المقدمة

لما كانت بريطانيا العظمى وحلفاؤها تقاتل فيما بين أغسطس من عام ١٩١٤م ونوفمبر من عام ١٩١٨م من أجل المدنية، فلا يمكن — فيما أعتقد — أن يكون البحث فيما عسى أن تكون المدنية غير ذي موضوع، ولقد كان الناس يحسبون أن «الحرية» و«العدالة» من الكلمات التي تكلفنا كثيرًا، بيدَ أن كثيرًا من المفكرين من دافعي الضرائب دهشوا عندما أدركوا أن «المدنية» يمكن أن تكلِّف في اليوم الواحد من الملايين ما لا أذكر عدَّه، وأن قصة ظهور هذه الكلمة في قمة أغراض الحرب البريطانية عجيبة جدًّا، أجدني مدفوعًا إلى روايتها، حتى إن كانت أقل صلة بالموضوع، والواقع أني لا أستطيع أن أشرح كيف اتخذَت هذه المقالة شكلها النهائي إلا برواية هذه القصة.

إن أحكم الزعماء الذين قادونا إلى الحرب وخيرهم كانوا ينادون «إنكم تقاتلون من أجل المدنية» وتلقى الجند هذا النداء فقالوا: «التحقوا بالجيش من أجل المدنية»، وقد أفزعَتني هذه الحماسة المباغتة لمبدأ لم يُبدِ بشأنه الساسة وضباط التجنيد حتى ذلك الحين إلا قليلًا من الاهتمام، أو لعلهم لم يهتموا البتة به، فناديت بدوري: «وما المدنية؟» وأؤكد لكم أن ندائي لم يكن عاليًا؛ لأن النداء المرتفع بمثل هذه الأمور في ذلك الحين كان يؤدي بصاحبه إلى السجون. أما الآن — بعد أن لم يعُد السؤال جريمة أو خيانة وطنية — فإني أعتزم البحث فيما عسى أن يكون ذلك الأمر الذي من أجله قاتلنا ومن أجله ندفع. وفي نيتي أن أفحص هدفنا الأساسي من القتال. وسنرى إن كان بحثي سوف ينتهي إلى اكتشاف، وإن كان بين هذا الاكتشاف — إذا انتهيت إليه — وبين معاهدة فرساي أي وجه من وجوه الشبه.

دخلت إنجلترا الحرب — إن صح ما أذكر — لأن ألمانيا انتهكت إحدى المعاهدات، والرأي السائد أن حربًا أوروبية أفضل من ترك الإساءة بغير قصاص — أو كما يقول المثل: لتأخذ العدالة مجراها حتى إن أدت إلى انهيار البيت. وقبول هذا المبدأ المزعج بغير تعديل ربما أثار في العقول المفكرة إحساسًا بالقلق، وهو الإحساس الذي ربما دفع المحررين والساسة — الذين كان عليهم أن يبرروا لرواد الكنائس وقراء الصحف الأحرار إعلاننا للحرب — إلى تعزيز الباعث الخلقي بالباعث الديني. وأيًّا كان الدافع، فذلك هو ما حدث. فأعلن أحدهم، وربما كان مستر لويد جورج نفسه، أو على الأرجح مستر هوراشيو بوتوملي، هذا النداء الجريء:

«الصليب ضد کروب» ورحبت الصحف من بداية الأمر بالحرب باعتبارها أرماجدون (أي مسرحًا للنضال العظيم بين الأمم)، فبات من المعقول أن يكون قيصر ولهلم الثاني من أعداء المسيح. وليس من شك في أنه كان يشبه نيرون من بعض الوجوه — ربما كان تذوقه المزعوم للموسيقى— وكانت هناك إلى جانب ذلك نبوءات، وشارات، ونذُر في السماء، وملائكة تظهر في مونز، وكلها تميل إلى الدلالة على أن الله في جانبنا، وأننا على الأرجح نقف في وجه الشيطان. غير أن بعضنا لم يقنعه هذا التشبيه، وقد تذكروا ما اعتاد صاحب الجلالة الإمبراطورية من وضع كتيب صغير عنوانه «أحاديث مع يسوع» في أيدي الفتيات الصغيرات، ثم — فوق هذا — هل كان من حسن المجاملة أن نُصرَّ على أن هذا الأمر يبلغ مبلغ العقيدة، في حين أن الجمهورية الفرنسية لا تتقيد من الوجهة الرسمية بدِين، والميكادو يتبع العقيدة الشنتوية؟ وهل من الحكمة أن نزجَّ بإله المسيحيين في نزاع يتَّحد فيه الكفار الفرنسيون والجاحدون اليابانيون، والمسلمون والمجوس الهنود، والمتوحشون السنغاليون، ضد إمبراطور النمسا السابق، وهو تلك الدعامة من دعائم الكنيسة الكاثوليكية؟ ولذا، ففي الوقت الذي بدأنا نتساءل فيه إن كان من الجائز أن توصف هذه الحرب وصفًا دقيقًا بأنها حرب صليبية، اكتشف رجل حذر مثقف، أظنه من كتاب الملحق الأدبي بجريدة التايمز، بأن ما يهاجمه الحلفاء حقًّا هو نيتشه.

وكان هذا الاكتشاف في أول الأمر نجاحًا عظيمًا، وأصبح نيتشه هدفًا يصوِّب إليه كل منا حماسته وثورته البالغة، ويكفي لإدانته من جانب رجال الطبقة الحاكمة أنه كان ألمانيًّا وشاعرًا، وقد قيل عنه أنه يحتقر التوسط ومن ثَم كان لدى الطبقتين الوسطى والدنيا ما يبرر كراهيته، ليسقط نيتشه! وما أمتع الضرب في هذا السافل الدنيء! هذا الرجل الذي زعم أنه يسخر من الأحرار دون أن يُعجب بالاتحاد بين الأحرار؛ فلقد كان — كما يبدو — كأنه مصاب بالصرع وداء الخنازير، ولم يكن من الرجال المهذبين. وتحدثنا عنه إلى العمال. قلنا لهم: إنه نبي الإمبريالية الجرمانية، وشاعر بروسيا، وتابع دنيء من أتباع أشراف الشبان الجرمان، وإذا كان منا من درس شيئًا الأدب الألماني فخفت كراهيته وبلغت به الخيانة الوطنية أن يجادل في عقائدنا، وصمناه بالغدر وأسكتناه. تلك كانت خير أيام عام ١٩١٤م، حينما كانت فرنسا وإنجلترا تدافعان عن باريس ضد نيتشه. في حين كانت الآلات الروسية تدفعه من الخلف.

ومع ذلك، فإن هذا التحصين ضد نيتشه لم يكن كذلك باعثًا على تمام الرضا: أولًا لأنه مما يجلب على المرء الكآبة أن يقف موقف المدافع في كل مكان، وثانيًا لأنه كان من العسير أن تحكم على نيتشه، ومن الشذوذ — فوق ذلك — أن تحارب ضد رجل لم يَسمع بوجوده منذ ستة أشهر واحد في كل عشرة آلاف، وقد أردنا ألا نحارب ضد أمر من الأمور فحسب، بل أردنا شيئًا نحارب من أجله، من أجل ماذا؟ كانت بلجيكا دولة صغيرة جدًّا، بل بقعة قذرة، والمسيحية تجافي الحكمة، وتوازن القوى فكرة عتيقة، ونحن أنفسنا سببًا بعيد الاحتمال. تطلعنا إلى هدف سامٍ له رنين، وهو برغم هذا مألوف معروف، هدف يفخر به الناس أجمعون ويسرهم أن يدفعوا غيرهم إلى الموت في سبيله، سواء منهم المسيحيون واللادينيون والأحرار، والمحافظون والاشتراكيون، من يحب الحرب دائمًا ومن يؤمن ببغضها، ومن يغرم منهم بماري كوريلي ومن يؤثر عليها مسترولز، ومن يحب منهم الويسكي ومن يؤثر عليه ليدي آستور، وبعبارة موجزة: سواء منهم من يستمد الرأي من «الديلي نيوز» ومن يستمده من «الديلي إكسبريس». ثم حدث أن طرأ هذا الكشف النهائي الجميل — وهو أننا نقاتل من أجل المدنية — لذهن أكثر شمولًا، لذهن رجل لديه حسٌّ تاریخي وشعور بأهميته، لذهن رئيس الوزراء أو البروفسور جلبرت موري فيما أعتقد. ثم طرأ لذهني هذا السؤال العاجل: «وما هي هذه المدنية التي نقاتل من أجلها؟».

ولست آمل أن أقدم تعريفًا دقيقًا، فلقد كبرت الآن عن سن ذلك الوثوق الجليل الذي مكنني من أن أقول للعالم على وجه الدقة ما هو الفن في ستين ألف كلمة، ومع ذلك فكما يستطيع القائد البريطاني أن يشير اعتباطًا بطرف عصاه الغليظ إلى خريطة فرنسا، ويقول مخادعًا: إن هدفكم يجب أن يكون في مكان هنا على وجه التقريب، فإني كذلك ربما أستطيع أن ألوث بإشارتي مصورًا للآراء العامة وأقول: «إن المدنية تقع هنا على التقريب».

ولنبدأ برأي واضح مملول. يبدو أنه من المعقول أن نفترض أن المدنية خير. فإنها إن لم تكن كذلك لما كاد أن يتوقع أحد منا أن ندفع كل هذا من أجلها. وما دامت المدنية خيرًا، فلا بد أن تكون كذلك إما كغاية أو كوسيلة. إننا عندما نتحدث عن «مجتمع عظيم المدنية» قد نقصد «مثل المدنية الأعلى» أو «الكمال المطلق» أو «السماء»، وفيما عدا ذلك فإن المدنية ليست غاية من الغايات. ولما كنا عادة نتحدث عن عيوب المدنية ورذائلها، فإن ذلك يشير إلى أنها عند أكثرنا لا تعدو أن تكون وسيلة من الوسائل. إن السماء تتخطى حدود التمدن، وقد يبلغ المجتمع قمة التمدن، ومع ذلك يقصر عن بلوغ المثل الأعلى، ويترتب على ذلك أن الأمر الذي أنَا مقدِم على تعريفه، أو الذي أحاول تعريفه ليس الخير المطلق، ولكنه وسيلة معينة من وسائل الخير. وسوف أهتم فيما بعد بتقدير قيمته. أما في الوقت الحاضر فيكفي أن تتفق على أنه ما دامت المدنية خيرًا وما دامت حالات العقل الخيرة تُعد وحدها عادة غايات خيرة، فالمفروض إذن أن تكون المدنية وسيلة كحالات العقل الخيرة، وهذا بالطبع سبب آخر يدعونا إلى الابتهاج؛ لأن أولئك الذين كانوا يقاتلون من أجلها هم أولئك الذين فازوا في المعركة.

وإذا قلنا بأن المدنية وسيلة للخير، فلنذكر أن ذلك ليس معناه أنها الوسيلة الوحيدة. وأراني مضطرًّا إلى ذكر ذلك؛ لأن الرأي أخيرًا قد ساد بأنه ما لم تكن الوسيلة للخير هي الوسيلة الوحيدة، فإنها لن تكون البتة وسيلة، ومن أجل هذا لم يظفر العلم برضا جماعة من المفكرين. ولعلي أستطيع أن أقول جماعة من الكتاب، لغير ما سبب سوى أنه من رأيهم بل ومن رأي أكثر الناس، أن الدنيا التي لا يكون فيها إلا العلم دنيا تنقصها العاطفة وينقصها الجمال، كما أن الرأي الذي يقول بأن العاطفة والجمال والعلم قد تكون جميعها خيرًا رأي — لسبب لست أدرِيه — يمقُته العقل الخيالي الجديد المفزع، سواء في داخل البلاد أو خارجها. فالمدنية إذن ليست بالتأكيد هي الوسيلة الوحيدة للخير. وما دامت الحياة وسيلة ضرورية لحالات العقل بضروبها كافة، فهي وسيلة من وسائل الخير، وحيث إن الشمس والمطر من وسائل الحياة، فهما كذلك من وسائل الخير، وليس من شك في أن الحياة والشمس والمطر هي كذلك من وسائل المدنية، ما دامت المدنية بغيرها لا يمكن أن تظهر في حيز الوجود. ولكنها ليست هي المدنية، كما أنها ليست من وسائل الخير بمقدار ما هي من وسائل المدنية فحسب، بل إن الحياة والشمس والمطر والخبز والنبيذ والجمال والعلم والمدنية هي — في الواقع — جميعًا من وسائل الخير. وما ينبغي لنا أن نذكره هو هذا: إن الجمال وسيلة مباشرة للخير، والمدنية وسيلة وسط، في حين أن الشمس والمطر والحياة نفسها وسائل بعيدة وإن تكن ضرورية.

وما كنت لأنفق المداد والورق في هذا الغرض لولا أني أدركت أنه يؤدي إلى غيره، مطابق له، ومع ذلك كثيرًا ما يهمله حتى أولئك الذين يقبلونه في صيغته الأولى الجلية الواضحة، وبخاصة حينما يستحثوننا على أن نقوم بهذا العمل أو ذاك لصالح المدنية: ذلك أن المدنية لا يمكن أن تكون من وسائل الخير إلا إن كانت وسيلته الوحيدة، وبطبيعة الحال لو كانت المدنية هي الوسيلة الوحيدة للخير، لاستتبع ذلك أن يكون كل أمر يؤدي إلى الخير جانبًا من جوانب المدنية، وحيث إن المدنية ليست كذلك، فحري بنا ألا نخطئ في الاختيار والانتقاء. ليس من شك في أن الجن (وهو نوع من أنواع الخمر) والكتاب المقدس من وسائل الخير إذا تناولتهما أيد ملائمة في الوقت الملائم. ومع ذلك فنحن نتساءل إلى أي مدى يبرر التجار الأوروبيون والمبشرون صحة دعواهم من أن ما يحملونه إلى البلدان المتوحشة هو من المدنية. وكثيرًا ما كانت العقائد التي لا تنبني على العقل ولا تتسامح، والوطنية العمياء والولاء وسائل لحالات عقلية سامية، وللخير تبعًا لذلك، بيد أنها ليست بالمدنية، بل لقد دلت على أنها في أكثر الأحيان معادية لها. المدنية وسيلة معينة للخير. ويجب أن نحذر من أن نزعم بأن كل ما نحب أو نقدر جانب منها. يجب ألا نزعم أنها تشمل كل الفظائع المحببة إلى نفوسنا. فقد نؤثِر إيثارًا كبيرًا أكل شريحة من لحم الضأن المحمر على دراسة الميتافيزيقا. بيدَ أنه من حماقة الرأي أن نسلم — على هذا الأساس وحده — بأن أكل اللحم من بين هذين العملين العجيبين أقرب إلى المدنية، المدنية — وهي ليست الوسيلة الوحيدة للخير، وليست مجرد وسيلة للخير — وسيلة معينة، نستطيع أن نعتبرها عظيمة الأهمية، استنادًا إلى رأي ساسة الحلفاء، وإلى أسباب هي عندي أكثر متانة وأشد صلابة. ولا زلنا — برغم هذا — بعيدين عن اكتشاف ماهيتها.

إن هذه الصفة «متمدن» كما يعلم أولئك الذين قضَوا خير سنِي حياتهم في دراسة هذه الأمور من الناحية اللغوية، مشتقة من حالة للمجتمع اسمها باللاتينية civitas اشتقاقًا صحيحًا شائعًا. وحتى منتصف القرن الثامن عشر كان الفرنسيون يشتقون وصفهم «المتمدن» من الاسم اليوناني «للمدنية»، وعندما نتحدث عن عصر متمدن نقصد أن المجتمع الذي يعيش في هذا العصر مجتمع متمدن. «المدنية» — على الأعم والأصح — تُنسب إلى جماعة بشرية مؤتلفة منظمة، وهي — في استعمال أقل في عمومه وفي صحته — تُنسب إلى أشخاص، أو مواطنين. غير أن العقل الذي لم يتدرب على التصريف والاشتقاق — حتى هذا العقل يستطيع أن يدرك أن المدنية في الواقع لا بد أن تكون من إنتاج الأفراد المتمدنين، وأن أي محاولة لفهم طبيعة هذه الظاهرة أو لتعليل وجودها تؤدي حتمًا ومباشرة إلى البشر الذين يبدعونها ويحافظون عليها، والإدراك العام المجرد — فوق هذا — يدلنا على أن الفرصة أمامنا للحكم على الأفراد أجدى وأقرب إلى الاحتمال بكثير من أية فرصة نأمل أن تتاح لنا للحكم على هيئة غامضة متعددة الجوانب كالدولة أو المجتمع. الإنسان قريب التناول، وتستطيع أن تقول شيئًا يقرب من التحديد عن رغبات أو ميول جون سمث أو دي سنج، ولكن أي شيء دقيق تستطيع أن تقول عن بريطانيا العظمى أو الصين؟ إذا تحدثنا عن «شرف الصين» أو «مصالح إنجلترا» فمن المستحيل أن نعني شيئًا محددًا، ومن غير المحتمل أن نعني البتة شيئًا. فليست لجميع سكان بريطانيا العظمى نفس المصلحة، وليست لجميع أهل الصين نفس المشاعر. ولكنا نستطيع أن نعين في وثوق العاطفة التي تتحكم في رجل صيني بعينه، وأن نتابع في يقين نوعًا من السلوك يكون في مصلحة سمث. ولو أن إنجلترا امتنعت عن إعلان الحرب على ألمانيا لما استطاعت أن ترفع رأسها مرة أخرى كما يعلم كل منا، ولكني أستطيع أن أقول إن سمث يستطيع أن يشمَخ بأنفه.

ولما كان الأمر كذلك، فربما يتوقع مني القارئ أن أبدأ بحثي في طبيعة المدنية بأن أحاول الكشف عن العناصر التي يتكوَّن منها الرجل المتمدن، ذلك هو الترتيب المنطقي، غير أن هناك ما يعوق اتباع هذا الطريق. ذلك أن الرأي العام قد يتفق كل الاتفاق على أن جماعات بعينها كانت متمدنة، بل وضالعة في المدنية، في حين أن الرأي لا يمكن أن يجمع بهذه الصورة على الأشخاص. ولما كان مرماي البعيد أن أكشف عن ماهية المدنية، فإن أولى محاولاتي ستتجه نحو اكتشاف الخصائص التي تتميز بها الوحدات المتمدنة باعتراف الجميع. وإذا كنت سأبحث في «الجماعة المتمدنة» قبل أن أبحث في «الفرد المتمدن» فمردُّ ذلك إلى أن لدينا عن الجماعة المتمدنة «نماذج» يقرها العالم بأسره.

ولكني لن أبدأ بهذا أو بذاك، بل سوف أبدأ بوَحدات يعدها العالم طُرًّا غير متمدنة؛ إذ لو صدق حكمي على خصائص هذه الوحدات لوجب أن أصل إلى نتائج معبرة سلبية لها أهمية أساسية، فسوف أعرف ما ليس بالمدنية، ولا يمكن أن تكون إحدى خصائص الجماعة المتوحشة مميزًا من مميزات الجماعات المتمدنة. لا يمكن أن تكون إحدى تلك الخصائص المميزة التي أبحث عنها والتي تفرق بين المدنية والوحشية. ولا يمكن أن تكون من روح التمدن. ولن أحاول أن أكتشف ما هي المدنية بالبحث عن روحها في النماذج التي يقرها العالم طُرًّا حتى اكتشف ما ليس بالمدنية. وعندما ألتمس — إن استطعت ذلك — صفات مشتركة في هذه النماذج لا وجود لها في الجماعات المتوحشة أكون قد انتهيت من الجانب الأول من عملي؛ عندئذ أكون قد اكتشفت الصفات المميزة للمدنية.

سوف أصوغ نظرية محكمة. وإن كنت أريد أن يشاركني قرَّائي فيها فلا بد أن أقيمها على فروض تبدو لهم عادلة. أعني أنه لا بد لي من أن أستخلص الخصائص المميزة للمدنية من النظر في وحدات يقرُّ لها الجميع بالتمدن أو بعدم التمدن. والوحدات الوحيدة — كما ذكرت من قبل — التي يُجمع الرأي فيها حقًّا على تمدنها أو وحشيتها هي المجتمعات؛ ومن ثم تحتم عليَّ أن أبحث عن الصفات المميزة في المجتمعات لا في الأفراد، فإن وجدت هذه الصفات استطعت أن أواصل البحث في مصدرها الذي لا يمكن أن يكون إلا في عقول الرجال والنساء. وإن جماعة من هؤلاء — كما سيتبين لنا — لهي المنبع الحق. وإذا أرسلنا خيالنا إلى حد البحث فيما إذا كنا بتعزيز الأسباب نأمل أن نضاعف النتائج — أي هل نستطيع أن نزيد من المدنية — فلا شك في أننا سنجد أنفسنا مضطرين إلى البحث عن الوسائل التي يمكننا أن نخرج بها أعدادًا وافرة من أناس ذوي مدنية رفيعة. أما في الوقت الحاضر فلا بد لي من الاتجاه إلى المجتمعات أتلمس فيها الخصائص التي أبحث عنها، ففي المجتمعات وحدها توجد النماذج التي يجمع الرأي على توحشها والنماذج التي يجمع على تمدنها. هناك من هذه المجتمعات اثنان أو ثلاثة على الأقل لا يعارض في سمو مدنيتها أي فرد أصاب من التعليم قدرًا معقولًا. وسوف أتخذ هذه المجتمعات نماذج الكمال. وهناك ثلاثة أو أربعة مجتمعات أخرى كثيرًا ما عدت من بين المجتمعات ذات المدنية الرفيعة، غير أن حقها في هذا الوصف محل تنازع خطير يستند إلى دواعٍ قوية؛ ولذا فلن أتجه إليها.

وكما أن هناك مجتمعات متمدنة باعتراف الجميع، فهناك أخرى يتفق العالم كله على وصفها بالوحشية، وقد تعجب بهذه المجتمعات الوحشية. وقد تعشقها — أو تحسب أنك تعشقها — أكثر مما تعشق المجتمعات المتمدنة. غير أن الإجماع ينعقد على نعتها بالوحشية حتى إن علماء الأنثروبولوجيا يقصدونها ليتلمسوا فيها حال الإنسان البدائي خلال تلك القرون البعيدة أو العصور السحيقة حينما كان ينتقل من البهيمية أو على الأقل من العصر الباليولتك إلى العصر النيوليتك، وقد قام هؤلاء الأنثروبولوجيون العجيبون بدراسات دقيقة في عادات ومعتقدات أكثر الناس وحشية من بين هذه الأقوام المتوحشة، ومن دراساتهم آمل على الأقل أن أعرف ما ليس بالمدنية، ولنذكر أنه ما من صفة — مهما تكن شريفة — يمكن أن تكون من الخصائص المميزة للمدنية، إذا كانت مما تتصف به الجماعات المتوحشة. إن المجتمعات المتمدنة قد تشاطر الجماعات المتوحشة مثل هذه الخصائص بطبيعة الحال، وقد تتصف بها إما كصفات مشتركة بين أفراد البشر جميعًا، أو كأثر من آثار البربرية، وكذلك قد تكون هذه الصفات ذات قيمة وجاذبية، وقد يتصف بها كثير من الشعوب ذات المدنية الرفيعة أو أكثرها ولا تقتصر البتة على المتوحشين. ولكن حيث إنها ليست خاصة بالمجتمعات المتمدنة، فلن تعيننا على التعريف، ومع أن بعض الخصائص التي تشاطرها الجماعات المتمدنة مع المتوحشين تشيع بين جميع المجتمعات المتمدنة، إلا أنها ليست من مميزاتها التي تختصُّ بها. وإنما نبحث عن الصفات المميزة (أو الخصائص). نريد خصائص شائعة بين جميع المجتمعات ذات المدنية الرفيعة تخلو منها الجماعات المتوحشة. ولا نأمل أن نعرف ما هي المدنية إلا بعد أن نستخلص هذه الخصائص.

فواجبي الأول إذن هو أن أزيل الموانع من الطريق. يجب أن أستبعد تلك الخصائص التي كان من الممكن اعتبارها من علامات المدنية لولا أن أسفل القبائل المتوحشة وأشدها تأخرًا تشاطر المجتمعات المتمدنة فيها، ولهذا الغرض ينبغي أن أكتب فصلًا علميًّا، يبحث في أسفل صفحاته بعض القراء الذين لهم حق التشكك في علمي عن حشد غزير من الحواشي. بيد أنهم سيبوءون بخيبة الأمل. ففي مقالة خفيفة سطحية كهذه لا تجد الحواشي المستفيضة مكانًا لها. ولا بد أن يوجد منها القليل، ولكنه القليل فحسب. وقد رجعت في أكثر ما ذكرت في الفصل الأول إلى ذلك المؤلف الثَّبت الذي وضعه وِسترمارك تحت عنوان «أصل الآراء الخُلُقية وتطورها». هنا يجد القارئ المتشكك الدليل قائمًا على كل حقيقة مذكورة، بل أكثر من هذا، هنا يجد القارئ سردًا رائعًا لعقائد الشعوب المتوحشة وأخلاقها، سردًا يستند إلى العلم الرصين، مؤيدًا بالمراجع العديدة، وموضحًا بالطرائف التي تأخذ بالألباب. أما عن الحواشي، فإن اعتراضي عليها في الأدب الخفيف هو أنها تصرف العين من جهة، وهي في أغلب الأحيان — من جهة أخرى — حيلة للتخلص من العمل البغيض الذي يتطلبه تشكيل كتل جامدة من المادة الخام في صورة مقبولة. وإذا تسامحنا في قبول عادة تكرار طبع المقالات وجب أن نتسامح كذلك في هذه الحواشي المطولة المزيدة. فهي تتمة لا مفر منها للصحافة التي تزعم لنفسها الخلود. أما في مقال خفيف ينمُّ عن الصياغة المجملة من أول لفظ إلى آخر لفظ فيه فهي عادة دليل على الضعف وأمر يشق احتماله. ولست أكره التظاهر بالمعرفة، بل إني على النقيض من ذلك أشعر — كما يشعر غيري — بالروعة التي يُسبغها على الصحيفة الاقتباس الموفق أو الاسم المهيب، وكذلك لن يفوت على القارئ المستبشر الذي يتحول إلى عقيدتي راحة الضمير وثبات العقيدة عندما يصادفه خلال النص بعض هذه الاقتباسات والأسماء الجليلة، ولكني عندما اضطر إلى الإدلاء برأي من تلك الآراء التي تنتزع من القارئ المعادي صيحة يعبر بها عن تكذيب ما أذكر — عندئذ فقط سأضطر إلى الإشارة في هامش الكتاب؛ كي أردَّ عن نفسي الاتهام.

من أجل هذا حاولت أن أُدخِل السرور على مثل هذا القارئ بوصف مقالتي هذه بالخفيفة السطحية، وأؤكد أنها ستكون خفيفة بكل ما في الكلمة من معنى، وربما كانت كذلك سطحية، ولكني عندما استخدمت هذه الكلمة كنت أفكر قبل كل شيء في أحدث دلالاتها. قصدت أنني سوف أحاول أن أكون مفهومًا، وإني لأعطف على أولئك الكُتاب الذين أرغمهم الفقر أو مقتضيات الخدمة الحربية على الانصراف عن التعليم، وإني لأدرك تمام الإدراك لماذا يعرضون عن أولئك الذين كان هدفهم التعبير عن الآراء في بساطة ووضوح وإيجاز بقدر الإمكان. إن أمثال هذه الأساليب اليائسة تختصر أطول الكتب التي ألفها كثير من خيار أنبيائنا إلى صفحات قلائل. فإذا لم يكن لديك الزُّبد الذي تكسو به الخبر، فإنك لا تستطيع أن تكسو خبزك بطبقة رقيقة منه. وفي مثل هذا القحط، لا يكون بوسعك إلا أن تغوص في الرغيف متعجبًا. ويُسمى هذا في الأدب تعمقًا. وبالرغم من أن هناك من القراء مَن يغوص إلى أعمق الأعماق فلا يلاقي هناك أصغر ذرة من الزبد الصناعي فيتشجع على وصف هذه الأعماق بالفراغ — برغم هؤلاء نجد أن الأسلوب العميق يَلقى التقدير عادة في أجزاء من أوروبا وأمريكا يتصفُّ أهلها بالنشاط وخفة الحركة. وعلى أية حال، فإن صفات الفئران العمياء التي تثقب الأرض وعمال المناجم الذين يغوصون فيها هي عندي من قبيل التظاهر. ثم إن مقالًا من هذا النوع — فوق هذا — يختلف عن الشعر الحديث والفلسفة والخيال الفلسفي الحديث في أنه لا يأمُل أن يلقى إعجابًا من ذلك الجمهور الضخم الذي يغفل — خلال بحثه عن الحياة — كل الفوارق الدقيقة بين الكلام المعقول والكلام الفارغ. إني لا أجرؤ أن أكون عميقًا. وأصارحكم القول إن كاتب هذا المقال كان يودُّ أن يدبجه بكل ما أوتي منتسكيو وهيوم وفلتير من وضوح قليل الغور لو أنه عرَف سر سطحيتهم.

وسوف أحاول أن أكون مفهومًا لأني أود أن يدرك القارئ ما أقول. ولنفس هذا السبب سأكرر ما أقول، وكان من الممكن أن أتعلم من لوحات الإعلانات — من زمان بعيد — أن تكرار القول هو وسيلة الإقناع، ولكني في حداثتي كنت غِرًّا لا أفهم الناس، فكنت أعتقد أني لكي أنقل إليهم ما أريد ليس عليَّ إلا أن أذكره مرة واحدة في وضوح، وكان في دار النشر لأصحابها السادة شاتو ووندس رجل في مثل سذاجتي، اطلع على مسودات كتابي الأول عن «الفن»، فأشار في رقة بالغة إلى أنني في نقطة من نقاطه — تعريف العمل الفني — ربما بالغت في التكرار. نعم لقد فعلت: و«القارئ» كفرد فذٍّ كان مصيبًا كل الصواب، ولكنه كان مخطئًا باعتباره ناشرًا، بل إني لم أكرر القول بالقدر الكافي للجمهور. وما برح النقاد والأكفاء في إنجلترا وأمريكا حتى اليوم يذكرون أني قصدت «بالعمل الفني» ما قلت على وجه الدقة مرارًا أني لا أعنيه؛ ومن ثم فإني أرجو أي قارئ يلاحظ أني في هذا المقال أكرر القول مرارًا أن يتفضل بنسبة ما عند المؤلف من إملال إلى خصيصة من خصائص القراء عامة (خصيصة لست بحاجة إلى أن أقول إن السيدة أو السيد الذي تسوقه المصادفة إلى مطالعة هذه الكلمات لا يتصف بها).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤