المحكمة؟

فقال له طونا بتلعثم: الشراب أولى بذهنك، لأن مَن يدفع عن هذه المرأة يغضب الضابط الكبير، ويعرِّض نفسه لعاقبة غير مأمونة.

وسأله الرجل الذي أذاع الخبر: هل أنت غريب يا سيدي؟

فقال إسفينيس: نعم، وأرغب في حضور هذه المحاكمة.

– أكون دليلك إلى المحكمة إذا شئت.

وفي أثناء مفارقتهم للحانة مال لاتو على أذنه، وقال هامسًا: إياك والتورط في أمر يفسد علينا مهمتنا الخطيرة.

فلم يجب إسفينيس، واقتفى من فوره أثر الرجل.

٦

كانت المحكمة مكتظة بذوي الحاجات وأصحاب القضايا والشهود، وامتلأت مقاعد القاعة بالحاضرين من جميع الطبقات، وفي الصدر جلس القضاة ذوو اللحى المرسلة والوجوه البيض، وقد تدلَّى على صدر رئيسهم تمثال صغير لربة العدالة ثمي، فاتخذ الرفيقان مقعدَين متقاربَين، وقال لاتو لإسفينيس همسًا: إنَّهم يقلِّدون أنظمتنا في ظاهرها.

وتفرسا في الوجوه، فأدركا أنَّ أغلب الحاضرين من الهكسوس، وكان القضاة يستدعون المتهمين ويستجوبونهم على عجل، ويصدرون الأحكام بسرعة وبلا رحمة، وأصوات الشكوى والعويل تتصاعد من العراة ذوي الأجسام النحاسية والوجوه السمر، وجاء دور السيدة المنشودة، فنادى المنادي قائلًا: السيدة إبانا.

وتطلَّع الرجلان في لهفة، فرأيا سيدة تقترب من المنصة في خطى متزنة، يدل مظهرها على الوقار والحزن، وتتجلى قسماتها عن حسن بالرغم من بلوغها الأربعين، وتبعها رجل من الهكسوس يرتدي لباسًا فخمًا، فانحنى للقاضي باحترام وقال: سيدي القاضي الجليل، أنا وكيل القائد رخ — الذي اعتدت عليه هذه المرأة — وأُدعَى خم، وسأنوب عن عظمته أمام القضاء.

فهزَّ القاضي رأسه موافقًا، مما أثار دهشة لاتو وإسفينيس، ثم قال: بماذا يتهم مولاك هذه المرأة؟

فقال الرجل بإنكار وامتعاض: يقول مولاي إنَّه التقى بهذه المرأة صباح اليوم، فرغب في أن يضمها إلى جواريه، فقابلت صنيعه بالإنكار والجحود، ودفعته بوقاحة عدَّها اعتداء على شرفه العسكري.

فأثار حديث الرجل ضجة بين الحاضرين واستياء، وتقاربت الرءوس في همس واستنكار. وأشار القاضي للقوم بصولجانه، فسادَ السكون، ثم وجَّهَ سؤاله إلى المرأة قائلًا: ما قولك يا امرأة؟

وكانت المرأة محافظة على هدوئها، كأنَّ اليأس من الإنصاف أكسبها أمانًا من الخوف، فقالت بهدوء: إنَّ قول هذا الرجل لا ينطبق على الحقيقة!

فغضب القاضي، وقال منتهرًا إيَّاها: حاذري أن تقولي قولًا ينال من مقام المشتكي العظيم فتضاعف جريمتك، قُصِّي ودعي الحكم لنا.

فاحمر وجه المرأة ارتباكًا، وقالت وهي ما تزال تحافظ على هدوئها: كنت أسير في طريقي إلى حي الصيادين، فإذا عربة تعترض سبيلي وينزل منها ضابط فيدعوني إلى الركوب دون إمهال ولا سابق معرفة، فارتعت وأردت أن أتحاماه، ولكنه أمسك بيدي وقال لي إنَّه يشرفني بضمي إلى نسائه فقلت له إنِّي أرفض ما يعرضه عليَّ، ولكنه سخر منِّي، وقال لي إنَّ رفض المرأة الظاهري عين القبول.

وأشار إليها القاضي إشارة أسكتتها، وكأنَّما ساءه أن تأتي على تفاصيل تحرج مقام الضابط، فسألها: أجيبي هل اعتديتِ عليه؟

– كلَّا يا سيدي، لقد أصررتُ على رفضي، وحاولت التملُّص من يده، ولكني لم أعتدِ عليه لا بيدي ولا بلساني، ويشهد على قولي هذا جمع غفير من أهل الحي.

– أتعنين الصيادين؟

– نعم يا سيدي.

– هؤلاء لا تُقبَل شهادتهم في هذا المكان المقدس.

فسكتت المرأة، ولاحت في عينَيها نظرة حيرة وارتباك، فسألها القاضي: أليس لديكِ ما تقولينه غير ذلك؟

– كلَّا يا سيدي، وأقسم أنِّي ما آذيتُه بقول أو فعل!

– إنَّ المدعي عليك شخص كبير، وقائد من قواد الحرس الفرعوني، وقوله حق حتى تقيمي الدليل على نقضه.

– وكيف لي بنقضه، وقد رفضت المحكمة الإصغاء إلى شهودي؟

فقال القاضي بغضب: إنَّ الصيادين لا يدخلون هذا المكان، إلا إذا سيقوا إليه متهمين!

وأعرض الرجل عنها، وعدل إلى رفاقه القضاة وتبادل معهم الرأي حينًا، ثم اعتدل في جلسته وقال موجِّهًا كلامه إلى السيدة إبانا: أيَّتُها المرأة، لقد أراد بك القائد خيرًا فجازيتِه أسوأ الجزاء، والمحكمة تخيِّرك بين دفع خمسين قطعة من الذهب، أو السجن ثلاثة أعوام والجلد!

وأصغى الحاضرون إلى الحكم فبدا الرضى على الوجوه جميعًا، إلا واحدًا صاح بصوت ثائر كأنما أفلت منه الزمام: سيدي القاضي .. هذه السيدة مظلومة بريئة .. فأطلق سراحها .. اعفُ عنها إنَّها مظلومة!

ولكن القاضي استولى عليه الغضب، وحدج الصارخ بنظرة أسكتته، وتوجهت إليه الأنظار من كل صوب فعرفه إسفينيس، وقال لصاحبه دهشًا: إنه الشاب الذي أغضبه حديثنا معه، واتهمنا بأننا عبيد الرعاة!

وكان إسفينيس مغضبًا متألمًا، فاستدرك يقول: لن أدع هذا القاضي الأحمق يزج بهذه السيدة في السجن.

فقال لاتو بقلق: إنَّ مهمتنا أكبر من نصرة امرأة مظلومة، فاحذر أن ينقلب علينا عملك .. ولكنَّه لم يُصغِ إلى صاحبه، وتريَّث حتى سمع القاضي يسأل المرأة قائلًا: هل تدفعين ما يُطلَب إليكِ دفعه؟

فقام واقفًا، وقال بصوت جميل عذب النبرات: نعم يا سيدي القاضي!

وانعطفت نحوه الرءوس تتفحص الكريم الجسور الذي تقدَّم لإنقاذ المرأة في آخِر لحظة، ونظرت إليه المرأة في ذهول، وكذلك الشاب الذي دافع عنها بالبكاء والاستعطاف، أما وكيل القائد فصوَّب نحوه نظرة نارية برق فيها الوعيد، ولكن الشاب لم يبالِ أحدًا وسار نحو منصة القضاة بقامته الطويلة الرشيقة، ومحيَّاه الجميل الفاتن، وأدَّى الغرم المطلوب إلى المحكمة.

وتفكَّر القاضي مرتبكًا، وهو يسائل نفسه من أين لهذا الفلاح بالذهب؟ ومن أين له هذه الشجاعة؟ .. ولم يجد بدًّا مما ليس منه بد، فأقبل على المرأة قائلًا: يا امرأة .. اذهبي طليقة .. وليكن لكِ مما كدتِ تتردين فيه موعظةً ودرسًا.

٧

وغادروا المحكمة جميعًا، لاتو وإسفينيس والسيدة إبانا والشاب الغريب، وفي الطريق نظرت المرأة إلى إسفينيس، وقالت بصوت لا يكاد يسمع: سيدي، لقد أنقذتني مروءتك من ظلمات السجون، فملكتَ عنقي بجميل صنيعك، وحمَّلتني دينًا لا أستطيع الوفاء به.

وخطف الشاب الغريب يده فقبَّلها وعيناه مغرورقتان بالدموع، وقال بصوت متهدج: فليعفُ الرب عما سلف من سوء ظني، وليجزِكَ أجمل الجزاء على ما أولَيْتَنا بإنقاذك أمي من غيابات السجن وآلام الجلد.

فغلب التأثُّر إسفينيس وقال برقة: لا عليكما من هذا، لقد ابتليت أيتها السيدة بظلم قبيح، والظلم وإن وقع على نفس بعينها يسيء إلى النفوس العادلة جميعًا، وما فعلتُ إلا أن غضبتُ فنفَّستُ عن غضبي، فلا دَيْن هناك ولا وفاء!

ولم يقنع هذا القول السيدة إبانا، فظلت على تأثرها تتعثر في ارتباكها وتقول: يا له من عمل نبيل .. يا له من عمل يجلُّ عن الوصف ويعلو على المديح.

وأما ابنها فكان لا يقل عنها تأثرًا، ورأى إسفينيس ينظر إليه فقال كالمعتذر: ظننتُ حين التقينا أنَّكما من صنائع الرعاة، لما يبدو عليكما من مظاهر الثراء، فإذا بكما مصريان كريمان لا أدري من أين جئتما، وقد أقسمت ألا أفارقكما حتى تتفضَّلا بزورة كوخنا الصغير، لنشرب معًا قدحًا من الجعة احتفالًا بتشرفنا بمعرفتكما، فماذا تقولان؟

وراقت الدعوة إسفينيس الذي كان يرغب في الاختلاط ببني جلدته، وكانت شهامة الشاب وجماله يجذبانه إليه، فقال: إننا نقبل هذه الدعوة ببالغ السرور.

وابتهج الشاب كما ابتهجت أمه، ولكنها قالت: أرجو المعذرة لأنَّكما لن تجدا كوخنا يليق بمقامكما الرفيع.

فقال لاتو بلباقة: إنَّ في صاحبَي الكوخ غِنًى عن كل شيء، ومع هذا فنحن تجار متعودون شظف العيش ووعثاء الطريق.

ثم ساروا جميعًا يشملهم شعور واحد بالمودة، كأنَّهم أصدقاء من عهد قديم، وفي أثناء الطريق قال إسفينيس لابن إبانا: كيف ندعوك يا صاحبي؟ أما أنا فإسفينيس، وأما صاحبي فيُدعى لاتو.

فحنى الشاب رأسه إكرامًا، مبتسمًا وقال: ادعوني أحمس.

فخُيِّل إلى إسفينيس كأن أحدًا يناديه، ونظر إلى الشاب نظرة غريبة!

وبلغوا الكوخ بعد مسير نصف ساعة، وكان ساذجًا كأكواخ الصيادين، يتكوَّن من ردهة خارجية وحجرتين صغيرتين متداخلتين، ولكنه كان على سذاجة أثاثه وفقره الواضح نظيفًا حسن الترتيب، فجلس أحمس وضيفاه في الردهة، وفتحا الباب على مصراعَيه ليخلص لهم نسيم النيل ومنظره؛ على حين ذهبت إبانا لتُعِدَّ الشراب، ولبثوا هنيهة صامتين يتبادلون النظرات، ثم قال أحمس بعد تردُّد: إنَّه من العجب أن يجد الإنسان مصريين في مثل مظهركما الوجيه، فكيف ترككما الرعاة تثريان ولستما من صنائعهم؟

فقال إسفينيس: نحن من مصريي النوبة، ودخلنا طيبة اليوم.

فصفق الشاب بيدَيه دهشةً وسرورًا، وقال: النوبة .. لقد فرَّ إليها كثيرون في أثناء غزو الرعاة لبلادنا، فهل أنتما من المهاجرين؟

وكان لاتو بطبعه شديد الحذر، فقال بسرعة قبل أن يجيب إسفينيس: بل نحن من الذين هاجروا قبل ذلك للتجارة!

– وكيف استطعتما الدخول إلى مصر، وقد أغلق الرعاة الحدود؟

فأدرك الرجلان أنَّ أحمس على حداثة سنه يعرف أشياء كثيرة، وكان إسفينيس يشعر نحوه بمودة واطمئنان، فقصَّ عليه قصة دخولهما مصر، وفي أثناء حديثه عادت إبانا تحمل أقداح الجعة، وسمكًا مشويًّا، فوضعت الشراب والطعام أمامهم، وجلست تصغي إلى قصة إسفينيس حتى ختمها بقوله: «إنَّ الذهب يذهل القوم عن نفوسهم ويخلب ألبابهم، وسوف نمضي إلى حاكم الجنوب ونعرض عليه نفائس ما نحمل، وأملنا أن يوافق أو ينال لنا الموافقة على تبادل التجارة بين مصر والنوبة، لنعود إلى سابق عملنا وتجارتنا» .. فقدمت لهما أقداح الجعة والسمك، وقالت: إذا وُفِّقتما إلى غرضكما فستقومان بأعباء عملكما منفردين، فلا الرعاة يرضون بالعمل في التجارة، ولا المصريون في حالتهم الراهنة من الفقر والبؤس بقادرين على المشاركة فيها!

وكان لدى التاجرَين ما يقولان في ذلك، ولكنهما آثرا السكوت عليه، وأقبلا على السمك يأكلان وعلى الجعة ينهلان، وأثنيا على السيدة أجمل الثناء، وأطريا مائدتها الساذجة، فتورَّد وجهها، ولهج لسانها بشكر الشاب على جميل صنيعه، وبلغ منها التأثر مبلغًا عظيمًا فقالت: لقد مددتَ إليَّ يدك الكريمة في الوقت المناسب، وكم من مصريين بائسين تطحنهم رحى الظلم في الصباح والمساء دون أن يظفروا بمعين!

وبدا أحمس سريع التأثر، فما كاد يسمع أمه تقول هذا القول حتى تضرَّج وجهه باحمرار الغضب، وقال بحدة: المصريون عبيد، يُلقى إليهم بالفتات ويُضربون بالسياط، أما الملك والوزراء والقواد والقضاة والموظفون والملاك جميعًا فمن الرعاة، السلطان اليوم للبيض ذوي اللحى القذرة، والمصريون عبيد في الأراضي التي كانوا بالأمس أصحابها!

وكان إسفينيس يرمق أحمس في أثناء تدفُّقه بالكلام بعينَين يلوح فيهما الإعجاب والعطف، على حين ظلَّ لاتو خافضًا عينَيه ليخفي تأثره، وسأله إسفينيس: وهل يوجد كثيرون يغضبون لهذه المظالم؟

– نعم، ولكنَّنا جميعًا نكظم الغضب ونحتمل الإساءة، شأن الضعيف الذي لا حيلة له، وإنِّي لأتساءل أما لهذا الليل من آخَر؟ فقد انقضت عشرة أعوام منذ رضي الرب الغاضب علينا أن يسقط التاج عن رأس مليكنا سيكننرع.

وخفق قلب الرجلان خفقة عنيفة، وامتقع إسفينيس، ونظر لاتو إلى الشاب دهشًا ثم سأله: كيف تعرف هذا التاريخ على حداثة سنك؟

– تحفظ ذاكرتي صورةً قليلة قائمة، ولكنها واضحة لا تزول، لأيام الشقاء الأولى، ولكني أدين لأمي بمعرفة تاريخ قصة طيبة الأسيفة التي لا تفتأ تردِّدها على مسمعي!

فنظر لاتو إلى إبانا نظرة غريبة اضطربت لها المرأة، فأراد أن يسرِّي عنها فقال لها: أنتِ سيدة فاضلة وابنكِ شاب نبيل!

وقال لاتو لنفسه إنَّ السيدة ما تزال تحاذر بالرغم من كل شيء، وكان في نيته أن يسأل عن بعض أمور تهمه، فعدل عن هذا إلى المستقبل، وغيَّر الشيخ مجرى الحديث بلباقة وصرفه إلى وجوه تافهة، فأعاد الطمأنينة إلى النفوس، وشملهم الصفاء وتبادلوا جميعًا شعور المودة الخالصة، وحين همَّ التاجران بمبارحة الدار قال أحمس لإسفينيس: متى تذهب يا سيدي إلى حاكم الجنوب؟

فقال إسفينيس وهو يعجب للسؤال: ربما ذهبت غدًا.

– لي رجاء.

– ما هو؟

– أن أصحبك إلى ضيعته.

فسُرَّ إسفينيس لذلك، وقال للشاب: أتعرف الطريق إليها؟

– حق المعرفة.

وحاولت إبانا الاعتراض على ابنها، ولكنه أسكتها بإشارة عصبية من يده، فابتسم إسفينيس وقال: إذا لم يكن عندك مانع، فستكون الدليل إليها.

٨

وانقضى النصف الأول من اليوم الثاني في الإعداد لزورة الحاكم، وكان إسفينيس يقدِّر قيمة هذه الزورة حقَّ قدرها، ويعلم أنَّ حياة آماله جميعًا رهينة ببعض عواقبها، وكذلك آمال مَن خلَّفهم وراءه في نباتا يعترك في نفوسهم الكبيرة اليأس والأمل، فشحن سفينته بصناديق التحف واللآلئ، وأقفاص الحيوان الغريب والقزم زولو، وعدد كبير من العبيد، وقبيل الأصيل وافاهما أحمس، فحيَّاهما بفرح وقال: أنا منذ الساعة من عبيدكما!

فتأبَّط إسفينيس ذراعه، ومضوا ثلاثتهم إلى المقصورة، ثم أبحرت السفينة صوب الشمال في جوٍّ رائق وريح مؤاتية، وقد صمت مَن في المقصورة، واستغرق كلٌّ منهم في تأملاته، مرسلًا بناظرَيه إلى شاطئ طيبة، وعبَرَت السفينة أحياء الفقراء، وأقبلت على القصور الشم الغارقة بين أدواح النخيل وأشجار الجميز، تهفو عليها الأطيار من كل نوع ولون، وتفصل بينها وتترامى وراءها الحقول ذات الخضرة، تشقها الجداول الفضية والوديان والنخيل والكروم، وترعاها الثيران والبقر، ويعكف عليها الفلاحون العراة الصابرون، وعلى الشاطئ أقيمت المنازف تغرف من النيل على أنغام الأناشيد الرقيقة، وكانت النسائم تعابث الأشجار حاملة في حناياها هسيس النبات وزقزقة العصافير وخوار الثيران، وشذا الأزهار والرياحين، فأحسَّ إسفينيس أن أنامل الذكريات تداعب جبينه المحترق، وذكر أيام الربيع حين كان يخرج إلى الحقول محمولًا على هودجه الملكي، يسير بين يدَيه العبيد والحرس والفلاحون يُحيُّونه فرحين بطفولته الطاهرة، ناثرين الورد في طريقه السعيد.

وأيقظه صوت أحمس وهو يقول: هذا هو ذا قصر الحاكم.

فتنهَّد إسفينيس ونظر إلى حيث يشير الشاب، ونظر معهما لاتو وقد لاحت في عينَي الشيخ نظرة دهشة وإنكار.

وعرجت السفينة نحو القصر وقد سكنت مجاديفها، فاعترض سبيلها زورق حربي غاصٌّ بالجنود، وصاح بهم ضابط في عنف وعجرفة: ابتعد بسفينتك القذرة أيها الفلاح.

فقفز إسفينيس من المقصورة، ودنا من حائط السفينة وحيَّا الضابط باحترام وقال: معي رسالة خاصة إلى صاحب العظمة حاكم الجنوب.

فحدجه الضابط بنظرة حادة وحشية، وقال: أعطِنيها وانتظر.

فأخرج الشاب الكتاب من جيب عباءته وأعطاه للضابط، وتفحصه هذا بأناة، ثم أمر رجاله فوجهوا الزورق نحو درج الحديقة، ونادى حارسًا فناوله الرسالة، فأخذها الحارس ومضى ناحية القصر، وغاب زمنًا يسيرًا وعاد مسرعًا إلى الضابط وأسرَّ إليه كلمات، فأشار الضابط إلى إسفينيس أن يدنو بسفينته، فأمرَ الشاب ملَّاحيه بالجدف حتى رسَتِ السفينة في مرفأ القصر، وقال له الضابط: إنَّ صاحب العظمة ينتظرك، فاحمل إليه بضاعتك!

وأصدر الشاب أمره إلى النوبيين، فحملوا الصناديق وبينهم أحمس، ورفع آخَرون أقفاص الحيوان وهودج زولو. وقال لاتو للشاب وهو يودعه: فليكتب الرب لك التوفيق.

ولحق إسفينيس بالقافلة، يقطعون جميعًا أرض الحديقة المعشوشبة في سكون شامل.

٩

مضى التاجر لمقابلة الحاكم، فقاده خادم إلى بهو الاستقبال، وتبعه عبيده بأثقالهم، ووجد الشاب نفسه في بهو فائق الترف عظيم الأناقة، يتجلَّى الفن في أرضه وحوائطه وسقفه، وفي الصدر منه جلس الحاكم على متكأ وثير، في جلباب فضفاض كأنه كتلة من بنيان متين. وكانت ملامح وجهه الكبير قوية واضحة، أما نظرة عينَيه الحادتَين فتدلُّ على الشجاعة والبسالة والصفاء، فأشار إسفينيس إلى رجاله فوضعوا الصناديق والأقفاص أمامهم، واقترب من وسط البهو خطوات، ثم انحنى إجلالًا للحاكم وقال: حيَّاك الرب المعبود ست أيها الحاكم الأجل.

فألقى عليه الحاكم نظرة من نظراته القوية النافذة، فراقه منظره النبيل وطوله الفارع، وبدا على وجهه الارتياح لرؤيته، وسأله: أقادم أنت حقًّا من بلاد النوبة؟

– نعم يا مولاي.

– وماذا تبغي من وراء رحلتك هذه؟

– أطمعُ أن أهدي إلى سادة مصر تحفًا مما يوجد في بلاد النوبة، آمِلًا أن تروقهم فيطلبوا المزيد منها.

– وماذا تطلب أنت لقاء ذلك؟

– بعض ما يفيض عن حاجة مصر من الغلال.

فهزَّ الحاكم رأسه الكبير، وقد لاحت في عينَيه نظرة ساخرة، وقال بصراحة: أراك حديث السن ولكنَّك جسور مغامر، ومن حُسن طالعك أنِّي أحب المغامرين .. والآن أرني ما تحمل من التحف!

– ودعا إسفينيس أحمس فاقترب الشاب من الحاكم ووضع عند موضع قدمَيه صندوقه، وفتحه التاجر فبدا ما بداخله من الياقوت صِيغَ حليًّا مختلفة أشكالها، فتفحَّصها الحاكم بعينَين لاح فيهما الجشع والطمع والإعجاب، ومضى يقلِّبها بين يدَيه، ثم سأل الشاب قائلًا: هل يوجد من هذه الحلي كثير في النوبة؟

فأجاب إسفينيس بلباقة، وكان أعدَّ الجواب من قبل أن يدخل مصر: إنَّه لمن أعجب الأمور يا مولاي أن توجد هذه الأحجار الكريمة في أقاصي أدغال النوبة، حيث تأوي الوحوش الضارية وتنتشر الأوبئة الفتاكة!

ثم عرض على الحاكم صندوقًا من الزمرد، وثانيًا من المرجان، وثالثًا من الذهب، ورابعًا من اللؤلؤ، وتفحصها الرجل على مهل مبهورًا حتى بدا في النهاية كالثمل النشوان، وعرض عليه بعد ذلك أقفاص الغزلان والزرائف والقرود وهو يقول: ما أجمل هذا الحيوان في حديقة القصر.

فابتسم الحاكم وهو يقول لنفسه: «يا له من شاب كالشيطان لا يقاوم!» وبلغت دهشة الحاكم نهايتها حين رفع الستار عن الهودج، وبدا زولو بخلقه الغريب، فلم يتمالك الحاكم أن قام واقفًا، ودنا من الهودج ودار حوله وهو يتساءل: يا للعجب .. أحيوان هو أم إنسان؟

فقال إسفينيس مبتسمًا: بل إنسان يا مولاي من شعب جم العدد.

– هذا أعجب ما رأيت وما سمعت!

ونادى الرجل عبدًا وقال له: ادعُ الأميرة أمنريدس وزوجي وأخي.

١٠

وجاء الذين دعاهم الحاكم، ورأى إسفينيس أن يخفض بصره تأدبًا، ولكنه سمع صوتًا رخيمًا زلزلت له نفسه زلزالًا شديدًا يقول: لماذا أزعجتَ مجلسنا أيها الحاكم؟

فاختلس نظرة إلى الداخلين، فرأى في مقدمتهم الأميرة التي زارت بالأمس قافلته وانتقت القلب الزمردي، وكان منظرها كما عهده يغشى العيون، ويفعل بها ما يفعله الوهج الشديد، فأيقن الشاب أنَّ الحاكم خنزر وزوجه من الأسرة الفرعونية لا محالة، على أنَّه رأى وجهًا آخر ليس بالجديد عليه، وهو وجه الرجل الذي تبع الأميرة وزوج الحاكم، فقد كان القاضي الذي حكم على إبانا بالأمس، وقد وضح له ما بينه وبين الحاكم من شبه قريب وما من شك في أن الأميرة والقاضي عرفاه كذلك، لأنهما ألقيا عليه نظرة ذات معنى، وكان الحاكم يجهل ما يحدث حوله من التعارف الصامت، فانحنى للأميرة وقال: تعالي يا صاحبة السمو انظري إلى أنفَس ما حوَت بطون الأرض وأغرب ما حمل سطحها، ودار على الصناديق المحملة بالأحجار الكريمة وأقفاص الحيوان وهودج زولو، فأقبلوا عليها في شغف ودهشة وإعجاب، ونال القزم قسطه من الإنكار والغرابة، وكان زوج الحاكم أكبرهم دهشةً وإعجابًا، وكانت مغرمة بالجواهر غرامًا يُضرب به المثل، فأقبلت على صناديق العاج أيَّما إقبال، أما القاضي فتحوَّل إلى إسفينيس وقال له: كنت بالأمس أسائل نفسي عن مصدر ثروتك، وقد عرفتُ اليوم كلَّ شيء.

فقلَّب الحاكم وجهه فيهما، وقال لشقيقه: ماذا تعني أيها القاضي سنموت؟ .. هل عرفتَ هذا الشاب قبل الآن؟

– نعم يا سيدي الحاكم، رأيته بالأمس في المحكمة، والظاهر أنَّه عظيم الاعتداد بنفسه وبثروته، فقد تبرَّع بخمسين قطعة من الذهب لينقذ فلاحة متهمة بإهانة القائد رخ من السجن والجلد، فترى يا سيدي أنَّ القائد أصيب في يوم واحد بفلَّاحة تتطاول عليه وبفلَّاح يتحدى غضبه.

فضحكت الأميرة أمنريدس ضحكة رقيقة ساخرة، وقالت وهي تلقي نظرة على وجه الشاب: وما وجه العجب في ذلك أيها القاضي سنموت؟ .. أليس من الطبيعي أن يشمِّر فلاح للدفاع عن فلاحة؟

– الحق يا مولاتي أنَّ الفلاحين لا يقوون على شيء، ولكنه الذهب وسحره، وقد صدق مَن قال إنَّك إذا رغبت في أن تنتفع بالفلاح فأفقِره ثم اضربه بالسوط.

أما الحاكم فكان بطبعه عظيم الإعجاب بأعمال الجسارة والبسالة، فقال: إنَّ التاجر شاب جسور، وما اقتحامه حدود بلادنا إلا آية من آي شجاعته، مرحى .. مرحى .. ليته كان رجل قتال لأقاتله، فقد صدئ سيفي من طول انزوائه في غمده.

فقالت الأميرة أمنريدس بلهجتها الساخرة: كيف لا تأخذك به الرحمة أيها القاضي سنموت وهو يدينني؟

– أتقولين يدينك يا صاحبة السمو؟ .. يا لها من كلمة!

وضحكت من دهشة الحاكم، وقصَّت عليه كيف رأت القافلة، وكيف جذبها زولو إلى السفينة حيث انتقت العقد الجميل، وكانت تروي قصتها بلهجة دلَّت على ما تتمتع به من حرية وجسارة، وميل إلى السخرية والفكاهة، فزالت دهشة الحاكم خنزر، وقال لها مداعبًا: لماذا اخترتِ قلبًا أخضر يا صاحبة السمو؟ .. فإنَّا نعلم معنى القلب الأبيض والقلب الأسود، ولكن ما معنى القلب الأخضر؟

فقالت الأميرة ضاحكة: وجِّه سؤالك إلى بائع القلب؟

وكان إسفينيس صامتًا منصتًا تعلوه الكآبة؛ فقال: القلب الأخضر يا صاحبة العظمة رمز الخصب والحنان!

فقالت الأميرة: ما أشد حاجتي إلى هذا القلب، لأني أحس أحيانًا أني قاسية حتى ليلذَّ لي أن أقسو على نفسي.

وكان القاضي سنموت يطيل النظر في تلك الأثناء إلى زولو، وحاول أن يحوِّل انتباه زوج شقيقه إليه، ولكنَّها أبت أن تتحول عن صناديق الأحجار الكريمة، فقال القاضي وقد تأفَّف من منظر القزم: يا له من مخلوق قبيح.

فقال إسفينيس: إنَّه من شعب من الأقزام، لا تروقهم صورتنا، ويعتقدون أنَّ الخالق شوَّه ملامحها وقبح أطرافها!

فضحك الحاكم خنزر ضحكة عظيمة، وقال: إنَّ قولك هذا أعجب من زولو نفسه، ومن كلِّ ما تحمل من غريب الحيوان والنفائس.

وقال سنموت وهو يحدج إسفينيس بنظرة ارتياب: أرى هذا الشاب يدع أفكارنا تضطرب بأخيلته، فمن المؤكد أنَّ أولئك الأقزام لا يمكن أن يدركوا معنى للحسن أو القبيح!

ورنت الأميرة أمنريدس إلى القزم كالمعتذرة، وقالت: هل تستقبح النظر إلى وجهي يا زولو؟

فعاد خنزر إلى قهقهته، واختلج قلب إسفينيس لما رآه من روعة حسنها وفتنة دلالها، وقد تمنى في تلك اللحظة أن يديم إليها النظر، وسادَ الصمت بعد ذلك، فأدرك الشاب أنَّه قد آنَ وقت الانصراف وخشي أن يصرفه الحاكم دون أن يطرق الموضوع الذي يهمه، فقال للحاكم: هل من الممكن أيها الحاكم الجليل أن أطمع في تحقيق آمالي في ظلِّ رعايتك الكريمة؟

ففكَّر الحاكم وعبثت يده بلحيته الغزيرة السوداء، ثم قال: لقد ملَّ قومنا الحرب والغزو ومالوا إلى الترف والنعيم، وإنَّهم ليترفَّعون بطبعهم عن التجارة، فلا سبيل إلى هذه الدرر الثمينة إلا بالمغامرين من أمثالك، ولكني لا أحب أن أعطيك كلمتي الآن، فينبغي أن أحدِّث قبل ذلك مولاي الملك، وسأرفع إلى ذاته العليا أجمل هذه النفائس عسى أن يوافقني على رأيي.

فانشرح صدر إسفينيس وقال: سيدي الحاكم، إنِّي أحتفظ لمولانا فرعون بهدية نفيسة صُنعت خاصةً لذاته العليا.

فتفرَّس الحاكم في وجهه مليًّا، وخطرت له فكرة يتقرب بها إلى مولاه فقال: في ختام هذا الشهر يحتفل فرعون بعيد النصر كعادته منذ عشرة أعوام، ومن الممكن أن أجعل منك ومن أقزامك مفاجأة سارة للمليك، فتُقدِّم إليه هديتك التي لا شك أنَّها لائقة بالمقام الأعلى .. فأخبِرني عن اسمك ومقامك.

– أُدعَى يا مولاي إسفينيس، وأقيم حيث ترسو قافلتي على شاطئ حي الصيادين جنوب طيبة.

– سيأتي رسولي في يوم قريب.

وانحنى الشاب في إجلال عظيم، وبرح المكان يتبعه عبيده، وكانت الأميرة تنظر في وجهه وهو يحدِّث الحاكم عن آماله، ويُصغي إليه، وتبعته بنظرها وهو يبرح المكان، فعجبت لآي النبل والحسن البادية على وجهه وقامته، وأسفت أن يكون حظه من الدنيا التجارة وحمل الأقزام. أواه .. كم تمنَّتْ أن تجد هذه القامة في جسم واحد من قومها الميالين إلى البدانة والقصر، ولكنها وجدتها في جسم مصري أسمر يتَّجِر في الأقزام .. وأحسَّت أنَّ صورة هذا الفتى الجميل تحرِّك عاطفة في نفسها .. فبدت كالغاضبة، وولَّت الحاكم وآلَهُ ظهرها وفارقت البهو.

١١

وعاد إسفينيس والعبيد في أثر مرشدهم إلى الحديقة، فتنسَّم نسمة من ريح طيبة هدَّأت من وجدانه الثائر، وتنفَّس تنفسة عميقة امتلأ بها صدره، وكان يُعِدُّ نتيجة رحلته هذه توفيقًا عظيمًا، ولكنَّه كان يفكِّر في الأميرة أمنريدس ويتمثَّل وجهها النوراني وشعرها الذهبي وشفتَيها القرمزيتَين، والقلب الزمردي المدلى على صدرها الناهد .. ربَّاه! .. ينبغي أن يتعامى عن المطالبة بثمنه ليظلَّ قلبه وقلبها معًا .. وقال لنفسه: إنها ربيبة النعيم والحب، تظن على غير شك أن الدنيا ما فيها رهن إشارة من إصبعها، وجسورًا ضحوكًا: ولكنه ضحك مترف لا يخلو من القسوة، تضاحك الحاكم وتهزأ بتاجر غريب ولمَّا تبلغ الثامنة عشرة، ولو رأيتها غدًا على متن جواد تريش سهمًا ما حق لي العجب!

ثم نصح نفسه ألا يستسلم للتفكير فيها، ولكي يعمل بنصيحته عاود التفكير في توفيقه فأثنى على الحاكم خنزر، إنَّه حاكم جبار قوي عظيم الشجاعة، ولكنَّه طيب القلب، وربما كان عظيم الغباوة أيضًا، وإنَّ نزوعه إلى الذهب عظيم كعامَّة قومه، وقد هضمت معدته الهدايا الكثيرة من الذهب واللؤلؤ والزمرد والياقوت والحيوان والمسكين زولو بغير كلمة شكر .. ولكن هذا الجشع هو الذي فتح له أبواب مصر، وبلغ به قصر الحاكم، وسينتهي به قريبًا إلى قصر فرعون، وكان أحمس يسير على مقربة منه، فسمعه يهمس بصوت لا يكاد يسمع قائلًا: «شارف» فظنَّه يخاطبه، فالتفت إليه فوجده ينظر إلى شيخ هرم يحمل سلة أزهار ويضرب في الحديقة بخُطًى واهنة، وسمع الشيخُ الصوتَ الذي يناديه، فتلفَّتَ فيما حوله يبحث ببصره الضعيف عمَّن يناديه .. ولكن أحمس تحاماه وولَّاه قفاه، فدهش إسفينيس وألقى عليه نظرة متسائلة، ولكن الفتى خفض نظره ولم ينبس بكلمة.

وبلغوا السفينة وصعدوا إليها فوجدوا لاتو في انتظارهم، يلوح على وجهه الذابل الاهتمام الشديد، فابتسم إسفينيس وقال له: وُفِّقنا بفضل الرب آمون.

ثم رفعت المرساة وتحرَّكت المجاديف، فأقبل الشاب عليه يحدثه حديث المقابلة، حتى قطع عليهما الحديث صوت بكاء، فالتفتا إلى مصدره فرأيا أحمس متكئًا على حائط السفينة ينتحب كالأطفال، فراعهما منظره، وتذكر إسفينيس ما غمض عليه من سلوكه في الحديقة، فدنا منه يتبعه لاتو، ووضع يده على منكبه وقال له: أحمس ما الذي يبكيك؟

ولكن الفتى لم يُجِبه ولم يعِ مما قال شيئًا، واستسلم للبكاء في حزن عميق غلبه على أمره وأفقده وعيه فانزعج الرجلان وأحاطا به، وأخذاه إلى المقصورة وأجلساه بينهما، وأحضر إسفينيس له قدحًا من الماء وقال له: ما الذي يبكيك يا أحمس؟ .. هل تعرف ذاك الشيخ الهرم الذي دعوته شارف؟

فقال أحمس وهو يرتجف من حرارة البكاء: كيف لا أعرفه؟ كيف لا أعرفه؟

فسأله في غرابة: مَن هو؟ ولماذا تبكي هذا البكاء؟

وأخرجه الحزن عن صمته، فباح بما في صدره قائلًا: آه يا سيدي إسفينيس، إنَّ هذا القصر الذي دخلتُه خادمًا من خدمك هو قصر والدي.

فبدَت الدهشة على وجه إسفينيس، وتفرَّس لاتو في وجهه باهتمام شديد، أما الشاب فاستدرك قائلًا وهو في غيبوبة الحزن الشديد: هذا القصر الذي اغتصبه الحاكم خنزر هو مهد طفولتي ومرتع صباي، وبين جدرانه العالية قضت أمي البائسة عهد الشباب والنعيم في كنف والدي قبل أن تقع القارعة في أرض مصر، وتطأ أرض طيبة المقدسة أقدام الغزاة.

– ومَن كان أبوك يا أحمس؟

– كان أبي قائد جيش مليكنا الشهيد سيكننرع.

فقال لاتو: القائد بيبي؟ .. يا إلهي .. حقًّا هذا قصر القائد الباسل.

فنظر أحمس إلى لاتو بدهشة وسأله: هل كنتَ تعرف أبي أيها السيد لاتو؟

– وهل وُجِد في جيلنا مَن يجهله؟

– إن قلبي يحدِّثني بأنَّك من السادة الذين شرَّدهم الغزو.

فسكت لاتو رغبةً عن أن يكذب على ابن القائد بيبي وسأله: وكيف انتهت حياة القائد الباسل؟

– استشهد يا سيدي في الدفاع الأخير عن طيبة، أما والدتي فعملت بوصيته وفرَّت بي في جمع من السادة إلى حي الفقراء حيث نعيش الآن، لقد تشتَّت سادة طيبة الأقدمون، وتخفى قوم منهم في أسمال بالية وهاجروا إلى حي الصيادين، وركبت أسرة مليكنا البحر إلى مكان مجهول، وأغلق معبد آمون أبوابه على كهنته فانقطع ما بينهم وبين العالم، وخلا الجو للبيض الغرباء ذوي اللحى يمشون في الأرض مرحًا، ويملكون كلَّ شيء، وكان خنزر أسعد القوم حظًّا فزوجَّه الملك أخته، ووهبه ضيعة أبي وقصره، ونصَّبه حاكمًا على الجنوب جزاء ما اقترفت يداه الأثيمتان.

فسأله لاتو: وأي ذنب اقترفه الحاكم؟

وكان أحمس سكت عن البكاء، فقال بلهجة تنطوي على الغضب الشديد: يده الأثيمة التي أردَتْ مليكنا سيكننرع.

وانتفض إسفينيس كمَن مسَّته نار حامية، ولم يُطِق قعودًا فانتصب واقفًا متوعدًا وقد ارتسم الغضب على وجهه بصورة مروِّعة تبعث الرعب في الأفئدة، في حين أغضى لاتو الطرف ممتقع الوجه لاهث الأنفاس، وردَّد أحمس بصره بينهما فوجد أخيرًا مَن يشاركه عواطفه المضطرمة، فرفع رأسه إلى السماء وتمتم قائلًا: ألا فليبارك الرب هذا الغضب القدسي!

وبلغت السفينة مرفأها، وكانت الشمس تنغمس في النيل والشفق يخضِّب الأفق، فقصدوا إلى بيت إبانا، ووجدوا السيدة تُشعل مصباحها، فلما شعرت بمقدمهم تحوَّلت إليهم وعلى فمها ابتسامة ترحيب، فتقدَّم منها لاتو وإسفينيس وانحنيا لها في إجلال، وقال الشيخ في صوت رزين: طيَّبَ الرب مساء أرملة قائدنا العظيم بيبي!

فغاضت الابتسامة من شفتَيها، واتسعت حدقتاها دهشةً وانزعاجًا، وحدجت ابنها بنظرة لوم وتأنيب، وأرادت الكلام فامتنع عليها، فاغرورقت عيناها بالدموع، فدنا منها أحمس ووضع يدها بين راحتَيه، وقال لها بحنان: أمَّاه لا تخافي ولا تحزني، وقد علمتِ ما أولاني هذان السيدان من الجميل، واعلمي إلى هذا أنَّهما كما ظننت من سادة طيبة الأقدمين الذين شردهم الطغيان، نازعهما الشوق إلى اجتلاء وجه الوطن مرة أخرى!

فسكنت نفس المرأة ومدَّت لهما يدها فطالعاها بوجهَين ينطقان بالصفاء والإخلاص، وجلسوا جميعًا متقاربين، وقال إسفينيس: إنَّ فخرنا العظيم بالجلوس إلى أرملة قائدنا الباسل بيبي، الذي قضى في الدفاع عن طيبة ولحق بمولاه من أنبل السبل، إلى ابنه الشاب المتحمس أحمس!

فقالت إبانا: وإنِّي لجد سعيدة أن تلقى إليَّ المصادفات السعيدة رجلَين كريمَين من رجال العهد القديم، فنتذاكر معًا أيامنا الخوالي، ونشعر بحاضرنا شعورًا واحدًا، أما أحمس فهو شاب عظيم الحماسة جدير باسمه، وقد دعاه أبوه تيمُّنًا باسم أحمس حفيد مليكنا سيكننرع وابن ملكنا كاموس — وقد وُلِدا في يوم واحد — طيَّبَ الرب مساءه حيثما كان!

وبسط لاتو كفَّيه مؤمِّنًا على قولها، وقال بصدق وإخلاص: ليحفظ الرب صديقنا أحمس، وليحفظ سَمِيَّه العظيم حيثما كان!

١٢

وتوطَّدت المودة بين التاجرَين وأسرة إبانا، فعاشوا جميعًا أسرة واحدة لا يفترقون إلا في الثلث الأول من الليل، وعلم الرجلان أنَّ حي الصيادين مكتظ بالسادة المختفين من تجار طيبة وأصحاب ضياعها ومزارعها السابقين، فسُرَّ لذلك الرجلان، وأرادا أن يتعرفا إلى بعض البارزين منهم، وأفضيا برغبتهما إلى أحمس بعد أن استوثقا من إخلاص القوم، ورحَّب الفتى برغبتهما، واختار أربعة من أقرب المقربين إلى والدته هم: سنب وهام وكوم وديب، وأسَرَّ إليهم بحقيقة التاجرَين، ودعاهم يومًا إلى داره حيث وافاهم لاتو وإسفينيس، وكان الرجال يرتدون لباس الفقراء، وزرة وسترة من الكتَّان بالية، فرحَّبوا جميعًا بالتاجرَين وتبادلوا التحيات بحرارة دلَّت على الصدق والمودة، قال أحمس: إن مَن ترون مثلكما من سادة مصر الأقدمين، وجميعهم يعيشون عيشة الصيادين المنبوذة البائسة، على حين يستأثر بأرضهم الرعاة الملعونون!

وسأل هام التاجرَين: هل أنتما من طيبة أيها السيدان؟

فقال لاتو: كلا يا سيدي، ولكنَّا كنَّا يومًا من ملَّاك أمبوس!

فقال سنب: وهل هاجر إلى النوبة كثيرون مثلكما؟

فقال لاتو: نعم يا سيدي، وفي نباتا يوجد مئات من المصريين، ومن أمبوس وسيين وهابو ومن طيبة نفسها.

فتبادل الرجال النظرات، ولم يكن يرتاب منهم أحد في التاجرَين بعدما قصَّ عليهم أحمس ما صنع إسفينيس لأمه في المحكمة، فتساءل هام: وكيف تعيشون في نباتا أيها السيد لاتو؟

– عيشة الضنك كالنوبيين أنفسهم، ففي النوبة تجود الأرض بالذهب وتشح بالغلال.

– ولكنكم سعداء ما دمتم لا تمتد إليكم أيدي الرعاة.

– دون شك، ولذلك لا نفتأ نذكر مصر وأهلها الأسرى المستعبدين.

– ألا يوجد لنا في الجنوب قوة حربية؟

– بلى، ولكنها قوة صغيرة يستعين بها رءوم حاكم الجنوب المصري على حفظ الأمن في البلاد.

– وما عسى أن يكون شعور النوبيين نحونا بعد الغزو؟

– إنَّ النوبيين يحبوننا ويرضون بحكمنا طائعين، ولذلك لا يلقى رءوم أيَّة مشقة في حكم البلاد بقوة صغيرة لا يعتد بها، ولو شقوا عصا الطاعة ما وجدوا قوة تؤدبهم!

فلاحت الأحلام في أعين الرجال، وكان أحمس قصَّ عليهم كيف تمكَّن التاجران من اجتياز الحدود وزيارة الحاكم، وكيف أنَّ إسفينيس سيقدِّم إلى أبوفيس هدية يوم الاحتفال بعيد النصر، فتساءل هام بامتعاض: وما تبعي من وراء تقديم هديتك إلى أبوفيس؟

فقال إسفينيس: أن أثير جشعه، فيأذن لي بالاتِّجار بين النوبة ومصر وتبادل الذهب بالحبوب.

فسكت الرجال، وسكت إسفينيس ساعةً يفكِّر، وبدا له أن يخطو خطوة جديدة في سبيل مشروعه، فقال باهتمام: أصغوا إليَّ أيها السادة، ليس هدفنا الذي نرمي إليه التجارة، وما ينبغي أن تكون التجارة هدف قوم قدموا إليكم في بيت أرملة قائدنا العظيم بيبي، ولكنا نأمل أن تصل قافلتنا مصر بالنوبة، وأن نستعين بقوم منكم كعمال في الظاهر فنحملكم إلى إخواننا في الجنوب، سنحمل الذهب إلى مصر ونعود بالحبوب والرجال، وربما كررنا يومًا بالرجال فقط.

فاستمع الجميع في دهشة ممزوجة بفرح، وأشعت أعينهم نورًا خاطفًا، وصاحت إبانا قائلةً: ربَّاه! ما هذا الصوت الجميل الذي يحيي في أنفسنا هامد الأمل!

وصاح هام قائلًا: يا إلهي .. إنَّ الحياة تدب في مقبرة طيبة.

وهتف كوم: أيها الشاب الذي يبعث صوته القلوب الميتة، لقد كنا نعيش حتى الساعة بلا أمل ولا مستقبل، يئودنا شقاء حاضرنا فلا نجد منه مهربًا إلا في تذكُّر الماضي المجيد والتحسُّر عليه، وها أنت ذا تزيح الستار عن مستقبل باهر!

فانشرح صدر إسفينيس وأفعم قلبه أملًا، وقال بصوته الجميل المثير: لا ينفع البكاء يا أيها السادة، فإنَّ الماضي يوغل في القِدَم والفناء ما دمتم تقنعون بالتحسُّر عليه، وما يلبث مجده أن يصبح قريبًا إذا توثبتم للعمل له، فلا يحزنكم أن تكونوا اليوم تجارًا، فإنكم في القريب تصيرون جنودًا تضيق بهم الأرض وتذل لهم الحصون، ولكن اصدقوني هل تثقون بإخوانكم جميعًا؟

فقالوا في نفس واحد: ثقتنا بأنفسنا!

– ألا تخشون العيون؟

– إنَّ الرعاة جبابرة بغير عقول، وقد اطمأنوا بقوتهم إلى استعبادنا عشر سنين فهم لا يحاذرون.

فصفَّق إسفينيس بيدَيه فرحًا وقال: اذهبوا إلى إخوانكم المخلصين وبشِّروا بالأمل الجديد، واجمعوا بيننا وبينهم في كل حين لنتبادل الرأي والشورى ولنبلغهم رسالة الجنوب، وإذا كان مصريو نباتا الآمنون غاضبين، فأولى بكم الغضب.

فأمَّن الرجال على قوله متحمسين، وقال نايب: نحن غاضبون أيها الشاب النبيل، سيثبت لك كفاحنا أنَّنا أشد غضبًا من إخوان نباتا!

وحيُّوا التاجرَين ومضوا وقد داخلتهم ثورة غضب وتحفُّز لا تهدأ ولا تسكن، وسمع الرجلان إبانا تتنهَّد وتقول: ربَّاه! .. مَن يدلنا على أسرة مليكنا الشهيد؟ .. وفي أي ركن من الأرض هو؟

ومضت أسابيع وكان إسفينيس وزميله الشيخ لا يذوقان طعم الراحة، كانا يجتمعان برجال طيبة المتخفين في بيت إبانا، وكانا يكاشفانهم بآمال المصريين المهاجرين فيبثان في نفوسهم الأمل والحياة، ويصبَّان في عزائمهم القوة والجلاد، حتى بات حيُّ الصيادين جميعه ينتظر على لهفة وجزع الساعة التي يُدعى فيها إسفينيس إلى القصر الفرعوني.

وتوالت الأيام حتى كان يوم جاء حيَّ الصيادين أحدُ حجَّاب حاكم الجنوب يسأل عن قافلة المدعو إسفينيس، ثم سلَّمه كتابًا من الحاكم يجيز له دخول القصر الفرعوني في ساعة سمَّاها من يوم العيد، ورأى كثيرون الرسول فابتهجوا وشملهم السرور، وأشرق في نفوسهم الأمل.

وفي ذلك المساء نامت القافلة، ولبث إسفينيس منفردًا على ظهر السفينة في هدأة وجلال الليل الساكن، يغمره نور القمر ويسيل على وجهه النبيل دررًا ولؤلؤًا لامعًا متوهِّجًا، فدخلته رقة، وأثلج صدره الرضا، وطاب لخياله أن يتردَّد بين الماضي القريب والحاضر الغريب. فتمثَّلَ ساعة الوداع في نباتا وجدَّته توتيشيري تبشِّره بأنَّ روح آمون أوحَتْ إليها أن ترسله إلى مصر، وقد وقف أبوه كاموس قريبًا منه يوصيه بصوته الجهوري المؤثر، وذكر أمه الملكة ستكيموس وهي تلثم جبينه، وزوجه نيفرتاري وهي تُلقي عليه نظرة الوداع من خلال أهدابها المبتلة .. فلاحت في عينَيه نظرة حنان كنور القمر في صفائه وحيائه .. ونفذت قطرات من الحسن المنبث ما بين السماء وماء النيل إلى قلبه، فانتعش وانتشى بخمر إلهية، ولكن طرقَتْ مخيلته خلسة صورة من النور والبهاء، فاقشعرَّ بدنه، وأغمض جفنَيه كأنَّما يفر منها فرارًا، وهمس لنفسه بامتعاض: «يا إلهي .. إني أذكرها أكثر مما ينبغي .. وما ينبغي لي أن أذكرها بتاتًا!»

١٣

وجاء يوم العيد، فلبث إسفينيس في السفينة نهار اليوم؛ وعند المساء لبس أجمل ما عنده من الثياب، ورجَّل جُمَّته ومسَّ طيبًا، وبرح السفينة يتبعه عبيده يحملون صندوقًا من العاج، وهودجًا مسدل الستائر، وساروا في طريق القصر، وكانت طيبة ساهرة تضج أجواؤها بنقر الدفوف وسجع الأغاني، وينير القمر منها سبلًا اكتظَّت بجماعات الجنود السكارى المنشدين، وعربات الأعيان والنبلاء تقطع الطريق صوب القصر الفرعوني يتقدَّمها الخدم حاملين المشاعل، فتولَّت الشاب كآبة ثقيلة، وقال لنفسه محزونًا: «قُضي عليَّ أن أشارك القوم عيدهم الذي يُحيون به ذكرى سقوط طيبة ومقتل سيكننرع»، وصوَّب نحو الجنود المتهافتين نظرة مغضبة، وذكر قول الحكيم قاقمنا: «الجنود إذا تعوَّدوا الشراب، وهنت سواعدهم وعافوا القتال».

ثم تابع تيار السائرين حتى شارف ميدان القصر، ولاحت لعينَيه أسواره ونوافذه نورًا فوق نور، فشقَّت عليه الرؤية وخفق قلبه بعنف، ونسمت على رأسه المحموم ريح عبقة عاطرة من ذكريات الصبا، وجدت قلبه حزينًا ونفسه والِهة، ومضى تزداد شجونه كلما أدناه المسير من مهد الطفولة ومرتع الصبا.

واقترب الشاب من أحد الحجَّاب وأبرز له كتاب خنزر، فنظر فيه بإمعان، ثم نادى أحد الحراس وأمره أن يقود التاجر وقافلته إلى مكان الانتظار بالحديقة، فتبعه الشاب وعرَّج وراءه إلى أحد ممرات الفناء الجانبية لازدحام الممرِّ الوسيط بالمدعوين والحجَّاب والحراس، وكان إسفينيس يذكر المكان جيِّد الذكرى، وكأنما فارقه أمس آخِر مرة، وحين بلغوا ممرَّ الأعمدة الكبير المؤدي إلى الحديقة، اشتدَّ وجيب قلبه وعضَّ على شفته السفلى من شدة التأثُّر، وذكر كيف كان يلعب في هذا الممرِّ مع نيفرتاري، فيشدُّ على عينَيه حتى تُخفي نفسها وراء أحد الأعمدة الهائلة، ثم يحلُّ العصابة ويجدُّ في البحث عنها حتى يظفر بها. وخالَ في اللحظة أنَّه يسمع وقع قدمَيها الصغيرتَين، ويسمع رجع ضحكتها الحلوة، وكانا يحفران اسمَيهما على بعض العمد، تُرى هل تحتفظ بآثار اسمَيهما حتى الآن؟ .. وقد ودَّ لو يغافل حارسه ويعاين أثر الماضي الجميل، ولكنَّ الرجل كان يوسع الخطى غير شاعر بالقلب المنصهر على قيد ذراع منه .. فبلغوا الحديقة، وأشار الحارس إلى أريكة وقال للشاب: انتظر ها هنا حتى يأتيك الرسول.

وكانت الحديقة مضاءة بالمصابيح الوهَّاجة، والنسيم يهب من أنحائها بشذى الريحان وريا الزهور، فبحثت عيناه عن الموضع الذي كان يقوم فيه تمثال سيكننرع عند نهاية الممر المعشب الذي يشق الحديقة نصفين، فوجد مكانه تمثالًا جديدًا لا روح فيه؛ يمثل شخصًا رَبعة ضخم الهيكل كبير الرأس مقوَّس الأنف ذا لحية طويلة وعينَين واسعتَين جاحظتَين، فلم يشك في أنَّه أمام أبوفيس ملك الرعاة، فأدام إليه النظر شزرًا، ثم ألقى على الحراس نظرة قاسية يستعر فيها الغضب والحنق، وكان كل شيء من القصر والحديقة كعهده به، ولاحت لعينَيه الحجرة الصيفية على هضبة عالية، تحنو عليها أدواح النخيل بقاماتها الرشيقة الطويلة، فذكر أيامها السعيدة، حين كانت تهرع إليها الأسرة جميعًا في فصلَي الصيف والربيع، فينهمك جده وأبوه في لعب الشطرنج، وتجلس نيفرتاري بين الملكة ستكيموس وجدتها الملكة أحوتبي، أما هو فيقعد في حجر توتيشيري، ثم تمضي الساعات وهم في شغل عنها بالسمر الرقيق ومطالعة الأشعار وأكل الفاكهة الناضجة، جلس إسفينيس فترة غير قصيرة من الليل يطالع ذكرياته على صفحات الحديقة والممرات والأروقة، فلم يتململ ولم يجزع، حتى جاءه الرسول وسأله: هل أنت مستعد؟

فقام واقفًا وهو يقول: على تمام الاستعداد يا سيدي.

فقال وهو يهمُّ بالعودة: اتبعني.

فتبعه ورجاله على الأثر، وارتقوا أدراج السلم، وقطعوا الرواق الفرعوني حتى شارفوا باب البهو الملكي، فلبثوا ينتظرون أن يُؤذَن لهم بالدخول، وبلغ سمعَيه أصوات ضحك عالية، ووقع الأقدام الراقصة، وسجع الموسيقى العنيف، وشاهد زرافات السقاة يحملون الأباريق والأقداح والأزهار، فأدرك أنَّ القوم لا يتحرَّجون في لهوهم ولا يعتدلون في أعيادهم، وأنَّ الملك يعفيهم من الوقار والتأدُّب ليعودوا إلى فطرتهم الوحشية الأولى، ثم نادى باسمه أحد العبيد، وتقدَّم بخطى متئدة، ورأى وسط البهو خاليًا، والقومَ جلوسًا حوله في ثيابهم الرسمية الفاخرة يتطلعون إليه باهتمام، فدخله شيء من الارتباك، وأيقن أنَّ الحاكم عرف كيف يثير اهتمام القوم بما حدَّثهم عنه وعن هداياه لتعظم مآثره في عين الملك، واستبشر بذلك خيرًا، ولما جاوز منتصف البهو أمر أتباعه بالوقوف، ودنا وحده من العرش وحنى هامته إجلالًا، وقال بصوت الخضوع والعبودية: مولاي الرب المعبود، سيد النيل، فرعون مصر العليا والسفلى وأمير المشرقَين.

فقال له الملك بصوت جهوري قوي النبرات: إنِّي أمنحك السلام أيها العبد.

واعتدلَتْ قامة إسفينيس، واستطاع أن يختلس نظرة سريعة إلى الرجل المتربع على عرش آبائه وأجداده، فعرف فيه صاحب تمثال الحديقة بلا شك.

ولكنه أدرك من شدة احمرار وجهه ونظرة عينَيه وكأس الخمر الموضوعة أمامه أنَّه ثمل. وكانت الملكة تجلس إلى يمينه، والأميرة أمنريدس إلى شماله، وقد لحظها الشاب فرآها في لباسها الملكي كالكوكب المتألِّق، وكانت تنظر إليه في هدوء وكبرياء.

وألقى الملك عليه نظرة فاحصة فراقه منظره وابتسم قائلًا بصوته الغليظ: وحق الرب إنَّ هذا الوجه لجدير بأحد رجالنا النبلاء!

فأحنى إسفينيس رأسه وقال: شاء الرب أن يجعله لمولى من موالي فرعون.

فقهقه الملك ضاحكًا وقال: أراك تُحسِن القول، وبالقول الحسن يستجلب قومك عطفنا ونقودنا. وهي حكمة ست أن يعطى السيف للسيد القوي، وحُسن البيان للعبد الضعيف، ولكن لا عليك من هذا، فقد قال لي صديقنا خنزر إنَّك تحمل لنا هدية من بلاد النوبة .. أرنا هديتك.

فحنى الشاب رأسه وانتحى جانبًا، ثم أشار إلى رجاله فتقدم اثنان منهم بالصندوق العاجي ووضعاه أمام العرش، ودنا الشاب منه وفتحه واستخرج منه تاجًا فرعونيًّا مزدوجًا من الذهب الخالص مُرصَّعًا بالياقوت والزمرد واللؤلؤ والمرجان، ورفعه بين يدَيه فخطف الأبصار، وانبهر له القوم جميعًا وضجوا بالدهشة والاستحسان، وأما أبوفيس فقد حملق فيه بعينَين جاحظتَين جشعتَين، وخلع تاجه دون شعور منه، وتناول التاج الجديد بين يدَيه الكبيرتَين ووضعه على رأسه الأصلع، فتبدى صورة جديدة من الجلال، واغتبط الملك ولاح في وجهه الرضا، فقال للشاب: أيها التاجر، إنَّ هديتك حازت القبول.

فانحنى إسفينيس إجلالًا، والتفت إلى رجاله وأشار إليهم إشارة خاصة فأزاحوا الستار المسدل على الهودج، ورُئي الأقزام الثلاثة جالسين متلاصقين، وقد أثار ظهورهم دهشة عظيمة في نفوس القوم جميعًا، فقام أكثرهم واقفين، واشرأبَّت الأعناق، وصاح بهم التاجر أن حيوا مولاكم فرعون، فقفز الأقزام الثلاثة قفزة واحدة فصاروا صفًّا، ثم اقتربوا من العرش في خطى ثابتة وئيدة، وسجدوا بين يدَي فرعون ثلاثًا، ووقفوا ساكنين لا تُبين وجوههم عن شيء. وهتف الملك قائلًا: أيها التاجر، ما عسى أن تكون هذه المخلوقات؟

– هي أناس يا مولاي تعيش قبائلها في أقاصي النوبة الجنوبية، ولا يصدِّقون أنَّ العالم يشتمل على أقوام سواهم، فإذا رأوا واحدًا منَّا عقدت الدهشة ألسنتهم وتنادوا متعجبين. وقد ربَّيتُ هؤلاء الثلاثة فأحسنتُ تربيتهم، وسيجدهم مولاي مثالًا للطاعة والعبودية، ونوعًا من التسلية والتلهية.

فهزَّ الملك رأسه الكبير، وضحك ضحكته العظيمة ثم قال: جهل مَن يدَّعي العلم كله، أما أنت أيها الشاب فقد أدخلتَ السرور على قلوبنا، وإنِّي أمنحك رضاي!

وحنى إسفينيس هامته، ثم ارتدَّ بظهره راجعًا، وعند منتصف البهو اعترض سبيله إنسان ما، فقبض على ذراعه، والتفت إسفينيس إلى صاحب اليد الغليظة، فرأى رجلًا في الثياب العسكرية الفخمة، جميل العثنون غليظ الشاربَين منتفخ الأوداج، دلَّ احتقان الدم بوجهه وبريق الجنون في نظرة عينَيه على شدة سكره، وقد حيَّا مولاه وقال: إنَّه ليسرُّ مولاي من غير شك أن يشاهد فنون القتال الباسل في الحفلات القومية، كما تقضي به تقاليدنا المقدسة، وإنِّي أدَّخر لذات مولاي المقدسة مبارزة دموية تسر الناظرين.

فقال الملك وهو يرفع كأسه إلى شفتَيه الغليظتَين: ما أجمل أن تُراق دماء الفرسان على أرض هذا البهو لتنفض عن النفوس ما ران عليها من سأم، ولكن مَن السعيد الذي شرفته بعداوتك أيها القائد رخ؟

فأشار القائد الثمل إلى إسفينيس وقال: هذا غريمي يا مولاي.

فعجب الملك وعجب كثيرون من النبلاء، وسأله الملك: كيف استجلب غضبك هذا التاجر النوبي؟

– أنقذ امرأة فلاحة — تجاسرتْ على توجيه الإهانة إلى شخصي — من العقاب، بدفعه خمسين قطعة من الذهب بدلًا منها.

فضحك الملك ضحكته العظيمة المجلجلة، وسأل القائد: ولكن أترضى أن يكون غريمك فلاحًا؟

– أراه يا مولاي متين البنيان مفتول العضلات، فإذا لم يكن قلبه من قلوب الطير فإني أغضي عن وضاعة جنسه، مرضاةً لمولاي ومشاركةً في سرور العيد.

ولكن الحاكم خنزر لم يرضَ عن المبارزة، وقد رمق شقيقَه القاضي سنموت بنظرة لوم، لأنه أدرك أنه هو الذي دلَّ القائد على إسفينيس دون تقدير منه للموقف، وأشفق من أن يضيع سيف رخ عليه كنوز النوبة الثمينة، فدنا من القائد رخ وقال له بحزم: لا يجوز أن تخدش أوسمتك بمنازلة تاجر فلاح أيها القائد.

فقال رخ يقطع على الحاكم سبيله: إذا كان من العيب أن أقاتل فلَّاحًا، فمن العار أن أترك عبدًا يتحداني دون أن أنزل به العقاب الذي يستحقه .. ولما رأيت فرعون يمنح هذا التاجر عطفه، آثرتُ أن أنصفه وأن أتيح له فرصة للدفاع عن نفسه.

وظنَّ مَن سمع قول القائد أنَّه حق وعدل، وتمنوا صادقين أن يقبل التاجر النزال ليشهدوا المبارزة وليتمُّوا سرورهم بالعيد، وكان إسفينيس يكابد حيرة شديدة لا يجد لنفسه منها مخرجًا، وكان يشعر بتلهُّف القوم على استماع كلمته، ويحسُّ نظرة التحدي والاحتقار التي يصوِّبها نحوه القائد الثمل العنيد، فيغلي الدم في عروقه، ثم يذكر نصائح توتيشيري ولاتو، وكيف أنَّ قتله هذا القائد الفظَّ قد يضيع من يدَيه الثمرة الدانية القطوف، ويفوِّت على أسرته الفرصة السانحة، فيبرد دمه وتخذله عزيمته، ربَّاه .. لا محيد عن النكوص، ولا محيص عن الهرب، سيتهكَّم به القائد، وترمقه الأعين بالاحتقار، ويفارق المكان منكس الذقن كسير الفؤاد، ولكن يظفر بغرضه الأسمى، وهنا سمع القائد يقول له: لقد تحديتني أيها الفلاح، فهل تستطيع مواجهتي؟

فسكت إسفينيس شاعرًا بانهيار وتخاذُل، وسمع صوتًا يقول: «دعوا الشاب إنَّه لا يعرف القتال»، وقال صوت آخَر: «دعوا الشاب فإنَّ الفارس يقاتل بنفسه لا بجسمه …» فدخله الحنق، وأحسَّ يدًا توضع على كتفه وصوتًا يقول له: «لست فارسًا ولا عار عليك إذا اعتذرتَ»، فنظر فرأى خنزر، فشعر بقشعريرة تسري في أعضائه من لمس اليد التي فتكت بجده، ولاحت منه نظرة في تلك اللحظة الراهبة نحو العرش فرأى الأميرة أمنريدس تنظر نحوه باهتمام، فغلبه الغضب وفقد وعيه، فقال بصوت مسموع: إنِّي أشكر القائد على نزوله لمبارزتي، وأقبل اليد التي يمدُّها لي.

وسرى الفرح في النفوس، وضحك الملك وشرب كأسًا أخرى، وتطلَّعَت الرءوس من كل حدب وصوب للغريمَين، وبدا الارتياح على وجه القائد وابتسم ابتسامة التشفِّي والانتقام، ثم سأل إسفينيس: هل تضارب بالسيف؟

فحنى رأسه أن نعم، فأعطاه سيفًا، ثم خلع إسفينيس عباءته عن سترته وسرواله فبدا جسمه الطويل القوي يجذب الأبصار برشاقته واعتدال قامته وجمال وجهه، وأُعطي ترسًا، فقبض على السيف بيمناه، ووضع الترس على يسراه، ووقف على بُعد ذراع من القائد كأحد التماثيل التي أغلقت عليها أبواب المعابد.

وأذن الملك بالقتال، فشهر كلٌّ منهما سيفه، وبدأ القائد الغاضب الهجوم فسدَّد نحو خصمه ضربة قاتلة ظنها القاضية، ولكن الشاب تفادى منها بخفة عجيبة فضاعت في الهواء، ولم يمهله القائد فوجَّه إلى رأسه ضربة أشد من الأولى بسرعة البرق، فتلقاها الشاب بترسه بحركة خاطفة، فتعالَت أصوات الإعجاب من أنحاء البهو جميعًا، وأدرك القائد أنَّه يقاتل رجلًا يجيد الطعان، فأخذ حذره، وعاود القتال متَّبِعًا خطة جديدة، فتصاولا، واشتبكا وانفصلا، وكرَّا وفرَّا، القائد في غضب وعنف، والشاب في هدوء عجيب، وكان يصدُّ هجمات عدوه بسهولة ويُسر وثقة، وكان كلما أطاش ضربة بمهارته الرائعة زاد غضب عدوِّه اهتياجًا وجنونًا، وأدرك الجميع أنَّ إسفينيس يكتفي بالدفاع ولا يكاد يهجم إلا إذا أراد بهجومه إفساد خطة أو تفويت ضربة، فتجلى فنُّه، وبرع على خصمه في الخفة والمهارة بدرجة أشعلت حماسة القوم الذين تنسيهم لذَّة القتال فوارق الأجناس، فجُنَّ جنون رخ، ووالى هجماته عليه بشدة وعنف لا يني ولا يتوانى، وصوَّب نحوه الضربة تلو الضربة، فصدَّ بترسه ما صدَّ، وتفادى بفنِّه ما تفادى منه، ولبث سليمًا مطمئنًّا ذا ثقة لا حدَّ لها، لا يغضب ولا يُؤخَد، وكأنَّه حصن منيع، فأخذ اليأس يستولي على القائد الحانق، وشعر بدقة موقفه وشدة حرجه، وحدَّثه اليأس على المغامرة، فرفع ذراعه بالسيف، وجمع كلَّ ما أُعطي من قوة وعزم ليضرب ضربة الموت الزؤام، وكان مطمئنًّا إلى خطة عدوه المقصورة على الدفاع، فما هو إلا أن وجَّه إلى قبضة سيفه ضربة رائعة فجرح سنان السيف كفه، وارتجفت يده، فضرب الشاب السيف ضربة أخرى أطاحت به بعيدًا، فسقط قريبًا من عرش فرعون، ولبث رخ أعزل والدم يقطر من يده، لا يكف عن حنقه، فضجَّ القوم مسرورين متعجِّبين من بسالة التاجر وجميل عفوه، ثم صاح به القائد: لماذا تبطئ في الإجهاز عليَّ أيها الفلاح؟

فقال إسفينيس بهدوء: ليس لديَّ من الأسباب ما يحملني على ذلك!

فصرَّ القائد بنواجذه وانحنى للملك تحيَّةً، ثم دار على عقبَيه وبرح البهو، وعلَتْ ضحكة الملك طويلًا حتى اضطرب لها جسمه، ثم أشار إلى إسفينيس فأعطى الشاب سيفه وترسه إلى أحد الحجَّاب، واقترب من العرش وانحنى للملك، فقال له: إنَّ قتالك لا يقل غرابة عن أقزامك .. كيف تعلَّمت القتال؟

– أيها الملك المعبود، في بلاد النوبة لا يأمن التاجر على قافلته إذا لم يعرف كيف يدافع عن نفسه ورفاقه.

فقال الملك: يا لها من بلاد .. وقد كنا مقاتلين أشداء رجالًا ونساءً حين كنا نجوب أطراف الصحراء الشمالية الباردة، فلما أن احتوتنا القصور وتقلَّبنا في ظلال الترف والنعيم، وشربنا بدل الماء الخمور، طاب لنا السلام، ورأيت واحدًا من قواد جيشي ينهزم في قتاله مع تاجر من الفلاحين!

وكان الملك يتكلم متهلل الوجه ضاحك الفم، فدنا من عرشه الحاكم خنزر وانحنى له تحيَّةً وقال: مولاي هذا الشاب باسل وحقيق بالأمان.

فهزَّ فرعون رأسه الثمل وقال: صدقتَ يا خنزر، كان القتال عادلًا شريفًا، وإنِّي أمنحه الأمان.

فوجد الحاكم الفرصة سانحة فقال: مولاي .. إنَّ هذا الشاب لعلى استعداد أن يؤدِّي للعرش أجلَّ الخدمات، بأن يحمل إليه الثمين المعجب من كنوز النوبة لقاء ما يعود به من حبوب مصر.

فنظر الملك إلى الحاكم مليًّا، وذكر التاج الذي يُتوِّج رأسه، فقال بلا تردُّد: قد أذنَّا له في ذلك.

فانحنى خنزر شاكرًا، وسجد إسفينيس بين يدَي فرعون، ومدَّ يده فلثم حاشية ثوبه الملكي، ثم وقف في خشوع وهو يقاوم رغبة في النظر إلى شمال العرش، ورجع القهقرى حتى غيَّبه باب البهو الكبير، وكان مسرورًا مبتهجًا، ولكنَّه كان يسائل نفسه: «ترى ماذا يقول لاتو إذا علم بقصة المبارزة؟»

وبلغ إسفينيس والعبيد السفينة بعد منتصف الليل، فوجدوا لاتو ساهرًا يترقَّب، فأقبل على الشاب قلقًا متشوِّقًا إلى سماع أخباره، فقصَّ عليه إسفينيس ما صادفه في القصر من النجاح والمتاعب، فقال لاتو: لنحمد الرب آمون على ما أولانا من نجاح، ولكنِّي أخون واجبي إذا لم أصارحك بأنَّك اقترفتَ خطأً كبيرًا باستسلامك للغضب والكبرياء، وما كان ينبغي لك أن تعرِّض آمالنا الكبار لخطر الانهيار من أجل ثورة غضب، أفما كان من الجائز أن يظفر القائد بك؟ .. أو ما كان من المتوقَّع أن يبطش الملك بك؟ .. ينبغي أن تذكر دائمًا أننا هنا عبيد وهم سادة، وأنَّنا طلاب فضل هم أصحابه وذووه، فليكن رائدك أن تتظاهر بالشكر والإخلاص لهم، وعلى رأسهم ذلك الحاكم الذي وجَّه إلى جدك العظيم وإلى مصر جميعًا الضربة القاضية، افعل هذا من أجل مصر، ومن أجل مَن تركناهم وراءنا في نباتا يخشون ويرجون.

ولم يتمالك الرجل فأجهش في البكاء، ثم مضى إلى مخدعه فصلى صلاة حارة.

وفي صباح اليوم التالي قصدا إلى كوخ السيدة إبانا كما وعدا أصحابهما من قبل، فاستقبلتهما السيدة وابنها أحمس وبعض الأصدقاء، بينهم سنب وهام وديب وكوم، وكانوا جميعًا قلقين متلهِّفين على سماع الأخبار، فقال لهما هام: إنَّ قلوبنا قلقة يعذِّبها الخوف ويُلهبها الأمل، وقد تركنا وراءنا في الأكواخ القريبة المئات من الأصدقاء ممَّن لم يغمض لهم جفن طوال الليلة الماضية.

فابتسم إسفينيس ابتسامة حلوة، وقال: أبشروا يا أصدقاء، لقد أذن لنا الملك في الاتِّجار بين مصر والنوبة.

فلاح البِشر في وجوههم، وتألَّقَتْ أعينهم بنور الرجاء، وقال لاتو بحزم: جاء وقت العمل فلا تُضيِّعوا الوقت هباءً، واعلموا أنَّ الطريق طويل فينبغي أن نحمل أكثر ما نستطيع من الرجال، لا تتوانوا عن إغراء العامة بالاشتراك في رحلتنا، ومنُّوهم بالربح الوفير دون أن تصارحوهم بالحقيقة، حتى نبلغ هدفنا فيما وراء الحدود، وسنجدهم بغير شك من المخلصين كعهدنا برجال طيبة ومصر جميعًا .. هلمُّوا جميعًا فاحزموا أمتعتكم.

وانتشرت في الخفاء حركة واسعة النطاق يضطرم في جوانبها الحماسة والإيمان، وهرع الرجال المتخفون في ثياب الصيادين إلى السفن، وشغلوا كلَّ مكان يمكن أن يشغل من أسطحها وبطونها. ثم واجهت إسفينيس مشكلة عسيرة وهي إرحال النساء والأطفال، وشغلهن أماكن أحق بها الرجال والشبان، أو تركهن وحدهن على ما في هذه من إيلام لهن ولذويهن، ورأى الشاب أن يثير المسألة فشاور فيها أصدقاءه الأقربين، وطال الأخذ والرد، حتى انبرى أحمس بن إبانا فقال: أيها السيد إسفينيس، نحن في حاجة إلى جيش عرمرم من الرجال، فلا يجوز أن يؤخِّر النساء تجنيد هذا الجيش العظيم، وما يضيرهن أن يمكثن في طيبة حتى نعود إليهن عودة الظافرين؟ وإنَّه لَأَدْعى إلى حماستنا أن نقاتل وفي البلاد نساؤنا، من أن نخلفهن وراءنا في النوبة، وإذا كان في هذا الرأي ألم لنا، فليؤدِّ كلٌّ منا نصيبه من ضريبة الألم والتفدية في سبيل غرضنا الأسمى.

وبلغ التأثر بإبانا مبلغًا عظيمًا فقالت: نِعم الرأي الحكيم .. إنَّ مكاننا هنا، وسنقاسم أهل طيبة حظهم، إنْ موتًا فموت، وإنْ حياةً فحياة!

ولم يتردَّد أحد عن القبول، ورضيَ النساء بفراق الأزواج والأبناء، وكان جنوب طيبة يذوب من حرارة الوداع وذرف الدموع واضطرام الدعاء والآمال.

وكان إسفينيس لا يذوق الراحة في تلك الأيام القلائل الحافلة بجلائل الأعمال والتفديات الصامتة، كان يستقبل الرجال ويزور الأسر وينظِّم الراحلين، وكان إلى هذا يعلِّل نفسه بالآمال، ويذكر الحاضر والمستقبل، ويعالج بالصبر فورة الغضب والرغبة في الانتقام، وكان إلى هذا وذاك يكتم أشواقًا تضطرم في فؤاده، ويغالب لواعج الوجدان التي باتت تأكل صدره وكبده، ويضني بما يعترك في نفسه من أسباب البغضاء وقوى المحبة .. فلشدَّ ما جاهد وتحمَّلَ في الأيام القلائل، ولشدَّ ما تجلَّدَ وتصبَّر.

١٤

وأذن أخيرًا حاكم الجنوب لإسفينيس بالرحيل، وأعطاه جوازًا لعبور الحدود في أيِّ وقت يشاء، فرفعت القافلة مراسيها وأبحرت مع الفجر الرطيب، وكان إسفينيس ولاتو وأحمس بن إبانا يأخذون مجالسهم في مقصورة السفينة الأولى وفي قلوبهم شوق وحنين، وفي عينَي أحمس دموع هي آخِر ما ودَّع به أمه، وكان إسفينيس يغرق في أحلامه، فذكر طيبة وأهل طيبة، طيبة أعظم مدن الأرض، المدينة ذات الأبواب المائة، والمسلَّات التي تناطح الجوزاء، والمعابد الهائلة والقصور الشم، والسبل الطويلة والميادين العظيمة، والأسواق التي لا تهدأ ولا تسكن آناء الليل وأطراف النهار، طيبة المجيدة، طيبة آمون الذي قُضي أن تُغلَق أبوابه دون عبادة عشرة أعوام من الأَسْر، طيبة التي حكمها الهمج أخيرًا وجلسوا منها مجلس الوزراء والقضاة والقوَّاد والنبلاء واستعبدوا أهلها، فالدهر يمرِّغ وجوههم في ثرى مَن كان بالأمس لهم عبدًا، وتنهَّد الشاب من قلب مكلوم، ثم ذكر الرجال الجاثمين في بطون سفنه يحدوهم أمل واحد، ويدفعهم إلى الأهوال حب لمصر مكين توارثوه جيلًا بعد جيل، كم يعانون من ألم الفراق لمَن خلَّفوا وراءهم بين أيدي أعدائهم من زوجات وبنات وأطفال، وكأنَّهم جميعًا هذا الفتى الباسل أحمس الذي يكظم أشواقه ويكتم حنينه ويبدو على وجهه العزم والقوة .. ثم طافت بذهنه في حشد الذكريات صورة ذات بهاء، فأطرق ليُخفي عينَيه عن لاتو الثاقب البصر، ولو علم الرجل فيما يفكِّر لغضب مرة أخرى، ولكبر عليه أن يشغل قلبه بابنة الشيطان كما دعاها أول مرة، وعجب لنفسه كيف تحوم حول صورتها، وكيف لا تنفك تنزع إليها، وتساءل متحيِّرًا: هل يمكن أن يجتمع الحب والكراهية لشيء واحد؟ ولاحَتْ في عينَيه نظرة حزينة، وقال لنفسه: مهما يكن أمري فلن تقع عيناي عليها مرة أخرى فلا داعي للقلق، وهل وُجِد في الدنيا شيء يعزُّ على النسيان؟ وقطع عليه أحلامه لاتو وهو يقول بلهجة دلَّت على القلق: انظر إلى الشمال .. أرى قافلة قادمة على عجل!

فنظر الشابان إلى الوراء فرأيا قافلة من خمس سفن تشق عباب الماء بسرعة، ولم تستطع الأعين رؤية مَن فيها ولكنها أخذَتْ تدنو بسرعة وتستبين أجزاؤها فعاين إسفينيس رجلًا يقف في مقدمة القافلة فعرفه، وقال بقلق: هذا القائد رخ!

فامتقع وجه لاتو، وقال وقد تزايد اضطرابه: تُرى هل يبغي اللحاق بنا؟

فلم يدرِ الآخَر كيف يجيبه، وراقبوا القافلة باهتمام وحذر، وساور لاتو بعض المخاوف فقال بحنق: هل يجيء هذا الأحمق ليعوق مسيرنا؟

وأدرك إسفينيس أنه لم يخلص بعدُ من عواقب خطئه، وأنَّ الخطر يوشك أن يحيق بقافلته وقد شارفت برَّ الأمان والسلامة، وصوَّب بصره نحو قافلة رخ فرآها تقترب بسرعة حتى جاوزت بعض سفن قافلته، وإذا بها خمس سفن حربية يقف على أسطحها فصائل من جند الحرس ولم تجيء لخير بلا شك، ثم اتجهت سفينة القيادة نحو سفينته فحاذتها، ورأى القائد يحدجه بنظرة قاسية، وسمعه يصيح به بصوته الغليظ: قِف وألقِ مراسيك.

وغيَّرت السفن اتجاهها لتحاصر القافلة، فأمر إسفينيس بحَّارته أن يكفوا عن التجديف وأن يُلقوا المراسي، فأذعنوا لما أُمروا، وقد تولَّاهم الخوف ورأوا سفن الرعاة تحمل الجنود الشاكي السلاح كأنهم يتأهَّبون لمعركة حربية، واشتد القلق بإسفينيس، وأشفق من أن ينكِّل القائد الحقود بقافلته فيئد أمل قومه جميعًا، وقال لرفيقه: إذا كان هذا الرجل يريد رأسي فلا بأس أن أكون أول صرعى الكفاح الجديد، وما عليك يا لاتو إذا قضيت إلا أن تستأنف المسير، دون أن تمكِّن للغضب من نفسك فتقضي على آمالنا جميعًا.

فشدَّ الشيخ على يده وقد اسودَّتِ الدنيا في عينَيه، واستدرك إسفينيس قائلًا بحزم: إنِّي أوصيك يا لاتو بما أوصيتني به بالأمس من تجنُّب الغضب غير الحكيم، دعني أدفع ثمن خطئي. ولئن تعُدْ غدًا إلى أبي فتعزيه عن موتي وتهنِّئه بمَن حملت إليه من جنود مصر، لَخيرٌ من أن تعود بي إليه وقد خسرنا أملنا إلى الأبد!

وسمع القائد رخ يصيح به قائلًا: اخرج إلى وسط السفينة أيها الفلاح.

فشدَّ الشاب على يد لاتو ومضى بقدمَين ثابتتَين، فقال له القائد وكان يقف على سطح سفينته: لقد أطحتَ بسيفي أيها العبد المفتون وأنا ثمِل أترنَّح وها أنا ذا أنتظرك وقلبي ثابت وساعدي غير مرتعش.

فأدرك أنَّ القائد ذو طبيعة انتقامية، وأنَّه يريد أن ينازله ليغسل العار الذي لحقه منه، فقال له بهدوء وقد دخله شيء من الطمأنينة على قافلته: هل ترغب في أن تعيد الكرة أيها القائد؟

فقال بقحة: نعم أيها العبد، وسأقتلك بيدي هذه المرة شر قتلة.

فسأله إسفينيس في هدوء: وأنا لا أخشى نزالك، ولكن هل تعد بألا تمسَّ قافلتي بسوء مهما تكن عاقبة المبارزة؟

فقال القائد باحتقار: سأترك القافلة احترامًا لمشيئة مولاي فتسير دون جثتك.

– وأين تريد القتال؟

– على ظهر سفينتي.

فلم ينبس الشاب بكلمة، وقفز إلى قارب وجدَّف بساعدَيه القويَّين حتى بلغ سفينة القائد، ثم ارتقى السلم إلى سطحها ووقف أمام عدوِّه وجهًا لوجه، فألقى عليه القائد نظرة قاسية وقد أغضبه ما يبدو على وجهه الجميل من الهدوء والثبات والاستهانة، وأشار إلى جندي من الجنود فأعطى الشاب سيفًا وترسًا، وقال له القائد وهو يتحفَّز للقتال: لا رحمة اليوم فدافع عن نفسك، ثم هجم عليه كالوحش الضاري فاشتبكا في قتال عنيف وسط دائرة واسعة من الجنود المدجَّجين بالسلاح؛ وعلى مقدمة السفينة الأخرى وقف لاتو وأحمس يشاهدان المعركة ببصر زائغ .. وتتابعت ضربات القائد فصدها إسفينيس بمهارته الفائقة، ثم وجَّه إلى خصمه ضربة شديدة سقطت على ترسه فصكَّتْه بعنف بدا عليه أثره، فانتهز الشاب الفرصة وبدأ هجومه عليه بشدة وحذق، فاضطُرَّ القائد إلى التقهقر، وجعل يدفع عن نفسه الضربات التي يسدِّدها له خصمه المقتدر الذي لم يُهيِّئ له فرصة يستريح فيها أو يعاود الهجوم، وتبدَّى الحنق على وجه الرجل وصرَّ بنواجذه بغضب جنوني، فارتمى على خصمه يائسًا، ولكن الشاب تفادى منه ووجَّه إليه ضربة رشيقة أصابت عنقه، فتخاذلت يداه، وكفَّ عن القتال، وترنَّح كالثمل ثم سقط على وجهه يتخبَّط في دمه، فصرخ الجنود صرخة غاضبة، وسلوا سيوفهم الطويلة وتحفزوا للانقضاض على الشاب لدى أول إشارة تصدر من الضابط الذي على رءوسهم، فأيقن إسفينيس بالهلاك وأدرك عبث المقاومة ولا سيما أن كثيرين كانوا يسدِّدون نحو قلبه قسيَّهم، فلبث يترقَّب مذاق الموت مستسلمًا وعيناه لا تفارقان القائد الطريح أمامه، وفي تلك اللحظة المزعجة الراهنة سمع صوتًا قريبًا يصيح بغضب: أيها الضابط مُر جنودك أن يغمدوا سيوفهم!

وخُيِّل إليه أنَّه يعرف الصوت فانخلع قلبه في صدره، والتفت إلى مصدر الصوت فرأى سفينة فرعونية تكاد تلتصق بسفينة الموت وعلى حائطها تتكئ الأميرة أمنريدس، تلوح على وجهها الجميل آي الغضب.

•••

وأغمد الجنود سيوفهم وأدوا التحيَّة، فحنى إسفينيس هامته إجلالًا قبل أن يفيق من دهشته ويصدِّق حقًّا أنَّه نجا من الموت، وسألت الأميرة الضابط قائلة: هل قُتل القائد رخ؟

فاقترب الضابط من القائد ووضع يده على قلبه وتفحَّص عنقه، ثم وقف قائلًا: أرى جرحه شديد الخطر يا صاحبة السمو، ولكن به نفس يتردَّد.

فسألته ببرود: وهل كان القتال عادلًا؟

– نعم يا صاحبة السمو.

فقالت الأميرة بغضب: كيف إذَن سوَّلَت لكم نفوسكم الهمَّ بقتل رجل أعطاه الملك الأمان؟

ولاح الارتباك في وجه الضابط ولم ينبس بكلمة، فقالت الأميرة بلهجة آمرة: أطلقوا سرح هذا التاجر وعودوا بالقائد الجريح إلى أطباء القصر!

وأذعن الضابط لما أُمِر فترك إسفينيس حرًّا، فهبط الشاب إلى قاربه ووجهه إلى السفينة الفرعونية، وهو يقول لنفسه بارتياح: «كيف جاءت الأميرة في الوقت المناسب؟» ثم صعد إلى سطحها فلم يمنعه أحد من الحراس، وصادف الأميرة قد عادت إلى مقصورتها فمضى إليها بقدمَين ثابتتَين، وطلب من جارية أن تستأذن له في الدخول .. فغابت في الداخل لحظة ثم جاءت بإذن، فدخل خافق القلب، ورأى الأميرة تجلس إلى متكأ وثير مسندةً ظهرها في رخاوة إلى نُمْرُقة محشوَّة بالقزِّ، ووجهها يشع نورًا سنيًّا، فانحنى بين يدَيها في إجلال صادق، ورأى وهو يعتدل واقفًا عقده ذا القلب الزمردي حول عنقها، فتورَّد وجهه، ولم يغِب عنها شيء مما ينطق به وجهه وعيناه، فقالت بصوت رخيم عذب وهي تشير بأنملتها إلى العقد: أجئتَ تسألني ثمن هذا العقد؟

فاطمأنَّ الشاب إلى لهجتها العذبة، وسُرَّ بدعابتها وقال بإخلاص: بل جئتُ يا صاحبة السمو لأشكر سموَّك مخلصًا على ما أوليتِني من نعمة الحياة، التي سأظلُّ مدينًا لكِ بها ما حييتُ.

فابتسمت ابتسامة مشرقة لاحت في ثغرها كومضة البرق، وقالت: نعم أنت مدين لي بحياتك. ولا تعجب إذ أقول هذا، فلستُ ممَّن يأخذهم الرياء بتصنُّع الكذب والتواضع، فلقد علمتُ صباح اليوم أنَّ القائد أبحر بأسطول صغير ليتعرَّض لقافلتك فلحقتُ به في السفينة وشهدتُ جانبًا من قتالكما، ثم تدخلتُ في الوقت المناسب لإنقاذ حياتك.

فوقع هذا المَنُّ من قلبه موضع الماء من الصادي، ووجد في نظرة عينَيها الناعستَين وما أعلنت من رغبتها في إنقاذ حياته، ما جعله ينتشي بخمر السعادة، وسألها: هل أطمع في أن تصارحني مولاتي، بما أعهده فيها من كراهية للرياء والتصنع، بالسبب الذي جعلها تجشم نفسها تعب إنقاذ حياتي؟

فقالت في استرسال وكأنها تسخر مما ظنَّ أنه أحرجها به: أن أجعلك تدين لي بحياتك!

– هو دين يسعدني ولا يُفقرني.

فرفعت له عينَيها الزرقاوين حتى أحسَّ أنَّه على وشك أن يترنَّح ويقع على قدمَيها، وقالت: يا لك من مُراءٍ كذوب .. أهذا كلام يقوله مدين لدائنه وهو يوليه ظهره لسفرة لا رجعة منها؟

– كلا يا مولاتي بل لسفرة لها معاد قريب!

فقالت وكأنها تحدِّث نفسها: إنِّي أسائل نفسي عما عسى أن يكون انتفاعي بهذا الدين؟

ووجب قلبه، ونظر إلى زرقة عينَيها فرأى نظرة استسلام وحُنُوٍّ أعذب من الحياة التي وهبته إياها، وأحسَّ أنَّ ما بينهما من هواء ينتفض بحرارة عميقة بسحر يجذب إليه روحيهما ليلتقيا ويمتزجا، ففقدَ لُبَّه وهوى على قدمَيها!

ثم سألته وقد هفت ذؤابات من شعرها الذهبي على جبينها الأغر وأذنيها: هل تغيب طويلًا؟

فقال وهو يتنهَّد: شهرًا يا مولاتي.

فلاحت في عينَيها نظرة حزن وقالت: ولكنك تزمع العودة .. أليس كذلك؟

– نعم يا مولاتي وحق حياتي التي هي لكِ .. وحق هذه المقصورة المقدسة!

فمدَّت إليه يدها وقالت: إلى الملتقى!

فلثم يدها وقال: إلى الملتقى!

•••

واستقبله لاتو بذراعَين مفتوحتَين وعينَين دامعتَين وضمَّه إلى صدره، وتعلَّق أحمس بعنقه ولثم جبينه، ورفعت القافلة مراسيها وأطلقت لنفسها العنان، ووقفوا يودِّعون سفينة الأميرة بأبصارهم وهي توغل في الشمال وهم يوغلون في الجنوب، حتى ارتدَّت عنها الأبصار وهي كليلة.

وعادوا إلى المقصورة وأخذوا مجالسهم وكأنَّ شيئًا لم يقع.

وجعل إسفينيس يعلِّل نفسه بمشاهدة القرى ورجالها الأشداء ذوي الأجسام النحاسية، ولكن قلبه كان ينزع به إلى المقصورة، هل يداخل لاتو شك؟ .. إنَّ لاتو رجل كريم شاخَ قلبه وزهد كلَّ شيء إلا حب مصر، وهو نفسه لا يخلو من همٍّ يساوره ولا يدري أأخطأ أم أصاب، ولكن مَن مِن بني الإنسان يستطيع أن يبلغ هدفه كما قُدِّر له من قبل دون حسبان لما يجدُّ من الأمور؟ .. فلرُبَّ قاصد إلى جبل يجد نفسه منحدرًا في وادٍ عميق، ولرُبَّ مزمع صيد أراش له نبلًا يلقى الصيد منقضًّا عليه ومطارده.

١٥

واجتازت القافلة حدود مصر في سلام، فصلى رجالها للرب آمون صلاة جامعة حارة، وشكروا ربهم على ما هيَّأ لهم من سبل النجاة، ودعوه أن يُدني إليهم آمالهم ويحفظ نساءهم من كل سوء، وصعدت القافلة في النهر أيامًا وليالي حتى رست عند جزيرة صغيرة للراحة والاستجمام، فدعا لاتو الرجال إلى النزول إلى أرض الجزيرة، ووقف بينهم وإسفينيس إلى يمينه ثم قال لهم: أيها الإخوان، دعوني أصارحكم بسرٍّ أخفيتُه عنكم لحكمة لن تخفى عليكم؛ ألا فاعلموا أنَّنا رسولا أسرة مليكنا الشهيد سيكننرع إليكم، وأنَّ مليككم كاموس ينتظر مقدمكم الآن في نباتا.

فلاحت الدهشة في وجوه الرجال، وسأل البعض وهم لا يملكون أنفسهم من الفرح: أحق أيها السيد لاتو أنَّ أسرتنا الفرعونية في نباتا؟

فحنى رأسه بالإيجاب مبتسمًا، فسأله آخَرون: هل توجد هناك أمنا المقدسة توتيشيري؟

– نعم .. وستبارككم في الغد القريب.

– ومليكنا كاموس بن سيكننرع؟

– نعم وسوف ترونه بأعينكم، وتسمعون إليه بآذانكم.

– وولي العهد أحمس؟

فابتسم لاتو وأشار إلى إسفينيس، ثم حنى هامته قائلًا: إليكم أيها السادة ولي عهد المملكة المصرية، حضرة صاحب السمو الفرعوني الأمير أحمس.

وتصايح كثيرون: التاجر إسفينيس ولي عهد مصر الأمير أحمس؟

أما أحمس إبانا فقد سجد بين يدَي الأمير وهو يبكي، فسجد الجميع وراءه، منهم مَن يبكي ومنهم مَن يهتف فيتصاعد الهتاف من أعماق قلبه!

واستأنفت القافلة رحلتها والفرح يشمل وحداتها جميعًا، يودُّ رجالها لو تطير بهم طيرانًا إلى نباتا حيث ينتظرهم مليكهم المعبود كاموس وأمهم المقدسة توتيشيري .. ومضت أيام وليالي، ثم لاحت في الأفق نباتا بأكواخها الساذجة ومبانيها المتواضعة، وما زالت تقترب وتدنو وتظهر معالمها حتى رست القافلة إلى مرفئها، وشعر بالقافلة بعض الجنود فقصدوا إلى قصر الحاكم، وتجمَّع حشد النوبيين على الشاطئ ليشاهدوا السفن والقادمين عليها، ونزل المصريون إلى الشاطئ يتقدمهم الأمير أحمس والحاجب حور، ثم جاءت عربة مسرعة ونزل منها حاكم الجنوب رءوم، فحيَّا الأمير والقادمين معه، وأبلغَهم تحية الملك وأسرته، وأخبرهم أنَّ جلالته ينتظرهم في القصر، وهتف الرجال للملك طويلًا، ثم ساروا في جموع غفيرة وراء أميرهم يتبعهم جمع غفير من النوبيين.

وكانت الأسرة الفرعونية تجلس تحت مظلة كبيرة في فناء قصر الحاكم، وقد غيرت تلك السنوات العشر منها ما غيَّرَت، فترك الجد والصرامة والحزن في نفوسهم جميعًا آثارًا لا تمحى أبد الدهر، وكان أكبرهم تأثرًا بالدهر، الملكتان توتيشيري وأحوتبي، فجفَّ عود الأم المقدسة ومالت قامتها إلى الانحناء قليلًا، وحفرَتِ الآلام في جبينها الوضَّاء تجعداتها، ولم يبقَ من توتيشيري القديمة سوى بريق عينَيها ونظراتها الدالة على الحكمة والصبر، وأما أحوتبي فقد جلل رأسها المشيب، وارتسمت على وجهها الحسن مسحة حزن ووجوم.

ولما رأى الشعب مليكه، سجد له، ثم تقدَّم أحمس من أبيه وقبَّل يد والدته الملكة ستكيموس وجدته أحوتبي وتوتيشيري، وقبَّل جبين زوجته الأميرة نيفرتاري، ثم وجَّه خطبته إلى الملك قائلًا: مولاي لقد تعهد آمون عملنا بالنجاح، فإلى جلالتكم أقدِّم أول كتائب جيش الخلاص.

فلَاح السرور في وجه الملك، وقام واقفًا ورفع الصولجان تحيَّةً لقومه، فهتفوا له طويلًا، ثم أقبلوا عليه يُقبِّلون يده رجلًا رجلًا، ثم قال لهم كاموس: حيَّاكم الرب أيها الطيبيون الشجعان الذين فرق البغي بيننا وبينهم، فقضى عليهم أن يساموا الخسف، كما قضى علينا أن نذوق مرارة الغربة عشرة أعوام كاملة، ولكن أراكم رجالًا تأبون الضيم وتؤثرون مشقة الاغتراب وتعب الكفاح عن الرضى بالسلامة في ظِلِّ الذل، كما عهدتكم دائمًا وكما عهدكم أبي من قبل، فجئتم تَصِلِون جناحي بعد أن تمزَّق أو كاد، وتثبِّتون قلبي وقد أرعشه جفاء الدهر، وكان من رحمة الرب آمون أن جاء أطهرنا قلبًا وأعظمنا أملًا الأم توتيشيري في المنام، وأمرها أن تبعث بابني أحمس إلى أرض الآباء والأجداد ليأتي بالجنود الذين يخلِّصون مصر من عدوها ومُذلها، فبعثت بابني كما أمر الرب وأتى بكم، فمرحبًا بكم جنود مصر وجنود كاموس، وسيأتي غدًا آخَرون؛ فلنستوصِ بالصبر ولنعُد إلى العمل؛ وليكن شعارنا الكفاح، وأملنا مصر، وإيماننا آمون.

فصاحوا جميعًا كرجل واحد: «الكفاح ومصر وآمون …» ثم قامت توتيشيري واقفة وتقدَّمت خطوات متوكئة على صولجانها، ثم قالت للرجال بصوت قوي سليم النبرات: يا أبناء طيبة المجيدة الحزينة، تقبَّلوا تحيات أمكم الكبيرة، ودعوني أقدِّم لكم هدية صنعتها بيدي لكم لنعمل جميعًا تحت ظلها.

وأشارت إلى أحد الجنود بصولجانها، فاقترب من الرجال وقدَّم إليهم علمًا كبيرًا عليه صورة معبد آمون يحيط به سور طيبة ذو الأبواب المائة، فتلقَّفَتْه الأيدي بحماسة، ودعوا لأمهم دعاءً حارًّا وهتفوا لها ولطيبة المجيدة، فابتسمت توتيشيري وأضاء وجهها نور بهيج، وقالت: يا أبنائي الأعزاء، أصارحكم بأني لم أستسلم إلى اليأس أبدًا، وقد أوصانا سيكننرع يوم الوداع بأن نحذر اليأس، وما زلت أدعو الرب أن يمدَّ في أجلي حتى أرى طيبة مرة أخرى ترفرف على قصرها أعلامنا، ويجلس على عرشها كاموس فرعون مصر العليا والسفلى، وقد أصبحت اليوم أدنى إلى أملي بعد أن ضمَّت إليَّ سواعدكم الفتية.

فتعالى هتاف القوم مرة أخرى، وجعل الملك يسأل عن رجالات مصر وكاهن آمون ومعبد الرب، والحاجب يجيبه بما عرف، ثم قدَّم الأمير أحمس إلى أبيه أحمس بن إبانا ابن القائد بيبي، فرحَّب به الملك وقال له: أرجو أن تكون لي كما كان أبوك لأبي قائدًا باسلًا، فعاش لواجبه ومات في سبيله!

ثم دعا الملك القادمين إلى وليمة غداء، فأكلوا هنيئًا وشربوا مريئًا، ثم مضوا جميعًا يفكِّرون في الغد القريب والغد البعيد، وباتت نباتا أول مرة منذ عشرة أعوام فرحة مستبشرة يعمر قلبها الأمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤