كفاح أحمس

١

لم تكن حياة الأسرة الفرعونية في المهجر حياة دعة وخمول، ولكنَّها كانت حياة عمل وإعداد للمستقبل البعيد، ومدارها جميعًا قلب توتيشيري الذي لا يعرف اليأس أو الراحة، فطلبت منذ بدء قدومها إلى رءوم حاكم الجنوب أن يدعو إلى نباتا مَهَرَة الصنَّاع النوبيين والفنيين المصريين المقيمين بالنوبة، فبعث الرجل برسله إلى أرقو وأطلال وغيرهما من بلاد النوبة، وجاءوه بالصنَّاع والعمال، وأوجبت الملكة الكبيرة على ابنها أن يعهد إليهم بصنع السلاح والخوذات والثياب الحربية، وبناء السفن وعجلات القتال، وقالت له تشجعه: «ستعمد يومًا إلى الهجوم على العدو الذي اغتصب عرشك وامتلك بلادك، فينبغي إذا جاء هذا اليوم أن تهجم بأسطول كبير، وقوة عجلات لا تُقهر كما فعل العدو مع أبيك».

وتحولت نباتا في أثناء السنوات العشر إلى مصنع كبير لصناعة السفن والعجلات والآلات الحربية بأنواعها جميعًا، ونمت ثمارها على مرِّ الأيام فكانت دعائم الأمل الجديد، ولما جاء الرجال مع القافلة الأولى، وجدوا ما يحتاجون إليه من السلاح والعتاد راهنًا موفورًا، فأقبلوا على التدريب بقلوب تملؤها الحماسة والأمل الصادق، فانخرطوا جميعًا غداة وصولهم إلى نباتا في سلك الجندية، وتدرَّبوا على فنون القتال واستعمال الأسلحة المتنوِّعة تحت إشراف ضباط الحامية المصرية، فلم تأخذهم في التدريب هوادة، فكانوا يعملون من مطلع الفجر حتى غروب الشمس.

كانوا يعملون جميعًا لا فرق بين كبير وصغير، فكان الملك كاموس يشرف بنفسه على تدريب الجند وتكوين نواة الفِرق المختلفة ويختار الصالحين للأسطول، يعاونه ولي العهد أحمس، وأبَتِ الملكات الثلاث والأميرة الصغيرة إلا أن يعملن مع العاملين، فكُنَّ يثقِّفن السهام ويرشنها، أو يشتغلن بحياكة الثياب الحربية، وكنَّ لا يفتأن يختلطن بالجنود والصنَّاع ويؤاكلنهم ويشاربنهم ليشجعنهم ويثبِّتن قلوبهم، وما كان أروع منظر الأم توتيشيري وهي مُكِبَّة على عملها بهِمَّة لا تعرف الملل، أو سائرة بين الجنود تشاهد تدريبهم وتُلقي عليهم كلمات الحماسة والرجاء، وكان الرجال يرَوْنها فينسون أنفسهم وينفضون حماسةً وإقبالًا، فتبتسم المرأة استبشارًا، وتقول لمَن حولها: إنَّ السفن والعجلات تنقلب مقابر لمَن عليها إذا لم تدفعها قلوب أشد صلابة من حديدها .. انظروا إلى رجال طيبة كيف يعملون؟ سوف ينقض الواحد منهم على عشرة من الرعاة ذوي اللحى القذرة والبشرة البيضاء، فيُطيِّر أفئدتهم.

والحق قد انقلب الرجال بقوة الحماسة والحب والبغضاء وحوشًا ضواري!

وانصرف الحاجب حور إلى إعداد القافلة الثانية، فضاعف لها السفن، وملأها بالذهب والفضة والأقزام وغريب الحيوان، وارتأت الأم توتيشيري أن يحمل معه جماعات من النوبيين المخلصين ليُهديهم إلى سادة طيبة ليكونوا عبيدًا في الظاهر وأعوانًا في الباطن، يطعنون العدو من الخلف إذا اشتغل يومًا باشتباك معهم، وقد راقت الفكرة الملك كما راقت الحاجب حور، وعمل على تحقيقها بغير تردُّد.

وانتهى حور من الإعداد لقافلته واستأذن في السفر، وكان الأمير أحمس ينتظر تلك الساعة بقلب أضناه الشوق وعناه الجوى، فاستأذن في الرحيل على رأس القافلة، ولكن الملك وقد علم بما وقع له من الأحداث وما تعرَّض له من الأخطار، أبى أن يجازف بسفره مرة أخرى بغير داعٍ، فقال له: أيها الأمير، إنَّ واجبك الآن يدعوك إلى البقاء في نباتا.

فبغت الأمير بقول أبيه الذي ألقى على الأمل المضطرم في صدره كما يُلقى الماء البارد على الجمرة المستعرة، وقال له برجاء صادق: إنَّ رؤية مصر والاختلاط بأهلها شفاء من أدواء ابتُليَ بها قلبي.

فقال الملك: ستجد الشفاء التام يوم تدخلها غازيًا على رأس جيش الخلاص.

فعاود الشاب الرجاء قائلًا: أبي، طالما علَّلتُ نفسي برؤية طيبة قريبًا.

فقال الملك بحزم: لن يطول انتظارنا، فاصبر حتى تأذن ساعة الكفاح.

وأدرك الشاب من لهجة الملك أنَّه قال كلمته الأخيرة، فأشفق من إغضابه إذا عاوده الرجاء، وحنى رأسه دلالةً على التسليم والقبول وقد أحسَّ الألم يقطع قلبه ويكتم أنفاسه، ولكنه تماسك وتجلَّد ومضى إلى المعسكر حيث يتدرَّب الرجال والقلب حزين كئيب، وكان نهاره ينقضي في العمل الشاق فلم يظفر من يومه إلا بساعة قصيرة قبيل النوم فينادي في خلوته حلو الذكريات، ويحوم بخياله حول المقصورة الجميلة في السفينة الفرعونية التي شاهدت ساعة الوداع أبدع الحسن وألطف الهوى، فيخال أنَّه يسمع الصوت الرخيم يتمتم قائلًا: «إلى الملتقى»، ثم يتنهَّد من أعماق قلبه ويقول أسيفًا محزونًا: أين الملتقى؟ .. إنَّه الوداع الذي لا لقاء بعده.

على أنَّ نباتا في تلك الأيام كانت حقيقة بأن تُنسِي الرجل نفسه وهمه، وتقصره على الاشتغال بما هو أجلُّ وأخطر، وكان الرجال يعملون جادِّين يكافحون بغير انقطاع، فإذا نسمت عليهم ريح طيبة وهزَّهم الشوق إلى مَن خلَّفوهم وراء أسوارها، تنهَّدوا حينًا ثم انكبوا على ما بين أيديهم بهمَّة أعظم وعزيمة أشد، ومرَّت بهم الأيام لا يصدقون أنَّ في الدنيا شيئًا غير العمل، أو أنَّ في الغد شيئًا سوى الأمل .. ثم عادت القافلة برجال جدد يهتفون كما هتفوا يوم مجيئهم ويصيحون متلهِّفين مثلهم: أين مليكنا «كاموس»، وأين أمنا توتيشيري، وأين أميرنا أحمس؟ .. ثم ينضمون إلى المعسكر يعملون ويتدرَّبون.

وجاء الحاجب حور الأمير أحمس وحيَّاه، ثم مدَّ له يده برسالة وقال: عُهد إليَّ أن أحمل إلى سموك هذه الرسالة!

فسأله أحمس وهو يتناولها دهشًا: مَن مرسلها؟

ولكن حور لازم الصمت في وجوم، فخطر للأمير خاطر فخفق قلبه، وفضَّ الرسالة وقرأ الإمضاء فارتعدت مفاصله واشتد وجيب قلبه، وجرَتْ عيناه على الأسطر فإذا هي ما يأتي:

أيها التاجر إسفينيس

يحزنني أن أخبرك بأنِّي اخترت قزمًا من أقزامك ليعيش معي في جناحي الخاص، وأنِّي عنيت به وأطعمته ألذَّ الطعام وكسوته أجمل الكساء وعاملته أحسن المعاملة، حتى أنسَ بي وأنستُ به، ثم افتقدته يومًا فلم أجده فأمرت الجواري أن يبحثن عنه فوجدنه قد هرب إلى أخوَيه في الحديقة، فآلمني غدره وصددت عنه، فهل لك أن تبعث إليَّ بقزم جديد يعرف الوفاء؟

أمنريدس

وأحسَّ أحمس لدى انتهائه من قراءة الرسالة طعنة نجلاء تصيب قلبه، وأنَّ الأرض تميد تحت قدَميه، ولاحت منه نظرة إلى حور فرآه ينعم النظر كأنه يحاول أن يعرف الرسالة بمطالعة وجهه.

فتحول عنه وسار في سبيله محزونًا كسير الفؤاد، يقول لنفسه هيهات أن تدري بما يمنعه من العودة إليها، وهيهات أن يستطيع يومًا أن يبثها شجوه وعواطفه، وسترى فيه دائمًا القزم فاقد الوفاء.

وانطوى على آلامه لا يحسُّ ما يستعر في فؤاده سوى أقرب الأفئدة إليه: نيفرتاري، وقد تحيَّرَت من أمره وعجبت لما يكمن وراء ذهوله وشروده، ونظرة الحزن التي تلوح في عينَيه الجميلتَين كلما أرسل النظر غير قاصد شيئًا.

فقالت له ذات مساء: لستَ كعهدي بك يا أحمس.

فاضطرب لملاحظتها، وداعب ضفائرها بأنامله وقال مبتسمًا: إنَّه التعب يا حبيبتي، ألا ترين ما نحن فيه من كفاح يهد الجبال الرواسي؟

فهزَّت رأسها ولم تقل شيئًا، وغدا الشاب أشد حذرًا.

على أنَّ نباتا لم تكن لتترك إنسانًا يغرق في حزنه، لأنَّ العمل قاهر الأحزان وقد شهدت من معجزاته ما لم تشهد من قبل ولا من بعد، فكانت تدرب الرجال، وتصنع السفن والعجلات والسلاح، وترسل القوافل مُحمَّلة بالذهب فتعود مُحمَّلة بالرجال، ثم تردها فترتد إليها، ومضت الأيام والشهور الطوال إلى أن جاء اليوم السعيد المرتقب، فقصد الملك كاموس إلى جدته توتيشيري، وهو لا يتمالك من الفرح، ولثم جبينها وقال بصوت متهدج: أبشري يا أماه، لقد تمَّ إعداد جيش الخلاص!

٢

ودقَّت طبول الرحيل فانتظم الجيش فرقًا ورفع الأسطول مراسيه، ودعت توتيشيري إليها الملك وولي العهد وكبار القواد والضباط وقالت لهم: هذا يوم من الأيام السعيدة التي طال انتظاري لها، فأبلغوا جنودكم البواسل أنَّ توتيشيري تضرع إليهم أن يفكوا أسرها، ويحطموا الأغلال التي تغلُّ أعناق مصر جميعًا، وليكن شعاركم جميعًا أن تحيوا حياة أمنمحيت أو تموتوا ميتة سيكننرع، وليبارككم الرب آمون وليثبِّت قلوبكم!

فقبَّل الرجال يدها النحيلة، وقال لها الملك كاموس وهو يودِّعها: سيكون شعارنا جميعًا حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع، وسيموت مَن يموت منَّا أشرف ميتة، ويحيا مَن يبقى منَّا أعز حياة.

وخرجت نباتا وعلى رأسها الأسرة الفرعونية والحاكم رءوم تودِّع الجيش اللجب، ودقَّت الطبول وعزفت الموسيقى وتحرك الجيش متبعًا نظامه التقليدي، فتقدمته قوة الكشافة تحمل الأعلام، وسار الملك كاموس في طليعة الجيش وسط هالة من الحاشية والحجَّاب والقوَّاد يتبعها الحرس الفرعوني في عجلاته الأنيقة، ثم تقدَّمت فرقة العجلات تسير صفوفًا صفوفًا لا يحدها البصر، تبعث عجلاتها في الجو صلصلة تصم الآذان، وتصهل جيادها كزفزفة الرياح، وتليها فرقة القسي الثقيلة بقسيها ودروعها وجعبات السهام، تتبعها عربات السلاح والمؤن والخيام تحرسها الفرسان، وأبحرَ كذلك الأسطول بسفنه الجبارة وقد تهيَّأ الجنود عليه بكامل معداتهم من القسي والرماح والسيوف.

وتقدَّمت هذه القوات على أنغام الموسيقى تستعر الحماسة في قلوبها الفتية الغاضبة، ويُلقي منظرها الراهب الرعب في الأفئدة والنفوس، وتقطع النهار ضاربة في الأرض وتهجع إذا ما خيم الظلام لا تكلُّ ولا يصيبها الإعياء، مستعينة على مشاق الطريق وطول الرحلة بعزائم تزحزح الجبال، فمرُّوا في سبيلهم بسمنة وبون وأبسخليس وفتتزيس ونافس، وما زالوا يضربون في الأرض حتى بلغوا دابود آخِر بلدان النوبة، ونسمت على وجوههم ريح مصر الطيبة، فعسكروا وأقاموا الخيام ليستريحوا من وعثاء السفر ويأخذوا أهبتهم للنضال.

ودبَّر الملك ورجاله خطة الغزو الأولى فأحكموا التدبير، وعهد إلى أحمس إبانا — وكان أمهر رجال الأسطول كافة — بقيادة جزء من الأسطول ليسير به إلى حدود مصر، باعتباره قافلة مما ألف الحراس اجتيازها للحدود في العهد الأخير، وعند فجر اليوم الرابع لوصول الجيش إلى دابود أبحر الأسطول الصغير فبلغ الحدود المصرية عند إسفار الصبح، وكان أحمس إبانا يقف على ظهر السفينة في ثياب التجار الفضفاضة، فأبرز جواز الدخول للحراس ودخل بأسطوله في سلام، وكان الضابط يعلم أنَّ حرس الحدود مكوَّن من سفن قلائل وحامية صغيرة، فكانت خطته ترمي إلى مفاجأة السفن الآمنة والاستيلاء عليها، ثم ضرب الحصار حول جزيرة بيجة حتى يدخل الجيش والأسطول أرض مصر، فيسهل عليه ضرب سيين ولمَّا تأخذ أهبتها. وتقدمت القافلة في خط أفقي، فلما دنت من شاطئ بيجة الجنوبي حيث ترسو سفن الرعاة ظهر الجنود على سطحها وبأيديهم القسي، وخلع أحمس عباءة التجار فبدا في ثياب الضباط، وأمر بإطلاق السهام على حرس السفن، واقترب الأسطول من السفن الراسية بسرعة، وانقضَّ عليها قبل أن يأتيها مدد من البر، وألقى عليها شباكه، وقفز الجنود إلى سطحها ليستولوا عليها، فاشتبكوا مع مَن وُجد فيها من الحراس القليلين، في معركة صغيرة فأبادوهم في زمن يسير، وفي أثناء هذه الحركة كانت سفينة أحمس تطلق سهامها على حرس الشاطئ وتمنع الجنود من معاونة زملائهم في السفن، فتمَّ الاستيلاء على السفن بسرعة دون أن يكلف المهاجمين ثمنًا غاليًا، وضرب الأسطول الحصار حول الجزيرة ليمنع الاتصال بالمدن الشمالية، وتنبَّهت حامية بيجة إلى الحركة الخاطفة فجرَتْ إلى الشاطئ، ولكنها وجدت نفسها حبيسة محصورة، وأنَّ أسطولها الصغير أسير.

ولم يمضِ إلا قليل وقت على انتهاء المعركة حتى بدت وحدات الأسطول المصري في الأفق تمخر عباب الماء متجهة صوب الحدود، ثم اجتازتها دون أن تجد مقاومة، وانضمت إلى أسطول أحمس إبانا، فصارت الجزيرة وسط دائرة من السفن الضخمة، مما اضطر حامية بيجة إلى التقهقر إلى قلب الجزيرة بعيدًا من مرمى سهام الأسطول التي انهالت عليها من جميع الجهات.

وما هي إلا أن دخلت طلائع الجيش الحدود وانهالت على الجانب الشرقي، تتبعها الفِرَق ذات اللجب، فأدرك المحاصرون في بيجة أنَّ القادمين غزاة لا قراصنة كما توهَّموا أول الأمر. ثم أصدر قائد الأسطول قمكاف أمره بالهجوم على الجزيرة، فانقضت عليها السفن من جميع الجهات، وأنزلت الجنود المدججين بالسلاح تحت حماية القسي، وزحف الجنود من جميع النواحي نحو الحامية المحاصرة في الوسط، وكان جنودها — إلى وقوعهم في مركز دقيق — قد رأوا تدفُّق القوات المصرية في البر والنيل فخذلتهم سواعدهم وخانتهم شجاعتهم، وألقوا السلاح وسلموا أنفسهم وأُخِذوا أسرى، وكان أحمس إبانا على رأس المهاجمين، فدخل قصر الحاكم دخول المنتصر، ورفع عليه الأعلام المصرية، وأمرَ بالقبض على الموظفين الرعاة والأعيان أسوة بالجنود.

ورأى أهل الجزيرة من الفلاحين والعمال والخدم الجنود المصريين فلم يصدِّقوا أعينهم، وهرعوا نساءً ورجالًا إلى قصر الحاكم الجديد وتجمعوا أمامه ليروا ما الخبر، تصطرع في نفوسهم الآمال والمخاوف، فخرج إليهم أحمس إبانا، وقد تطلعوا إليه صامتين، فقال لهم: حيَّاكم الرب آمون حامي المصريين وقاهر الرعاة.

فوقعت كلمة آمون من آذانهم موقعًا جميلًا ساحرًا، وقد حُرموا سماعها عشرة أعوام، وأضاء وجوههم الابتهاج فتساءل بعضهم: هل أتيتم حقًّا لإنقاذنا؟

فقال أحمس إبانا بصوت متهدج: لقد جئنا لإنقاذكم وإنقاذ مصر المستعبدة فأبشروا، ألا ترون هذه القوات الهائلة؟ إنها جيش الخلاص، جيش مولانا الملك كاموس ابن مليكنا الشهيد سيكننرع، الذي جاء لتحرير شعبه واستعادة عرشه.

فنطق القوم باسم كاموس كالذاهلين، ثم غمرهم الفرح والحماسة فهتفوا له طويلًا، وجثا كثيرون يصلون للرب آمون المعبود، وسأل بعض الرجال أحمس إبانا قائلين: هل انتهت عبوديتنا حقًّا؟ وهل نُردُّ اليوم أحرارًا كما كنَّا من قبل سنوات عشر؟ .. هل مضى زمن السوط والعصا وتعييرنا بأنَّنا فلاحون؟

فاهتاج أحمس إبانا غضبًا وقال بحنق: ثقوا أنَّ عهد الظلم والعبودية والسوط قد مضى إلى غير رجعة، وأنَّكم ستعيشون منذ الساعة سادة أحرارًا في كنف مليكنا كاموس فرعون مصر الشرعي، وستُرَدُّ إليكم أرضكم وبيوتكم ويُلقى بمَن اغتصبوها هذا الدهر في غيابات السجون.

فشمل الفرح النفوس المعذَّبة، وانتظمتهم صلاة جامعة تصاعد فيها الدعاء إلى آمون في السماء، وكاموس في الأرض.

٣

وفي رونق الضحى نزل الملك كاموس وولي عهده أحمس والحاجب حور وأفراد الحاشية جميعًا إلى أرض الجزيرة فاستقبله الأهلون استقبالًا حماسيًّا، وخرُّوا سُجَّدًا يقبِّلون الأرض بين يدَيه، وتعالى هتافهم لذكر سيكننرع ولتوتيشيري وللملك وللأمير أحمس، فحيَّاهم كاموس بيدَيه، وتحدَّث إلى جمع غفير من رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وأكلَ ما قدَّموه له من الدوم والفاكهة، وشرب وحاشيته وقوَّاده أقداحًا مترعة بنبيذ مريوط، ذهبوا جميعًا إلى قصر الحاكم، وأصدر الملك أمره بتعيين أحد رجاله المخلصين المدعو سمار حاكمًا على الجزيرة وعهد إليه في نشر العدالة وتطبيق القوانين المصرية، وفي ذلك الاجتماع أجمع القواد على وجوب مفاجأة سيين عند الفجر، لتضرب الضربة القاضية قبل أن تفيق من ذهولها.

ونام الجيش مبكرًا واستيقظ قبيل الفجر، ثم زحف نحو الشمال ومعه الأسطول يسدُّ منافذ النيل، فشق الظلماء والنجوم ساهرة يقظى تُراقبه بأعين لامعة، والغضب يتأجَّج في الصدور فتتلهَّف على الانتقام والقتال، واقتربوا من سيين وقد اختلطت ظلمة آخِر الليل بنور الصباح الأزرق الخجول، وشفَّ الأفق الشرقي عن طلائع الشمس، وأصدر كاموس أمره إلى قوات العجلات بأن تزحف على المدينة من الجنوب والشرق تؤيدها قوات من فرقتَي القسي والرماح، وأمرَ أسطوله بضرب الحصار على الساحل الغربي للمدينة، وهجمت القوات على المدينة من ثلاث جهات في وقت واحد، وكان يقود العجلات ضباط قدماء يعرفون المدينة ومواقعها، فوجَّهوا العجلات نحو الثكنات ومراكز الشرطة، تبعتها قوات المشاة شاكية السلاح فأوقعوا بالعدو مذبحة سالت فيها الدماء أنهارًا، واستطاع الرعاة أن يقاتلوا في بعض المواقع فدافعوا عن أنفسهم دفاع اليائس، وتساقطوا كأوراق الخريف اليابسة هبَّت عليها ريح عاصفة .. أما الأسطول فلم يلَق مقاومة ولم يلتقِ في طريقه بسفن حربية فاستولى على الشاطئ وأنزل قوات من جنوده فهجموا على القصور المشرفة على النيل وقبضوا على أصحابها، وكان بينهم حاكم المدينة وقضاتها وكبار الأعيان، ثم اخترقت القوات الحقول صوب المدينة.

وكانت المفاجأة عاملًا فاصلًا في المعركة قصَّر مدتها وكثَّر صرعاها من الرعاة، فما ارتفعت الشمس في الأفق وأرسلت نورها إلى المدينة حتى رُئيت جموع الغزاة وهي تحتل الثكنات والقصور وتسوق الأسرى، وشوهدت الجثث ملقاة في السبل وأفنية الثكنات وقد سالت دماؤها، وذاع في أرجاء المدينة والحقول القريبة أن كاموس ابن سيكننرع اقتحم سيين بجيش جرَّار واستولى عليها، فاستعرت على الأثر ثورة دموية، وهاجم الأهلون بيوت الرعاة وقتلوهم في مخادعهم، ومثَّلوا بهم وضربوهم بالسياط ضربًا مبرحًا، فهام كثيرون على وجوههم فزعين كما فعل المصريون حين زحف أبوفيس على الجنوب بعجلاته ورجاله .. ثم هدأت النفوس وقبض الجيش على ناصية الحال ودخل الملك كاموس على رأس جيشه تخفق على رأسه الأعلام المصرية وتسير بين يدَيه قوات الحرس بموسيقاها، فهبَّ الأهلون يستقبلونه، وكان يومًا مجيدًا.

ونقل الضباط للملك أنَّ عددًا غفيرًا من الشبان — ومنهم مَن كانوا جنودًا في الجيش القديم — يُقبِلون على التطوع في الجيش بحماسة فائقة، فسُرَّ كاموس وولَّى على المدينة أحد رجاله المدعو شاو، وأمره بأن ينظِّم المتطوعين ويدرِّبهم لينضموا إلى الجيش جنودًا متأهبين، وأحصى القوَّاد للملك ما غنموا من العجلات والجياد، فإذا هو شيء عظيم.

واقترح الحاجب حور على الملك أن يتقدَّموا دون توانٍ حتى لا يدعوا للعدو مهلة للتأهُّب وحشد الجيوش، وقال: سنخوض أول معركة حقيقية في أمبوس.

فقال كاموس: نعم يا حور، ولا يبعد أن يكون قد طرق أبواب أمبوس الآن عشرات الفارِّين، فلا مجال للمفاجأة بعد الآن، وسنلقى عدونا مستعدًّا، وربما استطاع أبوفيس أن يلقانا بقواته الغاشمة في هيراكونوليس .. فهيا إلى المسير!

وزحفت القوات المصرية — البريَّة والنيليَّة — صوب الشمال في طريق أمبوس، ودخلت في قرى كثيرة فلم تلقَ مقاومة ألبتة، ولم تعثر برجلٍ واحدٍ من الرعاة، وعلم الملك أن رجال العدو يحملون متاعهم ويسوقون حيوانهم فارِّين إلى أمبوس، وخرج الفلاحون يستقبلون جيش الخلاص ويحيُّون مليكهم المظفَّر ويدعون له من قلوب أنعشها الفرح والأمل، وجدَّ الجيش في المسير حتى شارف أمبوس، وهناك جاءت طلائع الكشافة تُقرِّر أنَّ العدو معسكر جنوب المدينة متأهِّبًا للقتال، وأنَّ أسطولًا متوسط العدد يرسو غرب أمبوس، فعلم كاموس أنَّ أول معركة مهمة باتت على الأبواب، ورغب الملك في أن يعرف عدد جنود عدوه، ولكن تعذَّر ذلك على جنود الكشف لأن العدو كان يعسكر في سهل منبسط لا تسهل مراقبته، فقال قائد شاب يدعى محب: لا أظنُّ يا مولاي أنَّ قوة أمبوس تعدو بضعة آلاف.

فقال الملك كاموس: ائتوني بكل ضابط أو جندي من أمبوس.

وفطن الحاجب حور إلى ما يريد الملك فقال: عفوًا يا مولاي، لقد تغيَّر وجه أمبوس في عشرة الأعوام المنقضية، فأُنشئت بها ثكنات لم تكن من قبل، رأيتها بعيني في بعض رحلاتي التجارية، ومن المرجَّح أنَّ الرعاة جعلوا منها مركزًا للدفاع عن البلاد المتاخمة للحدود.

فقال القائد محب: على أيِّ حال يا مولاي أرى أن نهجم بقوات خفيفة، حتى لا نتكبد خسارة فادحة.

ولم يستحسن الأمير أحمس هذا الرأي، فقال لأبيه: مولاي أرى خلاف هذا الرأي، أرى أن نهاجم بقوات كثيفة لا تُقاوم، وأن نقذف جلَّ قواتنا في المعركة لنضرب العدو الضربة القاضية في أقصر وقت، ونذهل القوات التي تحشد في طيبة الآن لقتالنا، ونقاتل من الغد رجالًا يرون الموت ماثلًا في قتالنا، ولا خوف علينا من المخاطرة بجنودنا، فسيتضاعف جيشنا بما ينضم إليه من المتطوعين في كل بلد نغزوه، ولن يجد عدونا لخسارته عوضًا.

وراق هذا الرأي الملك فقال: إنَّ رجالي يجودون بأنفسهم عن طيب خاطر في سبيل طيبة!

وكان الملك يعلم بما لانتصار الأسطول من أثر حاسم في كسب الموقعة، للدور الخطير الذي يلعبه في ضرب الحصار على شواطئ المدن الغنية أو إنزال جنود في مؤخرة العدو، فأصدر أمره إلى القائد قمكاف بالهجوم على سفن الرعاة الراسية غرب أمبوس.

وغدا الجيشان لا يفصل بينهما سوى ميدان فسيح، وكان الرعاة رجال حرب وجلاد، ذوي بأس ومقدرة، وكانوا يستهينون بالمصريين استهانة متأصِّلة، فبدءوهم بالهجوم وهم يجهلون قوتهم، وأرسلوا عليهم فرقة العجلات المكوَّنة من مائة عجلة حربية، وأصدر كاموس أمره بالهجوم، فاندفعت قوات من العجلات تزيد على ثلاثمائة، وأطبقت على قوة العدو فثار النقع وصهلت الخيل وعزفت القسي، ودار قتال عنيف، وعزم الأمير أحمس على أن يقضي على العدو القضاء المبرم فاندفع بمائتَي عجلة جديدة على قوات المشاة التي تنتظر نتيجة معركة العجلات أمام أبواب أمبوس، وتبعته قوات من فرقة القسي وأخرى من حمَلة الرماح، وانقضَّت العجلات على المشاة فاخترقت صفوفهم وألقت فيها الاضطراب والفزع، وانهالت عليهم بالسهام كالمطر، فتشتَّت شملهم بين جريح وقتيل وهارب فتلقَّتهم قوة المشاة المهاجمة في كثرة لا تقاوم وقضت عليهم القضاء الأخير، وذهل العدو الذي لم يكن يتوقَّع أن يُلاقي قوات بهذا العدد، وانهارت قواته سريعًا، وتساقط فرسانه وحُطِّمت عجلاته، وسيطر المصريون على الميدان في زمن يسير لا يُصدَّق، بعد أن قاتلوا بغضب وحنق، وضربوا بسواعد يشدُّ أعصابها حقد مؤرث وسخيمة مستعرة.

واقتحمت قوات مسلحة أبواب أمبوس ودخلتها عنوةً لتحتل الثكنات وتُطهِّرها من بقايا جنود العدو، ومضى الضباط في الميدان ينظِّمون فرقهم ويحملون الجرحى والقتلى. ووقف الملك كاموس في وسط الميدان على عجلته يحيط به القوَّاد إلى يمينه الأمير أحمس وإلى يساره الحاجب حور، وكانت الأنباء جاءته بأنَّ أسطوله كرَّ على سفن العدو وهجم عليها بشدة، وأنها تقهقرت أمامه دون انتظام .. فسُرَّ الملك وقال لمَن حوله مبتسمًا: بدءٌ موفق!

فقال الأمير أحمس، وكان معفَّر الثياب مغبَّر الوجه متصبِّب الجبين عرقًا: إنِّي أتوق لخوض معارك أشد هولًا!

فقال كاموس وهو يلقي على وجهه الجميل نظرة إعجاب: لن يطول انتظارك.

ثم نزل الملك عن عجلته وتبعه رجاله، وسار خُطًى حتى صار وسط جثث الرعاة، وألقى عليها نظرة وقد انبجست الدماء منها فخضبت جلدها الأبيض ومزقتها السهام والرماح، ثم قال: لا تظنوا هذه الدماء دماء أعدائنا، بل هي دماء قومنا التي امتصوها وتركوهم يتضورون جوعًا.

وامتقع وجه كاموس واكتسى بلون قاتم من الحزن، فرفع رأسه إلى السماء وتمتم قائلًا: لتنعم روحك يا أبَتِ بالسلام والغبطة!

ثم نظر إلى مَن حوله وقال بصوت دلَّت نبراته على القوة والبأس: ستُمتحَن قوتنا في معركتَين شديدتَين في طيبة وهواريس، فإذا آزرنا النصر فيهما طهَّرنا الوطن من الرعاة إلى الأبد، وردَدْنا مصر إلى عهد أمنمحيت المجيد، فمتى نقف موقفنا هذا على جثث المدافعين عن هواريس؟

وتحوَّل الملك ليرجع إلى عجلته، وفي تلك اللحظة انتصبت جثة من بين الجثث واقفة بسرعة البرق وسدَّدَت قوسًا نحو الملك وأطلقت … ولم يكن في الوسع منع القضاء ولا ضرب القاتل قبل أن يطلق، فأصاب السهم صدر الملك، وقد صرخ الرجال صرخة الفزع وأطلقوا السهام على الهكسوس، وهرعوا إلى الملك بأفئدة يملؤها الرعب والإشفاق، وصعدت من صدر كاموس آهة عميقة، ثم ترنَّح كالثمل وسقط بين يدَي ولي عهده، وصاح الأمير: أحضروا هودجًا وادعوا الطبيب.

ومال برأسه على أبيه وقال بصوت متهدِّج: أبتاه .. أبتاه ألا تستطيع أن تكلمنا؟!

وجاء الطبيب على عجل ومعه الهودج، فحملوا الملك وأناموه عليه في عناية فائقة، وركع الطبيب إلى جانبه، ومضى يخلع درع الملك وسترته ليكشف عن صدره، وأحاطت الحاشية بالهودج في سكون، يردِّدون أعينهم بين وجه الملك الشاحب ويدي الطبيب، وذاع الخبر في الميدان ففشت الضوضاء، ثم ساد صمت ثقيل كأنما لحق الفناء بذلك الجيش العرمرم!

نزع الطبيب السهم وكان الدم يتدفق من الجرح بغزارة، فتقلَّص وجه الملك من الألم، فأظلمت عينا الأمير من الحزن، وتمتم حور قائلًا: ربَّاه .. إنَّ الملك يتألم!

وغسل الرجل الجرح ووضع عليه الحشائش، ولكن الملك لم يبدُ عليه أيُّ تحسُّن، وارتعشت أطرافه بصورة جلية، ثم تنهَّد تنهدة عميقة، وفتح عينَيه فلاحت فيهما نظرة قاتمة لا تدل على الحياة، فازداد صدر أحمس انقباضًا، وقال لنفسه شاكيًا «لشد ما تغيَّرتَ يا والدي!» .. وحرَّك الملك عينَيه حتى استقرَّت على وجه أحمس، فلاحت فيهما ابتسامة، وقال بصوت ضعيف لا يكاد يُسمع: ظننت قبل حين أنِّي بالغ هواريس، ولكن الرب يريد أن تنتهي رحلتي على أبواب أمبوس!

فصاح أحمس بصوته الحزين: فدتك نفسي يا أبتاه!

فقال الملك بصوته الضعيف: كلَّا، صُن نفسك فما أكبر الحاجة إليك .. وكن أشد حذرًا مني، واذكر دائمًا أنَّه لا يجوز أن تكف عن الكفاح حتى تسقط هواريس حصن الرعاة الأخير، ويجلو القوم عن ديارنا جميعًا.

وخشي الطبيب على الملك من الجهد الذي يبذله في الكلام وأشار عليه بالسكوت، ولكن الملك كان يندمج في إحساس علوي هو الفاصل بين الفناء والخلود، فقال بصوت تغيَّرَت نبراته وبدا غريب الوقع: قُل لتوتيشيري إنِّي لحقت بأبي باسلًا مثله.

ومدَّ يده لابنه، فجثا الأمير على ركبتَيه وضمَّها إلى صدره، وقبض الملك على منكبه حينًا يودعه، ثم تراخت أصابعه وأسلم الروح.

٤

وسجَّى الطبيب الجثة، وسجد الرجال حولها وصلوا صلاة الوداع، ثم قاموا وكأنَّهم من الحزن سكارى، واستدعى الحاجب حور قوَّاد الفِرَق وكبار الضباط، فلمَّا مثلوا بين يدَيه خاطبهم قائلًا: أيها الرفاق، يؤسفني وحق الرب أن أنعى إليكم مليكنا الباسل كاموس، فقد استُشهد في ميدان الكفاح وفي سبيل مصر كما استُشهد أبوه من قبل، وانتقل إلى جوار أوزوريس منتزعًا من صميم نفوسنا، بعد أن أوصانا بألا نكفَّ عن الكفاح حتى تسقط هواريس ويجلو العدو عن ديارنا، وإنِّي بوصفي حاجب هذه الأسرة الكريمة أعزيكم في مصابنا الجلل، وآذنكم بتولية مليكنا الجديد وقائدنا المجيد أحمس بن كاموس بن سيكننرع حفظه الرب وأيَّده بالنصر المبين!

فحيَّا القوَّاد جثة كاموس وانحنوا لأحمس الملك الجديد، وأذن لهم الحاجب بالعودة إلى جنودهم لإعلان الوفاة والتولية.

وأمر حور الجنود أن يرفعوا الهودج الملكي على الأعناق وقد غلبه الحزن، فقال وهو يجفِّف عينَيه: لتنعم نفسك العالية بالغبطة والسلام في جوار أوزوريس، كنت على وشك أن تدخل أمبوس على رأس جيشك المظفَّر، ولكن قضى الرب أن تدخلها محمولًا على نعشك، وإنَّك لأكرمنا على الحالين!

ودخل الجيش أمبوس في نظامه التقليدي يتقدَّمه نعش الملك كاموس، وكان الخبر الفاجع قد شمل المدينة كلها، فجرعت لذة النصر ولوعة الحزن في شربة واحدة، وجاءت الجموع الغفيرة من كل مكان تستقبل جيش الخلاص وتودِّع مليكها الراحل بقلوب تحيَّرَت بين الفرح والحزن، ولما رأى الناس الملك الجديد أحمس سجدوا في سكون وخشوع، ولم يتعالَ في ذلك اليوم هتاف قط .. وتسلم كهنة أمبوس الجثمان العظيم وخلا أحمس إلى نفسه فكتب رسالة إلى توتيشيري كما أوصاه أبوه، وبعث بها مع رسول.

وجاءت رسل الاستطلاع بأخبار سارة ومؤسفة عن الأسطول، قالوا: إنَّ الأسطول المصري هزم أسطول الرعاة وأسرَ بعض وحداته، ولكن القائد قمكاف سقط قتيلًا، وأن الضابط أحمس أدار دفة المعركة بعد سقوط القائد، وحاز النصر النهائي، وقتلَ قائد الرعاة بيده في معركة عنيفة، وأراد الملك أن يكافئ أحمس إبانا، فأصدر أمره بتوليته قيادة الأسطول.

واتبع سياسة أبيه الحكيمة فولَّى صديقه هام حكم أمبوس، وعهدَ إليه بتنظيمها وتجنيد القادرين من أهلها، وقال الملك لحور: سنتقدَّم بقواتنا سريعًا، لأنَّه إذا كان الرعاة يُعذِّبون قومنا في وقت السلام فإنهم سيضاعفون لهم العذاب في وقت الحرب، فينبغي أن نقصِّر عهد العذاب ما وسعنا الجهد.

واستدعى الملك الحاكم هام، وقال له أمام حاشيته وقوَّاده: اعلم أنَّني آليتُ على نفسي منذ اليوم الذي سعيت فيه إلى أرض مصر في ثياب التجار أن أجعل مصر للمصريين؛ فليكن هذا شعارك في حكم هذا البلد؛ وليكن رائدك أن تطهِّره من البيض، فلن يحكم بعد اليوم إلا مصري، ولن يملك إلا مصري، والأرض أرض فرعون والفلاحون نوَّابه في استثمارها، لهم ما يكفيهم ويكفل لهم حياة رغدة، وله ما يفيض عن حاجتهم ينفقه في الصالح العام، والمصريون متساوون أمام القانون، لا يرفع الأخ منهم إلا فضله، ولا عبد في هذا البلد إلا الرعاة .. وأوصيك أخيرًا بجثة أبي فأدِّ إليها واجبها المقدس.

٥

وغادر الجيش أمبوس عند الفجر، وأبحر الأسطول، ومضت الطلائع تدخل القرى، فاستُقبل فيها أحرَّ استقبال وأجمله حتى شارفوا أبولبتوبوليس مجنا، فتأهَّبوا لخوض معركة جديدة. ولكن الطلائع لم تلقَ أية مقاومة ودخلت المدينة بسلام، وكانت وحدات الأسطول تنحدر مع مياه النيل في ريح مؤاتية فلا تجد أثرًا لسفن العدو، فأشار حور الحذِر بطبعه على الملك أن يرسل بعض قواته الكشفية إلى الحقول الشرقية خشية أن يقعوا في كمين، وبات الجيش والأسطول في أبولبتوبوليس مجنا، وفارقاها مع الفجر، وكان الملك وحرسه يسيرون في مقدمة الجيش وراء القوات الاستطلاعية، وإلى يمين الملك عجلة الحاجب حور يحيط بهما رجال الحاشية الخبراء بطبيعة البلاد، وسأل الملك حور: ألسنا سائرين الآن إلى هيراكونبوليس؟

فقال الحاجب: بلى يا مولاي، وهي مركز الدفاع الأمامي عن طيبة نفسها، وستنشب في واديها أول معركة شديدة بين قوتَين متعادلتَين.

وحين الضحى جاءت أنباء كشفية بأن الأسطول المصري اشتبك مع أسطول للرعاة يظن لضخامته وكثرة وحداته أنَّه الأسطول الكامل للعدو، وأنَّ المعركة تدور بقوة وعنف، فعطف الملك رأسه نحو الغرب وبدا على وجهه الجميل الرجاء والأمل، وقال حور: إنَّ الرعاة يا مولاي حديثو عهد بحرب الأساطيل.

فصمت الملك ولم يُجِب، ومضت الشمس ترتفع إلى كبد السماء والجيش يتقدَّم بفِرَقه ومعداته، فاستسلم أحمس للتأمُّل والتفكير، وتمثلت له أسرته وهي تتلقى نبأ مقتل كاموس، وكيف تفزع أمه ستكيموس وتنفجع جدته أحوتبي وتئن الأم الصابرة توتيشيري وتبكي زوجه نيفرتاري التي أصبحت ملكة مصر .. ربَّاه .. لقد سقط كاموس غدرًا وخسر جيشه بسالته ودرايته وأورثه تركة مثقلة بجلائل الواجبات، ثم سرى خياله إلى الأمام، إلى طيبة حيث يملك أبوفيس ويعاني الشعب ألوان العذاب والذل، وذكر خنزر الحاكم الهائل الباسل الذي لن تهدأ نفسه حتى ينتقم لجده الشهيد منه ويُرديه قتيلًا، ثم لاحت لخاطره الأميرة أمنريدس وذكر المقصورة التي أصلاهما الهوى فيها نارًا مقدسة، وتساءل: أما تزال تتعلق بالتاجر الجميل إسفينيس وتأمل أن يبرَّ لها بوعده؟

وهنا سعل حور فذكره بأنه لا ينبغي له أن يتشوَّق إلى أمنريدس وهو على رأس الجيش الزاحف لتطهير مصر من قومها، فأراد أن يطرد الفكر: فألقى ببصره على جيشه العرمرم الذي ينطبق الأفق على الأرض دون مؤخرته، فسرَّى عنه وعاد إلى التفكير في المعركة الدائرة في النيل .. وعند منتصف النهار جاءت رسل الاستطلاع يقولون: إنَّ الأسطولين مشتبكان في قتال عنيف، وإن القتلى تسقط بكثرة من الجانبين، وإن القوتين ما تزالان متعادلتين بحيث يستحيل التكهُّن بنتيجة المعركة، فلاح العبوس في وجه الملك ولم يُخفِ قلقه، فقال حور: لا داعي للقلق يا مولاي فأسطول الرعاة قوة لا يستهان بها، وأسطولنا يخوض الآن المعركة الفاصلة في النيل.

فقال أحمس: إذا خسرناها خسرنا نصف الحرب.

فقال حور بيقين: وإذا كسبناها يا مولاي كما أتوقَّع كسبنا الحرب كلها.

وأمسى الجيش على مسير بضع ساعات من هيراكونبوليس فوجب التوقُّف للراحة والاستعداد، على أنَّه ما كاد يمكث وقتًا قصيرًا حتى جاءت الأخبار بأنَّ الطلائع تقاتل قوات متفرِّقة من جيش العدو، فقال أحمس: إن الرعاة مستريحون، ولا شك أنهم يرحِّبون بالاشتباك معنا الآن.

وأمر الملك بإرسال قوة من العجلات لتؤيد قوات الاستطلاع إذا هاجمتها قوات تفوقها عددًا، واستدعى قوَّاده وأمرهم بالاستعداد لخوض المعركة في أي وقت كان.

وكان أحمس يحس التبعة الخطيرة التي يتحملها بقيادته الجيش لأول مرة في حياته، وشعر بأنَّه حامي هذا الجيش العظيم والمسئول عن مصير مصر إلى الأبد، فقال لحور: ينبغي أن نوجِّه قوَّتنا لتحطيم عجلات الرعاة.

فقال الحاجب: هذا ما سيحاوله كلا الجيشَين، وإذا حطمنا عجلات العدو وسيطرنا على الميدان، أصبح الجيش تحت رحمة قسينا.

وفي تلك الساعة وأحمس يتأهب لخوض غمار المعركة، جاء رسول من ناحية النيل وأخبر الملك أن الأسطول المصري تلقى ضربات شديدة، فرأى أحمس إبانا أن يتقهقر بوحداته الأساسية ليُعيد تنظيمها، وأنَّ القتال مستمر على أشده، فساور القلق الشاب وأشفق من ضياع أسطوله العظيم، ولم يجِد مهلة للتفكير إذ أُخبر أنَّ جيش العدو بدأ هجومه، فحيا حور والحاشية وتقدَّم بحرسه وأمر فرقة العجلات بالهجوم؛ فهجم الجيش في قلب وجناحَين اندفعوا صفوفًا متراصَّة في سرعة وجلبة زلزلت الأرض زلزالًا، وما لبثوا أن رأوا جيش الرعاة يتقدَّم منقضًّا كالريح العاصفة في جموع كثيفة من العجلات، فعلموا أنَّ عدوهم يلقاهم بقواته الوحشية التي طالما سامتهم الخسف، فثار الغضب في نفوسهم وصاحوا بصوت كهزيم الرعد: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، وألقوا بأنفسهم في المعركة بقلوب تتعطَّش إلى القتال والانتقام، فقاتل الفريقان بقوة وقسوة ووحشية، وخضبت الأرض بالدماء، واختلط صياح الجنود بصهيل الخيل وعزيف القسي، واستمرَّ القتال قاسيًا عنيفًا حتى مالت الشمس نحو الأفق وذابت في بحيرة من دماء، وحلَّقت في الفضاء أشباح الظلام، فكفَّ الجيشان ورجع كلٌّ إلى معسكره، وكان أحمس يسير وسط دائرة من حرسه الذي دافع عنه في أثناء كرِّه وفرِّه، واستقبله رجاله وعلى رأسه حور فقال لهم: كان قتالًا عنيفًا كلَّفَنا أبطالًا بواسل!

ثم تساءل الملك: ألم تجدَّ أخبار عن معركة النيل؟

فقال الحاجب: ما يزال الأسطولان يعتركان.

– أما من جديد عن أسطولنا؟

فقال حور: قاتل في أثناء النهار وهو يرتد، ثم التحمت أكثرية السفن مع وحدات العدو بالسلالم فلم تستطع انفصالًا حين خيَّم الظلام، والقتال ما يزال مستمرًّا وإنا لفي انتظار ما يجدُّ من الأخبار.

فتجهم وجه الملك التعب، وقال لمَن حوله: لندعُ الرب جميعًا أن ينصر إخواننا الذين يقاتلون على متن النيل!

٦

واستيقظ الجيش مع طلوع الفجر وأخذ في الاستعداد والتأهب، وجاءت العيون بأنباء مهمة فقالوا: إنَّ الحركة لم تسكن طوال الليل في معسكر العدو، وقرَّر بعض مَن جازفوا بالتوغُّل في الحقول المحيطة بميدان القتال أنَّ قوات جديدة من الرجال والعجلات جعلت تتدفَّق على هيراكونبوليس طوال الليل وأنَّ تدفُّقها إلى ما قبيل طلوع الفجر، وتفكَّر حور مليًّا ثم قال: إنَّ العدو يا مولاي يجمع لنا جلَّ قواته هنا ليلقانا بجيشه كاملًا، ولا أعجب لذلك لأننا إذا اقتحمنا أبواب هيراكونبوليس فلن يعوق تقدُّمنا سوى أسوار طيبة المجيدة!

وجاءت أخبار سارة من جانب النيل، فعلم الملك أنَّ أسطوله قاتل قتال المستيئس فلم يتمكَّن منه عدوه كما اشتهى، وأنَّه على العكس طرد جنوده من كثير من سفنه بعد أن وطئتها أقدامهم فاضطُرَّ أسطول الرعاة أن ينفصل عنه وقد خسر ثلث قوته، وكفَّ الأسطولان عن القتال ساعات ثم اشتبكا في عراك جديد بُعَيد مطلع الفجر، وكان أسطول أحمس إبانا البادئ بالهجوم، فانشرح صدر الملك وتوثَّب للقتال بقلب جذل.

وحين سفور الصبح تقدَّم الجيشان للقتال، وبرزت صفوف العجلات وصاح المصريون صيحتهم المعروفة: حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع، ثم قدموا بأنفسهم في معترك الموت لا يلوون على شيء، فالتقوا بالعدو في صدمات قاتلة واشتدوا عليه كما اشتدَّ عليهم، وقاتلوا بالقسي والرماح والسيوف، ولاحظ الملك أحمس بالرغم من اشتداد القتال أنَّ قلب جيش العدو يدير المعركة بمهارة فائقة ويُرسل القوات هنا وهناك بانتظام ودقة، فعاين القائد البارع فإذا به غير حاكم هيراكونبوليس، وإذا به الملك أبوفيس نفسه الذي أهدى إليه التاج المرصع بالجواهر في قصر طيبة بجسمه البدين ولحيته الطويلة وبصره الحاد فتحفَّز أحمس لهجمات شديدة، وقاتل قتال الأبطال البواسل وحرسه يردُّ عنه هجمات العدو، فلم يلقَ فارسًا من القوم إلا جندله في غمضة عين، حتى هابوا نزاله ويئسوا من التغلُّب عليه، وطال أمد القتال، واندفعت إلى الميدان قوات جديدة من الجانبَين، فاستمرَّ القتال على عنفه وشدته حتى أوشك النهار أن يزول، وفي تلك الساعة وقد نهكت قوى الطرفين انقضَّت قوة من عجلات الرعاة على جناح المصريين الأيسر بقيادة رجل شديد البأس، وضغطَتْه ضغطًا شديدًا لم تُفِد معه المقاومة المنهوكة القوى، ومضت تصنع لنفسها ثغرة تندفع منها لتطويق القوى المحاربة أو للهجوم على المشاة؛ فأدرك أحمس أنَّ ذاك القائد ذا البأس تحيَّن في تعبهم فرصة مناسبة، وأنَّه ادخَّر قوته ليضرب ضربة قاضية، وخشي أن يظفر الرجل بغرضه فيوقع الاضطراب في صفوف جيشه المتراصة، أو يوقع مذبحة في مشاته؛ فرأى أن يقتحم قلب العدو بقوَّته ليضيِّق عليه، فيجد القائد الداهية نفسه شبه محاصر، ولم يتردَّد لأن الموقف كان خطيرًا دقيقًا، فأمرَ جنوده بالهجوم وهجم على القلب بحركة فجائية قوية، واشتدَّ القتال إلى درجة مروِّعة مفزعة، واضطُرَّ العدو أن يتقهقر تحت الضغط الشديد، وحينذاك أرسل أحمس قوة من العجلات لتطويق القوة التي تشتد على جناحه الأيسر، ولكنَّ القائد كان داهية بارعًا؛ فعدَّل خطته بعد أن كاد يُحدث الثغرة المطلوبة ورمى بقوة صغيرة من عجلاته تهجم على العدو، وتقهقر هو وبقية القوة بسرعة إلى جيشه، وفي أثناء هذه العملية الدقيقة استطاع أحمس أن يرى القائد الجسور وأن يعرف فيه خنزر حاكم الجنوب الجبار ببنيانه المتين وعضلاته الفولاذية؛ وقد كلَّفَت هجمته الجبارة المصريين صرعى كثيرين من زهرة فرسان العجلات، وانتهى القتال بعد ذلك بقليل، فعاد الملك وجيشه إلى معسكرهم، وكان أحمس يقول متوعِّدًا غاضبًا: «لا بد أن نلتقي يا خنزر وجهًا لوجه …» واستقبله رجاله بالدعاء، ووجد بينهم شخصًا جديدًا هو أحمس إبانا، فتفاءل من وجوده في المعسكر وسأله: ماذا وراءك أيها القائد؟

فقال أحمس إبانا: النصر يا مولاي، لقد أوقعنا بأسطول الرعاة الهزيمة وأسرنا أربع سفن كبيرة من وحداته وأغرقنا نصفه، وفرَّت سفن لا تُغني ولا تُعين.

فتهلَّل وجه الملك، ووضع يده على منكب القائد وقال: لقد كسبتَ لمصر بهذا النصر نصف الحرب، وإنني بك جد فخور.

فتورَّد وجه أحمس إبانا وقال بسرور: ما من شك يا مولاي في أنَّنا دفعنا ثمن النصر غاليًا، ولكن أصبحت لنا السيادة المطلقة على النيل.

فقال الملك بلهجة رزينة: كبَّدنا العدو خسارة كبيرة أخشى ألا نجد عوضًا منها، والفوز في هذه الحرب لمَن يقضي على فرسان عدوه.

وسكت الملك هنيهة ثم استدرك: إنَّ حكامنا في الجنوب يدرِّبون الجند ويبنون السفن والعجلات ولكن تدريب فرسان العجلات يتطلَّب زمنًا طويلًا، فلن ينفعنا في المعركة التي نخوض غمارها إلا استبسالنا حتى لا تواجه مُشاتنا عجلات العدو مرة أخرى.

٧

استيقظ الجيش مرة أخرى عند مطلع الفجر وأخذ في التأهُّب والاستعداد، وارتدى الملك لباسه الحربي واستقبل في خيمته رجاله وقال لهم: لقد صح عزمي على مبارزة خنزر!

فارتاع حور لهذا القول وقال برجاء عظيم: مولاي، ينبغي ألا تشلَّ ضربة طائشة عملنا المجيد.

وتوسَّل كلُّ قائد إلى الملك أن يأذن له في قتال حاكم الجنوب، ولكن أحمس شكرهم وقال لحور: لن يشلَّ عملنا خطب وإن جلَّ، ولن يعوقه مصرعي إذا صُرِعتُ، فلا يفتقر جيشي إلى القواد ولا تعوز بلادي الرجال، وما كان لي أن أضيع من بين يدي فرصة أواجه بها قاتل سيكننرع، فدعني أقاتله حتى أقتله لأوفي دينًا في عنقي نحو روح كريم يراقبني من العالم الغربي: ولتنزل لعنة الرب بالمتردِّدين الخائرين!

وأرسل الملك ضابطًا ليعرض على خصمه رغبته، فتوسط الرجل الميدان وصاح: أيها العدو، إنَّ فرعون مصر يرغب في مبارزة القائد خنزر لتسوية حساب قديم.

فبرز له رجل من كتيبة خنزر: قل لمَن تدعوه فرعون: إنَّ القائد لا يحرم عدوًّا شرف الموت بسيفه!

فامتطى أحمس صهوة جواد كريم، ووضع السيف في حاملته والرمح في قرابه، ونخسه فعدا به إلى الميدان، ورأى عدوه ينطلق نحوه على جواد أشهب تيَّاهًا فخورًا يبدو جسمه كأنه كتلة جبارة من الجرانيت، فتدانيا رويدًا رويدًا حتى كاد رأسا جواديهما أن يتماسا، وعاين كلٌّ منهما خصمه، فلم يتمالك خنزر أن بدت على وجهه الدهشة وصاح بغرابة: ربَّاه .. مَن أرى أمامي؟ أليس إسفينيس تاجر الأقزام واللآلئ؟ يا لها من دعابة، أين تجارتك أيها التاجر إسفينيس؟

وكان أحمس ينظر إليه في هدوء وسكينة فقال له: انتهى إسفينيس أيها القائد خنزر، وليس لي من تجارة الآن سوى هذا …

وأشار إلى سيفه، فملك خنزر عواطفه وسأله: فمَن تكون إذَن؟

فقال أحمس ببساطة وهدوء: أحمس فرعون مصر.

فضحك خنزر ضحكة عالية دوَّت في الميدان، وقال ساخرًا: ومَن الذي ولَّاك مصر وهذا ملكها يحمل التاج المزدوج الذي أهديتَه إليه ساجدًا؟

فقال أحمس: ولَّاني الذي ولَّى آبائي وأجدادي من قبل، فاعلم أيها القائد أنَّ الذي سيقاتلك هو حفيد سيكننرع!

فبدا الجد على وجه الحاكم وقال بهدوء: سيكننرع .. إني أذكر ذلك الرجل الذي قضى سوء حظه يومًا أن يُرغَم على منازلتي، وإنِّي أكاد أدرك كلَّ شيء فاعذرني على بطء فهمي. فإننا معشر الهكسوس أبطال ميدان لا نُحسِن المكر ولا نعرف غير لغة السيف، أما أنتم معشر مدَّعي الملك من المصريين فتتخفون طويلًا في ثياب التجار قبل أن تؤاتيكم شجاعتكم على ارتداء لباس الملوك .. فليكن ما تريد، ولكن هل ترغب في مبارزتي يا إسفينيس؟

فقال أحمس بحِدَّة: فلنرتد من الثياب ما نشاء فهي ثيابنا أما أنتم فما تعلمتم ارتداء الثياب حتى آوتكم مصر، ولا تَدْعُني إسفينيس ما دمتَ تعرف أنِّي أحمس بن كاموس بن سيكننرع، أسرة عريقة في النبل والقِدَم انحدرت من صلب طيبة المجيدة، فلم تعرف التشرُّد في الصحاري ولا رعي القطعان، وإنِّي لأرغب حقًّا في مبارزتك وإنَّه لشرف تكتسبه كي أؤدي دينًا في عنقي نحو أجلِّ إنسان عرفَتْه طيبة!

فصاح خنزر قائلًا: أرى الغرور يعميك عن معرفة قدر نفسك، فظننتَ أنَّ انتصارك على القائد رخ مسوِّغًا للوقوف أمامي .. فوا رحمتاه لك أيها الشاب الغرير! ماذا تختار أن يكون سلاحك؟

فقال أحمس وقد ارتسمت على فمه ابتسامة ساخرة: السيف إذا شئت!

فقال خنزر وهو يهزُّ منكبَيه العريضَين: هو أعز الأصدقاء.

ونزل خنزر عن ظهر جواده وأسلم قياده إلى تابعه، ثم سلَّ سيفه وأمسك بترسه، ففعل أحمس مثله ووقفا صامتَين يفصل بينهما مقدار ذراع، ثم تساءل أحمس: هل نبدأ؟

فقال خنزر ضاحكًا: ما أجمل هذه المواقف التي تتكاشف فيها الحياة والموت، هلُمَّ يا فتى!

فتوثَّب الملك وهاجم خصمه الضخم بشجاعة ووجَّه إليه ضربة شديدة تلقاها الحاكم على ترسه. ثم ردَّ عليه الهجوم وهو يتكلم قائلًا: يا لها من ضربة صادقة يا إسفينيس، وما أظن إلا أنَّ رنين سيفك على ترسي ينشد لحن الموت .. مرحى .. مرحى إنَّ صدري يرحِّب برسل الموت، فطالما طمع الموت، وأنا ألعب بين مخالبه، ثم يرتد عني خائبًا وقد أدرك آخر الأمر أنَّه إنَّما حضر لغيري.

وكان الرجل يقاتل دون أن يكفَّ عن الكلام كأنَّه راقص ماهر يغنِّي وهو يرقص، فأدرك أحمس أنَّ خصمه عنيد شديد البأس، فولاذي العضلات، واسع الحيلة، خفيف الحركة، جبار في الكرِّ والفرِّ؛ فبذل كلَّ ما لديه من قوة ودراية، وتفادى من الضربات الموجهة إليه وهو يعلم أنَّها ضربات قاتلة لا نجاة منها إذا أصابت هدفها، ولكنه تلقى ضربة بترسه أحسَّ ثقلها، ورأى خصمه يبتسم في ثقة وطمأنينة فاهتاجه الغضب والحنق ووجَّه إليه ضربة هائلة تلقَّاها الرجل بدوره على ترسه وكان يسيطر على أعصابه وإرادته، فسأل أحمس: أين صُنع هذا السيف المتين؟

فقال له أحمس وقد تمالك نفسه كذلك: في نباتا في أقصى الجنوب.

فقال الرجل وهو يتفادى ضربة شديدة وُجِّهت إليه بمهارة فائقة: أما سيفي فقد صُنع في منف بأيدي صناع مصريين .. وما كان صانعه يعلم أنَّه يُقدِّم لي ما أقضي به على مليكه الذي تاجرَ وقاتلَ في سبيله، فقال أحمس: ما أسعده غدًا إذا علم أنَّه كان شؤمًا على عدو بلاده!

وكان أحمسن يتحيَّن الفرصة لهجوم عنيف، فما كاد يتم كلامه حتى وجَّه إلى خصمه الجبار ثلاث ضربات متوالية بسرعة خاطفة، فتحاماها خنزر بدرعه وسيفه ولكنه اضطُرَّ إلى أن يتقهقر خطوات، فقفز عليه الملك وهاجمه هجومًا قاسيًا ووجَّه الضربة تلو الضربة إلى مقاتله، وأدرك خنزر خطر المصير، فكفَّ عن مداعبة خصمه وأطبق فمه، وزال عنه الابتسام فقطب جبينه ودافع هجمات عدوه بقوة جبارة وبسالة هائلة، وأبدى من ضروب المهارة والشجاعة ما يفوق كلَّ تصوُّر، وأصاب ذباب سيفه خوذة أحمس، فظن الرعاة أنَّه قضى على عدوهم العنيد فتعالى هتافهم حتى تساءل أحمس هنيهة: «ترى هل أصبت؟» ولكنَّه لم يحس تخاذلًا ولا وهنًا، فاستجمع وضرب عدوه ضربة قوية عنيفة عرض لها ترسه فصكته بقسوة فتركه يسقط من يده متضعضعًا وقد ارتجَّ ساعده، وتعالى الهتاف من الجانبَين بين فرح وغضب، وتوقف أحمس عن القتال ونظر إلى خصمه مبتسمًا ابتسامة الظفر، وكان الآخَر يُشهر سيفه ويتأهَّبُ للقتال بغير ترس، فما كان من أحمس إلا أن خلع ترسه ورمى به جانبًا، فبدت الدهشة على وجه خنزر ونظر إليه نظرة غريبة وهو يقول: يا له من نبل حقيق بأخلاق الملوك!

واستأنفا القتال في سكون، فتبادلا ضربتَين شديدتَين، ولكن ضربة أحمس كانت أسرع إلى رقبة خصمه الجبار فسرت فيه رجفة هائلة، وتراخت يده عن مقبض سيفه ثم سقط على الأرض كأنه بنيان تهدَّم، ودنا الملك منه في خطى بطيئة، ونظر إلى وجهه بعين ملؤها الاحترام وقال له: يا لك من جبار باسل أيها الحاكم خنزر!

فقال الرجل وهو يصعد أنفاس الحياة الأخيرة: بالحق نطقتَ أيها الملك .. ولن يعترض سبيلك من بعدي مقاتل.

وتناول أحمس سيف خنزر ووضعه إلى جانب جثته، ثم امتطى جواده وعاد إلى معسكره، وكان يعلم أنَّ الرعاة سيحاربون بحنَق ورغبة في الانتقام، فأقبل على فرسانه وصاح بهم: أيها الجنود، ردِّدوا شعارنا الخالد: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، واذكروا أنَّ مصيرنا إلى الأبد معلق بنتيجة هذه المعركة الدائرة، فلا ترضوا أبدًا أن يضيع صبر الأعوام وجهاد الأجيال في تخاذل ساعة واحدة!

ثم حمل وحملوا ودار القتال عنيفًا حتى مغيب الشمس.

واستمرَّ القتال على هذا النحو عشرة أيام كاملة.

٨

وفي مساء اليوم العاشر من أيام القتال عاد الملك أحمس من الميدان متعبًا منهوك القوى، فاجتمع بحاشيته وقوَّاده، وكان سقوط خنزر قد ألحق بجيش الرعاة خسارة لا تعوض، ولكن فرقة عجلاتهم لبثت تقاوم وتصد هجمات المصريين وتوقع بهم الخسائر الفادحة، فساور الملك القلق، وخشي أن تتحطَّم فرقة العجلات الجبارة يومًا بعد يوم، وكان في ذاك المساء غاضبًا حزينًا لكثرة مَن سقط من فرسانه البواسل الذين يتصدون للموت بغير مبالاة، فقال وكأنَّه يحدث نفسه: هيراكونبوليس .. هيراكونبوليس .. تُرى هل يقترن اسمك بانتصارنا أم بهزيمتنا؟

وكان المجتمعون لا يقلون عن الملك حزنًا أو غضبًا، ولكن راعهم ما يبدو على وجهه الجميل من التعب والانفعال، فقال الحاجب حور: مولاي .. إنَّ فرساننا يقاتلون فرقة عجلات الرعاة بكامل عَدَدها وعُدَدها فلا تهُولُنا خسائرنا، وغدًا إذا ظهرنا على العدو وحطَّمنا عجلاته فلن يكون لمشاته قِبَل بنا، وسيلوذون بأسوار الحصن فرارًا من انقضاض عجلاتنا عليهم.

فقال الملك: كانت غايتي الكبرى أن أقضي على عجلات العدو مع الاحتفاظ بقوة عظيمة من عجلاتنا لتسيطر على الميدان دائمًا، كما فعل الرعاة في هجومهم في طيبة، ولكني بتُّ أخشى أن يقضى على قوتَينا الراكبتَين معًا، فنتعرض لحرب طويلة الأمد لا تبقي على مدننا ولا تذر.

وطلب الملك أن يطَّلِع على الإحصاء الأخير للخسائر، وجاء ضابط به فإذا فرقة العجلات المصرية قد خسرت ثلثي قوتها من العجلات والفرسان.

فامتقع أحمس ونظر في وجوه رجاله، فإذا بالوجوم يعلوها جميعًا، ثم قال: لم يبقَ لدينا سوى ألفَيْ فارس .. فكيف تُقدِّرون خسائر العدو؟

فقال القائد ديب: لا أتصور يا مولاي أنها تقل عن خسارتنا .. وأرجِّح أنها تزيد عليها.

فحنى الملك رأسه ولبث يفكِّر مليًّا، ثم نظر إلى رجاله وقال: سيُعلَم كل شيء غدًا، فغدًا يوم الفصل دون شك، ولعل عدونا يعاني من الحيرة والقلق ما نعاني وأكثر، وعلى كل حالٍ لن يلومنا أحد ولن نلوم أحدًا، والرب يعلم أنَّنا نقاتل بقلوب كارهة للحياة!

فقال ديب متسائلًا: إنَّ أسطولنا لا يحارب الآن، فلماذا لا يُنزِل جنودًا وراء جيش العدو فيما بين هيراكونبوليس ونخب؟

فقال أحمس إبانا: إنَّ أسطولنا سيطر الآن على النيل سيطرة كاملة، ولكنَّا لا نستطيع أن نجازف بإنزال جنود وراء العدو إلا إذا كان جيشه جميعًا مشتبكًا في القتال، والواقع أنَّ القتال مقصور حتى الآن على فرقتي العجلات، أما جيش العدو فرابض وراء الميدان مستريحًا يقظًا.

وسأل أحد كهنة أمبوس قائلًا: أليس لنا يا مولاي قوة احتياطية من الفرسان؟

فقال أحمس: لقد جئنا مصر بستة آلاف فارس، هم ثمرة جهاد شاق وصبر طويل، فخسرنا منهم أربعة آلاف رجل في اثنَي عشر يومًا من أيام الجحيم!

فقال حور: مولاي .. إنَّ سيين وأمبوس وأبولينوبوليس مجنا تبني العجلات وتدرِّب الفرسان بلا توانٍ.

أما أحمس إبانا فقال بحماسه الذي لا يعرف اليأس: حسبنا شعارنا الذي لقنتناه الأم المقدسة توتيشيري: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، وأنَّ فرساننا لا يغلبون، وأنَّ مشاتنا لَيتحرَّقون شوقًا إلى القتال، ولنذكر دائمًا أنَّ الرب الذي أرسلك إلى أرض مصر لم يرسلك عبثًا.

وأمَّن الرجال على قول القائد الشاب، وابتسم الملك ابتسامة مشرقة، وبات الجيش ليلته واستيقظ مع الفجر كعادته وتأهَّب للقتال، وعند سفور الصباح تقدَّمت فرقة العجلات وفي قلبها الملك وحرسه، ونظر إلى الميدان فرآه خاليًا فعجب غاية العجب، ثم أمعن في النظر فرأى على البُعد أسوار هيراكونبوليس لا يعترض سبيله إليها رجل من الرعاة، ولم تطُل الدهشة بالملك فجاءه بعض رجال الاستطلاع وقرروا بين يدَيه أن جيش أبوفيس انسحب من الميدان بجموعه الجرارة وترك هيراكونبوليس في الليل، وجدَّ في السير نحو الشمال، ولم يتمالك القائد محب أن قال: الآن حصحص الحق .. وما من شك في أنَّ قوة عجلات الرعاة تحطَّمت، وأنَّ أبو فيس آثر أن يفرَّ إلى حصونه على أن يواجه فرساننا بمشاته.

وقال القائد ديب فرحًا: مولاي .. لقد كسبنا موقعة هيراكونبوليس الهائلة!

وكان الملك أحمس يتساءل: ترى هل انكشفت الغمة؟ .. ترى هل حقًّا زالت المخاوف؟ ثم التفت إلى ديب وقال: بل قل إنَّنا حطمنا عجلات الرعاة وكفى.

وسرت الأخبار إلى الجيش فشاع الفرح في النفوس، وهرع رجال الحاشية يتقدمهم حور إلى الملك وهنأوه بالنصر المبين الذي فتح الرب به عليه، ودخل أحمس مدينة هيراكونبوليس على رأس جيشه، وهرع معه الأهالي إليها من الحقول فرُّوا إليها خوفًا من انتقام الرعاة، واستقبلوا ملكهم استقبالًا حارًّا وهتفوا لجيش الخلاص هتافًا يشق عنان السماء.

وكان أول شيء فعله الملك أن صلى للرب آمون الذي مدَّ له يد المعونة بعد أن كاد يُشفِي على اليأس.

٩

واستراح الجيش في هيراكونبوليس بضعة أيام بعد قتال عنيف دام اثنَي عشر يومًا، وأشرف أحمس بنفسه على تنظيم المدينة وإعادة مصريتها الأولى إلى حكومتها ومزارعها وأسواقها ومعابدها، وواسى الأهالي لما تعرضوا له من ألوان الاضطهاد وما تعرَّضَتْ له مدينتهم في أثناء تقهقر الرعاة من النهب والسلب والتخريب.

ثم زحف الجيش نحو الشمال وأبحر معه الأسطول ودخل مدينة نخب في عصر اليوم نفسه دون مقاومة، وبات فيها حتى فجر اليوم الثاني، ثم استأنف مسيره دون أن يلتقي بأيَّة قوات للعدو فاحتلَّ القرى ورفع عليها الأعلام المصرية، وشارف وادي لاتوبوليس بعد ثلاثة أيام، وكان الملك ورجاله يظنُّون أنَّ العدو سيدافع عنها فأرسل أحمس طلائع جيشه إليها وحاصر أحمس إبانا شطآنها الغربية ولكن الطلائع دخلت المدينة دون مقاومة فدخلها الجيش آمنًا، وقصَّ عليهم الأهالي كيف مرَّ بهم جيش أبوفيس يحمل جرحاه، وكيف حمل أصحاب الدور والمزارع من الرعاة أثاثهم وأموالهم ولحقوا بجيش ملكهم في حالة شديدة من الفزع والفوضى.

وتقدَّم الجيش بقواته المرهوبة يدخل القرى والمدن دون أدنى مقاومة حتى بلغ ترت، ثم بعدها هزمنتيس، وكانوا يتوقون جميعًا إلى ملاقاة عدوهم ليشفوا غلَّ صدورهم، ولكن كان السرور يتألَّق في وجوههم كلما رفعوا العلم على بلدة أو قرية وشعروا أنَّهم حرَّروا قطعة من الوطن الأثير، وكان خبر الهزيمة التي لحقت بفرقة عجلات الرعاة يُنعش نفوس الجنود ويذكي في قلوبهم الأمل والحماسة، فمضوا ينشدون الأغاني الحماسية، ويضربون في أرض الوادي بسيقانهم النحاسية، حتى طالعتهم أسوار مدينة هابو المتوغلة في منطقة طيبة، وكان الوادي ينحدر نحو جنوبها انحدارًا فجائيًّا شديدًا، فذهبت الطلائع إلى المدينة ولكنها كانت كسابقاتها من المدن بغير حراس، فدخلها الجيش في سلام، هزَّ دخول هابو قلوب الجنود جميعًا لأنها وطيبة كانتا كأعضاء الجسم الواحد، ولأن كثيرًا من جنود الجيش كانوا من بنيها البواسل، فتعانقت في ساحاتها القلوب والأنفس وهتفت الضمائر بأناشيد الشوق والحنين، ثم تقدَّم الجيش شمالًا بقلوب متحفِّزة وأنفس متوثبة، وهو يعلم أنَّه مقبل على العمل الفاصل في تاريخه والمعركة الخطيرة التي تقرِّر مصير طيبة، وانحدر في الوادي العظيم الذي يُطلق عليه الطيبيُّون «طريق آمون» وكان يتسع كلمَّا أوغلوا فيه حتى بدا لهم السور العظيم ذو الأبواب المتعددة يقطع الطريق عليهم ويمتد شرقًا وغربًا، تنطلق من خلفه المسلات وجدران المعابد والأبنية الشاهقة يتمثَّل فيها جميعًا المجد والخلود وتطوف بها الذكريات العظيمة، فسرَتْ منها إلى النفوس عاصفة من الحماسة والحنين زلزلت القلوب والضمائر، فتصايحت جنبات الوادي هاتفة: «طيبة …» «طيبة …». وجرى اسمها على كل لسان ولهجت به الأفئدة المضطرمة، وما زالوا يهتفون حتى جرى الدمع كبرياءهم فبكوا وبكى حور الشيخ!

وعسكر الجيش العظيم، ووقف أحمس في قلبه يرفرف على رأسه علم طيبة الذي حاكته توتيشيري بيدَيها، يرسل ناظرَيه إلى المدينة وقد لاحت فيهما الأحلام ويقول: طيبة .. طيبة .. يا أرض المجد .. ومثوى الآباء والأجداد، أبشري فغدًا يطلع عليك صبح جديد!

١٠

واستدعى الملك القائد أحمس إبانا وقال له: سأكِلُ إليك أيها القائد ساحل طيبة الغربي فهاجِمه أو حاصره كما يتراءى لك، مستلهمًا خططك من الملابسات المحيطة بك.

وأنشأ الرجال يفكرون في طريقة الهجوم على طيبة، فقال القائد محب: إنَّ أسوار طيبة منيعة شديدة البأس تكلِّف المهاجمين أرواحًا غالية، ولكن ما من مهاجمتها بد، فأبوابها الجنوبية هي السبيل الوحيد إليها.

وقال القائد ديب: إنَّ محاصرة المدن الحصينة وتجويعها أجدى على المهاجمين من مهاجمتها، ولكننا لا نستطيع أن نفكِّر لحظة واحدة في تجويع طيبة، فلم يبقَ لدينا سوى مهاجمة أسوارها، ونحن لا تعوزنا وسائل الهجوم على الأسوار من السلالم والقباب الواقية؛ ولكنها ليست كافية كذلك، ونرجو أن تصلنا منها كميات وافرة، وعلى أيَّة حال إذا كان ثمن طيبة غاليًا فسنبذله عن طيب خاطر.

فقال أحمس: هذا هو الرأي، فينبغي ألا نضيع وقتنا لأنَّ قومنا محصورون داخل أسوار المدينة، ويحتمل أن يتعرضوا لانتقام عدونا الوحشي.

وفي ذلك اليوم تقدَّمَ الأسطول المصري نحو شاطئ طيبة الغربي والتقى أمامه بأسطول للرعاة جمعوه من السفن الفارَّة من هيراكونبوليس فأطبق عليه واشتبك الأسطولان في معركة عنيفة، ولكن كان تغلُّب المصريين في عدد الرجال والسفن كبيرًا، فضيَّقوا الخناق على عدوهم وأصلوه نارًا حامية.

وأرسل أحمس طلائع من فِرَق القسي والرماح لاختبار القوات المدافعة، فأطلقوا قسيهم على نقط متباعدة من السور العظيم، فإذا بالرعاة قد ملئوا السور بالحرس الأشداء وبأسلحة لا تنفد، وكان القوَّاد المصريون ينظِّمون قواتهم، فلما صدر إليهم أمر الهجوم أرسلوا كتائب متتالية من رجالهم في أرجاء الوادي لتهاجم السور في نقط متباعدة، محتمية بدروعها الطويلة، فانهالت عليهم سهام العدو كالسيل، وصوَّبوا قسيهم نحو منافذ السور المنيع، ودار القتال بلا رحمة، وكان المعسكر لا يفتأ يرسل جماعات الجنود المتحفزين للقتال، وكانوا يقاتلون بجسارة لا تهاب الموت فدفعوا ثمن جرأتهم غاليًا، وانتهى النهار بمذبحة هائلة، وقد رُوِّع الملك بمنظر القتلى والجرحى فصاح غاضبًا: إنَّ جنودي لا يبالون الموت، والموت يحصدهم حصدًا.

فقال حور وهو يُلقي على الميدان بصرًا زائغًا: يا لها من معركة يا مولاي .. أرى الجثث تملأ الميدان!

وكان القائد محب متجهِّم الوجه معفَّر الثياب فقال: ألسنا نهاجم الموت سافرًا؟

فقال أحمس: لن أدفع بجيشي إلى الهلاك المحقَّق، ويحسن بي أن أرسل عددًا محدودًا من الرجال وراء القباب الواقية، حتى يملأ الموت على العدو منافذ سوره.

ولبث الملك مهتاج النفس، ولم يُخفِّف عنه ما حملته الرسل من أنَّ الأسطول المصري استولى على بقية أسطول الرعاة وأصبح سيد النيل دون منازع .. وفي ذاك المساء عاد الرسول الذي كان بعثه إلى أسرته في نباتا يحمل رسالة من توتيشيري، فبسط أحمس الرسالة بين يدَيه وقرأ ما يأتي:

«من توتيشيري إلى حفيدي ومولاي فرعون مصر أحمس بن كاموس، مَن أدعو الرب الكريم أن يصون حياته الغالية، ويوفِّق رأيه للسداد، وقلبه للإيمان، ويده إلى مقتل عدوه .. جاءني رسولك ينعى إلينا فقيدنا الباسل كاموس ويبلِّغني كلمته الأخيرة الموجهة إليَّ، ويحسن بي — وأنت تقاتل عدونا — أن أضرب صفحًا عن ذكر ما تخفق به قلوبنا جميعًا، فقد قُضي على قلبي أن يذوق الموت مرتين في حياة قصيرة واحدة، ولكن لا يعزُّ العزاء على مَن يعيش في أتون معركة هائلة تُبذَل فيها النفوس رخيصة ويستبق الشجعان إلى الموت، ولا أكتمك — على ألمي وحزني — أنَّ رسولًا يسعى إليَّ بموت كاموس ونصر جيشنا، أحب إليَّ من أن يجيئني كاموس بنبأ الهزيمة .. فسِرْ في سبيلك ترعاك عناية الرب الرحيم، ويحفظك دعاء قلبي والقلوب الرقيقة المجتمعة حولي، يتنازعها الحزن والتصبُّر والرجاء، واعلم يا مولاي أنَّنا نشدُّ الرحال إلى بلدة دابور على مقربة من حدود بلادنا، لنكون أدنى إلى رسلك، والسلام».

قرأ أحمس الكتاب فاستشفَّ ما يكمن وراء سطوره من ألم ممضٍ ورجاء حارٍ، وتمثَّلَت له الوجوه التي ودَّعَها في نباتا، توتيشيري بوجهها الناحل المكلَّل بالمشيب، وجدته أحوتبي بجلالها وحزنها، وأمه ستكيموس بوداعتها، وزوجه نيفرتاري بعينَيها الواسعتَين وقدها الرشيق، وتمتم قائلًا: «رباه! إنَّ توتيشيري تتلقى طعنات الألم القاتل بالعزاء والأمل، ولا يُنسيها حزنها أملنا المنشود فلأذكر دائمًا حكمتها ولأتبعها بعقلي وقلبي!»

١١

وقام الأسطول بواجبه بعد أن أسر أسطول الرعاة؛ فضرب الحصار حول شاطئ المدينة الغربي، وبثَّ الرعب في أنفس أصحاب القصور المطلة على النيل، وتبادل إطلاق السهام مع حصون الشواطئ، ولكنه لم يحاول مهاجمة هذه الحصون لمناعتها ولارتفاعها بسبب انخفاض النيل في فصل الحصاد، فاكتفى بمناوشتها وضرب الحصار حولها، وكان أحمس إبانا تنازعه نفسه إلى شاطئ البلد الجنوبي حيث يقيم الصيادون، ويخفق بحبه قلب حنون، وظنَّ أنَّ هذا المكان قد يكون منفذه إلى طيبة، ولكن الرعاة كانوا أكبر حذرًا مما ظنَّ فأخذوا الشاطئ من المصريين، وشغلوا مساحته الممتدة بالحرس المُدرَّعين.

أما الملك أحمس فقد عدل عن الهجوم بجماعات كثيفة، وقدَّم للميدان نخبة من رجاله المدربين وراء الدروع الطويلة، فاستبقوا مع المدافعين عن السور العظيم في حرب قوامها الفن ودقة التصويب، ولم يتوانوا عن إظهار مهارتهم التقليدية وكفاءتهم العالية، واستمرَّت الحرب على هذا النحو بضعة أيام دون أن تُبشِّر بأي نتيجة أو تنبئ بأيَّة نهاية، فتململ الملك وقال: ينبغي ألا نعطي العدو مهلة يستعيد فيها نظامه ويُعيد بناء قوة جديدة من عجلاته.

ثم شدَّ أحمس على مقبض سيفه وقال: سآمر باستئناف الهجوم العنيف، وإذا لم يكن من بذل النفوس بد فلنقدِّم أنفسنا كما ينبغي لرجال أقسموا أن يحرروا مصر من نير عدوها الثقيل. وسأوجِّه رسلي إلى حكام الجنوب ليحثوهم على صنع دروع الحصار والقباب الواقية.

وأصدر الملك أمره بالهجوم، وأشرف بنفسه على توزيع فِرَق القسي والرماح في الميدان الفسيح على هيئة قلب وجناحَين، وجعل القائد محب على الميمنة، والقائد ديب على الميسرة، ومضى المصريون يتقدَّمون في موجات واسعة النطاق، لا تلحق الموجة بسابقاتها حتى تكون هذه قد أخذت مكانها وطفقت تناجز العدو المحتمي بالسور المرهوب، فلما تقدَّم النهار بالمقاتلة كان الميدان يزخر بالجنود الضاغطين سور طيبة، واستطاع المصريون أن يلحقوا بعدوهم خسارة فادحة كما خسروا عددًا كبيرًا من رجالهم؛ ولكن خسارتهم على أيِّ حال كانت دون خسارة اليوم الأول ودار القتال على هذا بضعة أيام أُخر، وكثر عدد القتلى من الجانبَين، واشتدَّ ضغط جناح المصريين الأيمن للعدو حتى استطاع مرةً أن يسكت نقطة من نقط الدفاع المتعددة، وأن يهلك كل مَن يتصدى لإطلاق السهام من منافذها، وانتهز بعض الضباط البواسل هذه الفرصة فهاجموا تلك الجهة بجنودهم، وأقاموا سلم هجوم وصعدوا عليه مع قوة باسلة، وسهام إخوانهم تغشاهم كالسحاب، وقد انتبه الرعاة إلى الناحية المهدَّدة فتكاثروا عليها وأصلوا المهاجمين نارًا حامية حتى أبادوهم، وسُرَّ الملك لهذا الهجوم الذي ضرب مثلًا رائعًا لجيشه، وقال لمَن حوله: لأول مرة من بدء الحصار يُقتل نفر من جنودي على سور طيبة.

والحق كان لهذه الخطوة مغزى عظيم، فقد تكررت في اليوم الثاني، ثم وقعت في غداته في نقطتَين من السور، ومضى يتزايد ضغط المصريين للعدو حتى بات الغزو أملًا مرجوًّا قريبًا. وفي تلك الأثناء جاء رسول من شاو حاكم سيين على رأس قوة من الجنود المدجَّجين بالسلاح الذين تم تدريبهم أخيرًا، ومعهم سفينة محملة بدروع الحصار وسلالمه وعدد من القباب الواقية، فاستقبل الملك الجنود بسرور، وقد تضاعف أمله في النصر، وأمرَ بتسييرهم في الميدان أمام معسكره لتحييهم الجنود ويزدادوا بهم أملًا وقوةً.

ودار القتال مع الغداة مروعًا هائلًا، وتوالت هجمات المصريين الصادقة، ولاقوا الموت بقلوب لا تهابه، وأنزلوا بعدوِّهم خسائر جمة حتى بدا عليه الإعياء واليأس واعتور سواعده النصب، فاستطاع القائد محب أن يقول لمولاه وهو عائد من الميدان: مولاي .. سنقتحم السور غدًا.

واجتمع رأي القوَّاد جميعًا على هذا، فبعث أحمس برسول إلى أسرته يدعوها إلى هابو التي يرفرف عليها العلم المصري، ليدخلوا جميعًا طيبة في الغد القريب .. وبات الملك ليلته شديد الإيمان كبير الأمل.

١٢

وطلع فجر اليوم الموعود، فاستيقظ المصريون نشاوى يتوثَّبون، توقع قلوبهم الخافقة لحن الحرب والنصر، ثم تقدَّمَت جموعهم إلى أماكنها وراء الدروع والقباب، ونظروا إلى أهدافهم غاضبين، فرأوا منظرًا عجبًا لم يتوقعوا رؤيته، فضجوا بالدهشة والانزعاج، وتبادلوا نظرات الحيرة والذهول، رأوا على السور المحيط أجسادًا عاريَّة قُيِّدَت عليه، رأوا نساءً مصريات وأطفالهن الصغار اتخذ الرعاة منهم دروعًا تحميهم شرَّ نبالهم وقذائفهم، ووقفوا خلفهن ضاحكين شامتين، وكان منظر النساء العاريات وقد حُلَّت شعورهن وهُتِكت أعراضهن، والأطفال الصغار وُثِّقت أيديهم وأرجلهم يُفتِّت الأكباد جميعًا، فضلًا عن أكباد مَن هم أزواجهن وأبناؤهنَّ، فأسقط في أيدي الرجال وشُلَّت سواعدهم، وسرى الانزعاج في النفوس حتى بلغ الملك فتلقاه كأنه صاعقة من السماء، وصاح غاضبًا: يا للوحشية الهمجية .. إنَّ الجبناء يحتمون بأجساد النساء والأطفال!

وساد الصمت والوجوم حاشية الملك وقوَّاده فلم ينبس أحدهم بكلمة، ووضح نور الصباح فرأوا على البُعد سور طيبة تحميه أجساد النساء والأطفال، فاقشعرت أبدانهم هولًا، واصفرَّت وجوههم غضبًا، وارتعشت أطرافهم، وحامت أرواحهم حول الأسرى المعذَّبين وأهليهم البواسل الذين وقفوا في الميدان أمامهم مكتوفي الأيدي، يعانون العذاب ويضيقون بالعجز، وصاح حور بصوت متهدج: يا للبائسات، سيقتلهن توالي الليل والنهار إذا لم تُمزِّق قلوبهن السهام .. ولفَّتِ الحيرة الملك، وجعل ينظر إلى الأسرى اللاتي يحمين بأجسادهن وأطفالهن عدوهن بعينَين ذاهلتَين كئيبتَين، ما عسى أن يفعل؟ .. إنَّ كفاح أشهر طوال ينذر بالضياع، وآمال عشرة أعوام تُهدَّد بالخيبة واليأس، فما عسى أن يصنع؟ .. هل جاء لخلاص شعبه أم للتنكيل به؟ .. وهل أُرسِل رحمةً أم عذابًا؟ وجعل يتمتم في حزنه: «آمون .. آمون .. ربي المعبود .. إنَّ هذا الكفاح لوجهك وللمؤمنين بك، فألهِمْني الصواب على أن أجد لنفسي مخرجًا» .. وتنبَّه من صلاته على صلصلة عجلة قادمة من ناحية النيل، عاين ومَن حوله راكبها فإذا به قائد الأسطول أحمس إبانا، وترجَّل القائد وأدى للملك التحيَّة ثم تساءل قائلًا: مولاي .. لماذا لا يهجم جيشنا على الرعاة المتداعين؟ .. أما كان ينبغي أن تكون جنودنا على سور طيبة الآن؟

فقال الملك بصوت حزين ثقيل النبرات وهو يشير إلى ناحية السور: انظر لترى بنفسك أيها القائد!

ولكن أحمس إبانا لم ينظر كما كانوا يتوقعون بهدوء: آذنَتْني عيوني بالعمل الدنيء الوحشي، ولكن كيف نرضى أن نُساق إلى أشراك أبوفيس ونحن به عالمون؟

هل يجوز أنَّ نكفَّ عن الكفاح في سبيل طيبة ومصر إشفاقًا من أن تؤذي نبالنا بعض النساء والأطفال من قومنا؟!

فقال الملك أحمس بمرارة: أترى أن آمر بتمزيق أجساد هؤلاء النسوة البائسات وأطفالهن؟

فقال القائد بحماس وثقة: نعم يا مولاي، إنَّه قربان الكفاح، مثلهن مثل جنودنا البواسل الذين يتساقطون في كل حين، بل مثلهن مثل مليكنا الشهيد سيكننرع وفقيدنا الباسل كاموس، فلماذا نشفق من ذهابهن هذا الإشفاق المعطل لكفاحنا؟

مولاي .. إنَّ قلبي يحدثني بأنَّ أمي إبانا بين هؤلاء الأسيرات البائسات، فإذا صدق شعوري فلا أشك في أنها تدعو الرب الآن أن يجعل حبك طيبة فوق رحمتك بها وبأخواتها البائسات، ولست الجريح وحدي في جنودنا، فليضع كلٌّ منَّا حول قلبه درعًا من إيمانه وعزيمته ولنهجم!

ونظر الملك إلى قائد أسطوله طويلًا، ثم قلب وجهه في حاشيته وقوَّاده، فقال الحاجب حور بهدوء وكان متجهِّمًا ممتقعًا: صدق أحمس إبانا العظيم.

وتنفَّس الرجال من الأعماق وصاحوا جميعًا في نفس واحد: نعم .. نعم .. صدق قائد الأسطول ولنهجم!

فالتفت الملك إلى القوَّاد وقال بعزم: أيها القواد، اذهبوا إلى جنودكم وقولوا لهم إنَّ مليكهم الذي فقدَ في سبيل مصر جده وأباه، ومَن لا يتردَّد عن الجود بنفسه في سبيلها، يأمرهم بالهجوم على سور طيبة المدرَّع بأكبادنا والاستيلاء عليه مهما كلفنا ذلك من بذل.

وذهب القوَّاد سراعًا ونفخ في الأبواق، فتقدَّمَت صفوف الجند شاكي السلاح مكفهرِّي الوجوه. وصاح الضباط بأصوات مدوية: «حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع»، وبدأت في الحال أبشع معركة خاض غمارها الإنسان، وأطلق الرعاة السهام فردَّ عليهم المصريون، وانطلقت نبالهم تشق صدور نسائهم وتمزِّق قلوب أطفالهم وتسيل الدماء غزيرة، ولوَّحت النسوة برءوسهن للجنود وصِحْن بأصوات رفيعة مبحوحة: اضربونا ينصركم الرب وانتقموا لنا.

فجُنَّ جنون المصريين وهجموا هجمة وحوش كواسر قسَتْ قلوبها وتعطَّشت إلى الدماء، ودوى صراخهم في جنبات الوادي كعزيف الرعد وزئير الأسود، واندفعوا لا يبالون الموت المنصب عليهم كأنما فقدوا الشعور والإدراك وانقلبوا آلات جهنمية، وحمي وطيس القتال واشتد الطعان، وسالت الدماء كأنها ينابيع تتفجَّر في الصدور والأعناق، وأحسَّ كلُّ هاجم أنَّ في قلبه غمزًا جنونيًّا لا يسكن حتى يدفن رمحه في قلب واحد من الرعاة، وتمكَّن الجناح الأيمن قبل أن ينتصف النهار من أن يسكت عدة مواضع دفاعية، فبادر رجالٌ إلى إقامة أدراج الحصار وصعدوا عليها بقلوب لا تخشى الموت، فنقلوا القتال من الميدان إلى أعلى السور الحصين، وقفز بعضهم إلى سطح السور الداخلي واشتبكوا مع العدو بالرماح والسيوف وتوالت الهجمات بعنف وبسالة، وكان الملك يرقب القتال بأعين يقظى، ويرسل النجدات إلى المواقع التي يشتدُّ عليها العدو، وقد شاهد جنوده تصعد إلى السور في مكان الوسط ومكانين في الميسرة وقد أخذت الشمس تتوسط في كبد السماء، فقال: إنَّ جنودي يبذلون جهد الجبابرة، ولكنِّي أخشى أن يلحقنا الظلام قبل أن نستولي على السور جميعه، فنستأنف غدًا من جديد!

وأصدر الملك أوامره إلى فيالق جديدة بالهجوم، فاشتدَّ ضغط رجاله للمدافعين عن السور المنيع، وصنعوا لأنفسهم طرائق جديدة إلى أعلاه، والظاهر أنَّ اليأس أخذ يستولي على الرعاة بعد أن أنزل المصريون بهم خسائر فادحة، وبعد أن رأوا سيلهم لا ينقطع وهم يصعدون أدراج الحصار كجماعات النمل الزاحفة على سيقان الأشجار، فانهارت مواضع دفاعية بسرعة لم يكن يتوقعها أحد، واحتلَّ جنود أحمس نقطًا كاملة من السور، وبدا سقوط السور أمرًا مُحقَّقًا لا يحتاج إلا لوقت، وكان أحمس لا ينفك عن إرسال الإمدادات القوية، وجاءه في المعسكر ضابط من قوة الاستطلاع المتوغلة في الحقول المحيطة بطيبة يطفر البِشر من وجهه، فانحنى للملك وقال: أخبار جليلة يا مولاي .. إنَّ أبوفيس وجيشه يغادرون أبواب طيبة الشمالية كالفارِّين.

فعجب الملك وسأل الضابط قائلًا: أواثق أنت مما تقول؟

فقال الرجل بثقة وإيمان: رأيتُ بعيني ركب ملك الرعاة وحرسه يتبعهم جموع الجيش المدجَّجة بالسلاح.

فقال أحمس إبانا: لقد أدرك أبوفيس عبث الدفاع عن سور طيبة بعد ما رأى من هجمات جنودنا وجيشه في المدينة لا يحسن الدفاع عن نفسه، ففرَّ هاربًا.

فقال حور: والآن أدرك على غير شك أنَّ الاحتماء بنساء المحاربين وأطفالهم شر وبيل.

وما كاد حور يتم كلامه حتى جاء رسول جديد من الأسطول فحيَّا الملك وقال: مولاي .. لقد شبَّت نيران الثورة في طيبة، وشاهدنا من الأسطول عراكًا عنيفًا يقع بين الفلاحين والنوبيين من ناحية، وأصحاب القصور وحرس الشاطئ من الناحية الأخرى.

فبدا القلق على أحمس إبانا وسأل الضابط: وهل قام الأسطول بواجبه؟

– نعم يا سيدي، لقد دنت سفننا من الشاطئ وأطلقت السهام بكثرة على الحرس حتى لا تمكنهم من التفرُّغ لقتال الثائرين.

فلاح الارتياح في وجه القائد، واستأذن الملك في العودة إلى أسطوله ليهجم على الشاطئ، فأذن له الملك وقال لحور مغتبطًا: لن يفلت أصحاب الضياع هذه المرة بأموالهم.

فقال حور بصوت متهدج من الفرح: نعم يا مولاي، وعما قريب تفتح لك طيبة المجيدة أبوابها.

– ولكن أبوفيس فرَّ بجيشه.

– لن نكف عن الكفاح حتى تسقط هواريس ويجلو عن مصر آخِر رجل من الرعاة.

وعاد الملك إلى مراقبة القتال فرأى جنوده تُقاتل على أدراج الحصار وفي أعلى السور وتضغط على الرعاة المتقهقرين أمامها، وصعدت فيالق الجند من حملة الرماح والسيوف بكثرة وعلَتِ السور من كل جانب وأحاطت بالرعاة وأعملت فيهم القتل والذبح، وما لبث أن رأى جنوده تمزِّق علم الهكسوس وترفع علم طيبة الخفَّاق، ثم شاهد أبواب طيبة العظيمة تنفتح على مصراعَيها وجنوده تندفع إلى داخلها هاتفة باسمه، فتمتم قائلًا بصوت خافت: «طيبة .. يا منبع دمي .. ومنبت جسدي .. ومرتع روحي .. افتحي ذراعَيكِ وضمِّي إلى صدرك الحنون أبناءك البررة البواسل»، ثم حنى رأسه ليُخفي دمعة مُنتزَعة من ضلوعه، وكان حور إلى يمينه يصلِّي ويجفِّف عينَيه وقد تندَّى خداه النحيلان.

١٣

ومضت ساعات أخرى وأخذت الشمس تميل نحو المغيب، وأقبلَ الملك والقائدان محب وديب، ثم تبعهما على الأثر أحمس إبانا فانحنوا لأحمس في إجلال وهنأوه بالنصر، فقال أحمس: ينبغي قبل أن يهنِّئ بعضنا بعضًا أن نؤدي الواجب نحو جثث الأبطال والجنود والنساء والأطفال الذين استشهدوا في سبيل طيبة فائتوني بها جميعًا.

وكانت الجثث ملقاة في جنبات الميدان وعلى سطح السور وخلف الأبواب، وقد عفَّرتها الأتربة وخضَّبتها الدماء، وسقطت من رءوسها الخوَذ الحديدية، وشملها سكون الموت الرهيب، فرفعها الجنود باحترام وساروا بها إلى جانبٍ من المعسكر وأرقدوها جنبًا إلى جنب، وأتوا بالنساء والأطفال اللاتي مزقتهن سهام جنودهم ووضعوهن في مكان منعزل، وتوجَّه الملك إلى مرقد الشهداء يتبعه الحاجب حور والقوَّاد الثلاثة والحاشية، ولمَّا دنا من الجثث المتراصَّة انحنى في إجلال صامت حزين ففعل رجاله مثله، ثم سار في خُطى بطيئة مارًّا بها كأنَّما يستعرضها في حفل رسمي مشهود، ثم عدل إلى حيث يرقد النسوة والأطفال وقد سجوا أجسادهن العارية بأغطية من الكتان، فأظلَّتْ وجه الملك سحابة حزن وأظلمت عيناه، وتنبَّه من كمده على صوت القائد أحمس إبانا وهو يصيح بالرغم منه بصوت مرتعش النبرات قائلًا: أماه!

فالتفت الملك وراءه فرأى قائده يجثو متألمًا متفجِّعًا أمام إحدى الجثث، فألقى عليها الملك نظرة فاحصة فعرف السيدة إبانا وقد ارتسم على محيَّاها شبح الفناء المروع، فوقف الملك إلى جانب قائده الجاثي خاشعًا حزين الفؤاد، وكان يكنُّ للسيدة احترامًا عظيمًا ويعرف لها وطنيتها وشجاعتها وفضلها في تربية أحمس خير قوَّاده بلا نزاع، ورفع الملك رأسه إلى السماء وقال بصوت متهدِّج: أيها الرب المعبود آمون، خالق الكون، وواهب الحياة ومنظِّم كل شيء بسُنَّته العالية، هذه ودائعك تُرَدُّ إليك تبعًا لمشيئتك، وقد كانوا في عالمنا يعيشون لغيرهم وكذلك ماتوا، إنَّهم قطع عزيزة تناثرت من قلبي، فتغمدهم برحمتك، وعوِّضهم عمَّا فقدوا من حياة فانية حياة سعيدة أبدية باقية.

والتفت الملك إلى الحاجب حور وقال: أيها الحاجب، أريد أن تحفظ هذه الجثث جميعًا وتُودَع مقابر طيبة الغربية، ولعمري إنَّ أحق الناس بأرض طيبة مَن استشهدوا في سبيلها.

وعاد في تلك الأثناء الرسول الذي كان أرسله الملك إلى أسرته في دابور وقدَّم إلى مولاه رسالة، فعجب الملك وسأله: هل عادت أسرتي إلى هابو؟

فقال الرجل: كلَّا يا مولاي.

فبسط أحمس الرسالة وكانت مُوجَّهة من توتيشيري وقرأ:

«مولاي المُؤيَّد بروح آمون وبركته، أسأل الرب أن يبلغك كتابي هذا وقد فتحت طيبة لك أبوابها فدخلتها على رأس جيش الخلاص لتضمِّد جراحها، وتسعد روحَيْ سيكننرع وكاموس، أما نحن فلن نبرح دابور، وقد فكرتُ في الأمر طويلًا فوجدتُ أن خير وسيلة نشارك بها شعبنا المُعذَّب آلامه، أن نبقى في منفانا حيث نحن الآن نعاني آلام الوحشة والغربة، حتى نحطِّم أغلاله وتُرفَع عنه النقمة، فندخل مصر آمنين ونقاسمه السعادة والسلام، فسِر في طريقك مؤيدًا بالعناية الربانية تحرِّر البلدان وتقهر الحصون، وطهِّر أرض مصر من عدوِّها ولا تجعل له في أقطارها موضع قدم، ثم ادعُنا نأتِ آمنين».

ورفع أحمس رأسه وطوى الرسالة وهو يقول بتبرُّم: تقول توتيشيري إنَّها لا تدخل مصر حتى نجلي عنها آخِر رجل من الرعاة.

فقال حور: إن أمنا المقدسة تريد ألا نكفَّ عن القتال حتى نحرِّر مصر.

فهزَّ الملك رأسه بالموافقة، فتساءل حور: ألا يدخل مولاي طيبة هذا المساء؟

فقال أحمس: كلَّا يا حور، سيدخلها جيشي وحده، أما أنا فسأدخلها مع أسرتي بعد طرد الرعاة، ندخلها جميعًا كما فارقناها جميعًا منذ عشرة أعوام مضت.

– سيُمنَى أهلها بخيبة أمل!

– قل لمَن يسأل عني إنِّي أتعقب الرعاة لأقذف بهم خارج حدودنا المقدَّسة، وليتبعني من يحبني!

١٤

ورجع الملك إلى الخيمة الفرعونية، وكان في نيته أن يصدر أمره إلى قوَّاده بأن يدخلوا المدينة في نظامهم التقليدي على أنغام الموسيقى الحربية، ولكن جاء أحد ضباط الجيش وقال: مولاي، كلَّفني قوم من قادة الثورة أن أستأذن لهم في المثول بين يدَيك، ليقدِّموا لذاتك العَلِيَّة هدايا مما غنموا في ثورتهم.

فابتسم أحمس وسأل الضابط: أقادم أنت من المدينة؟

– نعم يا مولاي.

– هل فتحت أبواب معبد آمون؟

– فتحها الثوار يا مولاي.

– ولماذا لم يأتِ الكاهن الأكبر لتحيتنا؟

– يقولون يا مولاي إنَّه أقسم ألا يبرح خلوته وفي مصر رجل من الرعاة إلا عبدًا أو أسيرًا.

فابتسم الملك وقال: حسنًا .. ادعُ قومي!

وبرح الرجل الخيمة ومضى إلى المدينة، وعاد يتبعه قوم كثيرون يسيرون جماعات جماعات، تسوق كلُّ جماعة هديتها، واستأذن للجماعة الأولى فدخل نفر من المصريين عراة إلا من أزر على أوساطهم، تنطق وجوههم بالبؤس والفقر، ويدفعون بين أيديهم رجالًا من الرعاة تعرَّت رءوسهم وتلبدت لحاهم وتعفَّرت جباههم، ثم سجدوا للملك حتى مسَّت الأرض جباههم، ولما رفعوا وجوههم إليه رأى أعينهم فائضة بالدمع من الفرح والسرور، وقال كبير القوم: مولانا أحمس بن كاموس بن سيكننرع فرعون مصر ومحررها وحاميها، والغصن السامق من تلك الدوحة الباسقة التي استشهدت أصولها في سبيل طيبة المجيدة، ومَن كان مجيئه رحمةً لنا وتكفيرًا عن إساءة الأيام إلينا.

فقال أحمس مبتسمًا: أهلًا بقومي الأعزة، مَن آمالهم كآمالي، وآلامهم مِن منبع آلامي، ولون بشرتهم كلون بشرتي!

فأضاءت وجوه القوم بنور بهيج، ووجَّه كبيرهم الخطاب إلى الرعاة قائلًا: اسجدوا لفرعون يا أحقر عبيده.

فسجد الرجال دون أن ينبس أحدهم بكلمة، فقال الرجل: مولاي .. هؤلاء الرعاة من النفر الذين ملكوا الضياع بغير الحق، كأنَّما توارثوها عن آبائهم خلفًا عن خلف، واستذلوا المصريين وساموهم الخسف واستأدوهم أشقَّ الأعمال بأزهد الأجور، جعلوهم فريسة للفقر والجوع والمرض والجهل، ثم كانوا إذا دعوهم قالوا باحتقار: فلاحون، ومنُّوا عليهم أن تركوهم أحياء .. هؤلاء طغاة الأمس وأسرى اليوم سُقناهم إلى ذاتكم العَلِيَّة عبيدًا من أذل عبيدك!

فابتسم الملك وقال: أشكر لكم يا قومي هديتكم، وأهنئكم على استرداد سيادتكم وحريتكم.

وسجد الرجال لمليكهم مرة أخرى وغادروا الخيمة، وساق الجنود الرعاة إلى معتقل الأسرى. ثم دخلت الجماعة الثانية يسير بين يدَيها رجل ضخم الهيكل ناصع البياض ممزَّق الثياب، تركت السياط آثارًا واضحة بظهره وذراعَيه، فسقط إعياءً عند قدمَي الملك دون أن يحفل به معذبوه، وسجدوا لمليكهم طويلًا وقال رجل منهم: مولانا فرعون مصر ابن الرب آمون، هذا الشرير المؤزر بلباس الذل كان كبير شرطة طيبة، وكان يلهب ظهورنا بسوطه القاسي لأتفه الأسباب، فمكَّنَنا الرب منه فألهبنا ظهره بسياطنا حتى مُزِّق جلده، وأتينا به إلى معسكر الملك ليُضَمَّ إلى عبيده.

فأمر الملك بالرجل فأخذه الجند، وشكر لقومه صنيعهم.

وأذن الملك للجماعة الثالثة فأقبلَتْ عليه تسوق رجلًا ما إن وقع عليه بصر الملك حتى عرفه، فهو سنموت قاضي طيبة وشقيق خنزر، فألقى عليه الملك نظرة هادئة، ونظر سنموت إليه نظرة ذاهلة من عينَين قلقتَين دهشتَين لا تكادان تصدِّقان، وحيَّا الرجال الملك وقال لسانهم: إليك يا فرعون نسوق مَن كان بالأمس قاضي طيبة، كان يقسم بالعدالة ويقضي بالظلم في كل حين، فأورد مشرب الظلم ليذوق ما كان يسقي الأبرياء.

فقال أحمس موجهًا خطابه للقاضي: يا سنموت، لقد كنت حياتك تحكم على المصريين، فرُضْ نَفْسك هذه المرة أن يحكموا عليك.

ودفع به إلى جنوده، وشكر رجاله المخلصين.

وجاءت الجماعة الأخيرة وكانت شديدة الحماسة تفور بالغضب، وتحيط بشخص لفَّته في ستار من الكتان من ذؤابته إلى نعليه، فحيوا الملك هاتفين: وقال قائلهم: يا فرعون مصر وحامي المصريين والمنتقم لهم، نحن بعض مَن أخذ الرعاة نساءهم وأطفالهم وادَّرعوا بهنَّ في موقعة طيبة، وأراد الرب أن ينتقم لنا من أبوفيس الظالم فهجمنا على حريمه في أثناء انسحابه، وخطفنا دون علمه مَن هي أعز عليه من نفسه، وجئنا بها إليك لتنتقم لنسائنا منها!

ودنا الرجل من الشخص المتخفي في دثار من الكتان وأزاح عنه الستار، فبدت امرأة عارية إلا من غلالة على وسطها، بيضاء صافية كالنور، يهفو حول هامتها شعر كأسلاك الذهب، ويلوح في وجهها الفاتن الحنَق والغضب والكبرياء، فبُهِت أحمس، ونظر إليها ونظرت إليه فبدا الانزعاج على وجهه، وبدت على وجهها دهشة محَتْ ما كان يلوح فيها من الغضب والحنَق والكبرياء وتمتم بصوت غير مسموع وهو لا يفيق: الأميرة أمنريدس!

وخلع حور عباءته ودنا من المرأة وألقاها عليها، وصاح أحمس برجاله: لماذا تمثِّلون بهذه المرأة؟

فقال زعيم القوم: إنَّها ابنة كبير السفاكين أبوفيس.

وأدرك أحمس حرج موقفه بين القوم الغاضبين المتعطشين للانتقام، فقال: لا تُمكِّنوا للغضب من أنفسكم أن يفسد عليكم آدابكم المُقدَّسة، فالفاضل حقًّا مَن يستمسك بفضيلته حين ثورة الوجدان ونزوة الغضب، وأنتم قوم يحترمون النساء ولا يقتلون الأسرى.

فقال رجل من القوم موتور: يا حامي المصريين، إنَّ شفاء صدورنا في إرسال رأس هذه المرأة إلى أبوفيس.

فقال أحمس: هل تحثُّون مليككم على أن يكون كأبوفيس سفك دماء وقتل نساء؟ .. كلوا الأمر لي وانصرفوا بسلام.

فسجد القوم لفرعون وانصرفوا، ونادى الملك أحد ضباط حرسه وأمره بصوت خافت أن يمضي بالأميرة إلى سفينته الفرعونية، وأن يحوطها بالعناية.

وكان الملك يكابد ثورة في القلب والنفس فلم يحتمل القعود، فأصدر أمره إلى قوَّاده بدخول طيبة على رأس الجيش دخول الظفر والنصر، ولما تحوَّل إلى حور وجده يرمقه بعينَين قلقتَين حائرتَين مُشفقتَين.

١٥

وخلا الميدان، فاتَّجه الملك نحو النيل يتبعه حرسه، وكان يحثُّ سائقي عجلته على السرعة ويغرق في الأحلام والأفكار، أيُّ صدمة تعرَّض لها قلبه اليوم! أيُّ مفاجأة كابدَها وعاناها؟ ولم يكن يدور بخلَده أنَّه سيلقى أمنريدس مرة أخرى فمُنِيَ باليأس منها، وتمثَّلت له كحلمٍ أضاءَ ليله ساعةً ثم ابتلعَتْه الظلماء، ولكنَّه رآها مرةً أخرى على غير انتظار أو حسبان، ألقَتْ بها المقادير إلى رحمته فغدت بغتةً في ملكه الخاص، لشدَّ ما اضطرب صدره وخفق قلبه، لشدَّ ما تيقَّظَتْ في نفسه عواطف حارة أحيَتْ من جديد ذكرياته الحلوة، فانغمر في تيارها الحنون ناسيًا كلَّ شيء.

ولكن هي، هل عرفَتْه يا تُرى؟ .. وإذا لم تكن عرفته، فهل ما تزال تذكر التاجر السعيد إسفينيس؟ .. الذي أنقذَتْ حياته من الموت المُحقَّق، ومَن قالت له والقلب خافق والدموع ذوارف: «إلى اللقاء»؟ ومَن حنت إليه في منفاه فبعثت إليه برسالة كمُنَ الحب في سطورها كمون النار في الحجر؟ .. أما يزال قلبها يخفق خفقته الأولى في مقصورة السفينة الفرعونية؟ .. رباه .. ما له يحسُّ أنه مُقبِل على سعادة لا حدَّ لها؟ .. هل يَصْدُقه قلبه أم يخدعه؟ وتمثَّل للملك منظرها البائس حين دفع بها الثائرون إليه، فانتفض جسمه القوي وسرَتْ فيه قشعريرة، وتساءل حزينًا والقوم الغاضبون من حولها يبصقون عليها ويسبونها ويلعنون أباها .. وإنَّه ليذكر ما كان يلوح في وجهها من الغضب والحنَق والكبرياء، فهل يسكت غضبها إذا علمت أنها أسيرة إسفينيس، وأحسَّ قلقًا لم يساوره في أحرج المواقف، وكان ركْبُه بلغ الشاطئ فهبط إلى السفينة الفرعونية، ودعا إليه الضابط الذي عهد إليه بالأميرة وسأله: كيف حال الأميرة؟

– وُضِعَت يا مولاي في مخدع خاص وجيء لها بثياب جديدة وقُدِّم لها الطعام، ولكنَّها رفضت أن تمسه، وعاملَتِ الجنود معاملة تنطوي على الاحتقار ودعَتْهم بالعبيد، ولكنَّها عُومِلت أحسن معاملة كأمر جلالة الملك.

فبدا على الملك عدم الارتياح، وسار بخطوات هادئة إلى المخدع، ففتح الباب أحد الحراس وردَّه بعد دخول الملك، وكان المخدع صغيرًا أنيقًا يُضيئه مصباح كبير يتدلى من سقفه، وإلى يمين المدخل جلست الأميرة على أريكة وثيرة في ثوب بسيط من الكتان وقد مشطت شعرها الذي بعثرَه الثائرون وأرسلته ضفيرة كبيرة، فنظر إليها مبتسمًا فرآها تنظر إليه في دهشة وغرابة وهي لا تُصدِّق عينَيها، وبدَتْ له كأنَّما هي في حيرة وشك، فحيَّاها قائلًا: طاب مساؤك أيتها الأميرة.

فلم تُجِبه، ولكنَّها ازدادت بسماع صوته حيرةً وشكًّا، وكان الشاب يُطيل النظر إليها في شغف وافتتان، فسألها: هل يعوزك شيء؟

فتفرَّسَت في وجهه، ثم صعَّدت بصرها إلى خوذته، وخفضته إلى درعه وسألته: مَن أنت؟

– أدعى أحمس فرعون مصر؟

فلاح الإنكار في نظرة عينَيها، وأراد أن يزيدها حيرة فخلع خوذته ووضعها على خوان وهو يقول لنفسه إنَّها لا تستطيع أن تصدِّق عينَيها، ورآها تنظر إلى شعره المجعَّد بغرابة، فقال كالداهش: ما لكِ تنظرين إليَّ هكذا كأنك تعرفين لي شبيهًا؟

فلم تدرِ ما تقول ولم تحر جوابًا، واشتاق إلى سماع صوتها والتماس حنانها فقال لها: هبي أنني أجبتك أني أُدعَى إسفينيس، فهل تردين عليَّ؟

وما كادت تسمع اسم إسفينيس حتى قامت واقفة وصاحت به: إذَن أنت إسفينيس!

فدنا منها خطوة وحدجها بنظرة حنان، وأمسك بمعصمها وهو يقول: أنا إسفينيس أيتها الأميرة أمنريدس.

فجذبت معصمها بشدة وقالت: إني لا أفهم شيئًا.

فابتسم أحمس وقال برقة: ماذا تعني الأسماء؟ .. كنت بالأمس أُدعَى إسفينيس وأُدعَى اليوم أحمس، ولكني شخص واحد وقلب واحد!

– يا للغرابة .. كيف تقول أنت شخص واحد؟ .. كنتَ تاجرًا تبيع الحليَّ والأقزام، وأنت اليوم تُقاتل وترتدي ثياب الملوك.

– ولمَ لا؟ .. كنت بالأمس أجوس خلال طيبة متخفيًّا، وأنا اليوم أقود قومي لتحرير بلدي واسترداد عرشي المسلوب.

فنظرَتْ إليه نظرة طويلة تحيَّر في إدراك كُنهها، وحاول أن يدنو منها مرةً أخرى، ولكنها صدَّته بإشارة من يدها وجمدت قسمات وجهها وتبدَّت القساوة والكبرياء في عينَيها، فأحسَّ خيبة أمل وبرودة تشتمل آماله وتقتل بلابل الرجاء المغرِّدة في صدره، وسمعها تقول بشدة: ابتعد عني.

فقال لها برجاء: ألا تذكرين …؟!

ولكنها قاطعته قبل أن يتم كلامه قائلةً وقد استولى عليها الغضب الذي اشتهر به قومها: أذكر وسأذكر دائمًا أنك جاسوس وضيع!

فأحسَّ صدمة مروعة جعلته يقطب، وقال بغضب: أيتها الأميرة .. ألا تدركين أنكِ تخاطبين ملكًا؟

– أيُّ ملك يا هذا؟

فاستولى عليه الغضب وقال بشدة: فرعون مصر.

فقالت بتهكُّم: وأبي أيكون أحد ولاتك؟!

فاشتد الغضب بالملك وغلب كبرياؤه عواطفه جميعًا، فقال: ليس أبوكِ أهلًا لأن يكون واليًا من ولاتي، ولكنه مغتصب عرش بلادي، وقد هزمتُه شرَّ هزيمة وجعلتُه يفر من أبواب طيبة الشمالية تاركًا ابنته تقع أسيرة بين أيدي القوم الذين ظلمهم، وسوف أتبعه بجيوشي حتى يلوذ بالصحاري التي قذفَتْه إلى وادينا .. ألا تدركين هذا؟ .. أمَّا أنا فملِكُ هذا الوادي الشرعي لأنِّي من سلالة فراعنة طيبة المجيدة، ولأني قائد مُظفَّر أسترد بلادي عنوةً واقتدارًا.

فقالت ببرود وسخرية: طبت من ملك يبرع قومه في مقاتلة النساء!

– يا للعجب ألا تعلمين أنَّكِ مدينة لقومي هؤلاء بحياتك؟ .. لقد كنتِ تحت رحمتهم ولو أنَّهم قتلوكِ ما خالفوا السُّنَّة التي استنَّها أبوكِ في تعريض النساء والأطفال لنبال المقاتلين.

– وهل تضعني على قدم المساواة مع أولئك النسوة؟

– ولمَ لا؟

– معذرةً أيها الملك .. فإنَّه كبر عليَّ أن أتصور أنِّي مثل إحدى نسائكم أو أنَّ أحدًا من قومي مثل أحد من قومكم إلا أن يتساوى السادة والعبيد .. ألا تعلم أنَّ جيشنا غادر طيبة لا يحس ذلَّ المغلوب؟ وكانوا يقولون باستهانة ثأر عبيدنا وسنكرُّ عليهم!

وجنَّ جنون الملك وغلبه الغضب على أمره، فصاح بها: مَن العبيد ومَن السادة؟ .. إنَّكِ لا تدركين شيئًا أيتها الفتاة المغرورة؛ لأنَّكِ وُلدتِ بين أحضان هذا الوادي الذي يُوحي بالمجد والعزة، ولو تأخَّر مولدك قرنًا من الزمان لوُلدتِ في أقسى صحاري الشمال الباردة، ولما سمعتِ مَن يقول لكِ: أميرة، أو يدعو أباكِ: ملكًا، من تلك الصحاري جاء قومكِ فاغتصبوا سيادة وادينا وجعلوا أعزَّته أذلة، ثم قالوا جهلًا وغرورًا إنَّهم أمراء وإنَّنا فلاحون عبيد، وإنَّهم بيض وإنَّنا سمر، واليوم يأخذ العدل مجراه فيرد إلى السيد سيادته، وينقلب العبد إلى عبوديته، ويصير البياض سمة الضاربين في الصحاري الباردة، والسمرة شعار سادة مصر المُطهَّرين بنور الشمس.

هذا الحق الذي لا مراء فيه!

فاحتدم الغيظ في قلب الأميرة واندفع الدم إلى وجهها، وقالت باحتقار: أنا أعلم أنَّ أجدادي هبطوا مصر من الصحراء الشمالية، ولكن كيف غاب عنك أنَّهم كانوا سادة الصحراء قبل أن يصيروا بقوتهم سادة هذا الوادي؟ .. كانوا وما يزالون سادة ذوي كبرياء ونخوة، لا يعرفون سوى السيف سبيلًا إلى هدفهم، لا يتخفون في ثياب التجار كي يطعنوا اليوم مَن سجدوا له بالأمس القريب.

فحدجها بنظرة قاسية متفحِّصة، فرآها ذات كبرياء وخيلاء وقسوة لا تلين ولا تخاف، وتتمثَّل فيها صفات قومها الفظة المتعالية، فاشتد به الحنق، وأحسَّ رغبةً حارةً إلى إخضاعها وإذلالها ولا سيما بعد أن أذلَّت عواطفه بكبريائها وصلفها، فقال بصوت هادئ متعالٍ: لا أرى سببًا يدعوني إلى الاستمرار في مجادلتك، ولا يجوز أن أنسى أني ملك وأنكِ أسيرة.

– أسيرة كما تشاء، ولكني لن أذل أبدًا.

– بل إنكِ تحتمين برحمتي فتؤاتيكِ هذه الشجاعة.

– لم تفارقني شجاعتي قط .. سلْ رجالك الذين خطفوني غدرًا ينبئونك عن شجاعتي واحتقاري لهم في أحرج الأوقات وأشدها خطرًا عليَّ.

فهزَّ كتفَيه العريضَين استهانةً، وتحوَّل إلى الخوان فأخذ خوذته ووضعها على رأسه، وقبل أن يخطو خطوة أخرى سمعها تقول: لقد قلت حقًّا إنِّي أسيرة، وليست سفينتك المكان الذي يصلح للأسرى، فألحِقْني بأسرى قومي.

فنظر إليها مغيظًا محنقًا وقال يغيظها ويُخيفها: ليس الأمر كما تتصوَّرين، فالعادة أن الأسرى الرجال يُسخَّرون عبيدًا، أما النساء فيلحقن بحريم الملك الظافر.

فقالت وقد اتسعت حدقتاها: ولكنِّي أميرة!

– كنتِ أميرة .. ولستِ الآن سوى أسيرة.

– كلما ذكرتُ أني أنقذتُ حياتك يومًا يُجنُّ جنوني!

فقال بهدوء: فلتُحيِّي هذه الذكرى .. فبفضلها أنقذتُ حياتك من أيدي الثائرين الذين يتمنون أن يرسلوا رأسك إلى أبوفيس.

وأدار لها ظهره وغادر المخدع غاضبًا حانقًا، وحيَّاه الحراس فأمرهم بالإبحار إلى شمال طيبة، وسار إلى مقدمة السفينة بخُطى ثقيلة متباطئة مالئًا صدره بهواء الليل الرطيب، وما لبثت السفينة أن انحدرت مع تيار النيل المتدفقة منذ الأزل تشق الظلماء إلى شمال طيبة. فأرسل الملك بناظرَيه إلى المدينة فارًّا إليها من هموم نفسه، وكان النور يشع من سفن الأسطول الراسية إلى شاطئ المدينة، أما القصور الشاهقة فكانت غارقة في الظلمة بعد أن هجرها أصحابها الفارُّون، ولاحت على البُعد من بين القصور والحدائق أضواء المشاعل التي يحملها الساهرون الفرِحون، وحمل النسيم صدى أصواتهم المتصاعدة بالهتاف والأناشيد، فجرت على فمه العريض ابتسامة، وأدرك أنَّ طيبة تستقبل جيش الخلاص كما تعوَّدت أن تستقبل جيوشها المظفرة وأعيادها الخالدة.

ومضت السفينة تدنو من القصر الفرعوني حتى حاذته في مسيرها، ورأى الملك القصر مضاءً يشع النور من نوافذه وحديقته، فعلم أنَّ حور يشرف على تهيئته وتطهيره، وأنَّه عاد حقًّا إلى أداء وظيفته الأولى في قصر سيكننرع وشاهد أحمس ميناء حديقة القصر فعاودته الذكرى الأليمة، ليلة حملت السفينة الفرعونية أسرته إلى أقاصي الجنوب والدماء تتفجر من ورائها.

وعاود الملك السير جيئةً وذهابًا على مقدم السفينة، واتَّجه بصره مرات إلى مخدع الأميرة المغلق ثم تساءل متبرِّمًا ساخطًا: لماذا جاءوني بها؟ .. لماذا جاءوني بها؟

١٦

وفي صباح اليوم الثاني بكَّر حور والقوَّاد والمستشارون إلى زيارة الملك في سفينته الراسية شمال طيبة، فاستقبلهم الملك في المقصورة وسجدوا بين يدَيه وقال حور بصوته الهادئ: أسعد الرب صباحك أيها الملك المظفر، لقد خلَّفْنا وراءنا أبواب طيبة يخفق قلبها بالأفراح، ويهزُّها الشوق إلى اجتلاء نور جبين مخلِّصها ومحرِّرها.

فقال أحمس: لتفرح طيبة، أما اللقاء فحين يقضي الرب بالنصر.

فقال حور: وذاع بين الأهلين أنَّ مليكهم في طريق الشمال، وأنَّه يرحِّب بمَن يلحق به من القادرين، ولا تسَلْ يا مولاي عن الحماسة التي فاضت بقلوب الشباب، ولا عن تهافتهم على الضباط ليضمُّوهم إلى جيش أحمس المعبود.

فابتسم الملك وسأل رجاله: وهل زرتم معبد آمون؟

فقال حور: نعم يا مولاي زرناه جميعًا، وهرع إليه الجنود يتمسَّحون بأركانه ويمرِّغون وجوههم في ترابه ويعانقون كهنته، وقد فاض المذبح بالقربان وأنشد الكهنة نشيد الرب المعبود وتردَّدت صلاتهم في جنبات المعبد، فصهر الحنين القلوب وانتظم الطيبيون جميعًا في صلاة جامعة، أما نوفر آمون فلم يبرح عزلته.

فابتسم الملك، ولاحت منه التفاتة فرأى القائد أحمس إبانا صامتًا مكتئبًا فأشار إليه أن يقترب، فاقترب القائد من مولاه، ووضع الملك يده على منكبه وقال له: تحمَّل نصيبك من الأذى يا أحمس، واذكر أنَّ شعار أسرتك الشجاعة والبذل.

فحنى القائد رأسه شاكرًا وقد دخلَتْه رقة من عطف الملك عليه، ونظر أحمس إلى رجاله وقال: أشيروا عليَّ فيمَن أختاره حاكمًا لطيبة، وأعهد إليه بمهمة تنظيمها الشاقة!

فقال القائد محب: إن خير مَن يصلح لهذا المنصب الخطير الرجل المخلص الحكيم حور.

ولكن حور بادر يقول: إن واجبي في السهر على خدمة مولاي لا في التخلُّف عنه.

فقال أحمس: صدقتَ .. وأنا لا أستغنى عنك.

فقال حور: يوجد رجل فاضل عظيم الدراية والخبرة معروف بالحكمة وأصالة الرأي هو توتي آمون وكيل معبد آمون، فإذا شاء مولاي فليعهد إليه بشئون طيبة.

فقال أحمس: قد ولَّيناه طيبة.

ثم دعا الملك رجاله إلى تناول الفطور على مائدته.

١٧

ومضت ساعات النهار والجيش يضمِّد جراحه ويأخذ قسطه من الراحة واللهو والغناء والشراب، واستبقَ الجنود الطيبيون إلى منازل أهلهم فتعانقت القلوب وامتزجت النفوس، وصارت طيبة من المودة والعطف كأنَّها قلب الدنيا الخافق، أمَّا أحمس فلم يبرح سفينته، ودعا الضابط المكلف بحراسة الأميرة وسأله عنها؟ فقال له الرجل: إنها باتت ليلتها دون أن تذوق طعامًا، وكان يفكر في وضعها في سفينة أخرى ويعهد بها إلى حراس أمناء، ولكنَّه لم ينتهِ من تفكيره إلى عزم قاطع، ولم يشكَّ في أن حور غير راضٍ عن وجودها في سفينته، وأيقن أن الحاجب يكبر عليه أن تنال ابنة أبوفيس هذه الحظوة لديه، وكان يعرفه حق المعرفة، ويعلم أنه لا يشغل قلبه سوى كفاح طيبة، أما هو فكانت عواطفه متعطشة فائرة، وكان يعيا عن كفِّ نفسه عن الحوم حول المخدع وصاحبته، أو في صرفها عن الولوع بها على ما به من سخط وغضب، فإن الغضب لا يقتل الحب ولكنَّه يحجبه حينًا من الزمن كما يكدِّر الضباب وجه المرآة المصقولة إلى حين، ثم ينقشع عنها فيعود إليها الصفاء، ولذلك لم يسلِّم لليأس، وجعل يقول لنفسه متعزيًا: لعلَّ ما بها من آثار الكبرياء المغلوب على أمره والصلف الواقع في الأسر، ولعلَّ غضبها أن يسكت فتجد أن ما تظهر من البغض دون ما تبطن من الحب فتلين وتذعن وتؤدي للحب حقه كما أدَّت للغضب حقوقه، أليست هي صاحبة المقصورة التي أنقذَتْ حياته ومنحَتْه العطف والود؟ .. أليست هي التي أقلقها غيابه فكتبت إليه رسالة عذل تضمر أنين الحب المكتوم؟ .. فكيف تذوي عواطفها هذه من أجل ثورة كبرياء وغضب؟ .. وانتظر الأصيل ثم هزَّ كتفَيه العريضَين استهانةً وذهب إلى المخدع، وحيَّاه الحرس وأوسعوا له فدخل كبير الرجاء، ورآها تجلس في جمود وهدوء تلوح في عينَيها الزرقاوَين الكآبة والملل! فآلمته كآبتها وقال لنفسه: كانت طيبة على رحابتها تضيق بها، فكيف وقد حُبِسَت في هذا المخدع الصغير؟ .. ووقف أمامها جامدًا فاستوَتْ في جلستها ورفعت إليه عينَين باردتَين، فقال لها برقة: كيف كانت ليلتكِ؟

فلم تجب وخفضت رأسها تنظر إلى الأرض، فألقى على رأسها ومنكبها وصدرها نظرة مشوقة، وأعاد سؤاله قائلًا وقد ظنَّ أن أمله قريب: كيف كانت ليلتكِ؟

وبدا عليها كأنها لا تريد أن تخرج عن الصمت، ولكنها رفعت رأسها بحِدَّة وقالت: كانت أسوأ لياليَّ!

فأغضى عن لهجتها وسألها: لماذا؟ .. هل يعوزك شيء؟

فقالت دون أن تُغيِّر لهجتها: يعوزني كل شيء.

– كيف؟ .. لقد أمرتُ الضابط المكلَّف بحراستك …

فقاطعته بتبرُّم قائلةً: لا تتعب نفسك في ذكر هذا .. فإنه يعوزني كل شيء أحبه، يعوزني أبي وقومي وحريتي، ولكن لديَّ كل ما أكرهه .. هذا الثياب وهذا الطعام وهذا المخدع وهؤلاء الحراس!

فمُنِي بالخيبة مرة ثانية وأحسَّ انهيار آماله وذهاب رجائه، فجمدت أساريره وقال لها: أتريدين أن أفكَّ أسرك وأرسلكِ إلى أبيك؟

فهزَّت رأسها بعنف وقالت بشدة: كلا.

فنظر إليها متعجبًا متحيِّرًا، ولكنها استدركت بمثل هذه اللهجة قائلةً: كيلا يُقال إن ابنة أبوفيس ضرعت إلى عدو أبيها العظيم أو أنها استحقت الرثاء يومًا.

فهاجه الغضب وحنق على صلفها وكبريائها وقال لها: إنك لا تتحرجين في إظهار صلفك اطمئنانًا منكِ إلى رحمتي!

– كذبتَ!

فامتقع وجهه وحدجها بنظرة قاسية وقال: يا لكِ من سادرة لا تعرفين ما الحزن وما الألم، هل تعلمين ما تستوجبه إهانة الملك من عقاب؟ هل رأيتِ امرأة تُجلد قبل اليوم؟ .. أنا لو شئتُ لجعلتكِ تجثين عند قدمَي أصغر جنودي سائلةً الصفح والتوبة!

أدام إليها النظر ليرى أثر تهديده في نفسها، فوجدها تتحداه بعينَيها القاسيتَين لا تغضيهما، والغضب يسارع إليها إسراعه إلى بني قومها جميعًا، وقالت بحِدَّة: نحن قوم لا يعرف الخوف إلى قلوبنا سبيلًا، ولا يذل كبرياؤنا حتى تطوي السماوات أيدي البشر.

وتساءل في غضبه هل يجرِّب إذلالها؟ .. لماذا لا يذلها ويدوس كبرياءها بقدمه؟ أليست هي أسيرته ويستطيع أن يجعلها جارية من جواريه؟ .. ولكنه لم يرتَحْ إلى هذا الهوى، كان يطمع فيما هو أعذب وأجمل، فلما أدركَتْه الخيبة ثار كبرياؤه واحتدَّ غضبه فزهد في استذلالها، على أنه أظهر غير ما يبطن فقال بلهجة كلهجتها كبرياءً: إنَّ مشيئتي لا تقتضي تعذيبك فلن تعذبي لذلك .. وإنَّه لمن أعجب الأمور أن يفكِّر إنسان في تعذيب جارية حسناء مثلك.

– بل أميرة ذات كبرياء.

– كان هذا قبل أن تقعي أسيرة في يدي!

أما أنا فأوثر أن أضمك إلى حريمي على أن أعذبك: ومشيئتي هي النافذة.

– ستعلم أنَّ مشيئتك نافذة على نفسك وعلى قومك لا عليَّ، وأنك لن تمسني حيَّة.

فهزَّ كتفَيه استهانةً، ولكنَّها استدركت قائلةً: من عاداتنا المتوارثة أنه إذا وقع فرد منا في أشراك ذل ولم يستطع النجاة، امتنع عن الأكل حتى يقضي كريمًا.

فقال متهكمًا: حقًّا؟ .. ولكني رأيت قضاة طيبة يُساقون إليَّ فيسجدون صاغرين سائلةً أعينهم العفو والمغفرة!

فامتقع وجهها ولاذت بالصمت، وضاق الملك بحديثها ذرعًا وكان يعاني مرارة الخيبة فلم يُطِق البقاء، وقال وهو يهمُّ بمغادرة المخدع: لن تجدي حاجة إلى الامتناع عن الطعام.

وغادر المخدع مغضبًا ساخطًا وقد بيَّتَ نيته على أن ينقلها إلى سفينة أخرى، ولكن ما كاد غضبه يسكت حين خلا إلى نفسه في المقصورة حتى عدل عن نيته فلم يصدر أمره.

١٨

ومثل الحاجب حور بين يدي الملك في مقصورته وقال: مولاي، جاء رسل من قِبَل أبوفيس يستأذنون في المثول بين يديك.

فعجب أحمس وسأله: ماذا يريدون؟

فقال الحاجب: قالوا إنَّهم يحملون رسالة لذاتك العليا.

فقال أحمس: ادعُهم على عجل!

فغادر الحاجب المقصورة وبعث بضابط إلى الرسل، وعاد إلى مولاه ينتظران، ولم يلبث أن جاء الرسل مع شرذمة من ضباط الحرس، وكانوا ثلاثة يتقدَّم كبيرهم ويتبعه اثنان يحملان صندوقًا من العاج، وكانوا كما يبدو من ثيابهم الفضفاضة من الحجَّاب، بيض الوجوه، طوال اللحى، وقد رفعوا أيديهم بالتحيَّة دون انحناء، ووقفوا في غطرسة ظاهرة، فردَّ أحمس تحيَّتهم في كبرياء وسألهم: ماذا تريدون؟

فقال زعيمهم بلهجة أعجمية متغطرسة: أيها القائد …

ولكن حور لم يُمكِّنه من إتمام عبارته، فقال له بهدوئه الطبيعي: إنك تحدِّث فرعون مصر يا رسول أبوفيس!

فقال الزعيم: الحرب ما تزال مستعرة لم يُفصل فيها بعد، وما دام لنا رجال وفي أيدينا سلاح، فأبوفيس فرعون مصر لا شريك له!

فأومأ أحمس إلى حاجبه بالسكوت وقال للرسول: تكلم فيما جئتَ من أجله.

فقال الزعيم: أيها القائد، خطف الفلاحون يوم الانسحاب من طيبة صاحبة السمو الفرعوني الأميرة أمنريدس كريمة مولانا الملك أبوفيس فرعون مصر وابن الرب ست، ومولانا يريد أن يعلم هل ابنته على قيد الحياة أو قتلها الفلاحون؟

– هل يذكر مولاك ما فعل بنسائنا وأطفالنا في حصار طيبة؟ .. ألم يذكر كيف عرَّضهن لسهام أبنائهن وأزواجهن تُمزِّقهنَّ شرَّ ممزَّق، وجنودكم الجبناء مُدرَّعون بهن؟

فقال الرجل بحدَّة: إنَّ مولاي لا يتنصَّل من تبعة عمله، والحرب كفاح للموت والهزيمة فلا يُستعان عليها بالرحمة.

فهزَّ أحمس رأسه بنفور وقال: بل الحرب نزال بين الرجال، يفصل فيه الأقوياء ويعنو له الضعفاء، وهي عندنا صراع لا ينبغي أن يطغى على ما بنفوسنا من المروءة والدين .. على أنِّي أعجب كيف يسأل الملك عن ابنته وذاك علمه وهذا رأيه في الحرب؟

فقال الرسول بإباء: إنَّ مولاي يستفهم لغاية في نفسه، فلا هو يسترحم ولا هو يشفق!

وتفكَّر أحمس مليًّا، ولم يغِبْ عنه الباعث الذي حدا بعدوِّه إلى السؤال عن ابنته، ولذلك قال بوضوح وبلهجة نمَتْ عن الاحتقار: عُد إلى مولاك وقل له إنَّ الفلاحين قوم شرفاء لا يغتالون النساء، وإنَّ الجنود المصريين يترفعون عن قتل أسراهم، وإنَّ ابنته أسيرة تتمتع بنبل آسريها!

فبدا على الرجل الارتياح وقال: لقد أنقذَتْ كلمتك هذه أرواح الآلاف من قومك نساءً ورجالًا ممَّن أسرهم الملك، وجعل حياتهم رهينة بحياة سمو الأميرة.

فقال له أحمس: وحياةُ الأميرة رهينة بحياتهم.

فصمت الرجل مليًّا ثم قال: وقد أُمِرت ألا أعود حتى أراها بنفسي.

وبدا الإنكار على وجه حور، ولكن أحمس بادر الرسول قائلًا: ستراها بنفسك.

فأشار الزعيم إلى الصندوق العاجي الذي يحمله تابعاه وقال: وهذا الصندوق يحوي بعض ثيابها، فهل تأذن لنا في تركه في حجرتها؟

فسكت الملك هنيهة ثم قال: لك هذا.

ولكن حور مال إلى مولاه وهمس قائلًا: ينبغي أن نفحص الثياب أولًا.

فوافق الملك على رأي حاجبه، وأمر الحاجب بوضع الصندوق بين يدَي الملك، ثم فتحه بيدَيه وأخرج ما به من الثياب ثوبًا ثوبًا، وعثر بحُقٍّ صغير فأمسك به وفتحه فإذا ما به عقد ذو قلب زمردي، وارتعد قلب الملك لمرآه: وذكر كيف انتقَتْه الأميرة من بين لآلئه يوم كان يُدعى إسفينيس ويبيع اللآلئ فتورَّد وجهه، أما حور فقال: هل السجن مكان صالح للزينة؟!

فقال الرسول: هذا العقد حلية الأميرة المفضَّلة لديها، فإن شاء القائد أبقيناه، وإلا أخذناه معنا.

فقال أحمس: لا بأس بإبقائه.

ثم التفت الملك إلى الضباط وأمرهم باصطحاب الرسل إلى مخدع الأميرة، ومضت الرسل ومضى الضباط في إثرهما.

١٩

وفي ذات المساء لحقت بالجيش قوات آتية من الجنوب من مدربي أبولينوبوليس وهيراكونبوليس، ورست في ميناء طيبة سفن صغيرة محمَّلة بالأسلحة وقباب الحصار موجهة من أمبوس، وبشَّر ربانها الملك بأنه عما قريب تصله قوة من العجلات والفرسان المدربين. وانضم إلى الجيش رجال من طيبة وهابو فاعتاض جيش أحمس عما فقده من الرجال وأربى عدده على اليوم الذي اخترق الحدود غازيًا، ولم يرَ الملك داعيًا إلى البقاء في طيبة أكثر مما بقي؛ فأمر قوَّاده بالاستعداد للزحف شمالًا فجر الغد، وتودع الجنود من طيبة وأهلها، وتحوَّلوا عن اللهو والدعة لاستقبال الكفاح والجلاد، وعند مطلع الفجر نفخ الجنود في الأبواق فتحرَّك الجيش العرمرم صفوفًا كأمواج البحر، تتقدَّمه الطلائع ويسير في مقدمته الملك وحرسه، وفرقة العجلات تتبعها الفِرَق الأخرى، وأقلع الأسطول بقيادة أحمس إبانا يشقُّ مياه النيل بوحداته القوية، تواثبوا جميعًا للقتالِ، وشحذ النصر إرادتهم فجعلها كالحديد أو أشد صلابة، واستقبل الجيش في القرى بحماسة دافقة، وهرع الفلاحون إلى طريقه هاتفين يلوحون بالأعلام وسعف النخل، واجتاز سبيله آمنًا فأضحى في شنهور ودخلها بغير مقاومة، ثم أمسى في قسي ففتحت له أبوابها وباتوا جميعًا في قسي، واستأنفوا المسير مع الفجر، وجدُّوا في سيرهم حتى شارفوا ميدان كبتوس، ولاح لهم الوادي الذي ينتهي بالمدينة، وهنا شمل الجيش صمت حزين وطافت الذكريات بالرءوس، وذكر أحمس الهزيمة التي حلَّت بجيش طيبة في هذا الوادي لعشرة أعوام خلَتْ أو يزيد، وذكر مصرع جده الباسل سيكننرع الذي ارتوت هذه الأرض بدمه، وحار بصره في جنبات الميدان وهو يتساءل: تُرى في أي مكان سقط، ولاحت منه التفاتة نحو حور، فرأى وجهه ممتقعًا وعينَيه مغرورقتَين بالدموع، فاشتد به التأثُّر وقال له: يا للذكرى المؤلمة!

فقال حور بصوت متهدِّج وأنفاس لاهثة: كأنِّي أستمع إلى أرواح الشهداء التي يعمر بها جو هذا المكان المقدس!

فقال القائد محب: لشد ما ارتوت هذه الأرض من دماء آبائنا!

وجفَّف حور دمعه وقال للملك: فلنُصلِّ جميعًا يا مولاي على روح مليكنا الشهيد سيكننرع وجنوده البواسل.

وترجَّل أحمس وقوَّاده وحاشيته وصلُّوا جميعًا صلاة حارة!

٢٠

ودخل الجيش مدينة كبتوس وخفق على سورها علم مصر، فهتف الجنود لذكرى سيكننرع طويلًا، ثم زحف الجيش إلى تنتيرا دون أن يجد أدنى مقاومة، وكذلك استرد ديوس بوليس برفا، ثم سار في طريق أبيدوس وهو يتوقَّع أن يلقى الرعاة في واديها، ولكنه لم يعثر برجل من العدو، فعجب أحمس وتساءل قائلًا: أين أبوفيس وأين جيوشه الجرارة؟

فقال حور: لعله لا يريد أن يلقى عجلاتنا بمشاته.

– حتَّام تدور هذه المطاردة؟

– مَن يعلم يا مولاي؟ .. لعلها تدوم حتى نواجه أسوار هواريس، حصن الرعاة الحصين الذي شيدوا أسواره في قرن من الزمان، ولسوف يدمي قلب مصر قبل أن تخترقه جنودنا.

وفتحت أبيدوس أبوابها لجيش الخلاص، فدخلها دخول الجيش المظفر، وارتاح بها يومه.

وكان أحمس يتعطش للحرب لعلَّه يلقى عدوه في موقعة فاصلة، ولأنَّه كان يتوق إلى أن ينغمر في القتال لينسى نوازع نفسه ويطمس أحزان فؤاده، ولكن أبوفيس أبى عليه هذه الراحة، فوجد أفكاره تحوم حول الأسيرة العنيدة، وقلبه ينازعه إليها على ما به من موجدة عليها، وذكر أحلامه حين ظنَّ أن أسعد الأقدار هي التي دفعتها إلى أسره وحين طمع أن يجعل سفينة الأسر جنة من جنان الحب، ثم ذكر ما فعل به إباؤها وغضبها، وكيف صيَّره مريضًا محرومًا من أشهى الثمار وهي ناضجة دانية، وكانت رغبته إلى الحب قوية لا تُقاوَم فجرفت بتيارها الدافق عوائق التردُّد والكبرياء، فذهب إلى السفينة وقصد إلى المخدع المسحور ودخل، وكانت جالسة جلستها المعهودة على الأريكة ملتفة في ثوب من أثواب منف الرقيقة. وكأنها عرفت وقع خطاه فلم ترفع إليه رأسها وظلَّت تنظر إلى ما بين قدمَيها، وجرى بصره المشغوف على مفرق شعرها وجبينها وجفنَيها المسبلَين فأحسَّ رعدة تصدع صدره، ونازعته الرغبة في أن يرتمي عليها ويضغطها بين ذراعَيه بكل ما أوتي من قوة وعزم، ولكنها رفعت رأسها بغتةً وحدجته بنظرة باردة، فلبث حيث هو جامدًا، ثم سألها: هل زاركِ الرسل؟

فقالت بلهجة لا تنم عن عاطفة: نعم.

فجال ببصره في الحجرة حتى استقرَّ على الصندوق العاجي وقال: لقد أذنتُ لهم أن يوصلوا إليكِ هذا الصندوق!

فقالت باقتضاب وبصوت لا يخلو من جفاء: شكرًا لك.

فارتاح فؤاده وقال: وكان بالصندوق العقد ذو القلب الزمردي.

فاضطربت شفتاها وأرادت أن تتكلم، ولكنَّها عدلت فجأة وأطبقت فمها بحالة تدل على الحيرة، فقال أحمس برقة: قال الرسل إنَّ هذا العقد عزيز لديكِ.

فهزَّت رأسها بعنف وكأنَّها تنفي عن نفسها تهمة وقالت: كنتُ أكثرُ من لبسه حقًّا لأنَّ ساحرة القصر جعلَتْه تعويذة تقي الضر والسوء!

ففطن إلى تهرُّبها، ولكنَّه لم ييأس وقال: ظننتُ أنَّ ذلك لأسباب أخرى تشهد بها مقصورة السفينة الفرعونية.

فتضرَّج وجهها بالاحمرار وقالت بغضب: لا أذكر اليوم نزوة الأمس، ويجمل بكَ أن تحدِّثني كما ينبغي لعدو أن يحدِّث أسيرة.

ورأى وجهها قاسيًا جامدًا فتجرَّع الخيبة مرة أخرى، ولكنَّه أراد أن يكتم عواطفه فقال: ألم تعلمي بأنَّا نضم نساء أعدائنا إلى حريم قصورنا؟

فقالت بحدَّة: إلا مثلي!

– هل تعودين إلى التهديد بالصوم؟

– لا حاجة لي به بعد الآن.

فتفحصها بنظرة مريبة وسألها متهكِّمًا: فكيف تدافعين عن نفسك؟

فأرته في كفيها سلاحًا صغيرًا لا يزيد طوله عن ظفر، وقالت باطمئنان: انظر؛ هذا خنجر مسموم، إذا خدشت به جلدي سرى سمه في دمي فقضى عليَّ في لحظات، دسَّه إليَّ الرسول في غفلة من رقبائك، فعلمت أنَّ أبي يضع بين يدي ما أقضي به على نفسي إذا مسَّني الضيم أو تحرَّش بي إنسان.

فغضب أحمس وعبس وجهه وقال: أهذا هو سر الصندوق؟ .. سحقًا لمَن يطمئن إلى كلمة خنزير من الرعاة ذوي اللحى القذرة، إنَّ الخيانة تسري في عروقكم مسرى الدم، ولكن أراكِ تخطئين فهم رسالة أبيك، فقد دسَّ إليكِ هذا الخنجر لتقضي به عليَّ!

فهزَّت رأسها كالساخرة وقالت: أنت لا تفهم أبوفيس، إنَّه يأبى إلا أن أعيش كريمة أو أموت كريمة، أما عدوه فسيقضي عليه بنفسه كما تعوَّد أن يقضي على أعدائه.

فضرب أحمس الأرض بقدمه وقال بحنق شديد: لماذا كل هذا العناء؟ .. فما أزهدني في جارية مثلكِ أعماها الغرور والكبرياء والطبع الفاسد، لقد توهمتُكِ فيما مضى شيئًا ليس فيه من حقيقتكِ شيء، فسحقًا للأوهام جميعًا!

وتحول الملك عنها وغادر المخدع، وفي الخارج دعا كبير حراسها وقال له: لتنقل الأسيرة إلى سفينة أخرى تحت الحراسة الشديدة!

وبرح الرجل السفينة ضيِّق الصدر مُكفهرَّ الوجه، وعاد في عجلته إلى المعسكر.

٢١

وضاق الملك بالسكون فأمر قوَّاده بالتأهب، وفي فجر اليوم الثاني زحف الجيش بجموعه الجرارة وأقلع الأسطول فبلغ بطلمايس في يومَين، ولم يظهر حولها أثر للعدو فدخلتها الطلائع في سلام، وتبعها الجيش على الأثر، وأوغلت الطلائع شمالًا حتى بانوبوليس آخِر بلدان طيبة الشمالية، ودخلَتْها بلا مقاومة، وزُفَّت البشرى إلى الملك أحمس أن بانوبوليس في أيدٍ مصرية، فصاح أحمس: لقد أُجلِيَ الرعاة من مملكة طيبة.

فقال حور: وسيجلون عن مصر قريبًا.

وتقدَّم الجيش نحو بانوبوليس ودخلها مزهوًّا ظافرًا على أنغام الموسيقى الحماسية، ونفخ في الأبواق إعلانًا للنصر، ورُفِعَت الأعلام المصرية على سور المدينة، وانتشر الجنود في الأسواق واختلطوا بالأهلين يهتفون وينشدون، وشمل المدينة فرح جنوني خفق في كل صدر وتردَّد مع كل نفس، وأَوْلمَ الملك لقوَّاد الجيش والأسطول والحاشية وليمة فاخرة قُدِّمت في ختامها كئوس مترعة بأنبذة مريوط المُعتَّقة مع أزهار اللُّوتس وقضب الريحان، وقال الملك لرجاله: غدًا نخترق حدود المملكة الشمالية وتُرفَع على أسوارها أعلام مصر لأول مرة منذ نيِّف ومائة عام.

فدعا الرجال له وهتفوا باسمه طويلًا.

ولكن في أصيل ذلك اليوم رأى الحراس كوكبة من العجلات تعدو نحو المدينة من الشمال رافعة راية بيضاء، فأحاط بها الجند وسألوا عن مقصدها، فقال أحد رجالها إنهم رسل الملك أبوفيس إلى أحمس، فمضى بهم الجنود إلى المدينة، وعلم أحمس بأمر الرسل فذهب إلى قصر حاكم المدينة، ودعا إليه حور وقائد الأسطول والقائدَين محب وديب، وجلس على كرسي الحاكم يحيط به قوَّاده ومن حولهم الحرس في ثيابهم الفخمة، وأذنَ للرسل بالدخول، وكان المصريون لا يدرون ما يحمله الرسل هذه المرة فانتظروا مشوقين، وجاء رسل ملك الرعاة وكانوا خليطًا من القوَّاد والحجَّاب في الثياب العسكرية والمدنية تسبقهم لحاهم المسترسلة، ولم يكن يبدو على وجوههم آي التحدي والغلظة كما توقَّع أحمس، ولكنهم اقتربوا من مجلس الملك وانحنوا جميعًا في إجلال واحترام حتى كاد الملك أن يُعلِن دهشته، وقال كبيرهم: حيَّاك الرب يا ملك طيبة، نحن رسل فرعون مصر السفلى والوسطى إليك.

فألقى أحمس عليهم نظرة لا تدل على شيء مما يثور في نفسه، وقال بهدوء: حيَّاكم الرب يا رسل أبوفيس، ماذا تريدون؟

وبدا على الرسل الاستياء لإغفال الملك ألقاب مليكهم، ولكن زعيمهم قال: أيها الملك نحن رجال حرب، في ميدانها نشأنا وعلى سُنَّتها نعيش، شجعان بواسل كما بلوتمونا، نعجب بالبطل وإن كان لنا عدوًا، وننزل عند حكم السيف وإن كان علينا، ولقد انتصرتَ أيها الملك واسترددتَ عرش مملكتك فحُقَّ لك ملكها كما حُقَّ علينا تسليمها، فهي مملكتك وأنت مليكها. وإنَّ فرعون يقرئك السلام، ويعرض عليك حقن الدماء وصلحًا شريفًا يحترم الحقوق ويصل ما انقطع من علاقات المودة بين مملكة الجنوب ومملكة الشمال.

وأصغى الملك إلى الرسل في هدوء ظاهر ودهشة باطنة، ثم نظر إلى لسان القوم وسأله متعجبًا: أجئتم حقًّا تنشدون سلامًا؟

فقال الرجل: نعم أيها الملك.

فقال أحمس بصوتٍ يدلُّ على العزم والحزم: إني أرفض هذا السلام.

– ولماذا تصرُّ على الحرب أيها الملك؟

فقال أحمس: يا قوم أبوفيس .. لأول مرة تخاطبون مصريًّا باحترام، ولأول مرة تنزلون مقهورين عن نَعْته بصفات العبودية، أتعلمون لماذا؟ لأنكم غُلِبتم على أمركم، فأنتم يا هؤلاء وحوش ضوارٍ إذا غَلَبتم، وشاءٌ إذا غُلِبتم، أتسألونني لماذا أصرُّ على الحرب؟ .. فإليكم جوابي: إني ما أعلنتها عليكم لأسترد طيبة، ولكني عاهدتُ ربي وقومي على أن أحرِّر مصر جميعًا من نير الظلم والاستبداد، وأن أعيد بها حريتها ومجدها؛ فإذا أراد الذي بعثكم السلام حقًّا، فليترك مصر لأهلها وليرجع بقومه إلى صحاري الشمال.

فسأله الرسول بصوت غليظ: هذه هي الكلمة الأخيرة؟

فقال أحمس بثقة وقوة: هي ما افتتحنا به الكفاح، وآخِر ما نختتمه به.

فقام الرسل واقفين، وقال رئيسهم: ما دمتَ تريد الحرب فستكون حربًا ضروسًا بيننا وبينكم حتى يقضي الرب فيها بمشيئته.

وانحنى الرجال للملك مرة أخرى وغادروا المكان في خُطى ثقيلة.

٢٢

ولبث أحمس في بانوبوليس يومَين كاملَين، ثم أرسل الطلائع لاختراق حدود دولة أبو فيس، فتقدَّمت جماعات قوية شمال المدينة، والتحمت بقوات صغيرة للعدو فمزَّقت شملها، ومهَّدت السبيل للجيش المعسكر في بانوبوليس، فزحف أحمس على رأس جيش لم تشهد مصر له مثيلًا من قبلُ في عَدده أو عُدده، وأقلعَ أسطول أحمس إبانا الجبار بسفنه المظفرة، وفي طريق الزحف أبلغت العيون الملك أنَّ جيش الرعاة معسكر في جنوب أفروديتوبوليس في جموع لا يحيط بها الحصر، ولم يكن يهم الملك عدد الرعاة، ولكنه سأل الحاجب حور قائلًا: تُرى هل ما يزال لدى أبوفيس قوة من العجلات يلقانا بها؟

فقال حور: ما من شك يا مولاي في أنَّ أبوفيس قد فقد العدد الأكبر من فرسانه، ولو كان لديه قوة منهم تستطيع أن تفصل في هذا العراك ما طلب الصلح ولا سعى إلى السلام، على أن الرعاة قد فقدوا ما هو أثمن من الفرسان والعجلات، فقدوا الثقة والأمل!

واستمرَّ تقدُّم الجيش حتى دنا من معسكر عدوِّه، ولاحت نذر المعركة في الأفق، وتأهَّبَت فرقة العجلات لخوض غمار المعركة بقيادة الملك، وصاح أحمس في القواد قائلًا: سنقاتل على أرض حُرِّم علينا وطؤها مائة عام ونيِّف؛ فلنضرب ضربة هائلة تضع حدًّا لآلام الملايين من إخواننا المستعبَدين، ولنقدم بقلوب شديدة البأس، فقد حبانا الرب بالعدد والأمل، وخذل عدونا بالانقراض واليأس، وإنِّي لعلى رأسكم كما كان سيكننرع، وكما كان كاموس.

وأمر الملك طلائعه بالهجوم؛ فانقضَّت كالنسور الكاسرة، وتحفَّز للهجوم وهو يراقبها ليرى كيف يلقاها العدو، فشاهد قوة من العجلات تُقدَّر بمائتَي عجلة تردُّ عليها الهجوم محاولة الإحداق بها، وكان الملك شديد الرغبة في القضاء على عجلات العدو فهاجم على رأس العجلات وانقضَّ على العدو من جميع الجهات، وأدرك الهكسوس أنَّ فرسانهم لا يمكن أن يثبتوا لقوات تفوقهم أضعافًا؛ فقذف أبوفيس بكتائب من الرماة وحملة الرماح لتؤيد عجلاته المحدودة. ودارت معركة شديدة، ولكن الرعاة لم ينفعهم شجاعتهم وقُضي على قوتهم الراكبة.

وبات الجيش ليلته .. وكان أحمس لا يدري أيلقاه أبوفيس بمشاته مستيئسًا أم يفرُّ بجيشه مؤثرًا السلامة كما فعل في هيراكونبوليس، ووضح الأمر في الصباح حين رأى الملك جموع الرعاة تتقدَّم لاحتلال مواقعها والقسي والرماح في أيديها، ورآهم حور فقال: الآن تدور الدائرة عليهم يا مولاي، ويتعرَّض أبوفيس بمشاته لبأس عجلاتنا كما تعرَّض له مليكنا سيكننرع في جنوب كبتوس من لدن عشرة أعوام.

فانشرح صدر الملك، وتهيَّأ للهجوم بفرقة العجلات تؤيدها قوات مختارة من الرماة وفِرَق الأسلحة الأخرى، وانقضَّت العجلات على مواقع الرعاة تملأ الجو أمامها سهامًا طائرة، فاخترقت الصفوف في مواضع كثيرة والرماة وراءها يحمون ظهورها ويطاردون مَن يتفرَّق من العدو فيقتلون ويأسرون، وقاتلَ الرعاة بما عُرِف عنهم من الشجاعة ولكنهم كانوا يتساقطون سقوط الأوراق الجافة تعرَّضت لرياح الخريف العاتية، وسيطر المصريون على الميدان، وخشي أحمس أن يفلت أبوفيس من يده؛ فهاجم أفروديتوبوليس كما هاجم الأسطول شطآنها، ولكنه لم يجد أثرًا للرعاة داخل أسوارها ولا عثر بعدوه اللدود، ثم وافته العيون بأن أبوفيس فارق المدينة مع قوات من جيشه بعد جثوم ليلة الأمس، وأنه ترك مَن ترك من رجاله ليعوقوا زحف المصريين، وقال حور للملك: لن تُجدي المقاومة فتيلًا بعد اليوم، ولعلَّ أبوفيس يجدُّ الآن في طلب هواريس ليحتمي بأسوارها المنيعة.

ولم يأسف أحمس طويلًا، وكان سروره بفتحه بلدًا من بلاد مصر التي حُرِّم دخولها على قومه مائتَي عام لا يعادله سرور، فاشتغل بتفقُّد أحوالها وأهليها عن كل شيء.

٢٣

وتقدَّم الجيش في زحفه العظيم لا يجد مقاومة ولا أثرًا للعدو، يستقبله أهل القرى والبلدان ذاهلين من الفرح لا يصدِّقون أنَّ الآلهة رفعت عنهم غضبًا بعد ذلِّ قرنَين من الزمان، وأنَّ الذي يفتح بلدانهم ويطرد عنها عدوهم ملكٌ منهم يبعث مَجْد الفراعين من جديد. ووجد أحمس أنَّ الرعاة قد فروا عن المدن تاركين قصورهم وضياعهم، حاملين ما وسعهم حمله من متاعهم وأموالهم؛ وسمع في كل مكان طرَقَه أن أبوفيس مُجدٌّ في الهرب بجيشه وقومه إلى الشمال، وهكذا استردَّ الملك في شهر من الزمان: هبسيل، وليكوبوليس، وكوسي، ثم بلغ أخيرًا هرموبوليس، وكان لدخولهم فيها وَقْع عظيم في نفس أحمس وجنوده، لأن هرموبوليس مسقط رأس الأم المقدسة توتيشيري، وكانت ولادتها قبل عهد الاحتلال في بيتها العتيد، فاحتفل أحمس بتحريرها، واشترك في الاحتفال العظيم رجال الحاشية وقوَّاد البر والبحر والجنود جميعًا، ثم كتب الملك إلى جدته رسالة يُهنِّئها باستقلال وطنها الأول هرموبوليس، ويضمِّنها عواطفه وعواطف جنده وشعبه، وقد أمضاها الملك والقواد والحاشية وكبار الضباط.

ثم تقدَّم الجيش في زحفه المُظفَّر؛ فدخل تتنوى وسينوبوليس وهبنن ثم أرسنوي، وانحدر بين الأهرام في طريق منف العظيمة غير عابئ بمشاق السفر وطول الطريق، وكان أحمس في أثناء ذلك يحطِّم الأغلال التي يرسف فيها شعبه البائس، وينفخ فيه من روحه الكبيرة حياة جديدة، حتى قال له حور يومًا: إنَّ عظمتك الحربية يا مولاي لا يضارعها شيء في الوجود سوى مقدرتك السياسية وحنكتك الإدارية، لقد غيَّرتَ معالم البلدان فمحوتَ أنظمة وأنشأت أنظمة، ورسمتَ السبل التي ينبغي انتهاجها والسنن التي يجب اتِّباعها، وولَّيْتَ الحكام الوطنيِّين، فدبَّت الحياة مرةً أخرى في شرايين الوادي، وشاهدَ الناس أول مرة منذ عهد غابر حكامًا مصريين وقضاة مصريين، فارتفعت الرءوس المُنكَّسة، ولم يعُد الرجل يعيا بسُمرته ويُعيَّر بها، بل صارت موئله ومفخرته .. ألا فليحفظك الرب آمون يا حفيد سيكننرع.

كان الملك يعمل مُخلِصًا مجاهدًا لا يعرف اليأس ولا التعب، وكانت غايته التي لا يتحول عنها أن يردَّ إلى قومه الذين اهتصرهم الذلُّ والجوعُ والفقرُ والجهلُ العزةَ والشبعَ والرغدَ والعلم.

على أنَّ قلبه لم ينجُ على كدِّه وانهماكه من همومه الخاصة، فعناه الهوى وأعيَتْه الكبرياء، وكان كثيرًا ما يضرب الأرض بقدمه ويقول لنفسه: «لقد خُدعتُ .. وما هي إلا امرأة بلا قلب»، وكان يرجو من العمل أن يغمره بالنسيان والعزاء، ولكنَّه وجدَ روحه تسري بالرغم منه إلى السفينة التي يعابثها الموج في مؤخرة أسطوله.

٢٤

واطَّردَ زحف الجيش ومضى يدنو من منف الخالدة ذات الذكريات المجيدة، وأخذت تلوح له أسوارها البيض السامقة؛ فظنَّ أحمس أنَّ الرعاة سيدافعون عن عاصمة ملكهم دفاع المستميت. ولكنه أخطأ ظنه ودخلت طلائعه المدينة في سلام، وعلم أن أبوفيس تقهقر بجيشه نحو الشمال الشرقي؛ فدخل أحمس طيبة الشمال في حفل لم يشهد له مثيلًا من قبل، واستقبله الأهلون استقبالًا حماسيًّا مهيبًا، وسجدوا له ودعوه ابن منفتاح، ومكث الملك في منف عدة أيام زار ربوعها وشاهد أسواقها وأحياءها الصناعية، وطاف بالأهرام الثلاثة، وصلى في معبد أبي الهول، وقدَّم القرابين، فلم يكن سرور يعادل سرورهم بفتح منف إلا استرداد طيبة، وكان أحمس يعجب كيف لا يدافع الرعاة عن منف، فقال له القائد محب: لن يتعرَّضوا مختارين لبأس عجلاتنا بعد ما بلوها في هيراكونبوليس وأفروديتوبوليس.

وقال الحاجب حور بثقة: إنَّ السفن لا تفتأ تأتي إلينا مُحمَّلة بالعجلات والجياد من مقاطعات الجنوب، وليس أمام أبوفيس إلا الاهتمام بأسوار هواريس.

وتشاوروا جميعًا في الوجهة التي يولونها بعد أن انبسطت رقعة الغزو أمامهم، فقال القائد ديب: لا شك أنَّ العدو جلا عن الشمال كله وانحصر في الشرق وراء أسوار هواريس، فينبغي أن نقصد إليه بقواتنا كاملة.

على أن أحمس كان شديد الحذر؛ فأرسل جيشًا صغيرًا إلى الغرب عن طريق لنوبوليس، وسيَّر آخَر شمالًا في اتجاه أتريبس، وسار بقواته الرئيسية وأسطوله العظيم شرقًا في طريق أون، وانطوت الأيام وهم يضربون في الأرض تدفعهم الحماسة والأمل أن يضربوا الضربة الأخيرة بحماسة، ويكلِّلوا كفاحهم الطويل بالنصر الحاسم، ودخلوا أون مدينة رع الخالدة ثم فاكوسة ثم فربيتص وضربوا في الطريق المؤدية إلى هواريس، وكانت أخبار أبوفيس تترامى إليهم فعلموا أن الرعاة ارتدوا من جميع الجهات إلى هواريس يسوقون آلافًا من البائسين، وقد أحدثت هذه الأخبار في نفس الملك حزنًا شديدًا، ورقَّ لحال أولئك الأسرى المستذلين الذين سقطوا في قبضة الرعاة القاسية.

وأخيرًا لاحت في الأفق أسوار هواريس الهائلة كالجبال الصخرية، فصاح أحمس: هذا آخِر حصن للرعاة في مصر.

فقال له حور وهو ينظر إلى الحصن بعينَيه الضعيفتَين: حطِّم أبوابه يا مولاي يخلص لك وجه مصر الجميل.

٢٥

وكانت هواريس تقع شرق فرع النيل، ويمتد سورها شرقًا مسافة ينقطع دونها البصر، وكان كثير من الأهلين يعرفون المدينة المُحصَّنة، ومنهم مَن عملوا داخلها أو في أسوارها، فقالوا لمليكهم: إنَّه يحيط بالمدينة أربعة أسوار ضخمة غليظة دائرة، يليها خندق محيط يجري فيه ماء النيل، وإنَّ بالمدينة حقولًا شاسعة تكفي حاجة أهليها جميعًا، وجُلُّهم جنود ما عدا المزارعين المصريين، وتسقي المدينة جداول تأخذ من فروع النيل تحت السور الغربي وفي حمايته، وتتجه شرقًا نحو المدينة.

وقد وقف أحمس ورجاله جنوب الحصن الهائل يقلِّبون وجوههم حيارى في الأسوار العظيمة المترامية، بدَتِ الجنود في ذراها كالأقزام، وضربَ الجيش خيامه، وامتدَّت صفوف الجند بحذاء السور الجنوبي، وتقدَّم الأسطول في النهر غربي السور الغربي بعيدًا عن مرمى سهامه للمراقبة والحصار، وكان أحمس يستمع إلى أقوال الأهلين عن الحصن، ويفحص الأرض المحيطة به والنهر الجاري غربه وعقله لا يني عن التفكير، وفي أثناء ذلك سيَّر قوات راكبة ومشاة إلى القرى المحيطة بالمدينة، فاستولَتْ عليها دون عناء، وأضحى حصاره للحصن كاملًا في زمن يسير؛ ولكنَّه كان ورجاله يعلمون أنَّ الحصار عقيم، وأنَّ المدينة مستغنية بنفسها عما عداها، وأنَّ الحصار لو امتدَّ أعوامًا لن يؤثِّر فيها شيئًا؛ وسيبقى هو وجيشه يعانيان الملل والانتظار في غير أمل، وأهوال الجو وتقلباته، وفيما كان يجول حول الحصن خطر له خاطر، فدعا رجاله إلى خيمته ليشاورهم في الأمر، وقال لهم: أشيروا عليَّ، فإني أرى الحصار ضياعًا للعمر وتبديدًا للقوى، وأرى الهجوم ضربًا من العبث وانتحارًا صريحًا، ولعل العدو يتمنَّى أن نكرَّ عليه ليصيد رجالنا البواسل أو يوقعهم في خنادقه .. فما الرأي؟

فقال القائد ديب: الرأي يا مولاي أن نحاصر الحصن بجزء من قواتنا، ونعتبر الحرب منتهية عند ذاك؛ ثم تعلن استقلال الوادي وتباشر واجبك كفرعون مصر المتحدة.

ولكن حور اعترض على الفكرة قائلًا: وكيف تترك أبوفيس آمنًا يدرِّب رجاله ويجدِّد عجلاته ليكرَّ علينا فيما بعد؟

فقال القائد محب بحماسة: لقد دفعنا ثمن طيبة غاليًا، والكفاح بذل وفداء، فلماذا لا نؤدي ثمن هواريس ونهجم كما هجمنا على حصون طيبة؟

فقال القائد ديب: نحن لا نضنُّ بنفوسنا، ولكن الهجوم على أربعة أسوار ضخمة تفصل بينها خنادق ملأى بالماء، تهلكة لجنودنا بلا ثمن.

وكان الملك صامتًا متفكِّرًا، فقال وهو يشير إلى النهر الجاري تحت سور المدينة الغربي: إنَّ هواريس حصينة لا تُؤخَذ ولا تجوع، ولكنها قد تظمأ.

فنظر الرجال إلى النهر وبدَتْ على وجوههم الدهشة، وقال حور بذهول: كيف تظمأ هواريس يا مولاي؟

فقال أحمس بهدوء: بأن نحول عنها مياه النيل.

فنظر الرجال مرة أخرى إلى النيل وهم لا يصدِّقون أنَّه يمكن تحويل هذا النهر العظيم من مجراه، وتساءل حور: هل يمكن القيام بهذا العمل الجبار؟

فقال أحمس: لا يعوزنا المهندسون ولا العمال!

– وكم يقتضينا من الوقت يا مولاي؟

– عامًا أو عامَين أو ثلاثة أعوام .. ماذا يهم الزمن ما دامت هذه هي الوسيلة الوحيدة .. ينبغي أن يتحوَّل النيل شمال فربتتس إلى مجرى جديد يتجه غربًا نحو مندس، كي يختار أبوفيس بين الموت جوعًا وظمأً أو الخروج لقتالنا، وسيغفر لي شعبي أني عرَّضتُ مَن في هواريس من المصريين للخطر والهلاك، كما غفر لي أني فعلتُ ذلك ببعض نساء طيبة.

٢٦

وتهيَّأ أحمس للعمل العظيم فاستدعى مهندسي طيبة المشهورين، وعرض عليهم فكرته فتوفروا على دراستها باهتمام وشغف، ثم قالوا للملك: إنَّ فكرته ممكن تنفيذها على شرط أن يفسح لهم من الزمن ويمدهم بآلاف العمال، وعلم أحمس أن مشروعه لن يتحقق قبل مضي عامين فلم يركن إلى اليأس، ولكنه بعث بالرسل إلى البلدان يحثون على التطوُّع في العمل العظيم المنوط به تحرير الوطن وطرد عدوِّه بتحقيقه، وجاء العمال جماعات من جميع الأنحاء حتى اجتمع منهم عدد يكفي للبدء في العمل، وافتتح الملك المشروع العظيم فأمسك فأسًا وضربه في الأرض معلنًا ابتداء العمل، فتبعته السواعد المفتولة التي تكدُّ على سجع الأناشيد والأغاني.

ولم يكن أمام الملك وجيشه سوى الانتظار الطويل، وكان الجنود يقومون بتدريبهم اليومي تحت إشراف الضباط والقوَّاد، أما الملك فكان يزجي فراغه بالخروج إلى الصحراء الشرقية طلبًا للصيد والطراد والسباق، وفرارًا من نوازع قلبه ونزوات هواه، وفي فترة الانتظار هذه حمل إليه رسولٌ رسالةً من الأم المُقدَّسة توتيشيري قالت فيها:

«مولاي ابن آمون، فرعون مصر العليا والسفلى، حفظه الرب وأيَّده بالنصر والفوز، إنَّ دابور الصغيرة اليوم جنة من جنان السعادة والأفراح بفضل ما حمله إليها رسلك من أنباء النصر المبين الذي فتح به الرب عليك، وإن انتظارنا اليوم في دابور غير انتظارنا بالأمس؛ لأنه محفوف بالعزاء وأدنى إلى الرجاء والأمل، وما أسعدنا جميعًا أن نعلم أنَّ مصر حُرِّرت من الهوان والعبودية، وأنَّ عدوها ومُذِلَّها حبس نفسه بين جدران حصنه، ينتظر خانعًا القضاء الذي تقضي به عليه.

وقد شاء الرب القدير أن يحبوك — أنت الذي أذللتَ عدوَّه، وأعليتَ كلمته — بعطفه ورحمته، فرزقك بغلام نورًا لعينَيك ووليًّا لعهدك، دعوته أمنحتب تبرُّكًا بالرب المعبود، وقد تلقَّيْتُه بيديَّ كما تلقَّيْتُ أباه وجدَّه وجدَّ أبيه من قبلُ، وقلبي يحدِّثني بأنه سيكون ولي عهد مملكة عظيمة متعدِّدة الأجناس واللغات والأديان، يرعاها أبوه الحبيب».

وخفق قلب أحمس خفقان الأبوَّة ودرَّتْ أضلعه الحنان، وفرح فرحًا عظيمًا أنساه بعض ما يعاني من آلام الهوى المكبوت، وآذن رجاله بمولد ولي عهده أمنحتب فكان يومًا مشهودًا.

٢٧

ومضت الأيام بطيئة ثقيلة ولكنها حافلة بجلائل الأعمال التي اشتركت في إنجازها أكبر العقول وأشد السواعد وأعلى الهمم؛ وكانوا جميعًا لا يبالون مشقة العمل ولا انقضاء الزمن ما دام يدنيهم إلى أملهم الأسمى وهدفهم الأعلى، ولكن حدث ذات يوم وكان مضى على الحصار عدة أشهر أن رأى الحراس عجلةً قادمة ناحية الحصن وعلى مقدمها يخفق علم أبيض، فاستقبلها بعض الحراس ووجدوا بها ثلاثة رجال من الحُجَّاب؛ فسألوهم عن وجهتهم؟ فقال كبيرهم: إنهم رسل الملك أبوفيس إلى الملك أحمس، وطيَّر الحراس النبأ إلى الملك؛ فعقد الملك مجلسًا من حاشيته وقوَّاده في سرادقه، وأمرَ بإدخال الرسل إليه، وجيء بالرجال يسيرون في تواضُع وانكسار وقد ذهبَتْ عنهم الخيلاء والكِبر وبدوا كأنهم من غير قوم أبوفيس، وانحنوا بين يدي الملك وحيَّاه كبيرهم قائلًا: حياك الرب أيها الملك.

فردَّ عليه أحمس قائلًا: وحيَّاكم يا رسل أبوفيس .. ماذا يريد ملككم؟

فقال الرسول: أيها الملك، إنَّ رجل السيف مغامر ينشد النصر، ولكن قد يُدركه الموت. ونحن رجال حرب وقد مكَّنتنا الحرب من وطنكم فحكمناه قرنَين أو يزيد كنا فيهما السادة المعبودين، ثم قُضي علينا بالهزيمة فغُلِبنا على أمرنا وأُجْبِرنا على الاعتصام بقلعتنا، ونحن أيها الملك رجال أشداء نقدر على تحمُّل الهزيمة كما قدرنا على جني ثمار النصر.

فقال أحمس غاضبًا: أرى أنكم أدركتم ما يعنيه هذا المجرى الجديد الذي يحفره قومي فجئتم تستعطفون.

فهزَّ الرجل رأسه الضخم وقال: كلا أيها الملك، نحن لا نستعطف أحدًا ولكنا نقرُّ بالهزيمة، وقد أرسلَني مولاي لأعرض عليك أمرَين تختار منهما ما تشاء: فإما الحرب إلى النهاية، وفي هذا الحال لن ننتظر وراء الأسوار حتى نموت جوعًا وعطشًا، ولكنا سنقتل الأسرى من قومك وهم يزيدون على ثلاثين ألفًا، ثم نقتل نساءنا وأطفالنا بأيدينا ونحمل على جيشك في ثلاثمائة ألف مقاتل ما منهم إلا كاره للحياة متعطِّش للانتقام.

وسكت الرجل ريثما يجمع أنفاسه ثم استدرك قائلًا: وإما أنَّ تردوا لنا الأميرة أمنريدس والأسرى من قومنا وتؤمِّنونا على أرواحنا وأموالنا ومتاعنا، فنردُّ لكم رجالكم ونخلي هواريس، ونولي وجوهنا شطر الصحراء التي جئنا منها، تاركين لكم بلادكم كما تشاءون؛ وبذلك ينتهي الصراع الذي استمرَّ قرنَين من الزمان.

وسكت الرجل، فعلم الملك أنَّه ينتظر جوابه، ولم يكن الجواب حاضرًا ولا مما تسعف فيه البداهة، فقال للرسول: هلا انتظرت حتى نقطع برأي؟

فقال الرسول: كما تشاء أيها الملك، فقد أمهَلَني مولاي نهار اليوم.

٢٨

واجتمع الملك برجاله في مقصورة السفينة الفرعونية وقال لهم: أشيروا عليَّ برأيكم.

وكانوا جميعًا على رأي بغير تشاور ولا اتفاق، فقال حور: مولاي لقد انتصرتَ على الرعاة في مواقع كثيرة وأقروا لك بالنصر ولأنفسهم بالهزيمة، فمحوتَ بذلك آثار الهزائم التي ابتُلينا بها في ماضينا الأسيف، وقتلتَ منهم خلقًا كثيرين فانتقمتَ لقتلَى قومك البائسين، فلا تثريب علينا الآن أن نشتري حياة ثلاثين ألفًا من رجالنا، ونوفِّر على أنفسنا بذلًا للنفوس لا يدعو واجب إليه، ما دام عدوُّنا سيجلو عن بلادنا مغلوبًا على أمره، وسيُحرَّر وطننا إلى الأبد.

وقلَّب الملك عينَيه في وجوه قومه فوجد منهم حماسةً إجماعية لقبول الفكرة، وقد قال القائد ديب: لقد أدَّى كل جندي من جنودنا واجبه كاملًا، وإن ارتداد أبوفيس إلى الصحراء لهو أشد نكالًا من ذوق الموت.

وقال القائد محب: إنَّ هدفنا الأسمى تحرير الوطن من حكم الرعاة وإجلاؤهم عن ربوعه؛ وقد يسَّرَ لنا الرب ذلك، فلا يجوز أن نُطيل عهد الذل باختيارنا.

وقال أحمس إبانا: إنَّنا نشتري حياة ثلاثين ألفًا من الأسرى بالأميرة الأسيرة وشرذمة من الرعاة.

واستمع الملك من رجاله باهتمام شديد وقال: نِعمَ الرأي، ولكني أرى أن ينتظر رسول أبوفيس فترة أخرى حتى لا يظن إسراعنا إلى موافقته على الرأي السلمي لضعف أو ملل الكفاح.

وغادر الرجال السفينة وخلا الملك إلى نفسه، وكان على توافُر دواعي الابتهاج له كئيبًا ضيِّق الصدر، لقد كلَّل كفاحه بالفوز المُبين وجثا له عدوُّه الجبار، ومن الغد يحمل أبوفيس متاعه ويفرُّ إلى الصحراء التي جاء منها قومه خاضعًا لإرادة القضاء الذي لا يُرَدُّ، فما باله لا يفرح ولا يبتهج؟ أو ما بال فرحه ليس صافيًا وابتهاجه ليس كاملًا؟ .. لقد حمت الساعة الخطيرة، ساعة الوداع إلى الأبد، كان قبل تلك الساعة الخطيرة يائسًا حقًّا، ولكنَّها كانت هناك في السفينة الصغيرة، فماذا يفعل غدًا إذا رجع إلى قصر طيبة وحُمِلت هي إلى بطن الصحراء المجهولة؟ أيتركها تذهب دون أن يتزوَّد منها بنظرة وداع؟ .. وأجاب قلبه أن لا. وحطَّم أغلال التجلُّد والكبرياء، وقام واقفًا وفارق المقصورة، وأخذ زورقًا إلى سفينة الأميرة الأسيرة وهو يقول لنفسه: «مهما يكن من استقبالها فسأجد ما أقوله»، وصعد إلى السفينة ومضى إلى المخدع فحيَّاه الحرَّاس وفتحوا له، واجتاز الباب خافق الفؤاد، وألقى نظرة على المخدع الصغير البسيط فرأى الأسيرة جالسة في الصدر على ديوان، والظاهر أنها لم تكن تتوقَّع عودته فبدَتْ على محيَّاها الجميل الدهشة والإنكار، وتفحَّصها أحمس بنظرة عميقة فوجدها جميلة كعهده بها، ورأى ملامحها كيوم حُفِرَت في قلبه على ظهر السفينة الفرعونية، فعضَّ شفته وقال لها: أنعمي صباحًا أيتها الأميرة.

فرفعت إليه عينَين لم تذهب منهما الدهشة وكأنَّها لا تدري بماذا تجيب، ولم يطُل انتظار الملك فقال بصوت هادئ وبلهجة لا تدلُّ على شيء: أنتِ منذ اليوم طليقة أيتها الأميرة.

فلاح في وجهها أنَّها لا تفهم شيئًا، فعاد يقول: ألا تسمعين ما أقول؟ أنتِ منذ هذه الساعة طليقة حرة، انتهى أسرك أيتها الأميرة وأصبحتِ الحرية حقًّا لك.

فازدادتْ دهشتها ولاح الرجاء في عينَيها، فقالت بلهفة: أحقٌّ ما تقول؟ .. أحقٌّ ما تقول؟

– إنَّ ما أقول حق واقع.

فأضاء وجهها وتورَّد خداها، ثم تردَّدت هنيهة وتساءلت: ولكن كيف كان ذلك؟

– آه، إني أقرأ في عينَيك آمالك الطموح، ألستِ تتمنين أن يكون انتصار أبيك هو الذي ردَّ إليك حريتك؟ .. إني أقرأ هذا، ولكنَّها هزيمته وا أسفاه التي أنهَتْ عبوديتك.

فعقلت لسانها ولم تنبس بكلمة، فأخبرها باقتضاب بما عرض عليه رسول أبيها وما تم الاتفاق عليه، ثم قال: وعما قليل تُحمَلين إلى أبيك وترحلين معه إلى حيث يرحل، فمبارك عليكِ هذا اليوم.

فاكتنفت وجهها ظلال الحزن وجمدت أساريرها وغضَّت طرفها، فسألها أحمس: أتجدين حزنك للهزيمة أكبر من فرحك لحريتك؟

فقالت: يجدر بك ألا تشمتَ بي، فسنغادر بلادكم كرامًا كما عشنا فيها كرامًا.

فقال أحمس بجزع ظاهر: لستُ أشمتُ بكِ أيتها الأميرة، فقد ذقنا مرارة الهزيمة من قبلُ وعلَّمتنا الحروب الطويلة أن نشهد لكم بالشجاعة والبسالة.

فقالت بارتياح: شكرًا لك أيها الملك!

وسمعها لأول مرة تتكلَّم بلهجة خالية من الغضب والكبرياء، فتأثَّر وقال لها وهو يبتسم ابتسامة حزينة: أراكِ تدعينني ملكًا أيتها الأميرة؟

فقالت وهي تغضُّ بصرها: لأنك ملك هذا الوادي دون شريك، أما أنا فلن أُدعَى أميرة بعد اليوم.

فازداد تأثُّر الملك ولم يكن يتوقَّع أن تلين شكيمتها على هذا النحو .. ظنَّ أنها تزداد بالهزيمة صلفًا، فقال بحزن: أيتها الأميرة، إن ذكريات الدنيا سجلُّ اللذة والألم، وقد بلوتم الحياة حلوها ومُرَّها ولا يزال أمامكم غد.

فقالت بطمأنينة عجيبة: نعم أمامنا غد وراء سراب الصحراء المجهولة، وسنلقى حظنا ببسالة.

ساد الصمت، والتقت عيناهما، فقرأ في عينَيها الصفاء والرقة؛ فذكر صاحبة المقصورة التي أنقذَتْ حياته من الموت وسقَتْه رحيق المودة والحنان، وكأنه يراها لأول مرة بعد ذاك العهد الطويل، فزلزل فؤاده وقال بجدٍّ وجزع: عما قليل يفرِّق بيننا البَيْن ولن تبالي ذلك، ولكني سأذكر دائمًا أنكِ كنتِ معي فظة غليظة!

فلاح في عينيها الحزن وافترَّ ثغرها عن ابتسامة خفيفة وقالت: أيها الملك إنَّك لا تعرف عنَّا إلا القليل .. نحن قوم الموت أروَحُ لنفوسهم من الهوان.

– لم أُرِد بكِ الهوان قط .. ولكن غرني الأمل إدلالًا بمنزلةٍ كنتُ أظنُّها لي عندكِ.

فقالت بصوت خافت: أليس من الهوان أن أفتحَ ذراعيَّ لآسري وعدو أبي؟

فقال بمرارة: إنَّ الحب لا يعرف هذا المنطق!

فلاذت بالصمت، وكأنها أمَّنَت على قوله، فتمتمت بصوت خافت لم يسمعه: «لا ألومن إلا نفسي»، ورنَتْ بعينَيها رنوًّا تائهًا، وبحركة فجائية مدَّت يدها إلى وسادة فراشها وأخرجت من تحتها العقد ذا القلب الزمردي ووضعته حول عنقها بهدوء واستسلام، وتتبعها بعينَين لا تصدقان، ثم ارتمى إلى جانبها غير متمالك، وأحاط عنقها بذراعه وضمَّها إلى صدره بجنون وعنف، ولم تقاومه ألبتة، ولكنها قالت بحزن: حذارِ .. لقد فات الأوان.

فاشتد ضغط ذراعَيه حولها وقال بصوت متهدِّج: أمنريدس … كيف هان عليك أن تقولي هذا؟ .. بل كيف لا أكتشف سعادتي إلا حين وشك زوالها؟ .. كلا لن أدعكِ تذهبين.

فرنَتْ إليه بعطف وإشفاق وقالت له: وماذا أنت فاعل؟

– سأبقيكِ إلى جانبي!

– ألا تدري بما يقتضيه بقائي إلى جانبك؟ .. هل تجود من أجلي بثلاثين ألف أسير من قومك وبأضعافهم من جنودك؟

فعبس وجهه وأظلمَتْ عيناه وتمتم قائلًا وكأنه يحادث نفسه: لقد استُشهد أبي وجدي في سبيل قومي ووهبتهم حياتي، فهل يضنون على قلبي بالسعادة؟

فهزَّت رأسها أسفًا وقالت برقة: أصغِ إليَّ يا إسفينيس، ودَعْني أدعك بهذا الاسم العزيز، لأنه أول اسم أحِبُّه في دنياي، ما من الفراق بدٌّ .. سنفترق .. سنفترق .. فأنت لا ترضى بالجود بثلاثين ألف أسير من قومك الذين تحبهم، ولا أنا أرضى بتقتيل أبي وقومي. فليتحمَّل كلٌّ منا نصيبه من الألم.

فنظر إليها بذهول وكأنه يأبى أن يكون كل نصيبه من الحب أن يرضى بالفراق وتحمُّل الألم، وقال لها برجاء: أمنريدس، لا تتعجلي اليأس وأشفقي من ذكر الفراق، فإنَّ جريه على لسانك في يُسر يبعث الجنون في دمي .. أمنريدس .. دعيني أطرق جميع الأبواب حتى باب أبيك، فما يكون لو طلبتُ إليه يدك؟

فابتسمت ابتسامة حزينة وقالت وهي تمسُّ يده برفق: وا أسفاه يا إسفينيس، أنت لا تعي ما تقول، هل تظنُّ أبي يقبل أن يُزوِّج ابنته من الملك المُظفَّر الذي قهره وقضى عليه بالنفي من البلاد التي وُلد فيها وتربَّع على عرشها؟ .. أنا أعرف أبي منك فليس ثمة فائدة تُرجى، وما من وسيلة سوى الصبر!

وأصغى إليها ذاهلًا وكان يتساءل: «أحق أنَّ التي تتكلَّم بهذا الصوت الخافت المنكسر الحزين هي الأميرة أمنريدس التي لم تكن الدنيا تسعها جنونًا واستهتارًا وكِبرًا؟»، وبدا لعينَيه كل شيء غريبًا منكرًا، فقال بغضب: إنَّ أصغر جندي من جنودي لا يهمل قلبه ولا يسمح لإنسان بأن يفرِّق بينه وبين مَن يحب!

– أنت ملك يا مولاي، والملوك أعظم الناس متعة وأثقلهم واجبًا، كالشجرة الباسقة أوفى من الحشائش نصيبًا من شعاع الشمس ونسائم الهواء، وأكثر تعرُّضًا لثورة الريح واقتلاع الزوابع.

فأنَّ أحمس قائلًا: آه! ما أشقاني .. لقد أحببتكِ منذ أول لقاء في سفينتي!

فخفضت عينَيها وقالت ببساطة وصدق: وطرقَ الحب قلبي في ذلك اليوم عينه، ولكني لم أكتشفه إلا فيما بعد، وتيقَّظَتْ عواطفي ليلة أجبرك القائد رخ على مبارزته فدلَّني إشفاقي على دائي، وبتُّ ليلتي حائرة مضطربة لا أدري ماذا أصنع بهذا المولود الجديد .. حتى غمرني السحر بعد ذلك بأيام ففقدتُ وعيي.

– في المقصورة؟ .. أليس كذلك؟

– نعم.

– أواه .. كيف تكون حياتي بدونك.

– تكون كحياتي بدونك يا إسفينيس.

فضمَّها إلى صدره وألصق خدَّه بخدها كأنه يخال أن التصاقهما يُيئِس منهما شبح الفراق الماثل أمامهما، وكان يكبر عليه أن يكتشف حبَّه ويودِّعه الوداع الأخير في ساعة واحدة، وطرق كل سبيل من الفكر يبغي حلًّا فاعترضه اليأس والقهر، وكانت غاية سعيه أنَّ يشد حولها ذراعَيْه، وأحسَّ كلٌّ منهما أنه آنَ أنْ ينفصلا، ولكن لم يحرِّك أحدهما ساكنًا فلبثا كشيء واحد.

٢٩

وغادر أحمس سفينة الأميرة لا تكاد تحمله قدماه، وكان ينظر إلى شيء في كفه وتمتم قائلًا: «أهذا كلُّ ما تبقَّى لي من حبي؟»، وكانت سلسلة العقد الزمردي هي التي تبقَّت له من حبه، أهدَتْها إليه الأميرة تذكارًا واحتفظت بالقلب لنفسها، وركب الملك عجلته ومضى إلى معسكر جيشه، واستقبله رجاله وعلى رأسهم الحاجب حور وكان يختلس من مولاه نظرات قلقة مُشفقة، وقصد الملك إلى السرادق ودعا برسول أبوفيس وقال له: أيها الرسول لقد درسنا بإمعان ما عرضتَه علينا، ولما كانت غايتي أن أحرِّر وطني من سيطرتكم وهو ما رضيتم به، فقد اخترتُ الحل السلمي حقنًا للدماء، وسنبادل الأسرى في الحال، ولكني لن آمُرَ بالكف عن العمل حتى يغادر آخِر رجل منكم هواريس، بذلك تُطوى هذه الصفحة السوداء في تاريخ بلادي.

فأحنى الرسول رأسه وقال: نِعمَ الرأي الذي رأيتَ أيها الملك، فإن الحرب إذا لم تكن لغاية تستوجبها صارت تقتيلًا وتذبيحًا.

فقال أحمس: الآن سأترككم لتبحثوا معًا في تفاصيل التبادل والإجلاء.

وقام الملك فقام الجميع وقوفًا وانحنوا له إجلالًا، فحيَّاهم بيده وغادر المكان.

٣٠

وفي مساء ذلك اليوم تم تبادل الأسرى؛ ففُتح باب من أبواب هواريس وخرجت منه جماعات الأسرى نساءً ورجالًا، وكانوا يهتفون لمليكهم مسرورين ويلوِّحون بأيديهم، وذهب الأسرى الرعاة وعلى رأسهم الأميرة أمنريدس إلى المدينة في سكون ووجوم.

وفي غداة اليوم الثاني بكَّر أحمس وحاشيته إلى هضبة قريبة تشرف على أبواب هواريس ليشهدوا خروج الرعاة من آخِر مدينة مصرية، وكانوا لا يخفون جذلهم، وتتألَّق وجوههم بنور الفرح والابتهاج، وكان القائد محب يقول: عمَّا قليل يأتي حجَّاب أبوفيس بمفاتيح هواريس ليُسلِّموها إلى جلالة الملك، كما سُلِّمَت مفاتيح طيبة إلى أبوفيس قبل أحد عشر عامًا.

وجاء الحجَّاب كما قال القائد محب، وقدَّموا إلى أحمس صندوقًا من خشب الأبنوس رُصَّت به مفاتيح هواريس، فتسلَّمَه الملك وأعطاه حاجبه الأكبر، وردَّ تحيَّة الرجال الذين عادوا من حيث أتوا في سكونٍ وصمت.

ثم فُتِحَت الأبواب الشرقية على مصاريعها فدوَّى صريرها في جنبات الوادي، فتطلَّع أصحاب الهضبة صامتين، وبرزت أولى جماعات الخارجين، وكانت من الفرسان المدجَّجين بالسلاح قدَّمها أبوفيس لاستطلاع الطريق المجهول، وتبعتها جماعات النساء والأطفال يمتطين متون البغال والحمير وبعضهن يُحمَلون في الهوادج، وقد استغرق خروجهنَّ ساعات طويلة، ثم بدا ركب عظيم تحيط به الفرسان من رجال الحرس تتبعه عربات كثيرة تجرُّها الثيران، فعلم الناظرون أنه أبوفيس وآل بيته، وقد خفق فؤاد أحمس لمرآه وقاومَ دمعة حرَّى أحسَّ انتزاعها من حناياه، وتساءل: تُرى في أيِّ مكان هي؟ وهل تجدُّ في البحث عنه كما يجدُّ في البحث عنها؟ .. وهل تذكره بمثل ما يذكرها به؟ .. وهل تكتم دمعها كما يكتم دمعه؟ وتابع الركب بناظرَيه لا يلتفت إلى الجنود المتدفِّقة على أثره من جميع الأبواب، وما زال يتبعهم ببصره وفؤاده ويحوم حولهم بروحه حتى غيَّبهم الأفق وابتلعهم الغيب!

واستيقظ الملك على صوت حور وهو يقول: في هذه الساعة الخالدة تسعد روح مليكنا سيكننرع وبطلنا المجيد كاموس، ويُكلَّل كفاح طيبة التي لا تعرف اليأس بالفوز المبين.

ودخل جيش الخلاص هواريس الجبارة واحتلَّ أسوارها المنيعة، وبات فيها حتى فجر الغداة، وزحف أحمس بفرقة العجلات شرقًا تتقدَّمُه طلائعه فدخل تنيس ودفنى، وهناك جاءته العيون وهنَّأته بجلاء آخِر رجل من الرعاة عن أرض مصر، فعاد الملك إلى هواريس، وأمر أن يصلي الجيش صلاة جامعة للرب آمون؛ وانتظمت الفِرَق المختلفة وعلى رأس كل فرقة ضباطها وقائدها، وعلى رأس الجميع الملك وحاشيته، ثم جثوا جميعًا في خشوع وصلوا للرب صلاة حارة. وختم أحمس صلاته بأن دعا ربه قائلًا: أحمدك وأشكر لك أيها الرب المعبود، فقد وصلتَ جناحي وثبَّتَّ قلبي، وأكرمتني ببلوغ الغاية التي استُشهد في سبيلها جدي وأبي، فاللهم ألهِمْني الصواب وأيِّدْني بالعزم والأمان لأضمِّد جراح شعبي، واجعله خير عابد لخير معبود!

ثم دعا أحمس رجاله إلى الاجتماع به فلبُّوا سراعًا، فقال لهم: اليوم تنتهي الحرب فيجب أن نغمد سيوفنا، ولكن الكفاح لم ينتهِ أبدًا، وصدقوني إن السلام أكبر من الحرب حاجة إلى يقظة النفوس وتوثب العزائم، فأعيروني قلوبكم لنبعث مصر بعثًا جديدًا.

ونظر الملك في وجوه رجاله قليلًا ثم استطرد: وقد رأيتُ أن أبدأ كفاح السلام باختيار أعواني المخلصين: لذلك أعهد إلى حور بالوزارة.

وقام حور إلى مولاه وجثا أمامه وقبَّل يده، فقال الملك: وأرى أن سنب خير خلف لحور في قصري، أما ديب فهو رئيس الحرس الفرعوني.

ونظر الملك إلى محب وقال: وأنت يا محب قائد جيشي العام.

ثم التفت إلى أحمس إبانا وقال: وأما أنت فقائد الأسطول، وستُرَدُّ إليك ضياع أبيك القائد الباسل بيبي.

ووجه الملك كلامه إلى الجميع قائلًا: والآن عودوا إلى طيبة عاصمة مُلكنا ليؤدِّي كلٌّ واجبه.

وتساءل حور قلقًا: ألا يعود فرعون على رأس جيشه إلى طيبة؟

فقال أحمس وهو يهمُّ قائمًا: بل ستقلع بي سفينتي إلى دابور لأزفَّ بُشرى النصر إلى أسرتي ثم أعود معها إلى طيبة، فندخلها جميعًا كما تركناها جميعًا.

٣١

وأقلعت السفينة الفرعونية في حراسة ثلاث سفن حربية، وكان أحمس ملازمًا المقصورة ينظر إلى الأفق البعيد بوجه جامد وعينَين غارقتَين في الحزن والأسى .. واستغرقت الرحلة أيامًا ثم لاحت دابور الصغيرة بأكواخها المتناثرة، ورسا الأسطول على شاطئها عند الأصيل، وغادره الملك وحرسه في ثيابهم الجميلة فجذبوا الأنظار وهرع إليهم جمع من النوبيين، وساروا بين أيديهم إلى بيت الحاكم رءوم، وذاع في المدينة أنَّ رسولًا فرعونيًّا كبيرًا جاء يزور أسرة سيكننرع، وسبق الخبر الملك إلى بيت الحاكم، فلما شارفه رأى الحاكم والأسرة الفرعونية في فناء القصر ينتظرون، وطلع الملك عليهم، فعقدت الدهشة والفرح ألسنتهم، وجثا رءوم على ركبتَيه، وصاح الجميع صيحة الفرح والسرور وهرعوا إليه، وكانت أسبقهم الملكة الصغيرة نيفرتاري؛ فقبَّل خدَّيها وجبينها ونظر فرأى أمه الملكة ستكيموس مادَّة ذراعَيها، فضمَّها إلى صدره وأسلم لها خدَّيه تقبِّلهما بحنان، وكانت جدته الملكة أحوتبي تنتظر دورها؛ فدنا منها وقبَّلَ يدَيها وجبينها، وأخيرًا رأى توتيشيري .. أخيرة القوم وأعزهم، توتيشيري التي كلَّلها المشيب وأذبل خدَّيها الكِبَر، فخفق قلبه وأحاطها بذراعَيه وهو يقول: أمَّاه وأمُّ الجميع!

فلثمته بشفتَيها النحيلتَين وقالت وهي ترفع إليه عينَيها: دعني أنظر إلى صورة سيكننرع الحية.

فقال أحمس: اخترتُ يا أماه أن أكون الرسول الذي يبشِّرك بالفوز العظيم، فاعلمي يا أمَّاه أنَّ جيشنا الباسل نال النصر المبين وهزم أبوفيس وقومه وطردهم إلى الصحراء التي جاءوا منها وحرَّر مصر جميعًا من عبوديتهم، فحق وعد آمون وطابت نفس سيكننرع وكاموس!

فتهلَّل وجه توتيشيري وومضت عيناها الكليلتان وقالت بفرح: اليوم يُفكُّ أسرنا ونعود إلى طيبة فأجدها كعهدي بها مدينة المجد والسيادة، وأجد حفيدي على عرش سيكننرع يصل ما انقطع من حياة أمنمحيت المجيدة.

وجاءت وصيفة الملكة السيدة راي تحمل وليَّ العهد بين ذراعَيها، فانحنت للملك وقالت: مولاي قَبِّل طفلك الصغير ووليَّ عهدك أمنحتب!

فلانت نظرة عينَيه ودرت حناياه حنانًا دفاقًا، وأخذ الصغير بين ذراعَيْه وأدناه من فمه حتى التصقت به شفتاه المشوقتان، وابتسم أمنحتب إلى أبيه وعابثه بيدَيه الصغيرتَين.

ثم دخلت الأسرة الفرعونية الدار تشملها السعادة والطمأنينة، فخلصوا إلى أنفسهم يتسامرون ويتذاكرون أيامهم.

٣٢

وحمل الجنود متاع الأسرة إلى السفينة الفرعونية، ثم انتقل الملك وآلُهُ إليها وخرج لوداعهم الحاكم رءوم وأعضاء حكومته وأهالي دابور جميعًا، وقبل أن ترفع السفينة مراسيها، دعا أحمس رءوم وقال له على مسمع من رجاله: أيها الحاكم الأمين؛ أوصيك خيرًا بالنوبة وأهل النوبة، فالنوبة كانت مهجرنا حين ضاقت بنا الدنيا، ووطننا إذ لا وطن لنا، ومأوانا حين عزَّ النصير ومات الصديق، ومُدَّخر عتادنا وجنودنا لمَّا دعا الداعي إلى الكفاح، فلا تنسَ صنيعها، ولتكن منذ اليوم مصر الجنوب لا نحرمها شيئًا نتمناه لنفسنا ونذود عنها ما نكره لها.

ثم أقلعت السفينة وأقلعت وراءها سفن الحراسة تشق طريقها نحو الشمال تحمل قومًا تهفو نفوسهم إلى مصر وأهلها .. وبلغت السفينة حدود مصر بعد رحلة قصيرة، فاستقبلت استقبالًا رائعًا، وخرج إليها رجال الجنوب في سفينة الحاكم شاو، وأحاطت بها زوارق الأهالي يهتفون ويغنون، وصعد إلى سطحها شاو وكهنة بيجة وبلاق وسيين وعمد القرى وشيوخ البلاد فسجدوا للملك واستمعوا إلى نصائحه، ثم انحدرت السفينة نحو الشمال يستقبلها الأهلون على الشطآن وتطوف بها القوارب ويصعد إلى سطحها عند كلِّ بلدة الحُكَّام والقضاة والعمد والأعيان، وما زالت السفينة تجدُّ في السير حتى انقشعت ظلمة الفجر ذات صباح في الأفق البعيد عن أسوار طيبة العالية وأبوابها الضخمة وجلالها الخالد، وهرعت الأسرة من المخادع إلى مقدم السفينة عالقة أبصارهم بالأفق، ويتجلى في نظراتهم الحنين والوجد، وتفيض أعينهم بدمع الشكران، وتغمغم شفاههم في صوت خافت: «طيبة .. طيبة»، وقالت الملكة أحوتبي بصوت متهدِّج: ربَّاه .. ما كنت أتصور أن يقع بصري مرة أخرى على هذه الأسوار!

وجعلت السفينة تقترب من جنوب طيبة في ريح مؤاتية حتى استطاعوا أن يروا جموعًا من الجنود وكبار القوم على الشاطئ ينتظرون، فعلم أحمس أن طيبة تزجي أولى تحيَّاتها لمخلِّصها، فعاد إلى المقصورة تتبعه أسرته وجلس على العرش وجلسن حوله، وأدى الجنود التحيَّةَ العسكرية للسفينة الفرعونية، وصعد إلى سطحها رجال طيبة؛ وعلى رأسهم رئيس الوزراء حور، والقائدان محب وأحمس إبانا، ورئيس الحرس الفرعوني ديب، وكبير الحُجَّاب سنب، وحاكم طيبة توتي آمون، ثم كاهن طاعن في السن محترق الشعر شيبًا يتوكأ على صولجانه ويسير بخطى وئيدة منحني القامة، وسجد الرجال جميعًا لفرعون وقال له حور: مولاي محرِّر مصر ومخلِّص طيبة وقاهر الرعاة، فرعون مصر وسيد الجنوب والشمال، إنَّ طيبة جميعًا في الأسواق تنتظر على شوق ولهفة مقدم أحمس ابن كاموس بن سيكننرع وأسرته المجيدة لتقرئهم جميعًا أحرَّ ما جمعت عليه صدرها من التحية والسلام.

فابتسم أحمس وقال: حيَّاكم الرب أيها الرجال المخلصون، وحيَّا طيبة المجيدة مبدئي وغايتي ..

وأومأ حور إلى الكاهن الجليل وقال: مولاي .. ائذن لي أن أقدِّم إلى جلالتك نوفر آمون الكاهن الأكبر لمعبد آمون.

فنظر إليه أحمس باهتمام، ومدَّ له يده مبتسمًا وقال برقة: يسرني أن أراك أيها الكاهن الأكبر!

فلثم الكاهن يده وقال: مولاي فرعون مصر وابن آمون، مُجدِّد حياة مصر ومحيي سير الأعظمين من ملوكها، لقد كنتُ يا مولاي آليتُ على نفسي ألا أبرح حجرتي ما دام في مصر رجل من الرعاة الأشائم الذين أذلوا طيبة وقتلوا سيدها المجيد، وأهملت نفسي فغزر شعر رأسي وجسدي، وقنعتُ من الدنيا بلقمات أتبلَّغ بها وجرعات من الماء القراح كي أشارك قومنا فيما ابتلوا به من القذارة والجوع، وما زلت حتى قيَّض الله لمصر ابنه أحمس، فحمل على عدونا حملة صادقة ومزَّق شمله وطرده من بلادنا، فعفوتُ عن نفسي وأطلقتُ سراحي، لأستقبل الملك المجيد وأدعو له.

فابتسم الملك إليه، واستأذن الكاهن في السلام على الأسرة فأذن له، فقصد إلى توتيشيري وسلَّم عليها، وعدل إلى الملكة أحوتبي وكان من المقربين إليها على عهد سيكننرع، ثم قبَّلَ ستكيموس ونيفرتاري، ثم قال حور لمولاه: مولاي: إنَّ طيبة تنتظر مولاها، والجيش مصطفٌّ في الطرق، ولكن لكاهن آمون الأكبر رجاء.

فسأل أحمس قائلًا: وما رجاء كاهننا الأكبر؟

فقال الكاهن باحترام: أن يتفضل مولاي بزيارة معبد آمون قبل أن يذهب إلى القصر الفرعوني.

فقال أحمس مبتسمًا: يا له من رجاء في تحقيقه الغنم والسعادة.

٣٣

وغادر أحمس السفينة تتبعه الملكات ورجال مملكته، فاستقبله ضباط وجنود ممَّن جاهدوا معه منذ اليوم الأول، فردَّ الملك تحيَّتهم، وصعد إلى هودج فرعوني جميل، واعتلت الملكات هوادجهن، ورفعت الهوادج وتقدمتها فرقة من الحرس الملكي، وسارت وراءها عجلات الحاشية تتبعها فرقة أخرى من الحرس الملكي، وتقدَّم الموكب الملكي نحو باب طيبة الجنوبي الوسيط، وكان مزينًا بالأعلام والأزهار، يصطف على جانبَيه الجنود الأشداء الذين اقتحموا بالأمس القريب.

اجتازت الهوادج الفرعونية باب المدينة بين صفَّين من الرماح الشاكية، وقد نفخ في الأبواق حرس الأسوار، وتساقطت على الداخلين الأزهار والرياحين، ونظر أحمس فيما حوله فرأى منظرًا عجبًا يذهل النفوس الرصينة، رأى أهل مصر جميعًا في نظرة واحدة، رأى أجسادًا تحجب السبل والجدران والمنازل، بل رأى أرواحًا خالصة من العبادة والحب والحماسة، وضح الجو بالهتاف المتصاعد من القلوب، وفتن الناس لرؤية الأم المقدسة في مهابة الشيخوخة وجلال الكبر، وحفيدها الباسل في عنفوان القوة والشباب، وشقَّ الركب طريقه كأنما يخوض بحرًا لجيًّا، تتعلَّقه الأنفس والأبصار، فقطع السبيل إلى معبد آمون في ساعات.

وعلى باب المعبد استقبل الملك وأسرته كهنة آمون، ودعوا له طويلًا وساروا بين يدَيه إلى بهو الأعمدة، حيث قُدِّمت القرابين على المذبح، وأنشد الكهنة نشيد الرب بأصوات رخيمة عذبة لبثت تتردَّد في القلوب فترة طويلة، ثم قال الكاهن الأكبر للملك: مولاي ائذن لي في الذهاب إلى قدس الأقداس لإحضار أشياء ثمينة تهم جلالتكم.

فأذن له الملك، ومضى الرجل ومعه نفر من الكهنة وغابوا زمنًا يسيرًا، ثم ظهر الكاهن مرة أخرى يتبعه الكهنة يحملون تابوتًا وعرشًا وصندوقًا من الذهب، فوضعوها جميعًا أمام الأسرة الفرعونية باحترام وإجلال، وتقدَّم نوفر آمون حتى وقف أمام أحمس، وقال بصوت ساحر نفاذ: مولاي، إنَّ ما أعرض على أنظاركم لهي أنفَسُ مخلَّفات المملكة المقدسة، عهد بها إليَّ لاثني عشر عامًا خلَت القائدُ الباسل الخالد الذكر بيبي؛ لتكون في مأمن من أن تصل إليها يد العدو الجشع، أما التابوت فهو تابوت الملك الشهيد سيكننرع يحفظ جثته المحنطة التي اشتملت أكفانها على جروح بالغة، سجَّل كل جرح منها صفحة خالدة للبسالة والتضحية، وأما العرش فهو عرشه المجيد الذي أدى حقه وأعلن عليه كلمة طيبة الأبية التي آثرت الابتلاء بأهوال الكفاح على السكون إلى ذلِّ السلامة.

وأما هذا الصندوق الذهبي فيحتوي على تاج مصر المزدوج، تاج تيمايوس آخِر ملوكنا الذين حكموا مصر المتحدة، وكنتُ أهديتُه لسيكننرع وهو خارج لقتال أبوفيس، فخاض غمار المعركة وهو على رأسه الكريم، ودافع عنه الدفاع الذي يعرفه جميع أهل الوادي .. هذه يا مولاي ودائع بيبي المقدسة، أحمد الرب أن مدَّ في عمري حتى رددتها إلى أصحابها، داموا للمجد ودام المجد لهم.

وتحولت أبصار الجميع إلى التابوت الفرعوني، ثم سجدوا جميعًا وفي مقدمتهم الأسرة الفرعونية وصلُّوا خاشعين.

ودنا الملك وأسرته من التابوت وأحاطوا به، وكان الصمت يشملهم جميعًا ولكن خاطبت التابوت قلوبهم وسرائرهم، وأحسَّت توتيشيري لأول مرة تخاذلًا وخورًا، فاستندت إلى ذراع الملك وقد حجبت مدامعها عن ناظرَيها التابوت المحبوب، وعزم حور على أن يرقأ دمع الأم المقدسة ويسكن آلام قلبها، فقال لنوفر آمون: أيها الكاهن الأكبر، احتفظ بهذا التابوت في قدس الأقداس حتى يُودَع في مقبرته باحتفال مهيب يليق بمقام صاحبه.

فاستأذن الكاهن مولاه وأمر رجاله برفع التابوت إلى مثوى الرب المعبود، وفتح الكاهن الصندوق واستخرج منه تاج مصر المزدوج، ودنا من أحمس في إجلال وتوَّج به رأسه المجعد، ورأى القوم ما فعل الكاهن فهتفوا جميعًا: «يعيش فرعون مصر!»

ودعا نوفر آمون الملك والملكات إلى زيارة المثوى المقدس فساروا جميعًا، وكانت توتيشيري ما تزال تتوكأ على ذراع أحمس، واجتازوا العتبة المقدسة التي تفصل بين الدنيا والآخرة، وسجدوا للرب المقدس ولثموا الستائر المُسدَلة على تمثاله، وصلوا صلاة الشكر والحمد أن هيَّأ لهم الفوز وردَّهم إلى وطنهم ظافرين.

وغادر الملك إلى هودجه وكذلك الملكات، وحمل العرش على عربة كبيرة، واستأنف الموكب سيره إلى القصر بين الجموع الهاتفة الداعية، المهللة المكبرة، الملوحة بالأغصان الناثرة للزهور، فبلغوا القصر القديم عند الأصيل، وكان التأثُّر قد بلغ من نفس توتيشيري مبلغًا كبيرًا فاشتد خفقان قلبها واضطربت أنفاسها، فحُمِلت في هودجها إلى جناحها الملكي، ولحقت بها الملكات والملك، وجلسوا بين يدَيها قلقين، ولكنها استعادت هدوءها وعادت بقوة إرادتها وإيمانها، فاستوت جالسة ونظرت في الوجوه الحبيبة بحنان وقالت بصوت ضعيف: معذرةً يا أبنائي، لقد خانني قلبي لأول مرة، ولشدَّ ما تحمَّل هذا القلب ولشدَّ ما صبر، فدعوني أقبِّلكم جميعًا، ففي مثل سني يُعَجِّل بلوغ الأمل بالنهاية.

٣٤

وجاء المساء وخيَّم الليل وطيبة لا يعرفُ النومُ إلى أجفانها سبيلًا، فلبثت ساهرة تلوح المشاعل في طرقاتها وضواحيها، ويجتمع الناس في ميادينها ينشدون ويهتفون، وتسجع ديارها بالأغاني والألحان، في تلك الليلة لم ينَمْ أحمس على ما به من تعب ونصَب، ونبا به الفراش فخرج إلى الشرفة المطلة على حديقة القصر الفيحاء، وجلس على أريكة وثيرة في ضوء مصباح خافت، وساحت روحه في الظلام الجاثم، وكانت أنامله تعبث بسلسلة ذهبية بحنو وإشفاق، ينظر إليها بين الفينة والفينة كأنما يستمد منها أفكاره وأحلامه.

ولحقت به على غير انتظار الملكة الشابة نيفرتاري وكان الفرح ينفي الكرى عن عينَيها، فظنَّت أنَّ زوجها في مثل سرورها، فجلست إلى جانبه جذلة منشرحة الصدر، وانعطف الملك إليها مبتسمًا فوقع بصرها على السلسلة في كفه فتناولتها بدهشة وقالت: أهذا عقد؟ .. ما أجمله! ولكنه مبتور.

فقال وهو يجمع أشتات فكره: نعم … فقد قلبه.

– وا أسفاه .. وأين فقد؟

فقال: لا أدري إلا أنَّه ضاع على غير إرادتي.

فنظرت إليه بمودة وسألته: أكنتَ تنوي أن تهديه إليَّ؟

فقال: إنِّي أدخر لك ما هو أثمن منه وأجمل.

فقالت: فكيف تأسف عليه إذَن؟

فقال وهو يجهد أن يخرج صوته طبيعيًّا هادئًا: إنَّه يذكِّرني بأيام الكفاح الأولى، حين خرجت أطلب طيبة متخفيًا في ثياب التجار داعيًا نفسي إسفينيس، فكان فيما أعرض على الناس للشراء .. فيا للذكرى الجميلة .. نيفرتاري، أود أن تدعيني إسفينيس، فهو اسم أحبه وأحب عهده وأحب مَن يحبه.

وأدار الملك وجهه ليُخفي ما ارتسم عليه من التأثُّر والحنين، فابتسمت الملكة بسرور، ولاحت منها نظرة إلى الأمام فرأت على البُعد ضوء مشعل يتحرك في بطء، فقالت وهي تشير بيدها: انظر إلى هذا المشعل!

فألقى أحمس بصره إلى حيث تشير، ثم قال: هذا مشعل في قارب يسبح قريبًا من الحديقة.

وكأن صاحب القارب تعمَّد أن يدنو من حديقة القصر ليُسمِع أهله القادمين جمال صوته، فيحيِّيهم وحده بعد أن حيَّتهم طيبة جميعًا، فرفع عقيرته مُتغنِّيًا في سكون الليل يردِّد سجعه مزمار:

«كم رقدت في غرفتي منذ سنين»
«أعاني ألم داء وجيع»
«فعادني الأهل والجيران»
«وزارني العرَّافون والأطباء»
«فأعيا الداء أطبائي وجيراني»
«حتى جئت أنت يا حبيبي»
«فبرع سحرك الطب والرقى»
«لأنك أنت تعرف سرَّ دائي»

وكان صوته جميلًا يأخذ السمع، فأنصت أحمس ونيفرتاري، وكانت الملكة ترنو إلى ضوء المشعل بعطف وحنان، وكان الملك ينظر إلى ما بين قدمَيه بعينَين شبه مغمضتَين، تنوح في قلبه الذكريات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤