حكاية عن التهريب

بدأتْ رائحة البحر تظهر في الجو، والسيارة الحمراء الكبيرة تشقُّ طريقها إلى الإسكندرية، و«المغامرون الخمسة» يَجتمعون لأوَّل مرة في رحلة واحدة إلى المدينة الجميلة على شاطئ البحر المُتوسِّط.

كانوا قد تحدَّثوا طويلًا خلال الرحلة، فساد الصمت داخل العربة، ولم يَعُد مسموعًا إلا صوت موتور السيارة، وهو يُدوِّي على الطريق الزراعي، يقودها خال «عاطف» و«لوزة» الذي دعا الأصدقاء جميعًا إلى قضاء أسبوعَين في الفيلا التي يملكها في «أبو قير» الضاحية البعيدة للإسكندرية، حيث يسكن مع أسرته، وحيث يملك مجموعة من سفن صيد السمك في البحر.

قالت «لوزة» وهي تنظر إلى اللافتة الصفراء التي تحمل أرقام المسافة: لقد بقيَ عشرون كيلومترًا فقط على الإسكندرية، فكم تَستغرقُ من الوقت يا خالي؟

رد الأستاذ «شوكت»: نحن نسير الآن بسرعة ثمانين كيلومترًا في الساعة، احسبيها أنت وستَعرفين الوقت الباقي.

سكتَت «لوزة» فقال «عاطف»: هذه عملية بسيطة يا «لوزة»، اقسمي ثمانين على عشرين تَصِلي إلى النتيجة.

ردَّت «لوزة» بسرعة: لم أَكُن في حاجةٍ إلى مساعدتك لأعرف؛ فقد بقي ربع ساعة فقط، ونصل إلى الإسكندرية.

نوسة: ولكن أليست هذه سرعة كبيرة يا أستاذ «شوكت»؟

شوكت: إنها سرعة مُناسِبة ما دام الطريق ليس مزدحمًا.

كان «تختخ» أثناء هذا الحديث مستغرقًا في قراءة كتابٍ صغيرٍ عن مدينة الإسكندرية، وقد وصَل إلى قسمٍ خاصٍّ عن ضاحية «أبو قير» فقال: هل يعرف أحدكم أهمَّ الحوادث التاريخية التي وقعت في «أبو قير»؟

التفت إليه الأصدقاء جميعًا، ثم قال «محب» بسرعة: نعم معركة «أبو قير» البحرية بين الأسطول الإنجليزي والأسطول الفرنسي.

تختخ: عظيم، ومتى كانت المَوقِعة؟

لم يُجب أحد من الأصدقاء، فقال «تختخ»: لقد وقعَتْ في مثل هذا الشهر.

لوزة: في شهر أغسطس؟

تختخ: نعم في أغسطس عام ١٧٩٨.

عاطف: وانتهت بتدمير الأسطول الفرنسي، وضياع آمال «نابليون» في إقامة إمبراطورية شرقية.

نوسة: وهل هناك آثار لهذه المعركة الآن؟

تختخ: هناك آثار، ولكن تحت البحر؛ ففي خليج «أبو قير» ترقد بقايا السفن الفرنسية.

محب: وهناك جزيرة تُسمَّى باسم قائد الأسطول الإنجليزي «نلسن».

تختخ: فعلًا، وفي نيَّتي أن أزورها.

لوزة: وهل تبعد كثيرًا عن «أبو قير»؟

تختخ: نحو خمسة كيلومترات فقط.

وعاد «تختخ» إلى كتابه، وعاد الأصدقاء إلى الصمت، ينظرون خلال نوافذ السيارة إلى الطريق، وإلى المَزارع، وقد بدأت الإسكندرية تتَّضح والسيارة تشق طريقها مسرعة إليها.

بعد دقائق أخرى دخلت السيارة «الإسكندرية» وشقت طريقها في شارع «الحرية» متجهة إلى «أبو قير»، وظلت تسير مدة طويلة، حتى قالت «لوزة» متضايقة: لم أكن أتصوَّر أن «أبو قير» بعيدة من الإسكندرية إلى هذا الحد.

رد الأستاذ «شوكت»: إنكِ لم تَزُوريها من مدة طويلة، ولعلكِ نسيتِ المسافة؛ فقد كنتِ صغيرة جدًّا عندما حضرتِ آخر مرة. إن المسافة تقطعها السيارة في نحو نصف ساعة، والقطار البطيء في نحو ساعة.

وأخيرًا دخلت السيارة «أبو قير» وعند محطة السكة الحديد، انحرفَت يسارًا، ودخلت إلى «التقسيم الجديد»، وهو الجزء الذي بُني حديثًا في القرية الصغيرة التي تَعتبر آخر امتداد ﻟ «الإسكندرية» شرقًا، ثم دخلت السيارة أمام فيلا الأستاذ «شوكت».

رحَّبت «داليا»، و«ياسر» ابنا الأستاذ «شوكت» وزوجته بالضيوف، وارتفعت التحيات من هنا وهناك، في حين صعد «تختخ» إلى سطح الفيلا يَرقُب البحر بشوق، ويملأ رئتَيه من النسيم، ووقف بجانبه «ياسر» ينظر إليه بإعجاب؛ فقد كان يعرف الكثير عن مغامرات «تختخ» والألغاز التي يحلُّها، ثم قال بعد لحظات: إنني أريد أن أسمع منك بعض الألغاز التي اشتركت فيها، وتعلمني طريقة حلِّها فأنا من هواة المغامَرات.

رد «تختخ» مبتسمًا: ليس الآن على كل حال، وسوف يأتي الوقت المناسب للقصص والحكايات.

ياسر: كم أتمنَّى أن أشترك في مغامرة معك.

تختخ: من يدري، قد نشترك معًا في مغامرةٍ هنا.

ياسر: للأسف ليس هنا مغامرات؛ ففي هذه المناطق لا يوجد إلا المهربون، وهؤلاء يتولى رجال خفر السواحل مُطاردتهم.

تختخ: لقد قرأت في الصحف مؤخَّرًا عن غرقِ مُهرِّب كبير يدعى «الحنش» هنا في «أبو قير».

ياسر: فعلًا، إن كلمة «الحنش» تطلق هنا على ثعابين الماء، وقد كان الرجل يُشبه «الحنش» فعلًا؛ فقد كان رفيعًا وخبيثًا، سريع الحركة، قادرًا على الاختفاء بحيث لا يعثر عليه أحد، تمامًا كما يختفي الثعبان في جُحره، و«الحنش» في الطين، وحتى عندما استطاع رجال السواحل معرفة مكانه فضَّل أن يغرق بدلًا من أن يُقبَض عليه؛ فعقوبة التهريب الآن تصل إلى ٢٥ عامًا سجنًا؛ أي تُعتبر نهايةً لحياة المهرب.

تختخ: وهل عثرُوا على جثته؟ لقد قرأت أنه ألقى بنفسه في الماء، ولم يستطع العودة إلى الشاطئ، فاعتبره رجال السواحل غريقًا.

ياسر: لم يُعثر على جثته بعد، ولكن رجال السواحل مُتأكِّدون من غرقه؛ فقد أحاطوا بالساحل ٢٤ ساعة كاملة دون أن يظهر.

قضى «تختخ» بعض الوقت يتحدَّث مع «ياسر»، ثم نزلا إلى حيث انضمَّا إلى بقية الأصدقاء، وطافوا بأنحاء الفيلا الكبيرة يتفرَّجُون عليها. وكان ضمن الفيلا مخزن لأدوات الصيد، شاهد فيه الأصدقاء أنواع الشباك التي يُصطاد بها السمك، والسنانير، وغيرها من أدوات الصيد، وقال «عاطف» في ابتهاج: لعلنا نستطيع أن نَخرُج في رحلات لصيد السمك.

رد «ياسر»: طبعًا، وعندنا قارب صغير خاص بالصيد، ويُمكِن استئذان أبي في استعماله.

وعندما أتى المساء، خرج الأولاد السبعة معًا، المغامرون الخمسة ومعهم «ياسر» و«داليا»، واتجهوا إلى شاطئ البحر، وأخذ «ياسر» يشرح لهم جغرافية «أبو قير»، فقال: أبو قير شبه جزيرة يُحيط بها الماء من ثلاث جهات، والشاطئ الشمالي يُشبه القوس المقلوب، يَنتهي طرفه الغربي بالمعسكر الحربي الذي ترونه هناك فوق الجبل، وهذه المنطقة تُسمى التقسيم الجديد، وينتهي طرف القوس الشرقي بقلعة «أبو قير»، وسوف نزورُها يومًا ما، أما الشاطئ الجنوبي ﻟ «أبو قير» فهو «البحر الميت»، وقد سُمِّي كذلك؛ لأنه يمر هادئًا بلا أمواج، فهو بمثابة خليج يُستعمَل كميناء لقوارب صيد السمك، وصيد السردين.

عندما غربت الشمس، واختفى قرصها الأحمر الوهاج وراء الأفق، ظهرت بعض أنواع «الكابوريا» التي تعيش على الشاطئ، وهو نوع لا يُؤكَل؛ لأنه قليل اللحم، ويعيش في ثقوب في الرمال، لهذا فهو شاحب اللون صغير الحجم، وقضى الأصدقاء وقتًا لطيفًا في مطاردته، وهو يجري هنا وهناك بسرعة خارقة، ثم يَختفي في ثقوبه، وقد استطاع الأصدقاء اصطياد ثلاثة منه بواسطة بعض العصيِّ الخشبية؛ فقد حذَّرهم «ياسر» من مخالبه القوية التي يستطيع أن يقرص بها قرصًا موجعًا.

وعندما هبط الظلام عادوا جميعًا إلى الفيلا، وتناولوا عشاءً شهيًّا، ثم جلسوا يتحدثون ويتفرجون على «التليفزيون».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤