ما ليس بالمدنية

ليس احترام حقوق الملكية من خصائص المجتمعات المتمدنة وحدها. حقًّا إن الحيوان ليس لديه هذا الاحترام، كما أنه ليس لديه آلات من حجر الصوان. وعند الإنسان المتوحش هذا وذاك، وهذا ما يُميزه من الحيوان، ولكن لا يجعله إنسانًا متمدنًا. إن آلات الصوان واحترام حقوق الملكية قد تكون من وسائل المدنية، غير أن الإحساس بهذه الحقوق لا يمكن أن يُعد خصيصة من خصائص المدنية، شأنه في ذلك شأن آلات الصوان، بل إن كثيرًا من الأغنياء والمفكرين اعتنقوا رأيًا يناقض هذا الرأي. غير أن وِسترمارك يقول لنا إن قبائل متوحشة عديدة عندها من دقة التفرقة بين «مالي» و«مالك» ما عند قاضٍ إنجليزي، وتكاد السرقة أن تكون مجهولة بين هنود أمريكا الشمالية حتى جاء الجنس الأبيض الذين من الإنصاف أن نذكر أنهم بذلوا قصارى جهدهم في موازنة أي ضرب من ضروب الانحلال الخلقي ربما أدخلوه معهم بإرسال المبشرين يذكرون الأهالي بأن العقوبة الأزلية تنتظر أولئك الذين يخالفون الوصية الثامنة. وعلى أية حال، يجب ألا نظن أن الاعتقاد في الله والحياة الآخرة مقصورة على المتمدنين — وليس هذا الاعتقاد هو خاصيتهم الأولى، بل على نقيض ذلك، نجد أن لدى معظم الأجناس المتوحشة عقيدة حية في الإله، وكثير منها يأكله. وأحط سكان الغابات بأستراليا — وربما كانوا أشد المتوحشين توحشًا — يعتقدون في وجود كائن أعلى يضع القوانين الخلقية ويحكم بينهم، بل إنهم ليسمونه «الأب» ويعبدونه في صورة سيد عجوز. إن المتوحشين قلما ينكرون وجود الله. وهم مثلنا يتطلعون إلى مستقبل أعظم.

وفي المجتمعات العامة سمعتُ السيدات يقلن: إن مقياس مدنية الشعوب هو المكانة التي تخصُّ المرأة بها. ترتفع المدنية أو تنخفض بارتفاع مكانتها أو انخفاضها، غير أن هذا يخالف الواقع، فإن للمرأة عند سكان جزر أندمان، وعند البوشمان والفيدا — وليس بين الناس من هم أقرب منهم إلى الحيوانية، كما يقول وِسترمارك — اعتبارًا أكبر مما كان لها عند الأثينيين لعهد أرسطو. وبينما نجد أن الذكور في كثير من القبائل المتوحشة — برغم حيوانيتهم يستكينون لزوجاتهم ويضعونهن في مستوى يدنو من مستواهم، كان الصينيون في عصر تانج وعصر سونج — وهما العصران اللذان اشتهرا بالمدنية — لا يرفعون زوجاتهم فوق قدر الماشية إلا قليلًا، ومن الواضح حقًّا أن كثيرًا من أكلة لحوم البشر يمتلكون عددًا لا يُحصى من الفضائل العائلية؛ إذ يتصفون بالرفق والأمانة والجد، والكرم مع أفراد قبيلتهم، والجود مع الأغراب. ويترتب على ذلك فيما يبدو أن ما عند عامة البريطانيين من فضائل ليس خاصًّا بالجماعات المتمدنة. وكثيرًا ما أذهل المكتشفين صِدق المتوحشين. ويقال: إن الفيدا من أهل سيلان نماذج تحتذى في الصدق، والأندامان الجزريون والبوشمان «يعتبرون الكذب إثمًا كبيرًا»، في حين أن سمعة الإغريق وأهل كريت سيئة في هذا الصدد، وفي حين أن سكان قارة أوروبا يصفون بريطانيا العظمى بصفة خاصة؛ إذ يطلقون عليها «الغادرة». وكثير من المتوحشين لا يتصفون بالصدق فحسب، بل يتصفون كذلك بالنظافة. فالميجي، وهم شعب ساحل الذهب البائس، الذين يخضعون لأولئك المتوحشين المعروفين باسم منتبي «يغتسلون مرتين أو ثلاث مرات في اليوم» ويغتسلون اغتسالًا كاملًا، فكم أوروبي من نهاية الإمبراطورية الرومانية حتى اعتلت الملكة فكتوريا العرش اغتسل اغتسالًا كاملًا مرة في كل عام؟

كما أن عادات كثير من الشعوب المتأخرة فيما يتعلق بذلك الموضوع الهام — موضوع الأخلاق الجنسية — ليثير فينا الحقد إزاءهم. إن شأنهم في ذلك شأن بزول «ينظرون إلى الزنا بعين الفزع»، فالقبائل التي تقطن غابات البرازيل — على سبيل المثال — تتزمت في التزام الزواج من واحدة، وكذلك يفعل الكثير من قبائل كلفورنيا، ومن المؤلم بل ومن العجيب أن البروفسور وِسترمارك — برغم هذا يصف هذه القبائل بقوله: «إنها من جنس منحط وضيع .. وهي من أحط القبائل على وجه الأرض» «والكاردوك لا يسمحون بتعدد الزوجات حتى لزعمائهم، وقد يمتلك الرجل ما يستطيع شراءه من إماء، إلا إنه يجلب على نفسه العار لو أنه عاشر أكثر من واحدة». فإن ذلك يشبه عندهم أن يضاجع الرجل المتزوج طاهيته. ولست على ثقة تامة بما يعني الأستاذ وِسترمارك بقوله بأن الزواج من واحدة بين قبائل الفيدا والأندمان الجزريين قاعدة يصر الرجال على التزامها بصرامة إصرار الرجال في أية بقعة من بقاع أوروبا، ولكن الأهالي في كارنيكوبار — على الأقل — لا يجلبون اللوم على أنفسهم في هذا. فالرجل من هؤلاء المتوحشين المحترمين له زوجة واحدة، ويعتبر انعدام العفة إثمًا مميتًا، ويعاقب عندهم — وعند كثير من القبائل المتوحشة الأخرى — مَن يخالف هذه القاعدة بالنفي أو بالموت. يقول وِسترمارك: «مما يستحق الذكر أنه ينتمي إلى هذه المجموعة من الشعوب (المجموعة ذات الإحساس الرقيق في هذه الأمور) متوحشون من طراز منحط كالفيدا من أهل سيلان، والإيجوروت من أهل لوزون، وبعض القبائل الأسترالية». وكان يحق له أن يضيف إلى ذلك أنه مما يستحق الذكر أنه بينما يعتبر أسفل المتوحشين انعدام العفة جريمة شنيعة، فإنها كانت تعتبر في أزهى عصور التاريخ زلة صغيرة على أسوأ تقدير. وخلافًا لما كان عليه أهالي كارنيكوبار كان أعمق الناس فكرًا وأشدهم حساسية في ألمع العصور التاريخية يغضون الطرف عن خطيئة الزنا الشنيعة، بل لقد نادى أفلاطون بشيوعية النساء. وكان للعفة وزن خفيف في حلقة القبياديس، وبلاد هادريان، وحدائق مديشي، وفي الصالونات التي صاغ فيها فولتير وهلفيشيس وديدرو نمطًا عقليًّا جديدًا بشروا فيه بفلسفة اللذة. ويبدو أن سقراط وشيكسبير ورفائيل وتيتيان وقيصر ونابليون ودوق ولنجتون وجورج إليت ذاتها قد عاشوا حياة تجعلهم غير صالحين لأحسن مجتمعات إيجوردت في لوزن. ولم تكن الحال خيرًا من هذا في العصور العظيمة من تاريخ الصين. ولذا، فحيث إن أهالي كارنيكوبار يعتبرون انعدام العفة إثمًا مميتًا، فنحن مرغمون على الحكم بأن العفة ليست خصيصة من الخصائص المميزة للمدنية.

ودعنا لا نداهن أنفسنا فنحسب أن حب الوطن فضيلة من فضائل المدنية المميزة لها. فقد عرف بها هنود أمريكا الشمالية، حتى لقد قال كارفر عن النودواسيس: «إن أول عاطفة وأقواها تملكًا لقلوبهم هي الشعور بشرف قبيلتهم، وسعادة أمتهم»، وكتب ماك جريجور عن اليوروباس في غربي أفريقيا يقول: «ليس بين البشر جنس أشد منهم إخلاصًا لبلده»، ومع ذلك فهذه القبيلة — إن صح ظني — قد اتهمت بأكل المبشرين، وكذلك «كثيرًا ما يموت السلومون الجزريون من الحنين إلى الوطن وهم في طريقهم إلى مزارع فيجي أو كوينزلاند» وطبقًا لما يقول مستر وليامز أخذ أحد أهل فيجي عند زيارته للولايات المتحدة — بناء على أمر من سيده — يعدد الأوجه التي تتفوق فيها هذه البلاد على بلده، فأسكته على الفور المستمعون من أهل وطنه، وصاحوا قائلين: «إنه رجل ثرثار وقح: اقتلوه» ومهما يكن من الأمر في موضوع العفة، فإنه من الواضح أن شعلة الوطنية تتأجج ناصعة في جزر فيجي كما تتأجج في أي جزء من أجزاء أوروبا. وبالرغم من أنه قلَّ من الأمم الحديثة مَن يتعلم منهم الكثير، فإن كثيرًا من الشعوب المشهورة من قديم ربما أفادت من مثالهم. فأهل الصين مثلًا سرعان ما تعلموا — بعد عهد کنفیوشس — من فلاسفتهم أنه يجب علينا أن نحب الناس جميعًا على السواء. «وطبقًا للكتاب الهندي المسمى بانشا تنترا أنه لا يعتبر الرجل واحدًا منا أو غريبًا عنا إلا ذوو العقول الضيقة». وقد قال ديموقريطس الأبدري: «إن كل بلد مطروق عند الرجل الحكيم، وأن الأرض بأسرها وطن كل مَن كان له قلب كريم». كما أن القورنيائيين والكلبيين الأواخر عدُّوا الوطنية سخرية من السخريات، وتطورت عقيدتهم إلى تلك العالمية الرواقية المتسامحة التي اعتنقها سنيكا وابكتيتس وماركس أوريليس. وكان حكم فلتير النهائي وهو يتكلم عن الحرب: «وأنه من الجلي أن بلدًا من البلاد لا يكسب إلا إذا خسر الآخر، ولا يستطيع أن ينتصر دون أن يخلف كثيرًا من البائسين».

وأعتقد أنه يجب أن نقرَّ أن الإحساس بحقوق الملكية، والصدق، والنظافة، والاعتقاد في الله والحياة الآخرة والعدالة الأبدية، والشهامة، والعفة، بل والوطنية، ليست جميعًا بين الصفات المميزة للمدنية، وإن تكن — برغم هذا — من وسائل المدنية، بل ومن وسائلها القوية الفعالة. ومن الواضح أن روح المدنية شيء لم يحققه المتوحشون؛ ومِن ثَم فلا يمكن أن يتوقف على الفضائل البدائية، وأن المفارقة بين المتوحش النبيل والرجل المتمدن التي جرت على الألسن في المائتي سنة الماضية لتدل على إجماع الرأي على أن المدنية ليست إنتاجًا طبيعيًّا. ويجب أن نتوقع أن يكون لها شأن بالصفات التي اكتسبتها الإنسانية أخيرًا — الشعور بالذات وروح النقد. يجب أن نتوقع أن تكون نتيجة من نتائج التربية، فالمدنية شيء مصطنع.

غير أن هناك رأيًا متخلفًا يستند أساسًا إلى علم ناقص يتمَشدق به المدعون وأنصاف المتعلمين. والمدنية بناء على هذا الرأي تتوقف على الخضوع المطلق لقانون الطبيعة.١ والشعار الذي ينادي به أصحاب هذا الرأي هو «خل الطبيعة وشأنها»: إن مملكة الحيوان ومملكة النبات هما مثال التمدن. وهم يقولون بأن الإنسان قد أفسد الأمور؛ لأنه لم يسمح للأصلح بالبقاء، ولن نكون حقًّا متمدنين حتى نترك الضعيف للموت، وحتى نُقرَّ بصفة رسمية أن القوة هي الحق. عندئذ يرث الأرض الصالحون. وهنا يتبادر إلى الذهن بالطبع هذا السؤال: ومَن هم الصالحون؟ إذا كان الناقصون من الناحية الجسمانية قد نجحوا في تنظيم المجتمع بحيث أصبح طلبة جامعة لندن لا يخشون بأس رجال الشرطة الذين يحدقون بهم، أفلا يجوز أن يكون ذلك لأن الناقصين من الناحية الجسمانية هم المتفوقون في الناحية العقلية؟ وإذا وثقنا فيما روته كتب المراجع، فقد كان التطور نتيجة للمكر كما كان نتيجة لقوة الأعصاب. ألم يكسب الإنسان ذلك الحيوان الثديي الضعيف في معركة البقاء ما لم يكسب الماموث الضخم العظيم، وحتى بين بني الإنسان ربما لم يبقَ إلا مَن كان أصلح للبقاء. يبدو لي أن حجة الطبيعيين متناقضة، إذا كان بقاء الأصلح من قوانين الطبيعة، فإنا نستطيع أن نفترض أن الأصلح للبقاء هم الباقون فعلًا. وليس من غير المحتمل أن تصبح الحرب الحالة الطبيعة للبشر، وإذا كان الأمر كذلك فإن المستقبل سوف يكون مع أولئك الضعفاء الماكرين الذين يكيفون أنفسهم لظروفهم بابتداع الوسائل التي يتحاشون بها الخدمة العسكرية، كما حدث في العصر الجليدي أن بقيت تلك الأنواع التي عرفت كيف تحمي نفسها من حدة المناخ. يقول طلاب العلم: «لقد تدخلتم مع قانون الطبيعة»، ونجيبهم بقولنا: «هذه هي طبيعتنا».

وأخشى أن يطرق أذن العالم البيولوجي المتحمس كلامي هذا كما لو كان سفسطة وشرًّا. وإذا ما أدرك أنه ينهزم في الجدل فالأرجح أن يلجأ إلى قواعد الأخلاق. وقل من يستطيع أن يتكلم بنغمة خُلقية عالية مثل رجل العلم الذي لم يتم نضوجه. فهو يصِم — وضميره مطمئن — بالميوعة والتقلب والخيانة والجبن والوضاعة والسخف والاندفاع وراء العاطفة. والشر المطلق — يصِم بهذا كل من يعتقد أن من واجبنا ألا نهمل الكسيحين من الأطفال حتى الموت، وألا نخنق الفنانين المصابين بالدرن، وألا نكِل إلى البروفسور راي لانكستر اختيار حبيباتنا. يقول هؤلاء العلماء ساخطين: «ينبغي لنا» ولكني أتساءل: أليسوا في هذا أيضًا متناقضين؟ ليس في الطبيعة ما «ينبغي» وإنما فيها ما «يكون». حينما يقول العالم البيلوجي: إنه لا ينبغي لنا ألا نتدخل مع الطبيعة، فهو يزِن الرأي وزنًا خلقيًّا لا طبيعيًّا. وإذا كانت المعايير الخلقية تتخذ أدلة في صالح قانون الطبيعة، فهي يمكن أن تتخذ أدلة ضدها بنفس القوة، فنستطيع أن نقول: إنه مما يؤذي حسنا الخلقي أن نقتل الأطفال والشعراء والمصابين وكل من يفقد الأمل في بلوغ المستوى (ب-١) من الكفاية، فإن مثل هذا العمل لا يؤدي في حكمنا إلى حالات عقلية طيبة. ويقول طالب العلم عابسًا: «حسنًا، ولكن ثِقوا أن الإنسان إذا رفض أن يطيع قانون الطبيعة لا بد أن يهلك»، فنجيب قائلين: وإذا كانت الغاية والغرض الوحيد من وجود الإنسان ليس إلا أن يحافظ على نوعه، وإذا لم تكن للفرد قيمة إلا أن يكون وسيلة لهذه الغاية، فهل يكون ذلك أمرًا ذا بال؟ إنه إذا تحتَّم على أي نوع من أنواع القردة أن يفنى فإن ذلك لا يعني البتة شيئًا، وإذا كان الإنسان لا يعيش لأي غرض سوى ما يعيش من أجله القردة، فإن استمرار بقائه يصبح كذلك عديم الأهمية. أما إذا سلمنا بأن الإنسان يعيش من أجل غرض آخر غير الاحتفاظ بنوعه انهار البناء الشامخ كله من أساسه. إذ ربما كانت من أجل هذه الأغراض الأخرى عينها حمايتنا للضعيف واحترامنا للفرد.

إن المشكلة التي أردت أن أجلوها لمصلحة طالب العلم في ساوث كنزنجتين هي هذه: إما أن يكون الحق فيما هو كائن، أو أن الإنسان أوسع معرفة من الطبيعة، وليس في الحالة الأولى ما يدعو إلى الاعتراض، أما في الحالة الثانية فإن لدى العالم البيولوجي مجالًا أوسع للاعتراض. فالماستدون (حيوان منقرض يشبه الفيل) بعدما فشل في نضاله من أجل البقاء، تلاشى من الوجود، وأخذ مكانه نوع آخر يحمل رسالته، رسالة الاحتفاظ بالجنس، وهكذا سارت الأمور سيرًا حسنًا. وكذلك إذا فني جنس علماء سوث كنزنجتين، وحل محله جنس آخر أقدر منه كفاية من الناحية البيولوجية، فماذا يكون الضرر من ذلك؟ إن الأمور هكذا تسير كذلك سيرًا حسنًا، ويتحقق غرض الطبيعة. لماذا نأخذ على عواتقنا الاحتفاظ بعلماء سوث كنزنجتين ما لم نعتقد أن هدفهم يختلف عن هدف الطبيعة ويدق عنه؟ هنا يقاطعني القارئ متسائلًا: «لماذا تفضح نفسك بهذا الانفعال وتلك الإطالة؟ لا شك أن عبارتين اثنتين كانتا تكفيان لإقناع أي فرد بأننا لا نعني بالجماعة المتمدينة نوعًا كامل التنظيم لمجرد الاحتفاظ بنفسه؟ أليست النمال كذلك؟».

بقي أمر أو أمران آخران يصح أن نشير إلى أنهما ليسا من المدنية. فهناك مثلًا الحيل الميكانيكية المعقدة، إنها ليست من روح المدنية كما ظن بعضهم، ومن الغباء والخيانة الوطنية أن نحسب أن ألمانيا قبيل الحرب كانت أرقى مدنية من فرنسا برغم أن الألمان في تطبيق العلوم على الصناعة كانوا يفوقون كل الأمم، ربما باستثناء شعب الولايات المتحدة، ولا يتصور أحد أن ملبورن تبلغ اليوم ما بلغت أثينا في عصر بركليز. ونحن على ثقة من أن آخر مَن يقع في مثل هذا الخطأ هم أرقى المتعلمين من أهل هذه المدينة العظيمة المضاءة بالكهرباء، والتي يسير فيها القطار والترام. إن كثيرًا من الفرنسيين يقرون مرغمين أن باريس نفسها في الوقت الحاضر أقل مدنية من أثينا لعهد بركليز، والفرنسيون جميعًا، بل وكل المتعلمين من الأمريكان، يتفقون على أن باريس الحديثة أرقى مدنية من نيويورك في حين أن أحدًا لا ينكر أن باريس متخلفة في طرق النقل والمواصلات، وفي الإضاءة والتنظيمات الصحية.

اعتدت بعد الحرب الروسية اليابانية مباشرة أن أتناول عشائي في مطعم بحي سوهو، حيث اعتادت فئة من صغار الشبان المثقفين أن تجتمع مرة كل أسبوع بأحد الضباط البريطانيين الجذابين المتواضعين الذين عاشوا طويلًا في عالم من واجبهم أن يتغابوا فيه حتى ينسَوا تمامًا مبلغ ما لديهم من ذكاء. وأذكر أننا شرعنا نناقش موضوع هذه المقالة «ما هي المدنية؟» وكانت الفابية متقدمة جدًّا في ذلك الحين، وأكد بعضنا أنه لا يجوز أن يوصف المجتمع بالمدنية إلا إن عُني بالفقراء والمرضى والمجانين، ورأى بعضنا (وكانت الجماعة تضم بعض السيدات) أنه ينبغي أن يكون في الجماعة المتمدنة صوت لكل من يبلغ سن الرشد. ورأى آخرون أن الشعب المتمدن حقًّا يجب أن يمنح كل شاعر وفنان خمسمائة جنيه في العام، وأن ينشِئ معارض للصور في مدن الأقاليم — ورأى آخرون غير هذا وذاك، ولكن ربما لم تعد لآرائهم من الأهمية اليوم ما كان لها في ذلك الحين. وأما الضابط فقد قال: «لا أستطيع أن أقول لكم ما هي المدنية، ولكني أستطيع أن أقول لكم متى يقال عن الدولة إنها متمدنة. إن أولئك الذين يتفقهون في هذه الأمور يؤكدون لي أن اليابان كان لها خلال مئات السنين فن رائع وأدب عظيم، ولكن الصحف لم تذكر البتة أن اليابان متقدمة في المدنية حتى اشتبكت في حرب انتصرت فيها على دولة أوروبية كبرى». وكان لهذه السخرية موضعها، ولكن الضابط الهُمام نفسه ربما كان آخر من يعتقد أن الكفاية في التسليح هي في الواقع مقياس للمدنية. وإني واثق من أنه يستنكر أشد الاستنكار أن يكون البرابرة الذين اجتاحوا الإمبراطورية الرومانية قومًا متمدنين، أو أن التتر الذين قهروا أسرة سنج وهدموا في أواسط آسيا الثقافة الإسلامية كانوا أكثر من زمرة من الوحوش الضارية. وكنت أستطيع أن أقنعه ببعض الأمثلة. وكنت أستطيع أن أجابه أولئك المحبين للبشرية بهذه الأمثلة التي تحير اليوم — أو ينبغي أن تحير — كل من يقيس التمدن بالتقدم الآلي، أما ذلك الذي (أو تلك التي) يعتقد أن المجتمع المتمدن هو المجتمع الذي يكون لكل بالغ فيه صوت فإنه (أو فإنها) إنما يتحدث كلامًا خلوًا من المعنى بشكل جلي. إن النظم السياسية قد تكون من وسائل المدنية وقد لا تكون. ولكنها ليست من روحها. وكثير من القبائل المتوحشة يحكمها زعماء مستبدون في حين أن غيرها يبدو ديمقراطيًّا، وقد كانت أثينا في أزهى عصورها أوليجاركية من المواطنين الأحرار يعيشون على كدح عبيد ليس لهم حق التصويت. وكادت فرنسا في القرن الثامن عشر أن تكون ملكية مطلقة. فنحن على ثقة من أن المدنية تتعلق بشيء أبعد غورًا من أشكال الحكومات.

لقد نجحت الآن — بدرجة أرتاح إليها — في أن أبين أن بعض الصفات التي يظن في بعض الأحيان خطأ أنها من خصائص المدنية ليست — في الواقع — منها في شيء. وقد حاولت أن أستبعد كل ما ليس بالضروري. ورأينا أن الفضائل البدائية لا تتنافى وحالة الهمجية، وأن الأسماك الهلامية تطاوع قانون الطبيعة. ورأينا أن المجتمعات المتمدنة — أو المجتمعات الهمجية — لا يسودها نظام معين من النظم السياسية، كما رأينا أن القبائل المتوحشة قد أحرزت انتصارات عظيمة وتغلبت على دول قوية. ورأينا أن تلك الجماعات التي يُقرُّ لها الرأي العام بين المتعلمين في العالم طرًّا برُقي المدنية لم تبلغ فيها جميعًا المخترعات الميكانيكية أو النظم التي تؤدي لخير الإنسانية درجة من الكفاية المرموقة، وإن كنت في هذا أمس موضوعًا يتعلق بفصل آتٍ من فصول الكتاب. وسأبحث في الفصل الآتي عن الصفات المميزة المشتركة التي تتصف بها الجماعات التي يُقرُّ لها الرأي العام المثقف في العالم طرًّا برُقي المدنية، وسوف أعتبر هذه الصفات أسس المدنية، ولذا فإن كل من لا يشاطر الرأي العام المثقف الاعتقاد في المدنية الرفيعة لدى هذه المجتمعات لن يجد ضرورة لما أصل إليه من نتائج ما دام ينكر ما ابتدأت به من مقدمات. ولن تكون لهذه المقالة عنده قيمة أكثر من أهميتها من الناحية العلمية. وإني لأزعم — بناء على إجماع الرأي العام المثقف الذي يكاد أن يكون شاملًا — رقي المدنية في مجتمعات ثلاثة مختلفة.

ولست أزعم، بل ولا أحلم أني أزعم، أن هذه المجتمعات وحدها هي المتمدنة. إنما اخترت المجتمعات الثلاثة التي يبدو لي أنه ليس على رقي مدنيتها أي نزاع، والتي تصادف أني أعرف عنها بعض الشيء. هناك مجتمعات لها حق قوي في أن تعد من المجتمعات المتقدمة في المدنية، غير أن هناك مَن يدلي إزاء هذا الحق بحجج قوية تُنافيه، ومن الواضح أنه لا ينبغي لي أن أتجه إلى هذه المجتمعات باحثًا عن مميزات المدنية، كما أن هناك مجتمعات أخرى، نسلم جميعًا بتمدنها، بيدَ أنه عند البحث يتبين لنا أنَّا لا نعلم عنها إلا القليل حتى إنَّا لا نكاد نستطيع أن ننسب إليها صفات معينة ونحن واثقون. وإني لأشعر — رغم هذا — أن كثيرًا من الناس يصرون على الإضافة إلى القائمة التي تخيرتها. وإني لأرجو هؤلاء الناس ألا يعارضوني فيما وصلت إليه من نتائج حتى يتثبتوا من أن الصفات المشتركة بين المدنيات الثلاث النموذجية التي تخيرتها لا تشاطرها المدنيات التي يودون إضافتها. ولست أرى داعيًا لأن نعتبر ما بيننا خلافًا أساسيًّا، حتى إن هُم رأَوا من الضروري أن يدخلوا بالإضافة أو بالنقصان تعديلًا في القائمة التي قدمتها عن صفات المدنية. فسوف يظل بيننا ميدان مشترك يكفي لتدعيم تعريفي، وسوف نرى.

١  يؤكد لي صديق مستر ريموند مورتمر الذي تخرج في أكسفورد من وقت ليس بالبعيد أن أصحاب هذا المذهب لا وجود اليوم لهم. وقد يكون مصيبًا، وأرجو أن يكون مصيبًا. غير أني أؤكد أني حينما كتبت هذا كنت أفكر في جيل سابق كما أفكر في حالة عقلية كانت تسود منذ خمسة وعشرين عامًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤