مميزاتهم: الإحساس بالقيم

لو سألت اثني عشر رجلًا متعلمًا تعليمًا كافيًا (ولعلِّي أصبحت مملًّا بعض الشيء في استعمال هذه الصفة «متعلم»، ولكني إن تخليت عنها أضعفت حجتي) لو سألتهم أن يعينوا لك أبرز صفة في العقل الأثيني، فمن المحتمل أن يجيبك منهم أحد عشر بأنها «حب المعرفة» أو «الحق» أو «الاستطلاع» أو «الإيمان بالعقل» أو المعقولية أو ما يشبه ذلك. أما الثاني عشر فبروح المدقق المتعالي ربما أكد لك أن ما يجعل الأثيني أثينيًّا (من أتكا) هو إحساسه بالقيم إحساسًا دقيقًا، بل إن الأحد عشر رجلًا — بعد أن تهدأ غضبتهم التي نلتمس لهم فيها المعذرة — يكادون أن يتفقوا قطعًا أنهم جميعًا محقون، وأن التعقل والإحساس بالقيم صفتان توأمان لأثينا في مجدها. والكلمتان اليونانيتان اللتان تعنيان «التعقل الحلو» و«الجد الملائم» كانتا هما الصفتين اللتين تميزتا بهما الحياة والفكر والفن الإغريقي — كما يتعلم ذلك كل صبي يبدأ في تعلم المواد الكلاسيكية— والصفة الأولى هي العقل يحليه الإحساس بالقيم، والثانية هي الإحساس بالقيم يثبته العقل ويحدده، بل إن كلمة كلاسيكي ذاتها ومعناها الأول في قاموسي: «ما يتعلق باليونان القديمة أو روما (التي تحاكيها)»، هذه الكلمة تؤدي معنى التعقل والتذوق، وهاتان الصفتان، وما تولد عنهما، اللتان كانتا الصفتين المميزتين لأثينا، سوف نجد أنهما كذلك — ما لم أكن مخطئًا — ميزتا كل عصر من عصور المدنية الراقية.

إنَّا جميعًا نتحدث عن تقدير أثينا للفن والفكر، وقصة النحات الذي اتهم بتعذيب شاب — والتعذيب في أعين الأثينيين كان جريمة شنيعة — وأقر على نفسه الاتهام، ولكنه قدم دفاعًا عن نفسه التمثال الرائع الذي عاونه في إخراجه ما عاناه نموذجه الحي، فحكم عليه بالبراءة، أقول: إن هذه القصة — وإن تكن خرافية — توضح الأثر الذي تركه على مرِّ العصور حب الأثينيين للجمال. وفي لزبس كانت صورة سافو — وهو الاسم الذي يذكر بالاشمئزاز في أرفع البيوت الإنجليزية — تزين قطع العملة؛ لأن أهل لزبس كانوا يعدون «أعلى رأس في الغناء» أسمى أمجاد الدولة. وأذكر عرَضًا أن رأس سلفاتور روزا — المصور الوحيد، لا أقول الذي كان ممتازًا، بل أقول الذي كان معروفًا، ممن أنجبتهم نابلي — لا يزال يزين العملة الورقية التي يصدرها بنك نابلي، وهذا أثر جميل للمدنية الإيطالية نتبينه في جلاء. وتقدير أثينا للأمور العقلية ظاهرة معروفة ساءت سمعتها. فقد كان من أعمالهم الرئيسية أن يناقشوا أية مشكلة تدور برءوسهم نقاشًا عقليًّا عنيفًا حرًّا. يقول ميشليه: «إن هذا الشعب الضاحك المتطلع يقدر السخرية السقراطية أكثر مما يقدر أي لعبة رياضية». ومن ذا الذي يستطيع أن ينسى ذلك الأمر العجيب الذي وقع في أثينا عام ٤٠٤ق.م. وهو تمثيل لسستراتا على مسرح الدولة وعلى حساب الشعب؟ لم تكن أثينا في ألم مما يمكن وصفه الآن وصفًا صادقًا بالنضال في سبيل الحياة أو الموت فحسب، بل كانت كذلك تعاني الكارثة الساحقة التي لحقتها من سرقسطة مما أدى إلى انهيارها فيما بعد نهائيًّا. وكانت حمى الحرب على أشدها. وبرغم ذلك قدمت الدولة في أثينا على مسرح الشعب وعلى حساب الشعب هذه المسرحية المتطرفة في معارضتها للروح الحربية والروح الوطنية. ولم يكترث أحد بالسخرية من الجيش والاستهتار بالعواطف الوطنية والاستهزاء بمن يتعقبون الجواسيس ويلتهمون الأسبرطيين، ونقد زعماء الديمقراطية نقدًا لا هوادة فيه. وإنما كان الناس يتساءلون: هل لسستراتا أفضل كوميديا في هذا العام؟ إن كانت كذلك فينبغي أن تظفر بالجائزة وأن يشهد الجمهور تمثيلها، وقد مثلت. ولا أستطيع أن أذكر حادثًا في التاريخ يدل على الإحساس العام بالقيم أكثر من هذا جلاء.

وفي أثينا كانت الأموال التي تخصص للمسرح مقدسة لا يجوز المساس بها. وربما لم يكن من غير الطبيعي لشعب يستطيع أن يقدر أعمق المآسي وأدق الملاهي أن يجعل للفن النصيب الأول من خزانة الدولة. ولم يبخل المواطن الذي كان يعيش في بيئة ساذجة، يعتبرها عامل المناجم في إنجلترا محطة بكرامته الإنسانية، لم يبخل بشيء ينفق على إخراج المسرحيات، وإقامة التماثيل، أو إنشاء المعابد. ويذكرني هذا بشيء كان ينبغي لي أن أذكره في الفصل الأول. وذلك أن الراحة من بين الأشياء الكثيرة التي ليست بالمدنية. إن عيشة المتوحشين حياة لا راحة فيها لا تدل على شيء. ولست أقول إن انعدام الراحة دليل على المدنية، ولكني أقول إن الراحة ليست من مميزاتها، فقد كانت حياة الأثيني — برغم غزارتها وتعقيدها في الفكر والشعور — في أكثر النعم المادية — ناقصة بدرجة مشينة. إن المدنية — كما يفهمها رجل السوق — لم يحقق الأثينيون منها شيئًا. ويسرني أن أعرف أن المستر ولز بلغ به الصدق أن يقرَّ باحتقاره لهذا الشعب الذي لم يتهذب. إن أغنى المواطنين كثيرًا ما كانوا ينامون فوق مقاعد حجرة الطعام — وكانت في الكثير الغالب مقاعد خشبية — لا يتلفعون إلا في معاطفهم كالكثيرين من ركاب الدرجة الثالثة. وكانت بيوت الأثينيين صغيرة، مبسطة، تخلو من أدوات توفير العمل اليدوي. ولم تكن هناك أسباب للراحة المنزلية. والأثاث والأدوات المنزلية شحيحة ساذجة، تثير الإشفاق وحب الرعاية والحنق عند جامع القمامات الذي يُحس إحساسًا طبقيًّا. ولم يكن عدم الاكتراث بالراحة هذا خاصًّا بالمواطنين أصحاب المدنية الرفيعة في أثينا. فمن ذا الذي لم يسمع السائحين الإنجليز والأمريكان يعيبون على القصور الإيطالية ما فيها من أسباب انعدام الراحة ووجود التيارات الهوائية في الحجرات وقلة وسائل التستر؟ كانت النهضة تتميز بالترف والفخار، ولكنها لا تعني إلا قليلًا بالراحة. ولم تصبح للراحة أهميتها إلا بظهور الطبقة المتوسطة. وفي القرن الثامن عشر احتفظت الأرستقراطية الفرنسية بتقليد العناية بالطراز مع إهمال ما كانوا يسمونه «بالراحة الإنجليزية». وقد عمت الشكوى منذ ثلاثين عامًا من أن السياحة في فرنسا كان يفسد متعتها انعدام أسباب الراحة المنزلية. أنهم يغيرون كل ذلك الآن، وليس هذا — على أية حال — من شأني في الوقت الحاضر. وما يهمني أن أذكره هو أن عدم الرغبة عند المتحضرين في تضحية الطراز في سبيل الراحة نتيجة لا مفر منها للإحساس بالقيم.

وليس ما كان يضفيه الإيطاليون لعهد النهضة من شرف زائد على الشعراء والمصورين والفلاسفة والعلماء بأقل اشتهارًا من حب الأثينيين للجمال وللتعقل. وكان أهل فلورنسة — وهم في ذلك الوقت أشد الأوروبيين تحمسًا للسياسة — يحسون أن فنهم هو أعظم مجد من أمجاد دولتهم. وفي تسكانيا كان القوم يتجادلون في مزايا المصورين والنحاتين كما يفعل أهل يوركشير بالنسبة للاعبي الكرة وراكبي الخيول. ولا تستطيع إيطاليا بأسرها أن تقدم لبترارك وبوكاشيو وبرونليشي ومانتجنا وبمبو وببيينا وبوليتان وأريستو ورفائيل وميشيل أنجلو وتيتان ما يستحقون من تقدير. وليس من المبالغة — حقًّا — أن نقول: إن الايطاليين في أوائل القرن السادس عشر — على الأقل في روما وفلورنسة — قد اعتبروا رفائيل وميشيل أنجلو أرقى مظهر من مظاهر العبقرية في بلادهم، وذلك برغم معرفتهم وتقديرهم لشخصيات ممتازة مثل لورنزو العظيم، وسافو نارولا، وقيصر بورجيا، ويوليوس الثاني، وليو العاشر. كان الرجال من أمثال رفائيل وميشيل أنجلو يفوقون الملوك والأمراء في تقديرهم. وأهم من ذلك أن الفن — وأقول الفن ولا أقول الفنانين — كان يتفوق على التجارة والسياسة والحرب في التقدير، ودعني أقرر توًّا أن الولاء للأفراد كان مفرطًا، في حين أن تقدير الفن والفكر كان عادلًا كما كان عظيمًا. فكيف لا يمكن لعصر كان من إحدى خصائصه المبالغة في تقدير الفرد أن يؤله عظماء رجاله؟ ولم تكن المبالغة في تقدير الشخصية كذلك أمرًا لا محل له بين قوم لم ينقض عليهم طويل وقت منذ تخلصهم من ظلم العصور الوسطى ومعرفتهم — في عبارة ليون باتستا البرتي — أن «الناس يستطيعون القيام بأي عمل إن أرادوا» وقد رزحت أوروبا خلال ألف عام ثقيلة تحت عقيدة تحتم على الإنسان أن يعتبر نفسه مخلوقًا مرذولًا بائسًا يعجز بطبيعته عن التفكير أو الإحساس أو العمل السليم. كان الإنسان يلقن في غضون ألف عام أن إنسانيته ممقوتة، وتقرير شخصيته جريمة كبرى. أما الآن فبعد اكتشاف الفن والفكر الإغريقي بغتة، فقد أدرك أن الإنسان هو مقياس كل شيء، وأنه يستطيع — بل ينبغي — أن يفكر وأن يشعر وأن يعمل لنفسه، وأن عليه أن يخلق لنفسه، ظروفه، وأن يتسلط على الطبيعة بابتداع التجارب الواسعة والأخذ بها. فأي عجب إذن إذا كان المرء بعد أن أدرك بغتة أن الإنسان في العالم القديم كان سيد مصيره، وأن بوسعه أن يكون كذلك في العالم الجديد، وأن العقل البشري هو وحده الفيصل فما هو حق، وأن إرادة الإنسان تستطيع أن تصنع القوانين والتقاليد كما تستطيع أن تتحلل منها، وأن تغير ما كان يبدو أنه نظام الكون الذي سبق تقديره — أقول أي عجب إذا كان الإيطاليون لعهد النهضة، بعد أن أثملهم ما كشفوا من أن الإنسان هو سيد كل شيء ومعيار كل شيء، يكرمون إلى حد يقرب من التقديس تلك المثل الرائعة من بني جلدتهم الذين تقع عليهم أعينهم، وهم يخلقون الجمال، ويشتتون الجهالة، وتفيض بهم القوة، فيغيروا ظروف الحياة نفسها ويزيدون من خصب مشتملاتها.

إن إيطاليا لعهد النهضة — في إحساسها بالأهمية القصوى للفن والفكر، وهي أولى النتائج وأصدقها للإحساس بالقيم — تكاد لا تقل في ذلك عن أثينا شأنًا. وسيبقى شعارها أبدأ «أن ليس في هذه الدنيا ما هو أعظم من حب الفنون، ومن حب ما يتعلق بالروح، ومن حب هؤلاء الذين نحبهم». ومع أن الاتجاه العقلي في القرن الثامن عشر لم يختلف عن هذا الاتجاه في أساسه، إلا أن هذا العصر كان على خلاف مع النهضة أو عصر بركليز في ناحية واحدة هامة. لم يكن القرن الثامن عشر عصر ابتكار إلى درجة كبيرة. وإنما جاء الدافع إلى الخلق قبل ذلك — في القرن السابع عشر. أما الفترة المتأخرة حينما بلغت المدنية أوجها فقد كانت أميل في اتجاهها إلى ناحية التأمل والتدبر. وهنا دليل آخر على أن الصفة الأساسية للمجتمع المتمدن مدنية رفيعة ليست في القدرة على الابتكار، وإنما هي حسن التقدير. فالشعوب الهمجية تبتكر في عنف شديد. ولقد كان القرن الثامن عشر يدرك أهمية الفن. وكان ذوقه نقيًّا، وإن يكن محدودًا. وكان يستطيع دقة التمييز في الفنون الصغرى والفنون المنزلية. والأغنياء يقبلون على أداء ما يكلفه الجمال لا بالمال فحسب، ولكن بالوقت وتحمل المشقات كذلك. وكان الموسرون من الرجال والنساء في القرن الثامن عشر يهذبون أذواقهم. أما الفقراء — كما سوف أبين فيما بعد — فيسهمون إيجابًا في بناء صرح المدنية بما يؤدون من عمل، ويسهمون فيها سلبًا بمقدار ما تتلون آدابهم وعاداتهم وآراؤهم وعواطفهم بآثارها — وذلك لأن الفقر معناه عدم التحرر وعدم التعلم. ولو أردنا أن نتلمس الصفات الإيجابية الأكيدة للمدنية، فمن العبث أن نبحث عنها عند العبيد الأثينيين أو الفلاحين الفرنسيين. وإلى أي حد يمكن في المستقبل لمجموع السكان أن يتمدحوا موضوعًا لا بد لي أن أستبقيه للفصل الأخير.

والآن أعالج القرن الثامن عشر، وهو عصر وَمَضت فيه النار في الطبقات العليا وأرسلت أشعتها إلى المتقدمين من الطبقة الوسطى وربما ألقت شيئًا من دفئها على من دونهم من تلك الطبقة، ولا أحسب أنها سَرت إلى أبعد من ذلك وإن كان بَكِل — الذي يمكن أن نعده حكمًا عدلًا لم يتحيز لعصر غير عصره — يرى «أن إحدى الصفات الأساسية للقرن الثامن عشر، وهي صفة ميزته قبل كل شيءٍ عن كل ما سبقه، تعطش للمعرفة من جانب تلك الطبقات التي حبست عنها المعرفة حتى ذلك الحين».١ كانت المعرفة هي أكبر الأماني: كان القرن الثامن عشر يقدر الفن، بيد أنه — برغم هذا — توجه بأقصى حماسته نحو ما يتصل بالعقل من أمور. لقد تفوقت أثينا في الأدب، وفي الفنون التشكيلية، والعلوم، والفلسفة. وكانت حماستها لكل ذلك لا تحد. أما النهضة التي تفوقت في الفن المنظور وفي الدراسات فقد وجهت أشد إعجابها إليهما. في حين أن قلب القرن الثامن عشر السمح خضع لنفس الغريزة، وكان أشد ما اهتز له ما حققه العقل المتأمل، فبرزت في الصدارة البحوث الرياضية والفلسفية والعلمية، وفي عصر كان يفخر بحب البشرية تعمق هذا القرن بطبيعة الحال في علوم السياسة والاقتصاد — وهي دراسات ما عتمت في طفولتها الغضة الجذابة — إذ اعتقدوا — وربما لم يكن ذلك على غير أساس من العقل — إن في ثنايا هذه العلوم تكمن المفاتيح التي سوف تفتح أبواب العالم المثالي في يوم من الأيام. إن قصة شهرة دافيد هيوم في باريس تعطينا فكرة عن تهذيب المجتمع، فإن تعيينه سكرتيرًا للسفارة البريطانية كان حدثًا دوليًّا. باريس بأسرها كانت عند قدميه، وربما أغضب ذلك مستر وَالبول قليلًا، الذي يبدو أنه أحس أن هذا المجتمع الرفيع المدنية ربما لم يقدر جودة النطق والعلاقات الأرستقراطية حق قدرها. ولن أؤكد هنا التكريم الذي ناله فلتير وبفون أو ذكرى نيوتن. غير أني لا أتردد في أن أذكر قرائي بأن هؤلاء السيدات والسادة الفرنسيين كانوا بالفعل يقرءون للمؤلفين الذين يعجبون بهم.
ومن هذا الإحساس بالقيم، ومن التطلع العقلي عند الطبقة الراقية، نجمَت نتيجة حببت الشعوب المتمدنة دائمًا في القرن الثامن عشر. ذلك أن هؤلاء السيدات والسادة المهذبين لم يخضعوا لتهديد أو إملال. لم يكونوا من ذلك النوع الذي يحتمل الأساليب التي يسلكها خفاف العقول أو الثرثارون المتشدقون بالعلم، وأصروا على أن يعبِّر أساتذتهم عن أنفسهم في لغة واضحة شائقة — وكانت كاترين العظمى تغرم بتلقيب نفسها بتلميذة فلتير — وكان الناس يتوقعون أن ينقاد العلم للجمال، أو على الأقل للذوق السائد. كان للقرن الثامن عشر مقاييس يودُّ أن تنال حقها من التقدير، ولم تكن هذه المقاييس قاصرة على كتابة النثر، وإنما كانت للقرن الثامن عشر مقاييس في الحياة. وفي الحق أن مما يميز العصور المتمدنة أنها تتمسك بمقاييس لا ينبغي أن تهبط عن مستواها الأمور، ويرجع ذلك إلى وجود الإحساس بالقيم.٢

ألم تستمع قط إلى رجل فكُّه عظيم، وقد امتلأت معدته بعشاء باهظ التكاليف في مطعم يسترعي النظر بسوء تأثيثه وشدة إضاءته وقد أثمله النبيذ (الذي اشتهر باسم برييه جويه في عام ١٩١١م)، وحديث تافه طويل لا يقرع سمعك إلا بعض كلماته وقد أغرقته موسيقى أعلى منه في ضوضائها، ألم تستمع إلى مثل هذا الرجل يقول وقد سمح للمناول المشعث أن يختار له أطول سيجار «هذه تناسبني يا بني، وإني ليرضيني دائمًا أغلى السجائر»؟ إن مثل هذا يحدث حينما يفقد الناس مقاييسهم، وليس في لندن — كذلك — سوى مطعم أو مطعمين العشاء فيهما متعة غير مشوبة. إن الرجل الذي يحمل ميزان المقاييس لا يرضيه دائمًا أحسن الموجود. إن هذا الرجل يعرف تمامًا ما يريد ويصر على الحصول عليه. والظاهر أن الرجل الإنجليزي الحديث ليست لديه معايير، وكل ما يستطيع عمله أن يتوجه إلى أحسن المحلات مظهرًا ليشتري منه أغلى ما فيه. أما منذ خمسين عامًا فقد كانت ربة البيت الرقيقة تفخر بأنها تعرف المكان الصحيح لكل شيء. ففي شارع خلفي رجل صغير يستورد صنف البن الذي تحبه، وهناك آخر يخلط الشاي خلطًا هو أكمل ما يكون، وثالث يعرف سر لحم الخنزير المدخن. كل ذلك اختفى اليوم. ولا تفعل ربة البيت سوى أن تذهب إلى المخازن. ولم يعد لغز «مارش هير» لغزًا غامضًا. ولم نعد نُصر على الحصول على ما نحب، وإنما نحن نحب ما نحصل عليه. وربما كان من توافه الأمور أنك قد تتناول عشاءك في أحد المطاعم الستة الأنيقة في لندن، وأن تدفع جنيهين ثمنًا لوجبتك، وأنت تعلم عن يقين أن وكيلًا من وكلاء التجار المتجولين الفرنسيين نشأ على المعايير القديمة لما ألف في الريف، ربما أرسل في طلب الطاهي ووجه إليه قارص الكلام. ولكن فكر في الدوافع. إنها لا ترجع إلى أن أغلى المطاعم الإنجليزية تقصر في استخدام أعلى الطهاة الفرنسيين أجورًا. إنهم يستخدمونهم ولكنهم سرعان ما يهبطون عن المستوى لأن المطعم لا يتردد عليه أحد ممن يرفعهم دائمًا إلى هذا المستوى. إن الزبائن ليست لهم معايير. تقول هذا أمر تافه، وأقول ذلك ما يؤدى إلى الهمجية.

إني حينما أقول: إن المدنية تحتم قيام المقاييس لا أقع في ذلك الخطأ القديم الذي يفرض أن المدنية شيء يفرض على الفرد التشابه البغيض. كان النقاد والعلماء لعهد فكتوريا من الخشونة وانعدام الحس بحيث لا يقدرون راسين وبوسان، ويعللون انحطاط شأن هذين الفنانين عن تنيسون وتيرنر بأنهما من ثمرات المبالغة في المدنية التي جعلت التعبير الشخصي الحر أمرًا مستحيلًا وعارضت معارضة مطلقة في التجريب والتطوير. ويزعم الزاعمون أن العصور ذات المدنية الرفيعة تحتم التشابه المطلق، فتصبح جافة جامدة، والواقع أن الفنانين كانوا أحرارًا في تجاربهم في العصور المتمدنة كما كانوا في غيرها من العصور. وتستطيع أن تجد الأمثلة أنَّى شئت، ففي أثينا فيما يزيد قليلًا عن مائة عام حدث انقلاب من الأسلوب العتيق في النحت إلى الأسلوب الفديائي، ومن الفديائي إلى البراكسيتيلي. وفي الأدب من إيسكلس إلى سوفوكليز، ومن سوفوكليز إلى الكوميديا الجديدة. وفي إيطاليا شهد مطلع القرن الخامس عشر ثورة في التصوير — نهاية حركة جيرتو واكتشافات ماساشيو وجاستانيو ومانتنيا، في حين أن رفائيل وميشيل أنجلو كانا قد أدخلا تعديلًا على تقاليد الفن وأسسا مدرسة جديدة قبل نهب روما، وكل طالب للأدب الفرنسي يعلم أن المعجبين بكورني قد أدهشهم، بل أغضبهم، أسلوب راسين، كما يعلم أن تطور النثر من القرن السابع عشر إلى القرن الثامن عشر أمر لا يرضي المحاضر (لغير طلاب الجامعة) الذي يستعرض تاريخ الأدب أن يجهله ضحاياه الطلاب. كما أن ظهور مدرسة عاطفية طبيعية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر موضوع يستفيض فيه عادة — بدافع من الغرور الوطني فيما أظن — أولئك النقاد أنفسهم الذين يعيبون على ذلك العصر ما فيه من تشابه ثابت. أنهم ربما لم يكونوا على علم أن جلك (Gluck) وأتباعه كانوا في نفس الوقت يطورون التقاليد الموسيقية تطويرًا بالغًا مثلما فعل فاجنر بعد ذلك بمائة عام.

إن العصور المتمدنة تميل من غير شك إلى احترام التقاليد في الفن وفي غيره من الأمور. وهناك ما ينذر بالخطر من أن يتدهور احترام التقاليد إلى عبادة العرف، وهو لا يعدو أن يكون الحيل والعادات لماضٍ قريب توحدت لتعميم استعمالها — مخالفة في ذلك التقاليد، وهي التعبير عن التجارب المتجمعة. وهناك من ناحية أخرى في العصور المتمدنة جمهور حساس مثقف، يعطف على الفنان، ويميل إلى أن يهيئ له أن يعرف على خير وجه خير الأمور بالنسبة إليه. ومثل هذا الجمهور لا يُخدع في سهولة فيظن خطأ أن الصيغة المقبولة هي التقليد العظيم. إن ماساشيو وأتباعه، وكذلك مدرسة الكتاب الثائرين في مطلع القرن الثامن عشر، والرومانتيكيين الأوائل في أخريات هذا القرن، إن هؤلاء لم يضطروا إلى الاشتباك في معارك حامية كالتي نشبت حول أسماء هوجو وفاجنر وروزتي وما لرمي وسيزان؛ ذلك لأن الجمهور في العصور المتمدنة يتفوق في حسه كثيرًا عن الجمهور في القرن التاسع عشر؛ لأن الظروف كانت أشد مواتاة وأقل ضيقًا، وقلما كان الفنان يندفع في احتجاج عالي الضجيج أو مضيع للوقت والجهد. إن الفنان الحق لا يكون بطبعه محتجًّا، ولا يلعب هذا الدور إلا بضغط من حقد معاصريه. والاحتجاج آفة الفن؛ لأن مَن يشرع فيه يتعرض لخطر الوقوع في الهاوية. المدنية تميل إلى أن تجعل الاحتجاج أمرًا لا ضرورة منه.

والتشابه كما هو في العصور ذات المدنية الرفيعة ربما كانت له مثالبه التي لا بد لي أن أتعرض لها بعد قليل، ولكنه ليس تهلكة للفن، وهو من ناحية — ولا ريب — نتيجة لرأي عام متنوِّر له خطره ولا يقبل أن يستخف به. وهو ينتج — إلى حد كبير — من أن الفنانين بعدما وجدوا أنفسهم في عالم متزن قد تخلصوا من ضرورة القيام باحتجاجات يتظاهرون بها — وبين الفنان والجمهور في المجتمع ذي الحضارة الرفيعة مجال مشترك لا يجد الفنان لديه مبررًا لأن يرتاب في خيانته أو لأن يحتقره لاحتمال عقمه، بل على العكس من ذلك نراه يفترض العطف وحسن الإدراك. ولأن الجمهور المتمدن أقل من غيره احتمالًا لأن يحسب بقايا حركة تحتضر تقليدًا من التقاليد، نراه لا يُحس بالخوف الشديد الذي لا يحتمل من أن يغل العرف يديه. ففي العصر ذي الحضارة الرفيعة لا يعادي الفنان التقاليد ولا يعدم الثقة فيها، وإنما يتناول منها في حرية كل ما يستطيع أن تقدمه. ومن أسباب التشابه الظاهرة في العصور ذات المدنية الرفيعة خصيصة أخرى من خصائص المجتمع ذي الحضارة الرفيعة، وهي خصيصة تنشأ من ناحية عن الإحساس بالقيم — ومن ناحية أخرى، تنشأ عن التعقل، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بإصرار المدنية على المعايير؛ وتلك هي أن المجتمعات ذات المدنية الرفيعة مجتمعات مهذبة.

إن آداب السلوك نعمة لا يغض من قيمتها قوم عندهم إحساس بالقيم. غير أن آداب السلوك تترتب كذلك على التعقل، وهو الصفة الأولية الأخرى من صفات المدنية؛ لأن التعقل يؤدي إلى تفتح الذهن، وإلى الرغبة في الاستماع إلى ما يقوله الآخرون، وإلى النفور من الوسائل الدكتاتورية. وحيث إني الآن أحاول أن أصف العوامل التي تتفرع من الإحساس بالقيم، فلن أعتدي على الموضوع الذي أعتزم أن أتعرض له في فصل آخر. وإن شئتم تركنا التعقل وما يتولد عنه وشأنه. ومن الواضح أن الإحساس بالقيم الذي يسعى لأن يستخلص من الحياة خير ما تعطيه — هذا وحده يكفل أدب المعاشرة أو التهذيب — والخير هنا ما لا يتخلى عنه الفرد لما هو دونه.٣ وكذلك تجد أن من يملك الإحساس بالقيم لا يقصر في تقدير التفوق الجوهري المجرد الذي تتميز به المجاملة في السلوك على الوقاحة السليطة. أما كيف يؤثر هذا الذوق المتمدن الذي يؤثر دماثة الأخلاق في الفنانين الناشئين المبتكرين المبتدعين فيتوقف إلى حدٍّ ما على أمزجتهم. غير أن هنالك دائمًا طريقتين لإحداث أي تغيير، إحداهما فطنة لبقة، والأخرى سافلة صخَّابة. والمتمدنون يؤثرون الطريقة الأولى.

ولم يبلغ بي السخف بطبيعة الحال أن أزعم أن الفنانين في العصور المتمدنة يتفوقون على الفنانين في العصور غير المتمدنة، فالفن قد يزدهر في هذه العصور أو تلك. وقد يستفيد من هذه أو من تلك، وإنا لنشعر أن بعض الفنانين متقدمون في المدنية، مثل فدياس وسوفوكليس، وأريستوفان، ورفائيل، وراسين، وموليير، وبوسان، وملتن، ورن، وجين أوستن، وموزار، وإنا لنشعر أن غير هؤلاء لم يضربوا في المدنية بسهم وافر، مثل مشيدي الكاتدرائيات الغوطية، وفيلون، وشيكسبير، ورمبرانت، وبليك، ووردزورث، وأميلي بروتني، وهويتمان، وتيرنر، وفاجنر، وصانعي الأوثان في الكنغو. إننا لا نستطيع أن نقول: إن إحدى المجموعتين أرقى من الأخرى، والواقع أن الفرق بينهما ليس أساسيًّا. إنه فرق في الوسائل وليس في الغايات. إن غاية الفن هي بعينها في كل مكان وزمان — هي التعبير الكامل عن حالة معينة من الإحساس الجمالي — أو لعلي أستطيع أن أقول: إنها خلق صورة لها دلالتها. ولا يختلف الفنانون المتمدنون عن الفنانين غير المتمدنين إلا في الوسيلة التي يحققون بها هذه الغاية، أو في موقفهم من المشكلة أو معالجتهم لها. الفن أحد أمرين في هذه الدنيا لهما صفة ذاتية جدًّا، ومن ثم فإنه لكي نقدر خصائص الفن المتحضر قدرًا كاملًا، يجب أن ننظر في خصائص الفرد المتحضر، وحيث إنا سنفرد لهذا الفرد فصلًا بأسره بعد قليل أرى أن نسمح للفنان المتحضر بانتظار دوره. ويكفيني الآن أن أذكر أنه من الحماقة أن نفترض أن الفنانين المتحضرين أرقى أو أحط من الفنانين غير المتحضرين. وليس أحكم من ذلك أن نقرر أن المدنية تلائم أو لا تلائم نهوض الفنون. ومن المجتمعات الثلاثة المثالية اخترناها، اثنان مبدعان إبداعًا استثنائيًّا، وثالث مبدع إبداعًا عاديًّا. المدنية لا تشجع ولا تثبط، ولكن، لما كانت الأمزجة المختلفة تنتعش في الأجواء المختلفة، فيبدو أن المدنية — على الأرجح — إما مشجعة أو مثبطة لبعض الفنانين المعينين. كم من أمثال ملتن ورفائيل وموزار، ممن لم يرتفع لهم صوت، ولم يجرِ على اللسان لهم ذكر، ما كانوا ليفقدوا الأمل أو يُهملون في جو الفزع والهمجية الذي ساد العصور المظلمة؟ وهل لم يكن من الجائز أن يسحق القرن الثامن عشر — الذي قص جناحَي بليك — الأمل المرفرف لعدد من العباقرة ذوي العقول الغوطية، وأن يسخر من فنان مثل فاجنر أو وِبستر ولا يقدر البتة فكرة تنادي بالتعبير الذاتي؟

إن النظرية الشائعة التي تقول بأن المدنيات الرفيعة تفرض على الأفراد بالضرورة التشابه والمساواة، هذه النظرية هي ما تقول به عادة النظريات الشائعة: وانظر إلى عهد النهضة تجد الدليل، ومن الواضح — برغم هذا — أن الشخص الشاذ يكون في الوسط الذي يرتقي فيه معيار الثقافة والذكاء أقل ميلًا وأبعد احتمالًا لتمييز نفسه عن الجموع منه في الوسط الذي ينحط فيه هذا المعيار؛ ومن ثم فربما ظهر الميل إلى التشابه، وهذا خطر من أخطار المدنية، غير أن مجرد نظرة إلى التاريخ تكفي لأن تبين لنا أن هذا الميل إلى التشابه ليس خصيصة من خصائص المدنية. ولكن الخطر قائم على كل حال. وحيث إني أحب الإنصاف، وحيث إني قد أكدت منذ البداية أن المدنية ليست هي المثل الأعلى، فإني أستميحكم العذر في أن أخصص بضع صفحات أحاول فيها أن أبين بالمثال مبلغ هذا الخطر على وجه الدقة. ولنبحث في حالة فرنسا وإنجلترا.

إن الرجل الإنجليزي إذا كان على جانب من الاستعلاء يجب أن يقف على قدميه؛ إذ إنه لا يجد حوله ما يستطيع أن يتفضل بالاستناد إليه.٤ لا بد له أن يشقَّ طريقه الخاص؛ لأن الطرق العامة جميعًا تسير خلال أرض كئيبة لا تطاق وتؤدي إلى مناطق مقفرة من الحياة العقلية وإلى قرى الضواحي. إن حياة الرجل الإنجليزي أو المرأة الإنجليزية من ذوي المواهب تأكيد مستمر متواصل لشخصيته أو شخصيتها في وجه ظروف لا تعطف عليه، بل تعاديه معاداة إيجابية. الطفل الإنجليزي الذي يولد بشعور رقيق، أو إحساس خاص بالفنون، أو ذكاء خارق مطلق، يجد نفسه منذ البداية في خصومة مع العالم الذي ينبغي له أن يعيش فيه. فهو لا يفكر في قبول تلك المواضعات القومية التي تعبر عن أحقر ما في مجتمع كريه. وهو منذ البداية لا يتوجه أيام الآحاد الى الكنائس أو المعابد. وربما اختلف الأمر لو كان التوجه الى القداس الكاثوليكي. كما أن المواضعات القومية التي تحدد الحياة العائلية والتي تكاد أن تجعل من المستحيل قيام علاقة وثيقة أو دقيقة، هذه المواضعات لا تثير فيه سوى التشوق إلى الفرار. إنه ربما ينشأ في جو تُزدرى فيه كل فكرة لا تؤدي إلى غاية عملية، أو لا تظفر على أحسن تقدير بأكثر من إطراء متكلف. وذلك حينما يشتهر عظيم من العظماء في أوروبا بأسرها برغم المعارضة الشديدة التي يلاقيها، فيُكافأ بحق بلقب من الألقاب أو بعمود من أعمدة النعي في صحيفة «التيمس». أما الفنانون فما لم ينجحوا نجاحًا تجاريًّا أو يظفروا باعتراف معرض عام من معارض الصور، فمن المؤكد أن يصبحوا سخرية أسراتهم. وهكذا يُثار دائمًا كل ما لديه من إحساس رقيق، فيحيا حياة شاذة مستوحشة خجلة، و«جون بول» تحت أنفه و«بنش» في زاوية غرفته، حتى يلتحق بمدرسة خاصة، وعندئذ إما أن تحطم روحه الألعاب الإجبارية وتقاليد أرنولد أو أن تجعل منه ثائرًا مدى الحياة.

إن أي شاب إنجليزي موهوب جدًّا، صلب الرأي في معارضته العنيفة لأكثر ما يحيط به، يحتمل أن يزداد تنبهه إلى نفسه وإلى عزلته. في حين أن زميله الفرنسي يمحو شذوذه برفق عن طريق اتصال ميسر، وهو يزداد إحساسًا يومًا بعد يوم بتماسكه مع شركائه في سر عجيب جليل. إن فرنسا — في الواقع — ما زالت لها مدنية. أما الفتى الإنجليزي فهو يزداد إحساسًا بفرديته. يزداد شذوذًا يومًا بعد يوم، كما يزداد حبًّا في المغامرة، وتزداد شخصيته وضوحًا إنه يقصم كل روابط العرف في يسر وسهولة، ويتعلم أن يعتمد على نفسه اعتمادًا كليًّا، فلا يثق إلا في تقديره الخاص لما هو خير وما هو حق أو جميل. هذا التقدير الشخصي هو كل ما يتعقبه. وفي غضون تعقبه لا يلتقي بعقبة من العرف يحتاج لحظة واحدة إلى التردد في هدمها. المدنية الإنجليزية، أو ما يُسمى بالمدنية الإنجليزية، متكلفة منافقة، أبعد ما تكون عن التهذيب، وهي في أعماقها وحشية، حتى إن كل إنجليزي من ذوي المواهب يصبح حتمًا من الخارجين على العرف والقانون. إنه ينمو برفض ما يحيط به، وتترعرع شخصيته، لا يراعي عرفًا ولا يتمسك به، ولا يعوقه كثيرًا — وهذه نقطة هامة أيضًا — عسف الحكومة وتعقبها له. لأن الرجل الإنجليزي — حتى بداية الحرب على الأقل — الذي كان يجرؤ على تحدي العرف كان أقل من الفرنسي خشية من القوانين. من أجل هذا كله، كانت إنجلترا بلدًا لا يسرُّ العيش فيه رجلًا لديه إحساس بالجمال أو بالفكاهة، أو يتذوق الملذات الاجتماعية، أو ذو حس رقيق. ومن ناحية أخرى لدينا تلك الفردية العظيمة التي لا تُحَد، وذلك الاستقلال، الذي مكَّن لبعض أفراد من الإنجليز ذوي العبقريات أن يبدعوا أعظم أدب في التاريخ بأسره، ويُنشئوا أكثر الأفكار الحديثة ابتكارًا وعمقًا وجرأة.

وإذا كان التشاجر لا يتم إلا بين اثنين، فكذلك التبادل لا يتم إلا بين اثنين، وحتى إذا كان خير الفرنسيين يرغب في الاتفاق مع المجتمع، فلا بد أن يكون ذلك لأن المجتمع لديه ما يقدمه لهم مما يستحق القبول، وما عند المجتمع الفرنسي للتقديم هو المدنية الفرنسية. العرف قيد للفكر والشعور والعمل. ولما كان كذلك، فهو عدو الابتكار والشخصية، ومن ثم كان مقيتًا عند الرجال ذوي المواهب الممتازة في الابتكار أو الشخصية؛ غير أن العرف الفرنسي يسوده جو بهيج من التحرر، وتقدم فرنسا لأولئك الذين يتقيدون به المشاركة في أقرب المدنيات الحديثة إلى الكمال، وهي رشوة مغرية. كما أن جرعة الدواء نفسها مشوبة بالحلاوة بدرجة مقبولة. تقول التقاليد الفرنسية: هكذا تشعر، وهكذا تفكر، وهكذا تعمل، وليس ذلك لأسباب خلقية، وأبعد من ذلك أن يكون لأسباب نفعية، إنما هو لأسباب جمالية. ألزم القاعدة، لا لأنها صواب أو لأنها نافعة، ولكن لأنها لائقة — بل جميلة. إننا لا نقول لك كن محترمًا، وإنما ندعوك ألا تكون فظًّا غليظًا. إننا نقدم لك بغير مقابل علامة لها قدرها في أنحاء العالم بأسره. كم من أجنبي يود لو يقدم عينيه لقاء أن يقال له أو لها: «كم أنتَ — أو أنتِ — فرنسية!».

وعند ذكر ما ينجم عن احترام الفرنسيين هذا للقاعدة، يجب علينا أن نسجل ما له من مزايا وما عليه من مثالب. إن ما فقدته فرنسا في اللون ربحته في الخصوبة، وإذا سجلنا قائمة عالمية للشرف للتفوق العقلي والفني وجدنا عدد الأسماء الفرنسية يزيد كثيرًا عما يتناسب مع مساحة البلاد ومقدار ثروتها. ثم إن هذا الأساس من التقاليد هو الذي رفع الثقافة الفرنسية إلى مستوى الامتياز. إن فرنسا لم تكن قط بغير معايير. ومن ثم تطلعت بقية القارة الأوروبية إلى فرنسا دائمًا تلتمس مقياسًا للتفكير الدقيق، والحس الرقيق، وما يستمتع به الناس كافة من ملذات. ولولا العرف الفرنسي لكان بقاء فرنسا هذا الأمد الطويل مركزًا للمدنية أمرًا مشكوكًا فيه. بيد أنه من الحق — من ناحية أخرى — أن الصورة التي يعرضها التاريخ الفرنسي لا يظهر فيها نسبيًّا إلا القليل من الأعمال الضخمة أو الشخصيات الهائلة. وليس من شك في أن فرنسا كانت شحيحة في هذه الشخصيات. وقد كان أكثر العظماء — وكثير من الطبقة الثانية — من الكتاب والمفكرين والفنانين الإنجليز «شخصيات» عظيمة، في حين أن الحياة الأدبية والفنية في فرنسا كانت تتسم بإدراك صحيح وتهذيب مشوب بشيءٍ من الملل الخفيف، ولا يشذُّ عن ذلك سوى القليل من الشخصيات الضخمة المدهشة. ولست أشك في أن بعض الفرنسيين يولدون بموهبة تبشر بالقدرة على الابتكار العظيم، ولكنهم لا ينجحون البتة في أن يحيوا حياتهم أو يعبروا عن أنفسهم تعبيرًا كاملًا؛ لأن التقاليد الفرنسية تستميلهم إلى قبول العرف واتباع القاعدة. وسرعان ما تقفز إلى ألسنة الفرنسيين من ذوي المواهب العقلية والمتفوقين في الثقافة عبارات مثل هذه «ذلك هو العرف» أو «هذا غير مقبول»، وذلك لأنهم لم يرغموا قط، كزملائهم الإنجليز، على أن يفكروا ويشعروا ويشقُّوا لأنفسهم طريقًا محتملين في سبيل ذلك أن يقضوا حياتهم محبوسين — كالمذنبين من أهل الصين — في صندوق لا يستطيعون فيه أن يرقدوا أو يجلسوا أو يقفوا أو يميلوا أو يرتعوا أو يفعلوا أي شيءٍ آخر سوى أن يتمرغوا؛ ولذا فإني أقر بأن الموهوبين من الشبان الفرنسيين يقبلون العرف وقواعد الحياة؛ لأن هذا العرف وتلك القواعد ليست — في فرنسا — مخيفة أو فظيعة بدرجة كبرى، وهي ليست كذلك — في يقيني — لأنها بقايا تقاليد متمدنة، أما ما لست أقره فهو أن يكون ذلك من عيوب المدنية الكبرى.

وإذا انتقلنا من فرنسا الحديثة وتدبرنا عصر اليونان العظيم وجدنا أنه لا يقلُّ في خصوبته عن إنجلترا في القرن السابع عشر في الشخصيات الحية المبتكرة، وكذلك لم تكن إيطاليا لعهد النهضة مثلًا واضحًا لاتِّباع القواعد الخُلُقية والعقلية. وإذا كانت فرنسا — التي كانت خلال الثلاثمائة سنة الأخيرة — أرقى أقطار أوروبا مدنية تبهرنا بالوفرة في العقول الممتازة وانتشار الثقافة أكثر مما تبهرنا بالعقول النابغة والشخصيات الباهرة، فربما كان مرد ذلك إلى مزاج الجنس وإلى غير ذلك من الأسباب. ومن المحتمل ألا تكون زيادة المدنية في فرنسا سببًا في تخلفها في هذا الاتجاه أقوى من أن نقص المدنية في إنجلترا كان سببًا في تفوقها فيه. فالهمجية لا تحثُّ من تلقاء نفسها على ظهور العبقرية وقوة الشخصية والاتجاه نحو التعبير الذاتي في اللغة. ولكن إنجلترا — حتى ذلك الحين — شجعت صفة من الصفات ربما كانت هي أقوى الأسباب في ذلك، وتلك هي احترام الحياة الخاصة احترامًا يفوق كثيرًا ما كان يتمتع به الناس في أقطار القارة الأوروبية. إن الرجل الإنجليزي الشاذ، أو النابغ، أو العبقري، الذي يقذف به الجو السائد إلى الكهوف والأركان المنزوية، كان في تلك الكهوف والأركان يجد مجالًا للبقاء والتطور إلى أي حد يريد. ومن هنا كان اشتهار إنجلترا كدار لاحتضان روح الابتكار والشخصيات الفذة، ومن هنا كان حقها في أن تكون بعيدة الصِّيت في هذا الاتجاه، ولا تزال إنجلترا تشتهر بذلك، ولكنها ربما لا تكتسب هذه الشهرة بعد هذا، فهناك حركة تميل إلى الغض منها؛ لأن الاعتراف بالشذوذ خاصية أرستقراطية، وعلى الإنجليز أن يتعلموا اتباع القواعد، وعليهم وجوب التطور بحكمة في أخاديد مرسومة. وقد باتت الطاعة والخضوع والانصياع أكثر قبولًا في إنجلترا منذ أن قبلت الخدمة الإجبارية مستخفة في ذلك بتقاليدها القديمة. ومن المحتمل — إذا ما بلغ حاملو تذاكر الاشتراك من ناحية، ونقابات العمال من ناحية أخرى، أقصى آثارهم السيئة — أن تفقد إنجلترا — خلال بضعة عقود من السنين — من فوق هامتها العباقرة، والشخصيات، وروح الابتكار، فتبدو عارية في همجيتها المعهودة، وأن تصبح موضع السخرية والازدراء في العالم طُرًّا. إنها بذلك تستبعد فرديتها، دون أن ترتفع في سلم المدنية.

إن من يملك الإحساس بالقيم لا يمكن أن يكون من السوقة؛ إنه يقدر الفن والفكر والمعرفة من أجل ذاتها لا من أجل احتمال نفعها، وحينما أقول من أجل ذاتها أقصد بطبيعة الحال أن تكون وسائل مباشرة لحالات عقلية طيبة هي وحدها الغايات الطيبة. فإن أحدًا لا يتصور اليوم أن قطعة فنية ملقاة في جزيرة غير مأهولة لها قيمة مطلقة، أو يشكُّ في أن قيمتها الحقيقية تنحصر في أنها تستطيع في أية لحظة أن تصبح وسيلة لحالة عقلية تتفوق في امتيازها. ولما كانت الأعمال الفنية وسائل مباشرة لمتعة جمالية فهي وسائل مباشرة للخير. والبحث وراء الحقائق العلمية والفلسفية وإدراكها، بحثًا وإدراكًا مجردًا عن الغرض، هذا البحث وذلك الإدراك يمكن اعتبارهما كذلك وسائل مباشرة للخير؛ لأنهما يثيران حالات عقلية مشابهة تتصف بعمق الشعور. بيد أن قيمة المعرفة تختلف عن ذلك. فالمعرفة ليست وسيلة مباشرة للخير، وعملها بعيد عن هذا المحيط. فالمعرفة الدقيقة بتواريخ ملوك إنجلترا وملكاتها لا تستثير النشوة في أحد. المعرفة غذاء له قيمة كامنة لا حدَّ لها، ويجب أن يتمثلها العقل والخيال قبل أن تكون لها قيمة إيجابية. ولن تصبح المعرفة وسيلة مباشرة لحالات عقلية طيبة إلا بعد تمثلها. إلا أنه بغير هذا الغذاء يميل العقل والخيال كلاهما إلى الضمور والالتواء، بل يتعرضان لخطر القحط المميت.

ليس في المعرفة عند أصحاب الإحساس بالقيم ما يستحق التقدير إلا دسامتها، وإن يكن من الواضح أن لها كذلك أهمية عملية. المعرفة تمكننا من صنع السيارات وإصلاح السيقان. وإنما يميز الشعوب المتمدنة أولًا أنها قادرة على أن تدرك قيمة المعرفة كوسيلة لبلوغ حالات نفسية رائعة، وأنها تقدر هذه القيمة ثانيًا قدرًا يفوق أية فائدة بعيدة نفعية أخرى. والجمال بطبيعة الحال ليست له البتة قيمة عملية، والصورة الحسنة قد تحث على سلوك نافع، ولكن الصورة السيئة كذلك — بل وأكثر من ذلك — تؤدي إلى نفس هذه النتيجة. ومن علامات الرجل الهمجي — أو السوقي — أنه لا يملك الإحساس بالقيم، ولا يستطيع أن يميز بين الغايات والوسائل، وبين الوسائل المباشرة والوسائل البعيدة، فهو لذلك يريد أن يعرف ما للفن والتأمل والعلم البحت من فائدة، فإن أجبته أنها وسائل مباشرة — أو تكاد أن تكون كذلك — لحالات وجدانية لها أكبر القيمة وأعمق الغور لأسباب واضحة جلية، لم تقنعه ولم تبعث في نفسه رضا، ما لم تقُل له إنها المفاتيح التي يفتح بها أبواب الجنة، وما لم تستطع بطريقة ما أن تقدم له ثمار الفردوس، وكيف تستطيع أن تقدم له هذه الثمار؟ إن ذلك لا يكون — فيما أحسب — إلا بتمكينه من مشاهدة الفردوس، وأؤكد لكم أنني لا أعرف كيف تستطيع أن تمكنه من هذه المشاهدة، بَيد أني أتصور أن هذا ما ينبغي أن تقوم به التربية إذا استطاع المعلمون بطريقة ما أن يجعلوا البنين والبنات العاديين يدركون هذه الحقيقة البسيطة، وهي أن الدنيا ربما لا تقدم له (أو لها) شيئًا أفضل من المال اليسير والعمل الكثير، إلا أن كلًّا منهم يستطيع إن أراد أن يحيا حياة مليئة بالملذات المستساغة إذا استطاع المعلمون أن يجعلوهم يدركون أن المتعة التي يظفر بها المرء وهو وحيد في غرفة متواضعة، هي غرفة نومه وغرفة جلوسه في آنٍ واحد، بعقل متنبه مدرب مزود بالمعرفة ومعه كتاب أكبر من متعته بامتلاك اليخوت وجياد السباق، وأن النشوة التي يُحسها من صورة عظيمة أو رباعية من رباعيات موزار أشد من نشوته من الجرعة الأولى من زجاجة الشمبانيا (وأن يصدر ذلك عن ذَواقةٍ مخلص). إذا استطاع المعلمون هذا، لحلُّوا — فيما أظن — عقدة المشكلة الإنسانية. أنَا لا أستطيع أن أحلَّ هذه العقدة، ولا أستطيع إلا القول بأن الشعب الوحيد الذي يملك مفتاح قصر الملذات هذا هو الشعب الذي يعرف كيف يقدر الفن والفكر لذاتهما والمعرفة كأداة للثقافة.

إن السوقة يعيبون على الإغريق في بحثهم وراء الحقيقة خلوهم من الغرض. لقد دفع الإغريق التأمل الرياضي ودراسة الهندسة إلى حد لا يزال يُدهش له أولئك الذين يقدرون على قياس الأرض المحسوسة، وهم أساتذتنا في التفكير الميتافيزيقي والخلقي والسياسي؛ في حين أنهم بلغوا في النظريات الميكانيكية حدًّا مكَّنهم من أن يخرجوا بطريقة غير مباشرة نموذجًا للآلة البخارية، ولكنهم لم يكلفوا أنفسهم مشقة استغلال هذا الاختراع، مما أذهل العصور التالية. إنهم لم يصنعوا إطلاقًا قاطرة، أو بارودًا، أو حتى دولابًا للغزل. إنهم كانوا يبحثون عن الحقيقة لذاتها، وبوصفها وسيلة للثقافة لا وسيلة للسلطان والراحة، وأهم من ذلك أنهم كانوا يزدرون أولئك الذين يبحثون عنها لفائدة مادية أو لكسب شخصي، لاعتقادهم أن هذه البواعث الدنيئة أحط من كرامة الأحرار ولا تتفق والحياة المهذبة، بل ربما أدهش بعض العلماء أن يعرفوا أن الأثينيين كانوا يحسبون الاشتغال بالتجارة مخلًّا بالشرف، ومع ذلك فإن أفلاطون وأرسطو كليهما يؤكدان ذلك. كان الأثيني يؤثِر أن يحيا حياة غنية على أن يكون غنيًّا، ومن أجل هذا نَعُد الأثينيين أرقى الشعوب حضارة في التاريخ.

كان يمرُّ بخاطر الأثينيين أحيانًا أن الشيء الجميل يحتاج إلى مبرر آخر غير جماله، وربما يرجع السبب في ذلك أولًا إلى أنه قل من الأفكار ما لم يخطر للعقل الأثيني.

أما الإيطاليون لعهد النهضة، فكانوا أقل من الأثينيين تفكيرًا في الأمر، بيد أنه ينبغي لنا أن نعترف أن الفرنسيين في أخريات القرن الثامن عشر أساءوا استخدام فن التصوير بغير خجل. فكانت صور جروز مثلًا توصف دون حياء لإنهاض الروح المعنوية، فهي تنبه الحس، وتثير الشفقة، وترتب على ذلك أنك تجد حتى اليوم بعض ذوي الأذواق ممن لا يستطيع أن يدرك أي مصور بارع كان جروز حقًّا. إن القرن الثامن عشر — كما قررت آنفًا — كان أصحَّ موقفًا فيما يتعلق بالحق منه فيما يتعلق بالجمال، كما كانت النهضة أصح موقفًا فيما يتعلق بالجمال منها فيما يتعلق بالحق، ومع هذا فإن تقدير النهضة للدراسة الخالصة التي لا تهدف إلى غرض كان تقديرًا صادقًا، وقد جعل ذلك براوننج حقيقة مسلَّمًا بها في شِعره الخيالي الذي قال فيه:

هذا الرجل الوضيع يبحث عن عمل قليل يؤديه
فيلقاه ويُنهيه
وهذا الرجل الرفيع، يتابع أمرًا جليلًا
فيموت قبل إدراكه
هذا الرجل الوضيع يجمع واحدًا إلى واحد
فسرعان ما يبلغ المائة
وهذا الرجل الرفيع يهدف إلى المليون
فلا يبلغ غايته
هذا عالمه هنا — فهل يحتاج إلى العالم الآخر؟
إن هذه الدنيا ترعى شئونه
وذاك يتوجه إلى الله، ودون أن يساوره قلق
يبحث عنه حتى يلقاه
وفي نضاله، تهبط عليه أيدي الموت الخانقة
وتزهقه وهو وراء قواعد النحو يعدو.
ووسط الضجيج، يبحث في أنواع الكلام
إنه يضع قواعد النحو وهو في نطقه يتعثر
بعدما يصيبه في نصفه الأسفل الشلل المميت.

ومهما يكن من الأمر فذلك اتجاه لا يسير فيه السوقة. إنها حياة ينفقها صاحبها في متابعة «العلم الذي لا ينفع». إن النحوي يروعنا ويثير فينا قليلًا من السخرية في آنٍ واحد. وهو لا يثير سخريتنا لإهماله للقيم العامة، وإنما يثيرها فينا تركيزه الجنوني على موضوع واحد قيم مع إهمال كل موضوع آخر. إن المتخصص لن يكون إنسانًا كامل المدنية. وربما كان القرن الثامن عشر عصرًا غير عملي كعصر النهضة. ولا يزال من المألوف بين أبناء الطبقة الدنيا من أصحاب الاتجاهات العقلية أن يعتبوا على ذلك العصر الساحر انكبابه كله على علوم تأملية بحت مثل الرياضيات والهندسة واهتمامه بها أكثر من اهتمامه بعلوم نافعة كعلم الحياة والكيمياء. لقد تمت في عصر العقل مكتشفات ميكانيكية هامة، غير أن أحسن العقول لم تهتم بها إلا قليلًا، والعلوم «النافعة» التي حظيت باهتمام شدید هي علوم السياسة وعلم الاقتصاد وحدها، ولا زلتُ من الطراز القديم الذي يَعُدها نافعة. وقلَّ من المؤرخين من لا يعزو إلى اشتغال هذا القرن بالمعنويات ما اتصفت به الثورة الفرنسية من الاهتمام بالأمور النظرية، وهم يرون أن جيلًا نشأ على آراء دارون وسبنسر لا يمكن أن يطمئن إلى التحيز العلمي أو إلى الدراسات النظرية البحت، ولست أدري ماذا عساها أن تقول البقية الباقية من الطبقة البرجوازية الروسية في هذا الصدد.

وعن الإحساس بالقيم تنشأ تلك الرغبة وذلك الاعتقاد في التربية الحرة التي لم يخلُ منها عصر من العصور المتمدنة. إن غاية ما يشتهيه كل إنسان متمدن أن يظفر بأغزر وأوفى حياة ممكنة، حياة تضمُّ أقصى ما يمكن من التجارب الحية الرائعة. ولما كانت تلك هي رغبة الإنسان المتمدن فإنه يهدف إلى تطوير نفسه تطويرًا كاملًا وإلى التعبير عن ذاته تعبيرًا تامًّا، ولا يستطيع تحقيق ذلك إلا من تعلم التفكير، والشعور، والتمييز، ومن تعلم أن يترك العقل حرًّا في معالجة كل موضوع، وأن يجعل مشاعره تستجيب استجابة صحيحة لكل باعث، والمعرفة مطلوبة فوق هذا؛ لأن العقل بغير معرفة يبقى عبدًا للهوى والخرافة، في حين أن المشاعر لا تتغذى عندئذ إلا بطعام وحشي رتيب. إن الرجل المتمدن يتطلب تعليمًا يكون بقدر الإمكان وسيلة مباشرة لما هو وحده خير كغاية من الغايات. إنه ينمي قواه في التفكير والشعور، ويتابع الحقيقة، ويكتسب المعرفة، لا لأية قيمة عملية قد تنطوي عليها هذه القوى، ولكن لذاتها، أو لقدرتها على كشف إمكانيات الحياة الغزيرة المعقدة — وهو في ذلك يتميز تمييزًا واضحًا عمن يأبه بتوافه الأمور والفائز في المسابقات، أما الرجل من السوقة، الذي ينقصه الإحساس بالقيم، فهو يتطلب من التربية أن تنير له الطريق إلى الثراء والسلطان، وهما هدفان ليست لهما قيمة إلا باعتبارهما وسائل بعيدة لذلك الخير النهائي الذي تقودنا إليه مباشرة التربية الحرة. إن التربية الحرة تعلمنا الاستمتاع بالحياة، أما التربية العملية فتعلمنا اكتساب الأشياء التي قد تمكننا أو تمكن غيرنا من الاستمتاع بها.

قلَّ من الأمور ما اهتم به الأثيني اهتمامه بتربية ابنه. ولما أصبح أهل ميتلينيا سادة البحار لفترة ما كانوا يعدون أكبر عقوبة يوقعونها على الذين لا يذعنون لهم من حلفائهم حرمانهم من المدارس، وإذا استثنينا البلاغة واستخدام السلاح فإن منهج التعليم في أثينا لم يهدف مباشرة إلى نتائج عملية. وكانت إيطاليا وريثة اليونان، وليس هناك ما هو أدل على قوة النهضة وذوقها من أنها فرضت زهاء أربعمائة عام على الطبقات الحاكمة في أوروبا تربية حرة كما كانت في ذلك الحين، ونحن نعرف تمام المعرفة ما كانت تراه خير العقول في إيطاليا في هذه المشكلة الأساسية للتربية؛ لأن بولدا ساركاستجليوني عالج الموضوع في شمول يدعو إلى الإعجاب، ولخَّص حججه وأمثلته في قوله: إن الآداب هي التي تزين النفس الحقة الكبرى، وكان هناك بطبيعة الحال في المنهج الجديد كثير من الغبار والرماد، إلا إن التقليد الذي ورثته النهضة عن الإغريق كان على كل حال يقوم على أساس اللغة اليونانية، وهو في هذا يختلف اختلافًا كليًّا عن عبث العصور الوسطى وحذلقتها. وبدراسة الأدب والفلسفة الإغريقية أتيحت الفرصة على الأقل لصفوة الشبان في جميع الأمم لاكتساب خير ما يستحق التحصيل. لقد كانت لأوروبا تربية تقليدية حرة في أساسها، وبقي هذا التقليد دون أن يعارضه أحد خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وإن كان المنهج خلال القرن الثامن عشر قد تطور مع تقدم الزمن، دون أن يُسَفَّ، فأدخل عليه تعليم الرياضيات والهندسة بدرجة أعم وأنظم. أما في القرن التاسع عشر فقد هوجمت هذه التربية هجومًا عنيفًا وبدأت تتلاشى بصورة محسوسة. وذلك من أثر الثورة الصناعية، وظهور الطبقات الوسطى، وعبادة كسب المال التي كانت تسمى أحيانًا «إنجيل العمل» والحماسة لمسايرة الزمن. وقضى عليها نهائيًّا خلال ما يسميه مستر ﻫ. ﺟ. ولز «الحوادث المحزنة في السنوات الأخيرة القلائل»،٥ وما يسميه «بالحرب» من نشأ على التربية الحرة.

إن الإحساس بالقيم والقدرة على التمييز بين الغايات والوسائل، تكفي لأن يؤمن المرء بالفردية، ومن المؤكد أن صفة أساسية أخرى — وهي تتويج العقل — تتولد عنها كذلك الأهمية القصوى للفرد، ولكن لما كنا أثناء نظرنا في رغبة الرجل المتمدن في تقدمه الذاتي اقتربنا من هذه الخصيصة من خصائص المدنية الرفيعة، فيجدر بنا أن نعالجها كذلك فورًا. إن كل من يدرك أن حالة العقل الطيبة هي الغاية الوحيدة الطيبة، ومن يدرك أن ليس هناك ما يبرر افتراض وجود عقل جماعي، كل من يدرك ذلك سيرفع بطبيعة الحال من شأن الفرد الذي لا يوجد الخير المطلق إلا فيه وحده. إن مثل هذا الشخص إذا تجاهل أن كل تعميم يجب أن يقاس في النهاية بتجربة الفرد لا يمكن العفو عنه؛ لأن الحديث عن خير القطيع كأنه شيء يختلف عن خير الأفراد الذين يتألف منهم القطيع أمر وحشي سخيف حتى عند السياسيين حينما يخدم ذلك أغراضهم. ومن ثم فإن الساسة البريطانيين — برغم استعدادهم للحديث عن المصالح البريطانية كأنها تختلف عن مصالح الشعب الذي يسكن في بريطانيا — صعقوا صعقًا شديدًا لمغالاة الصحفيين الألمان الذين قدسوا الدولة الألمانية فوق الفرد الألماني. إن الدولة لا يمكن أن تكون غاية لذاتها. إنها لا تعدو أن تكون وسيلة لتلك الحالات العقلية الطيبة التي هي وحدها غايات طيبة، ولا تتوفر إلا للأفراد.

وكثيرًا ما اضطر الأثينيون إلى التوفيق بين حقوق المواطن وحاجات المدنية، وقد أفلحوا عامة في الاحتفاظ بالمجال حرًّا للشخصية — وذلك على الأقل حتى بدأت سنوات الحرب تبلد إحساسهم بالقيم — فمكنوا بذلك لظهور تلك المدنية التي ما برحت عجب العالم الغربي وفخاره، وسوف أتحدث طويلًا عن الحرية الأثينية في الفصل المقبل، عندما أتعرض للكلام عن مولود العقل الأول — التسامح. ويكفيني في الوقت الحاضر أن أطلب إلى القارئ أن يسلم بها، ولن أذكر هنا سوى أن الإغريق كانوا مخترعين للفردية بصورة ما، وفي عالم يسوده الرق والخرافات الشرقية، كانوا أول من هب لإثبات القيمة الشخصية للمواطن المتعلم الذكي. كانوا أول من فكر في أن المرء بحواسه وعواطفه وذهنه هو سيد العالم، وأن الدنيا قوقعته التي يستطيع أن يفتحها بالذكاء والشجاعة، وأن عقل الفرد يقابل قوى الطبيعة، وأن كل إنسان يستطيع أن يشعر وأن يفكر هو ملك حقًّا.

وكذلك الإيطاليون لعهد النهضة أحسوا إحساسًا قويًّا بأهمية الفرد باعتباره المصدر الأساسي لكل ما هو مثير فاخر له دلالة، بل ربما غالوا — كما ذكرت من قبل — في تمجيدهم للشخصية، ولم يكفهم أن يزعموا للفرد تمام الحرية في التعبير والتجربة، بل أخذوا يغذون الشخصية حتى باتت استكبارًا وأنانية، وأسوأ من ذلك أنهم كانوا يظنون هذه الصفات البربرية في أساسها امتيازًا شخصيًّا، ولم تقع في هذا الخطأ العصور التي ارتفعت في أوج المدنية عن عصر النهضة مثل عصر برکلیز وفلتير، فإن حسن السلوك، والمعاشرة، وغير ذلك من المميزات التي تتقدم كلما أصبحت المجتمعات المتمدنة أكثر تقديرًا للذة الحديث، كل ذلك خفف في أمثال هذه العصور الميل الفردي لتقرير الذات بالاعتداء، ولكن لا جدال في أن هذه العصور الثلاثة كانت ممعنة في الفردية، وربما كان خير ما تظهر فيه فردية الإغريق فلسفتهم، وخير ما تظهر فيه فردية النهضة إسرافها. وليست بي حاجة — فيما أحسب — للتدليل على أن القرن الثامن عشر كان فرديًّا بأن أبين كيف أن كل تلك الآراء السياسية التي بلغت أوجها في الثورة الفرنسية كانت تقوم على أساس حقوق الإنسان وأهميته الخاصة باعتباره بشرًا.

وربما كان لا بد لي من ذكر كلمة عن شيء يترتب بالضرورة على الفردية — الفردية التي تتولد من العقل، والفردية التي تصدر عن الإحساس بالقيم — وأعني بذلك «العالمية». إن المرء الذكي الذي يحس بفرديته لا يحتمل أن يحس بالحب الشديد للدولة، التي يعدها — حقًّا — على أحسن تقدير ضرورة خطرة. إن الميل نحو العالمية القائمة على أساس الفردية، وهو حركة تحرر من غريزة القطيع أمر لا بد أن يلازم تقدم المدنية، بل إن هذا الميل يكاد أن يكون بحق معيار الحضارة. إن السلطان المطلق يتحكم في غريزة القطيع الهمجية. وعند الرجل الهمجي فكرة غامضة جدًّا عن القيم التي تتخطى حدود القبيلة، وهو لا يعطف على شيء يخرج عن نطاقها، ولكن الرجل المتمدن يعطف على غيره من المتمدنين بغض النظر عن محل ميلادهم أو إلى أي عنصر ينتمون، ويشعر بالقلق مع المتوحشين والسوقة — حتى إن كانت له بهم صلة من صلات الرحم — يقطنون في كنف المنطقة التي يعيش فيها، ولن أورد هنا الأمثلة التي تدل على عالمية القرن الثامن عشر، غير أني سوف أقدم اقتباسًا واحدًا من رجل بارز حجة في الموضوع لكي أخفف من القلق الذي يساور رجلًا جاهلًا قد يضطره عمله إلى مطالعة هذا الكتاب.

«بقي علينا أن نشير إلى إحدى مميزات فلسفة القرن الثامن عشر، وهي تعتمد على جميع المميزات الأخرى أو تتصل بها: إنها عالمية، يتمخض عنها أدب عالمي … إن جيوش الملك قد هزمت على يد رجل بروسي، ولكن هذا البروسي كان يتكلم الفرنسية، وكان بنا أشبه من جندي يموت من أجل الملك … ومن ثم فإن هازم روزباخ كان مواليًا للمدنية الفرنسية. فوطنيتنا تتركز في هذا الانتصار الروحي … ذلك أن تحرره العقلي (وهو من صفات الفرنسي في القرن الثامن عشر) كان يحول دون تحيزه ضد العنصر أو اللون … والرجل الذي يستحق هذا الاسم هو الذي لا يخضع إلا للعقل، غير أن هذا الرجل لم يكن فرنسيًّا أكثر مما كان ألمانيًّا: إنه أوروبي، إنه صيني، إنه من كل مكان يقطنه الإنسان، وجميع الحقائق التي يحتويها العقل البشري إنما وجدت لمثل هذا الرجل العالمي».٦

وقد اقتبست من قبل من كتابات المفكرين الإغريق مقتطفات تدل على عالمية كاملة التطور وازدراء جريء لقيود الوطنية، وتذكرون ما قال ديموقريطس الأبديري من أن «كل بلد تحت منال الرجل الحكيم» وأن الأرض بأسرها موطن الرُّوح الطيبة، وقد سارت النهضة على هذا النهج؛ لأن الإنسان حينما يشرع في تحرير الفكر تخف عنه وطأة الوطنية، ومن ثم فلا عجب أن تجد كوروس أوركيس — وهو اسم نختاره اعتباطًا — الرجل الإنجليزي الذي يهتم بالجمال أو الحق أو المعرفة أشد عطفًا على الفرنسي أو الألماني أو الصيني الذي يشاركه ذوقه منه على ابن موطنه الذي يشارك في ذوقه مجلة «بنش» أو «جون بول».

غير أن الوطنية هوى يشقُّ أبعاده عن الدولة أو المجتمع. والعالمية — وهي النتيجة المنطقية للفردية — بطبيعتها صفة من صفات الفرد أكثر منها من صفات الجماعة، وليس من شك في أن الأثينيين كانوا وطنيين، إلا إن وطنيتهم تخلو من بعض مساوئها لأنهم كانوا صادقين في حبهم أثينا لما كانت عليه، لا لفكرة وحشية ساذجة وهي أنها مدينتهم. كانوا يُحسون هذا الإحساس عن تفكير، لما في المدينة من صفات معينة محببة، لا عن غباء لعَلَمها أو اسمها، وكذلك كان للأثينيين عذرهم، فقد كانت دولتهم محاطة بدول أخرى تهددهم وتعاديهم. وكان لا مناص لهم من الإحساس بأنهم يقفون موقف الدفاع، ولما انتصف القرن الخامس عشر هبطت هبوطًا كبيرًا الحماسة الوطنية للمدن الإيطالية، واستأجر الطغاة جيوش المرتزقة لأغراضهم السياسية. ولم يسهم المواطنون إلا قليلًا — أو لم يُسهموا قط — في الحروب التي نشبت بين الأسرات، ولو أن الإيطاليين أدركوا أن المدنية الإيطالية في جملتها مهددة — كما كانت — من جانب البرابرة الجرمان أو الإسبان، ولو أنهم سلحوا أنفسهم للدفاع، لهبطوا ولا شك بمستوى مدنيتهم، ولكان لهم في ذلك ما يبررهم كما كان للأثينيين، وتكاد أن تكون جميع حروب القرن الثامن عشر منازعات بين جيوش من الجند المحترفين المدربين على القتال أحسن تدريب؛ فاشتهر المدنيون المتفوقون في تعليمهم بانتفاء العاطفة الوطنية والبغض بينهم.

إن جميع الشعوب المتمدنة عندها إحساس بالقيم، ويختلف هذا الحكم في معناه عن قولنا إنه كان لديهم ناموس للأخلاق. ففي الأخلاق ربما كانوا متشككين كل التشكك، وربما قبلوا نظرية ثابتة مسلمًا بها، أو نظرية تقوم على الإلهام الشخصي، أو ربما أخذوا بمبدأ النفعية وأقروا أنهم يسعون لتحقيق أكبر قسط من السعادة لأكبر عدد من الناس، ولكنك لن تجد شخصًا متمدنًا من جميع نواحيه يقبل قانونًا للأخلاق يهدف إلى توفير أكبر قسط من السعادة لأكثرية مجموعة مختارة اعتباطًا وبغير تمييز. إن الفرد إذا تقدم في المدنية لا يمكن أن يقبل الوطنية كقاعدة خلقية بغير تردد. إنه يميل بحق إلى الإقلال من التفكير في حدود المجموعة. كما أن اعتبار «بلده» وحدة لها مصالح تتميز عن مصالح بقية العالم فكرة تفقد وضوحها تدريجًا في نظره، حتى يشعر في النهاية — بعدما يدرك أن الفرد وحدة لها مصالحها المتميزة وهذا الكوكب وحدة أخرى — إن حدود جميع الوحدات المعروفة الأخرى وتخومها غامضة اعتباطية. هناك أفراد وهناك الجنس البشري، وحينما تتدبر العقول القوية المدربة في حرية وانطلاق تنهار العقيدة في وجود الحواجز المأمونة بين هاتين الحقيقتين الثابتتين، وقد يكون من أسباب التيسير أحيانًا —لأغراض تنظيمية أو بيولوجية مثلًا — أن ننظر إلى الأفراد أعضاء في جماعات: الرجال، والنساء، والأطفال، أصحاب الساق الواحدة أو الرئة الواحدة، قصار الناس، وطوالهم وأصحاب الشعر الأحمر، والمتعلمون، ومدمنو الخمور، وحمالو السكك الحديدية، والحلاقون، والألمان، والإنجليز والأتراك. إلا أن مثل هذه المجموعات لا يمكن أن تكون لها ما للأفراد من واقع أو من صفة أكيدة أو وجود لا نزاع فيه، أو ما لهم — في الحقيقة — من فردية، وأهم من ذلك أن الجماعات التي تقوم على أساس الوضع الجغرافي أو الفروض الجنسية تبدو في اعتبار المدنية أقل من غيرها واقعية وأقل منها في الصفات المشتركة وأشد غموضًا.

العالمية سلاح تميل المدنية إلى الدفاع عن نفسها به حينما يشتد تهديد العصبية الوطنية؛ لأن الوطنية خصم لدود للمدنية. هي مرض قوض في النهاية صرح أثينا، وهدد أكثر من مرة سلامة كيان القرن الثامن عشر، وإنا نشكُّ في أن التعصب الديني نفسه قد تولدت عنه من الويلات البربرية ما يفوق هذه الظاهرة الحديثة من مظاهر غريزة القطيع. كم من ملايين البشر انهار أو أفقر من جراء هذه الظاهرة التي هي من بقايا عصر ما قبل الإنسان؟ كم من إمكانيات الخير العام ما ضُحي به في سبيل هذه الزائدة سريعة التهيج؟ والعصبية الوطنية — برغم هذا — غول لا يمكن الاقتراب منه، ولا يستطيع أحد أن يحدثك على وجه الدقة عن ماهية الأمة. إن وجود ألمانيا وإنجلترا يشبه وجود ناديين من نوادي كرة القدم. تستطيع اللجنة التنفيذية في كل منهما أن تختار أحد عشر لاعبًا يتبارون مع أحد عشر لاعبًا آخرين، يهتف مؤيدوهم من الجانبين ويهللون، ومع ذلك فإن أحدًا لا يشكُّ في أن العامل من عمال السكة الحديدية في كرو بينه وبين زميله في شفيلد قدر مشترك أكبر مما بينه وبين رئيس الغرفة التجارية في كرو الذي قد يكون بالمصادفة رئيس نادي كرة القدم. إن الناس جميعًا يستطيعون الانحياز، وأكثرهم يستطيع أن ينحاز إلى أي جانب. من أجل هذا كان من اليسير الإبقاء على روح التعصب الوطني حيًّا، ولكن إذا كان هناك معنى حقيقي في تقسيم الناس إلى قوميات مختلفة، لا بد بالتأكيد أن تكون هناك صفات مشتركة يختص بها كل من ينتمي إلى قسم معين، فما هي هذه الصفات؟ ما هي الصفات الخاصة التي يشترك فيها ملتن مع بوتملي وشلي ومستر لويد جورج ودارون وسر أولفر لودج ودوق ولنجتن وفستانلي، وأسفف لندن، والأسقف باركلي، وبليك وكولردج وسروليم جوينسن هِكْس؟ ولما كنا قد بلغنا هذا، فما هي الصفات الخاصة التي اشترك فيها معك أو مع الرجل الذي جلب لنا النصر في الحرب؟ إنه يتكلم الإنجليزية، وكذلك يتكلمها الرئيس ولسن، وكذلك يتكلمها القيصر ولهلم: إن المستر جورج يتكلم لغة ويلز كذلك، التي لا أتكلمها أنَا على الأقل، وهناك لغات أخرى قديمة وحديثة أعتقد أننا نتفوق عليه فيها. ومن ثم فإن اللغة، بدلًا من أن تضم بعضنا إلى بعض، توحي بتقسيم ربما باعد بيننا. إن ثلاثتنا وُلد في الجزر البريطانية، وربما وُلد فيها كذلك كارل شيدنتز، وماريوس بیرفت، ودیمتري بروتو بوبوف، وسقراط کُنبیرفت، والحاج بابا، وعبد اللطيف، وبوشي لنج، وأرنست روتشيلد وشيوزا موني (وهم أجانب من جنسيات مختلفة). فهل أفرض أن التعصب الوطني، ذلك الشيء الذي من أجله يتحمل المرء كثيرًا من المشاق، ويتجاوز عن كثير من المزايا، هو نفس الشيء الذي يشترك فيه هؤلاء الرجال معًا ومع مستر لويد جورج ومعي؟ إن كان الأمر كذلك، استطعتَ أن تفهم في يُسر لماذا يرى المتمدنون باطلًا معينًا في تقسيم الناس إلى أمم.

ومن الصفات التي يتميز بها تميزًا واضحًا الرجل المتمدن من الرجل الهمجي روح الفكاهة، وليست روح الفكاهة — عند التحليل الدقيق — سوى إحساس بالقيم ارتفع كثيرًا في سلم التقدم، ولست أقصد بروح الفكاهة استساغة المجون والتهريج، وأستطيع أن أتصور — مثلًا — ما يقوم به الفدَّا في سيلان من وضع الأشواك في حصير الآخرين، أو اليوروبا في غرب أفريقيا من تبادل التسلية بالحكايات الماجنة، وإنما أقصد بروح الفكاهة القدرة على إدراك الجانب المضحك من أخذ الأمور مأخذًا جديًّا أكثر مما تستحق، وإعطائها أهمية ليست جديرة بها، ولا يتمتع بهذه القدرة إلا أولئك الذين يستطيعون أن يفرقوا بين الوسائل والغايات؛ فما يثير الضحك أن تعزو إلى الوسيلة الأهمية التي تستحقها الغاية. ولما كانت كل أعمال البشر لا تبلغ المثل الأعلى، فإن جميع المحاولات البشرية تبدو أحيانًا في عين الرجل المتمدن من جميع نواحيه أمورًا تثير الضحك ولو إلى حد ضئيل، غير أن الحماسة في البحث وراء الحب والجمال والحق أمور لا يعلو فيها الضحك ولا يطول إلا من الحمقى الذين لا يستطيعون أن يدركوا هذه الحماسة أو يقدروا الهدف منها. إن الحالة العقلية التي تسيطر على المحب، أو على مَن يبدع أو يتأمل الجمال، أو على مَن يتطلع إلى قمم الحق العالية، حالة طيبة في حد ذاتها، ومهما تكن الوسيلة التي تستخدم في بلوغها شاقة أو بغيضة، فإنه يجب ألا تحكم عليها بعدم الملاءمة — وإن كنا في الواقع كثيرًا ما نفعل ذلك. إن هذه الأمور غايات طيبة، ومن ثم يشقُّ أخذها مأخذ الجد أكثر مما ينبغي، وإذا ما خرجنا عن هذا النطاق المقدس للغايات وطرقنا باب الوسائل، وشرعنا ننظر إلى الناس الذين يشغلون أنفسهم بالسياسة والتجارة والكرامة والراحة والسمعة والشرف وما إليها، فسرعان ما يتبين لنا أنهم يعالجون هذه الوسائل بالجد الصارم الشديد الذي لا يجوز إلا للغايات. إنهم يأخذون هذه الأمور مأخذًا جديًّا أكثر مما ينبغي. يدلك على ذلك إحساسك بالقيم، وترد عليه روحك الفكاهية بومضة من السرور لها لون معين لا يراه إلا المتمدنون.

هذا السرور الذي لا يستطيع أن يدركه الرجل الهمجي بما لديه من إحساس بدائي بالقيم، وعجز عن التمييز بين الوسائل والغايات، هذا السرور يستمتع به کل رجل تمدن بدرجات مختلفة. إن روح الفكاهة مميز من مميزات الفرد الضالع في المدنية؛ إلا إنه لأسباب أرجو أن أوضحها حالًا لا يترتب على ذلك أن يعيش أرقى الأفراد مدنية في أرقى العصور مدنية، بل على العكس من ذلك يبدو أن أرقى الأفراد مدنية في أي قرن له نصيب من المدنية يجب أن يكونوا أرقى مدنية من نظرائهم في القرن السابق بشرط أن يكون تراث الماضي دائمًا في منالهم وأن تتوفر لهم وسائل الاستمتاع به، فقد كان أكثر الرجال تمدنًا في القرن الثالث عشر أحط في المدنية إلى درجة لا تُقاس من الأثيني أو حتى من الروماني المثقف، وذلك لأن العصور الوسطى كان يشق عليها أن تستمد أي شيء من الماضي أو أن تفيد كثيرًا من القليل الذي تحدر إليها، وحتى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يكن الطريق بعد معبدًا، ولا أتصور أن أشد رجال النهضة تهذيبًا كان يظهر بمظهر الشخصية التي لها قيمتها في دائرة أسبسيا Aspasia ولكن إذا كانت النهضة ما برحت تتجه إلى أعلى، فمن المؤكد — فيما أظن — أنه عندما انتصف القرن الثامن عشر كان هناك من الرجال والنساء من سموا في المدنية على سابقيهم، ويرجع السبب أولًا في ذلك — من غير شك — إلى أنهم تعلموا منهم الكثير؛ إلا إن الرجال والنساء الضالعين في المدنية في القرن الثامن عشر لم يؤثروا برغم هذا في عصرهم تأثيرًا قويًّا عميقًا كما فعل المتمدنون في أثينا، وربما يعود ذلك إلى أنهم كانوا نسبة ضئيلة من السكان. كانت مدنية القرن الثامن عشر أحط درجة من مدينة بركليز، ولكني برغم هذا أستطيع أن أقول إنه لم يوجد بين الأثينيين من يبلغ في مدنيته مبلغ فلتير، وعلى أية حال فإن الرجل الكامل المدنية في القرن الثامن عشر كان أرهف حسًّا في فكاهته من الأثينيين بدرجة واضحة. لم يبلغ أرستوفان نفسه مبلغ لافونتين (منذ البداية) في رقة الحس، أو مبلغ جرسيه، أو منتسكيو، أو ماريفو، أو فلتير، أو بومارشيه، أو — في هذا الشأن — مبلغ كنجريف، أو بوب، أو جولد سمث، أو ستيرن، أو جِبُن، بل إن أرقى المتمدنين في العصر الحاضر ربما فاقوا كل من عداهم في دقة الحس، من حيث الفكاهة، أو في تقديرها على الأقل. وإن كان الأمر كذلك فلست في حاجة إلى أن أعزز رأيي بأن أذكر أن ظهور عصفور واحد من عصافير الجنة لا ينبئ بقدوم الصيف.

وأراني في هذه الفقرات الأخيرة كنت أبحث في الموضوع من نهايته إلى بدايته، في حين أنه كان ينبغي أن أرجئ معالجته إلى بعد ذلك وأن أعالجه في جوٍّ خاص به. إن روح الفكاهة والعالمية كذلك من صفات الشخص المتمدن أكثر من أن تكون من صفات المجتمع المتمدن، ومع أني أرمي إلى التدليل على أن المجتمع المتمدن ليس إلا مجتمعًا لونته حفنة الأشخاص المتمدنين، إلا إني لم أثبت ذلك بعد، وليس غرضي المباشر أن أصف الرجال والنساء المتمدنين، وإنما غرضي أن أكتشف الصفات التي تشترك فيها وتختص بها تلك المجتمعات الثلاثة التي عددتها نماذج الكمال، ولما كنت الآن قد انتهيت من ذكر هذه الصفات التي تنشأ عن الإحساس بالقيم، فلا بُد لي أن أتجه نحو تلك الصفات التي تغري إلى تتويج العقل.

١  تاريخ المدنية – الجزء الأول – صفحة ٤٣٠.
٢  بحثت هذا الموضوع في مزيد من الاستفاضة في مجموعة «منذ سيزان» في مقال أستبيح لنفسي أن أقتبس منه.
٣  يشير بركليز في رثائه بصفة خاصة إلى رُقي آداب السلوك عند الأثينيين. يقول ثيوسيديد في ص٣٧ من الجزء الثاني: «الأدب في الحياة الخاصة هو ما يضمن لنا الانسجام».
ولكي نعرف الأهمية التي كانت تعلقها النهضة على آداب السلوك، انظر كتاب كورتيجانو باسم Cortigiano Passim (أي رجل البلاط) وأذكر أن هذا هو الكتاب الذي تداولته الطبقات المتعلمة.
٤  إنني أكرر هذا ثانية ما ذكرت من قبل في مقال لي عن «النقد».
٥  من مقدمة «موجز التاريخ».
٦  من تاريخ «الأدب الفرنسي» تأليف لانسون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤