مغامرة في الظلام

كانت الريح قد بدأت تهب تدريجيًّا … والأمواج تَرتفِع شيئًا فشيئًا، ولكن القارب مضى في طريقه يشقُّ الماء، وقد أطلق له «ياسر» العنان، وفجأة دار القارب حول نفسه كأنما هناك يد قوية تُمسكه وتديره، فكاد «محب» يسقط في الماء لولا أن تمالك نفسه، وصاح «ياسر»: لقد انكسرت «الدفة». أدرك «تختخ» أن القارب لن يمكن السيطرة عليه بعد كسر الدفة التي عن طريقها يتم توجيه القارب، وأحسَّ أنهم مُقبلون على متاعب من نوعٍ جديد، فصاح في «ياسر»: أوقف «الموتور»، وكان «ياسر» قد فكر في نفس الخطوة، فأوقف «الموتور»، ووقف القارب في وسط المياه كأنه قطعة من الخشب لا حول لها ولا قوة.

قال «تختخ»: ما هو الحل الآن يا «ياسر»؟ إنك أكثر منَّا خبرة بمآزق البحر ومشاكله، فماذا ترى؟

ياسر: نستطيع استعمال أحد «المجاديف» كبديل ﻟ «الدفة»، ولكنا في هذه الحالة لا بد أن نسير ببطء، حتى نتمكَّن من السيطرة على القارب.

تختخ: لا بأس، ولكن هل سنعود أم نذهب إلى الجزيرة؟

ياسر: لم يبقَ على الوصول إلى الجزيرة إلا نحو عشر دقائق أو أقل، ومن الأفضل أن نذهب لإحضار «الكاميرا»؛ فهي «كاميرا» ثمينة تُساوي أكثر من مائة جنيه.

تختخ: أوافق، وهيا بنا.

قام «ياسر» بتثبيت مجداف مكان الدفَّة المكسورة، وطلب من «تختخ» أن يمسك به جيدًا حتى لا يفلت، في حين قام هو بقيادة القارب من المقدمة، وبدأ «الموتور» يدور مرةً أخرى، وسار القارب في اتجاه الجزيرة، ولكن ببطءٍ شديد، وكانت الريح في تلك الأثناء قد انطلقت تزمجر على سطح البحر، وترفع الأمواج التي أصبحت تلعب بالقارب كأنما هو قطعة صغيرة من الفلين على سطح البحر الهائج.

أدرك «ياسر» أن مهمتهم صعبة، وأن الوصول إلى الجزيرة شبه مستحيل، خاصةً وقد بدأت الشمس تغرب، والظلام يسدل ستاره على البحر وعلى كل شيء، أخذ «ياسر» يفكر فيما يفعل، وهل يُصارح «تختخ» و«محب» بموقفهم الخطير أم يتصرَّف من تلقاء نفسه؟ وقرَّر في النهاية أن يستشير «تختخ» باعتباره زعيم المجموعة، فصاح: «تختخ».

ولكن «تختخ» لم يسمعه؛ فقد كانت الريح تحمل صوته بعيدًا، فكرر النداء مرةً أخرى، فرد «تختخ»: ماذا تريد؟

ياسر: أظن أننا لن نستطيع الوصول إلى الجزيرة؛ فالأمواج تقذفنا بعيدًا، وأخشى ألا نستطيع الوصول إلى أيِّ أرضٍ خاصةً وأن الدنيا بدأت تُظلم، ولن نرى طريقنا في الليل.

تختخ: وماذا تقترح؟

ياسر: أقترح أن نُحاول العودة إلى الشاطئ بأسرع ما نستطيع.

تختخ: أوافق.

وبدأ «تختخ» يدير الدفة التي صنعوها من المجداف، ولكنها لم تكن قوية، حتى تدير القارب دورة كاملة، فأخذ «تختخ» يُديرها بهدوء وحذَر، مُحاولًا أن يعدل اتجاه القارب إلى «أبو قير». وكانت الأمواج تَرتفِع، ثم تضرب القارب في جانبه، وتنهال المياه داخله، فتُغرق الأصدقاء الثلاثة، ثم تنحسر ناحية البحر مرةً أخرى، وما تكاد تمضي موجة حتى تأتي موجة، حتى أحس «محب» الذي كان يجلس في وسط القارب أنه يشبه الإسفنجة لكثرة ما امتصتْه ثيابه من الماء.

كان الظلام قد هبط تمامًا والقارب ما زال في منتصف المسافة بين الجزيرة وبين «أبو قير»، وأخذ «تختخ» يفكر في مغامرات المعادي. لقد كانت كلها على الأرض، وليس فيها هذا البحر الغاضب، ولا السماء المكفهرة ولا الرياح المدوية. وفي الوقت نفسه كان «محب» قد بدأ يرتعد تحت تأثير المياه التي ملأت ثيابه، وتخلَّلت جسده كله، حتى أحس بالبرد برغم أنهم في شهر أغسطس أحر شهور العام، أما «ياسر» فقد كان يشعر بمسئوليته عما حدث؛ فهو المسئول عن تسيير القارب، وهو الوحيد بينهم الذي يُجيد فنون البحر، وإذا حدث أي شيءٍ لهم؛ فهو الوحيد أيضًا الذي سيحاسب.

وكانت المياه قد تحوَّلت إلى اللون الأسود، الأفق، السماء، وبدت أنوار «أبو قير» وكأنها ثقوب في هذا الثوب الأسود الذي يلفُّ الدنيا … والقارب تَلعب به الأمواج العالية والأولاد الثلاثة يُحاولون التوازن، والإبقاء على القارب في اتجاه شاطئ «أبو قير»، حتى لا يتوهوا في الظُّلمة إلى الأبد، ولكن الأمواج كانت تُلقي بهم في الاتجاه المضاد، ناحية الجزيرة التي كانوا أقرب إليها من الأرض، وتذكَّر «تختخ» الصخور المدبَّبة، وأدرك أن الأمواج إذا نجحت في إلقاء القارب على الصخور، فسوف يتحطَّم تمامًا، وسوف يُصابون جميعًا إصاباتٍ بالغة.

صاح «تختخ» في الظلام: «ياسر» … «ياسر».

رد «ياسر» في صوتٍ مرتفع: ماذا تُريد؟

تختخ: أفضل حلٍّ أن نلقي بأنفسنا في المياه، ونُمسِك بحبال القارب ونجره في اتجاه شاطئ «أبو قير»، فلن نستطيع السيطرة عليه بهذه الطريقة، وسوف نَرتطم بالصخور، ويتحطَّم القارب.

صاح «ياسر»: إن في هذه خطورة كبيرة علينا، ومن الأفضل أن نوقف الموتور، ونستعمل المجاديف، فلعلَّ ذلك يُمكننا من السيطرة على القارب.

وفعلًا أوقف «ياسر» الموتور، وأخرج المجاديف من أماكنها، وأمسك هو بمجداف، وأمسك «تختخ» بآخر، في حين أمسك «محب» بالمجداف الذي استخدموه كدفَّة، وأخذوا يجدفون محاولين الابتعاد عن صخور شاطئ الجزيرة، متَّجهين بقدر ما يستطيعون إلى ناحية شاطئ البحر الميت حيث البحر هادئ.

في تلك الأثناء كان الأستاذ «شوكت» وزوجته وبقية الأصدقاء يجلسون في قلق في انتظار ظهور الأولاد الثلاثة، فلما مضى الوقت دون أن يظهروا قالت «أم ياسر»: من الأفضل أن نتصل برجال السواحل، إنهم أصدقاؤك، وسوف يهتمُّون بالبحث عن القارب. رد الأستاذ «شوكت» وهو يرتدي ثيابه على عجل: للأسف، إن مراكبَنا كلها في الصيد، وإلا كنت أخرجتها الآن للبحث عنهم، على كل حالٍ سوف أذهب إلى رجال السواحل، وسأتحدَّث مع الرائد «سراج»، وأعتقد أنه سيُساعدنا.

عاطف: هل أستطيع أن آتي معك يا خالي؟

شوكت: نعم.

وبعد لحظات خرجا، وكانت الريح تَعصِف والموج يضرب الشاطئ بعنف، فقال الأستاذ شوكت: إنهم يُلاقون وقتًا عصيبًا، وبرغم أن «ياسر» مُتمرِّن على ركوب البحر، فمن الصعب أن يسيطر على القارب في هذا الجو المُضطرِب.

وركبا السيارة، واتجها إلى قسم خفر السواحل الذي يقع على شاطئ البحر الميت، ولحسن الحظ أنهما وجدا الرائد «سراج» هناك، فشرح له الأستاذ «شوكت» ما حدث بسرعة فقال: سنُبحرُ فورًا على ظهر القارب الكبير بالأنوار الكشافة، وبأساليب الإنقاذ.

ودق الرائد «سراج» جرسًا دوى في المكان، فأسرع البحارة إلى القارب، وقفز خلفهم الرائد «سراج» وبقي «شوكت» و«عاطف» على الشاطئ، وقد أطلقا بصرهما خلف القارب الذي سرعان ما غاب في الظلام.

ظل الأولاد الثلاثة يُقاومون الأمواج، ويُحاولون السيطرة على القارب الذي كانت الأمواج تسحبه ناحية الجزيرة، وأحسَّ «محب» بدُوَار أخذ يتزايد شيئًا فشيئًا، وهو يحاول التماسك، ولكنه في النهاية أحسَّ أن الدنيا تدور به، وأن معدته تُؤلمُه بشدة، فلم يعد يستطيع السيطرة على نفسه، واضطر إلى الانحناء على جانب القارب، وأخذ يتقيأ بشدة، وأدرك «تختخ» و«ياسر» المحنة التي يمرُّ بها «محب»، ولكنهما لم يستطيعا أن يمدا له يد المساعدة؛ فقد كانا مُهتمَّين بالمجدافين والريح تُصفِّر حولهما، والماء يُغرق القارب، ويكاد يجرفهما معه لولا أنهما كانا يضغطان بأقدامهما على جانبي القارب المهتز.

أخذ «تختخ» يُفكِّر في هذه المغامرة التي لم تكن على البال، لقد كانت جديدة عليه فلم يسبق له أن مرَّ بتجربةٍ مثلها، لهذا كان يشعر في نفسه بنوعٍ من السعادة والتحدي؛ فهو يحب التجارب الجديدة، فالتجربة كما يرى هي التي تصقل الإنسان، وتجعله أصلب عودًا، وأخذ ينظر في الظلام، وخُيِّل إليه أنه يرى ضوءًا يخرج من الجزيرة في شكل ومضاتٍ سريعة، ولكنه لم يُلقِ بالًا إليه.

ظل الصراع مستمرًّا بين ركاب القارب الصغير والبحر الهائج أكثر من ساعة، وبدأ الصديقان يشعران بالتعب والبرد، خاصةً أن المياه كانت قد أغرقتهما، وكان «محب» أكثر تعبًا، وإن كان قد تحسَّن قليلًا بعد أن تقيأ.

صاح «تختخ» حتى يسمعه «ياسر»: أعتقد أن علينا أن نُوقد مصباحًا أو شيئًا يدل علينا.

ياسر: معك حق، لقد نسيتُ هذا تمامًا، مع أنه مهم، فقد يرانا قارب آخر فليسرع إلى إنقاذنا.

وقام «ياسر» بإضاءة أحد مصابيح القارب، فانعكس الضوء الخارج منه على الأمواج، وأحسُّوا بشيءٍ من الطمأنينة.

وقف الرائد «سراج» على ظهر القارب الكبير السريع ينظر حوله في الظلام مُحاولًا أن يرى القارب الصغير، وهم يشقُّون طريقهم إلى جزيرة «نلسن»، حيث يحتمل أن يكون القارب قريبًا منها، واستطاعوا بسرعتهم الكبيرة أن يصلوا بعد ربع ساعة إلى قرب الجزيرة، ولكنَّهم لم يروا شيئًا، فأصدر «الرائد» تعليماته بأن يدور القارب دورة كاملة حول الجزيرة، وعندما أصبحوا عند الطرف الجنوبي منها، ظهر الضوء المهتز الذي يَصدُر عن مصباح القارب الصغير، وصاح «سراج»: درجة إلى اليمين. واستدار القارب الكبير وشق طريقه وسط الأمواج العالية، وفي دقائق قليلة كان يقترب من القارب الصغير، الذي لم يَكد ركابه الثلاثة يرون أنوار القلوب الكبيرة، حتى أخذوا يَصيحُون في الظلام ليَلفتُوا الأنظار إليهم.

اقترب القارب الكبير من الصغير، كأنه أبٌ يسرع إلى ولده، وأصدر الرائد «سراج» أوامر فأُلقيَ «حبل» إلى القارب التقطه «ياسر» بمهارة، ثم ربطه بمقدمة القارب، ولم تمضِ لحظات حتى كان القارب الصغير بجوار الكبير، وأُنزلَ سلَّمٌ من الحبال أسرع الأصدقاء الثلاثة إليه، وتسلقوه إلى ظهر القارب الكبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤