صراع تحت الماء

ابتسم الحظ ﻟ «تختخ» في اليوم التالي؛ فقد أخبرهم الأستاذ «شوكت» أن الجو في هذا اليوم سيظل هادئًا، وفي إمكانهم الخروج في رحلة بالقارب إلى الجزيرة، فضج الأولاد بالضحك والتعليقات المرحة، ولكن «تختخ» طلب منهم أن يسمحوا له هو و«ياسر» و«عاطف» و«محب» فقط بالذهاب في هذه المرة على أن يأخذهم جميعًا في مرةٍ تالية. احتجَّت الفتيات على هذه التفرقة، ولكن «تختخ» قال لهن إنه قد يعود بمغامرةٍ جديدة، إذا تركنَه والأصدقاء الثلاثة يقومون بهذه الرحلة وحدهم، وهنا وافقت الفتيات.

لبس الأصدقاء ملابس خفيفة فوق «المايوهات»، ثم انطلقوا في طريقهم إلى «البحر الميت»، وقد أخذ «تختخ» معه أنبوبة الغطس، وبندقية الصيد تحت الماء، والزعانف التي تُلبس في الأقدام، وتُساعد على العوم.

وكان القارب مجهزًا في انتظارهم، فقفزوا فيه، وسرعان ما أدار «ياسر» الموتور، وانطلقوا في طريقهم إلى جزيرة «نلسن».

قال «عاطف»: أعتقد يا «تختخ» أنك لا تأخذُنا معك في هذه الرحلة لمجرد الفسحة، إنني أراقبك منذ أيام، وأعتقد أن في رأسك فكرةً معينة تُريد التحقُّق منها، فهل أنا مُوفَّق في استنتاجي؟

قال «تختخ»، وهو يمدُّ يده إلى مياه البحر يعابثها: لقد وُفِّقت، ولكن الحقيقة أن في رأسي فكرتَين، وليس فكرة واحدة.

محب: أليس من حقِّنا أن نعرفهما قبل أن نصل إلى الجزيرة.

تختخ: نعم، ولكن قد يَثبت أن الفكرتين غير صحيحتين، فأكون موضع سخريتكم جميعًا.

قال عاطف مبتسمًا: إننا نثق فيك، وعلى كل حال إذا لم تتحقَّق الفكرتان، فلن نخسر شيئًا، ونكون قد قضينا وقتًا مُمتعًا.

تختخ: إذن استمعُوا … عند زيارتها للجزيرة لاحظت وجود بقعة من الماء في وسطها، وهو شيء مُدهِش؛ فنحن لسْنا في فصل الشتاء، وإلا لقلتُ إنَّها بفعل المطر، والأمواج مهما ارتفعَت فلن تستطيع أن تُوصِّل الماء إلى سطح الجزيرة على هذا البعد.

ياسر: إذن فكيف علَّلت وجودها؟

تختخ: تصوَّرت أن هناك مَجرى من الماء تحت الجزيرة يصلُ إلى وسطها، وعن طريق شرخ في الصخور يُمكن في حالة ارتفاع الأمواج أن يُوصل الماء إلى سطح الجزيرة، وليس هناك حلٌّ ثالث.

محب: وما قيمة هذا الاكتشاف؟

تختخ: إنه مُرتبط بالفكرة الثانية التي قد لا توافقون عليها.

عاطف: وما هي الفكرة الثانية؟

تختخ: فكرة أن «الحنش» هذا المهرِّب الخطير الذي استطاع الهرب من رجال السواحل كل هذه السنوات، كان يختفي منهم في جزيرة «نلسن»، بل إنني أظن أنه حي وما زال هناك.

صاح الأصدقاء الثلاثة في نفسٍ واحد تقريبًا: هذه تخاريف، ولعلَّ شمس «أبو قير» قد أثرت في رأسك، فأصبحت تتخيَّل أشياء لا وجود لها.

وأضاف «ياسر»: كما أنني أذكر أنكَ قلت هذه الفكرة للرائد «سراج» فلم يقتنع بها؛ فقد كان «الحنش» مصابًا بالرصاص عندما وقع في الماء، ولا يُمكن لرجلٍ مُصاب برصاص مدفع رشاش أن يتمكَّن من العوم كل هذه المسافة إلى جزيرة «نلسن».

قال «تختخ» في هدوء: على كل حال كما قال «عاطف» إننا لن نخسر شيئًا، وسنقضي وقتًا مُمتعًا.

استغرق الأربعة في التفكير بعد هذا الرد، وأخذوا يَنظُرون إلى الجزيرة التي بدَت من بعيد كأنها وحشٌ بحري خرافي يَرقُد في الماء، والقارب يشقُّ طريقه في الماء الهادئ سريعًا.

اقترب القارب من الجزيرة، وأصبح على بُعد عشرين مترًا تقريبًا منها، فقال «تختخ»: إنني لا أريد الصعود إلى الجزيرة، بل أريد أن نقف قرب الطرف الشمالي على مَبعُدة من الصخور. فهل هذا مُمكن يا «ياسر»؟

ياسر: طبعًا هذا مُمكن، وفي إمكاننا أن نلقي الخطاف فيرسو القارب.

وهكذا، عندما أصبحوا على مسافة صغيرة من الجزيرة، أوقف «ياسر» الموتور، وألقى الخطاف في الماء، فتوقف القارب تمامًا.

قال «تختخ»: أرجو أن تَنتظرُوني ولا تتحرَّكوا.

ياسر: ماذا ستفعل؟

تختخ: سأُمارس هوايتي الجديد، الغطس.

وأخذ «تختخ» يَخلع ثيابه وبقيَ بالمايوه، ثم ارتدى أدوات الغَطس، النظارات الكاوتشوك، ذات العيون الزجاجية الواسعة، والزعانف، ووضْع أنبوبة الغطس في فمه، وأمسك ببندقية الصيد، وجلس على حافة القارب يَنظر إلى المياه. فقال «ياسر»: خذ حَذرك يا «تختخ»، فكثيرًا ما تقترب أسماك القرش المتوحِّشة من هذه الجزيرة، كذلك فإن «الأخطبوط» رغم صغر حجمِه مُنتشر هنا.

نظر «تختخ» من خلال النظارة الواسعة إلى الأصدقاء مُبتسمًا، ثم ألقى بنفسه في الماء، وبدأ يَسبح متَّجهًا إلى الجزيرة، وأحسَّ «عاطف» بالخوف على «تختخ» فقال: إنني أخشى أن يلتقي بسمكة قرش متوحِّشة، ولستُ أعتقد أن بُندقية الصيد ذات الحربة ستكون لها أيَّة قيمة في الصراع مع هذا الوحش القوي.

ياسر: في الحقيقة إنها مُغامرة مُخيفة، وأنا أخشى أن يحدث ﻟ «تختخ» شيء، ولا نستطيع مساعدته.

اقترب «تختخ» من شاطئ الجزيرة الصَّخري، وأخذ ينظر بين الصخور مُحاولًا البحث عن قناة الماء التي تُوصِّل إلى مُنتصَف الجزيرة، ولكن المياه كانت تُغطِّي الصخور، ولا تبدو منها فتحة يمكن أن تؤدِّي إلى قاع الجزيرة كما توقع.

اقترب «تختخ» أكثر فأكثر، حتى أصبح بين الصخور، وفجأة لاحظ وجود فتحة بين الصخور، ولكن تحت الماء تدخل إلى ما تحت الجزيرة، فلم يتردَّد، واقترب منها ثم غطس فيها، ووجد نفسه في ممر من المياه العميقة السوداء بين صفَّين من الصخور، وكانت مجموعات كبيرة من الأسماك من مختلف الأنواع تعوم حوله، وظل غاطسًا تحت الماء، فترة دون أن تنفعه أنبوبة الغطس؛ لأن المياه كانت تصل إلى سقف الممر، فلا يُمكنه أن يصعد بقرب السطح، وعندما حاول أن يصعد ليتنفس ارتطمت رأسه بالصخور، فعاود الغطس، وقد بدأ يحس بحاجته إلى الهواء، وقرر أن يحاول ثانية، ولكن رأسه ارتطم مرةً أخرى بالصخور، وأحسَّ بصدره يضيق تدريجيًّا، حتى يكاد ينفجر، فقرر العودة فورًا، ولم يستطع الاستدارة في الممرِّ المائي الضيق إلا بصعوبةٍ بالغة، وأسرع في الاتجاه إلى مدخل الممرِّ مرةً أخرى، ولم يكد يصل إلى نهاية أوله، حتى رفع رأسه إلى فوق، ونزع الأنبوبة من فمه، وتنفَّس نفسًا عميقًا، وهو لا يكاد يصدق أنه نجا.

كان القارب يقف في مكانه، والأصدقاء الثلاثة «محب» و«عاطف» و«ياسر» يتطلعون إلى المكان الذي اختفى فيه «تختخ»، وقد أصابهم الخوف والقلق، فلم يَكد يظهر حتى صاحوا جميعًا: هذا هو «تختخ» … لقد ظهَر مرةً أخرى.

صعد «تختخ» إلى أحد الصخور الملتوية، وجلس عليها وخلع النظارات، وأخذ يُفكِّر في خطوته التالية: هل يعود إلى القارب، ويَنفض يده من هذه المُغامَرة، أم يُحاول مرةً أخرى؟

وبعد فترةٍ من الراحة قرَّر أن يُحاول للمرة الثانية، وأشار بيده إلى الأصدقاء إشارة مشجعة، ثمَّ أخذ نفسًا عميقًا، وغاص مرةً أخرى في المياه السوداء. مندفعًا بقوةٍ داخل الممر المائي المُظلم محاولًا قطع أطول مسافة ممكنة قبل أن يحتاج إلى الهواء.

ظل «تختخ» مندفعًا تحت المياه، حتى قطع بضعة أمتار، ثم أحسَّ بصدره يضيق مرةً أخرى، ولكنه ظل مندفعًا حتى أحس أنه لن يستطيع المقاومة أكثر بجسمِه، وأخذ نفسًا عميقًا، ولحسن الحظ أتت إليه أنبوبة التنفس بكميةٍ من الهواء أنعشته، فأدرك أن سطح الممر الصخري قد وصل إلى منطقة مرتفعة تسمَح له بإخراج رأسه من المياه، وأحسَّ بقلبه يدق بشدة، فقد صحت نظريته، وهناك نفق تحت الماء يؤدي — كما توقَّع — إلى منتصف الجزيرة.

عندما رفع «تختخ» رأسه لم يرَ شيئًا، فقد كان الممر مظلمًا لا يكاد يرى فيه إصبعه، وأحس برهبةٍ قوية، أمام الصمت المخيف والظلام الدامس، وفكَّر لحظات هل يستمرُّ في التقدم، أم من الأفضل له أن يعود؟ إنه لا يَعلم إذا تقدم أي أخطار مجهولة في انتظاره، فقد تكون سمكة قرش ضخمة قد اختارت الكهف مكانًا تأوي إليه، أو يكون هناك أخطبوط يلتفُّ على ساقيه، وعلى كل حال فقد تأكَّد هذه المرة من وجود النفق، ويستطيع الرجوع الآن على أن يعود مرةً أخرى ومعه بطارية يستطيع أن يكشف بها عما يخفيه هذا الظلام من أسرار.

وهكذا أخذ نفسًا عميقًا، ثم غطس مرةً أخرى، وأخذ يشق الماء مسرعًا، حتى يصل إلى نهاية النفق الخارجي دون أن يشعر بالاختناق، ولكن قبل أن يقطع أكثر من مترَين، أحس بجسمٍ طريٍّ يصطدم بكتفه اليسرى بشدة، فارتطم بالحائط الصخري، وشعر بألمٍ فظيعٍ في كتفه اليمنى، وأدرك أن الصخور قد جرحته، لم يستطع «تختخ» أن يعرف ما الذي اصطدم به، هل هو شخصٌ آخر في النفق؟ أم هي سمكة قرش تشقُّ طريقها في المياه الساكنة؟ إذا كانت سمكة قرش فهو في خطرٍ حقيقي، فالدماء النازفة من جرحه سوف تشدُّ سمكة القرش إليه مرةً أخرى، فهو يعرف أنها تشم رائحة الدم في المياه، فتُصبح أكثر شراسة، وأشد خطورة.

كانت أفكار «تختخ» تبرق في رأسه بسرعة، وهو يفكر فيما يفعله، ولم يكن أمامه سوى حل واحد، أن يُسرعَ بالخروج من النفق، برغم الآلام التي كان يحس بها في كتفه، وهكذا أخذ يشق طريقه مسرعًا، متناسيًا آلامه، فقد كان خطر الغرق ماثلًا أمامه إذا لم يجد هواءً بسرعة، واندفع بأقصى قوته خارج النفق، ولم يكد يستنفد آخر قوته، حتى وجد الضوء يغمر المياه، فأدرك أنه قد وصل إلى خارج النفق، فاندفع خارجًا منه، وأحسَّ بالهواء يدخل رئتيه بقوةٍ آلمته، ولم يكد يطفو على السطح، حتى أحس باضطراب المياه خلفه، وأدرك أن عدوَّه المجهول قد عاد مرةً أخرى، فتحامل على نفسه، وصعد إلى صخرةٍ قريبة. والتفت ينظر إلى المياه، وإذا بعدوِّه المجهول … سمكة قرش متوسطة، قد فتحت فمها المقوس محاولة أن تلحق بقدميه، ودون أن يدري ماذا يفعل بالضبط، صوب بندقيتَه، وأطلقها في فم الوحش، فمضت الحربة كالرصاصة إلى داخل الفم المفتوح، واستدار الوحش غاضبًا وغاصَ في المياه.

شاهد الأصدقاء الثلاثة ما حدَث وكأنَّه حلم، وأدركوا أن الوحش سوف يجرُّ الحبل المربوط بين البندقية والحربة، وهو حبلٌ قويٌّ من «النايلون» مربوطٌ طرفُه في الحربة، والطرف الثاني في البندقية، حتى يتمكَّن الصائد من جذب السمكة إليه في الوقت المناسب، وسيجرُّ «تختخ» معه ما لم يُلقِ بالبندقية من يده، وبسرعة أدار «ياسر» موتور القارب، واندفع به إلى ناحية الصخور، مُحاولًا الاقتراب من «تختخ» بقدر الإمكان، وسمع «تختخ» موتور القارب، وشاهدَه يَقترب، وبكلِّ ما بقي به من قوة ألقى بنفسه في الماء مرةً أخرى سابحًا إلى القارب، ومد «عاطف» و«محب» أيديهما إليه، وانتشلاه من الماء، وكانت السمكة المتوحِّشة قد بدأت تشد الحبل، فأسرع «ياسر» يربطه بجانب القارب الذي أخذ يهتز نتيجة الجذب العنيف.

ترك «ياسر» القارب يسير على هواه، وأسرع إلى «تختخ» بعد أن شاهد الدماء تسيل على ذراعه، وكان في القارب أدوات للإسعاف السريع، ففتح صندوقها، ثم نظَّف الجرح بسرعة، ومسحه بمُطهرٍ وربطه، وكانت الأسئلة تنهال من الأصدقاء الثلاثة على «تختخ»، الذي كان، برغم آلامه يبتسم لهم مشجعًا. ثم قال «تختخ»: أرجو أن تهتمَّ بسمكة القرش، إنها أول سمكة اصطدتها في حياتي، فهل يُمكن جذبها إلى القارب؟

قال «ياسر» الذي عاد إلى عجلة القيادة: إذا حاولنا جذبها الآن فقد تقلب القارب أو تقطع الحبل، سوف نتركُها فترة، حتى ينزف دمها وتضعف، ثم نجذبها، وبينما كان «محب» و«عاطف» يحيطان «تختخ» برعايتهما، كان «ياسر» يقوم بمناوَراته لاصطياد السمكة المتوحشة.

لبس «تختخ» ثيابه وهو يقول: الحمد لله إن السمكة لم تُهاجمني في النفق، لقد كان في إمكانها أن تقضيَ عليَّ، ولكن لحسن الحظ أنني استطعت الوصول إلى نهاية النفق قبلها.

قال محب: قل لنا ماذا حدث بالضبط؟

تختخ: ليس الآن! المهم أن نصطاد السمكة، فهيا بنا نُساعد «ياسر»، وإذا كان معنا شاي، فأعطوني كوبًا منه.

أسرع «عاطف» يصب فنجان الشاي من «الترمس» في حين وقف «تختخ» بجانب «ياسر»، كانت السمكة قد خارت قواها، وبدأت تَفقد قوتها على الجذب، وطلب «ياسر» من «محب» أن يبدأ في جذب الحبل برفق، على أن يُرخيَه كلما جذبته السمكة بشدة.

وبرغم الآلام التي كان يشعر بها «تختخ» كان مبتهجًا، يرقب الصراع بينهم وبين الوحش في انفعال.

استمرت المناورات بعض الوقت، وأخذ الحبل يَقصُر تدريجيًّا، وهم يقتربون بالقارب على مهل من السمكة، وأخيرًا أصبحوا بجوارها تمامًا. كانت ما تزال تقاوم، ولكن في وهن. فقد ضعفت، وانتهت قدرتها على الصراع، وأخيرًا سكتت تمامًا.

فأوقف «ياسر» القارب قائلًا: أرجو أن نتعاون جميعًا على جذبها إلى فوق. ووقف الأصدقاء الأربعة معًا، وأمسكوا بالحبل، وجذبوا برفق. وأخذ جسم السمكة الرمادي اللامع يصعد من المياه شيئًا فشيئًا، ثم بدا بطنُها الأبيض. وفي جذبةٍ أخيرةٍ موفَّقة، استطاع الأصدقاء أن يلقوا بها في القارب، فارتعشت ارتعاشةً أخيرة، ثم همدت إلى الأبد.

كانت سمكة متوسِّطة الحجم، طولها نحو متر ونصف، وكان فمها مفتوحًا، وقد بدت أسنانها القوية تلمع في أشعة الشمس، وانفعل «محب» فأمسكَ بيد «تختخ»، وأخذ يهزها بحماس قائلًا: إنك مغامر عظيم … على البر … وفي البحر معًا.

ابتسم «تختخ» قائلًا: لقد كان هذا مجرد حظٍّ حسن، إنَّ التغلب على سمكة قرش يحتاج إلى مهارةٍ عظيمة، ولولا أنكم فكرتم بسرعة، لكنت أنا الآن مكان هذه السمكة.

أدار «ياسر» موتور القارب، واتجه إلى «أبو قير» مرةً أخرى، في حين جلس المغامرون الثلاثة حول السمكة، وقد استغرقتهم الأفكار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤