مميزاتهم: تتويج العقل

يرى المؤرخون أن خطاب بركليز — الذي واسى فيه الثكلى من مواطنيه بذكر فضائلهم التي يتميزون بها — يتضمن لب المدنية الأثينية، غير أن المؤرخين يخطئون التفكير أحيانًا. إن خطبة بركليز أداء جميل يوحي بجو جميل، ولم يكن ليستطيع إلقاءها إلا رجل عظيم يخاطب بها رجالًا يَعلون كثيرًا فوق متوسط الفكر والشعور في العصر الحديث، وإنها لتنبو في مجلس العموم كما تنبو في مؤتمر اتحادات العمال، ولكني لن أتوجَّه إلى أي خطاب أو إلى أي رجل سياسي باحثًا عن أمر دقيق كلب المدنية. إن الخطب السياسية قد تكون مظاهر للمدنية، وكذلك قد تكون القوانين، والقبعات، وفنون الطهو، ولكنها لن تكون معبرًا عن روحها، وأدنى إلى صواب الرأي أن نكشف عن سر أثينا خلال ما كتبه أرستوفان، ويوربديز، وأفلاطون، وتقاليد السفسطائيين، لإخلال خطب برکلیز، وإيسوقراط، وفوكيون، وإن كنا نأمل في العثور على ذلك الزعفران الذي يخلع على الثقافة الهلينية طعمها ولونها، فسنجده عند الشعراء والفلاسفة والمؤرخين، ولست أقول إنا لا نجده إلا عند هؤلاء، بل ولست أقول إنهم كانوا أهم الناشرين لهذا اللون، بل على العكس من ذلك أتعشم بعد قليل أن أبين أن ينبوع المدنية يتفجر عن مصادر ومستودعات غير معروفة — من نوع معين — ولو أنها تصب في مسالك معروفة، وأن أبين أن ناشري الثقافة جماعة من الرجال والنساء أكثرهم لا ينشئ عملًا محسوسًا ولا يترك أثرًا ملموسًا، وإن كانوا ينشرون الأثر الذي يتبدى في روح العصر. وعلى أية حال، فمن السخف أن نجعل من السياسي ممثلًا للحركة الروحية أو العقلية. إننا لا نحكم على مبدأ النفعية، وهو من إنتاج تفكير آدم سمت وريكارد وبنتام وملز، من خطب هبهاوس ومستر روبك، ومن خطب مستر کوبدن ومستر برایت. كما أن ترجو ونكر — برغم عظمتهما — لا يعطياننا إلا فكرة ناقصة عاجزة عن الحركة «الفلسفية». إن إحياء العلوم وحرية الفكر في شمالي أوروبا كان شيئًا يختلف كل الاختلاف عن دعاية لوثر الصاخبة وانتهازية فردريك السكوني وهنري الثامن. إن رجال السياسة — في أوقاتهم — يلمعون في الأفق كما يلمع الممثلون وراكبو الخيول، ثم يتوارون عن أعين الجمهور كما يفعل هؤلاء، ولا يعرفهم بعدئذ إلا الباحث المنقب المتطلع وحده.

«سخرية في حياتهم، منسيون بعد مماتهم».

وإذا صدق الشق الثاني من هذا الاقتباس، فلا بد أن يصدق الشق الأول؛ إذ ليس أدعى إلى السخرية من رجل محكوم عليه بهذا النسيان السريع، يختال اختيال الوزراء؟ ثم خبرني، كم صديق لك يستطع أن ينبئك من كان رئيس وزراء إنجلترا في وقت واترلو، ومن كان وزير الحرب، ومن كان قائد الأسطول. وكم من أسماء الساسة الأحياء العاملين في عام ۱٨١٥م معروف عند جمهور القراء؟ ربما عرفوا كاننج، وكاسلري (وبخاصة لأنه كان موضع سخرية بيرن وشلي) وربما كذلك عرفوا جراي، ولكن هل يعرف أكثر من اثنين من قادة ولنجتن غير طالب متخصص في التاريخ الحربي؟ ومن كان على رأس الأسطول البريطاني حينما اعتلى نابليون متن بلرفون، ولكن إذا كان المثقفون والمثقفات من الإنجليز لا يعرفون اسم رئيس الوزراء الذي انتصر في حروب نابليون فيما يظن، ولا يعرفون أسماء زملائه الوزراء، ولا أكثر من اثنين من قواده العسكريين، ولا يعرفون أحدًا من قواده البحريين، فإن كل طالب جامعي متوسط يستطيع أن يقول لك إن شلي وبيرون وكيتس وورد زورث وكولردج وسذي ولام وهازلت وسكت ومور ورجر زوجين أوستن كانوا يكتبون في ذلك الحين. وتفسير ذلك يسير: إنهم يذكرون هؤلاء لأنه كان لهم — ولا يزال لهم — أثر حقيقي مباشر على عقول الناس، ولأنهم لا يزالون يخلقون الأفكار والمشاعر الجديدة ويستثيرونها، وما برحوا يوحون إلينا بوجهات نظر جديدة، أو يغيرون وجهات قديمة، بل ولأنهم ما فتئوا يضيفون الآن جديدًا إلى مستودع الخير في هذه الدنيا. أما رجال السياسة فهم — في أحسن الظروف — لا يقومون إلا باستخدام وسائل الخير التي أنتجها غيرهم وتوزيعها بين البشر. ولكنهم لا يخلقون قط جديدًا. وهم لا يُذكرون قبل كل شيء إلا بسبب الحوادث الجليلة المسرحية التي ارتبطت بها أسماؤهم، ولكنهم لم يكونوا باعثيها، بل إن هذه الحوادث الجليلة — كما رأينا — لا تنجيهم دائمًا. إنهم ينتمون — بوجه عام — إلى تلك الطبقة الثالثة أو الرابعة التي لا يمكن أن تلعب دورًا رئيسيًّا في تاريخ الجنس البشري، وإن تكن ربما لعبت دورًا مرموقًا. إن رجال السياسة يتركون في الأسطوانة خدوشًا وندوبًا، ولكنهم لا يبدعون النغم. إنهم لا يبتكرون ولا يستنبطون ولا يعدلون كثيرًا من تلك الدوافع المحسوسة المنبعثة عن العقل البشري والتي يتشكل بها تاريخ الإنسان. ومن الخطأ إذن أن نتوقع منهم أن يكونوا من بين أولئك الذين يبدعون المدنية، وإن كنا كثيرًا ما نجدهم مظاهر لها دلالتها لتلك المدنيات التي هم جزء منها.

ومن أجل هذا، فلن أتوجه إلى بركليز ألتمس عنده سر المدنية الأثينية، وإن كان يسرني أن أعده مثالًا لما يمكن أن تنتجه المدنية الأثينية. وفي خطابه جزء واحد أود أن أركز عليه اهتمامي لأن الظاهر أنه يعبِّر على وجه الدقة عما كان يحسه الأثينيون إزاء أولى وأهم صفة من صفات المدنية التي تنبع من تتويج العقل — وأقصد بها «التسامح». يقول بركليز: «إن روح الحرية تسود شئوننا العامة كما تسود شئوننا الخاصة. إننا دون أدنى غيرة نتسامح في الاتجاهات الخاصة بجميع ضروبها في حياة كل منا: ولا يعارض أحدنا في أن يسير جاره وفق مزاجه: ولا ينظر أحدنا شزرًا، نظرات تضايق وربما لا تؤذي».١ إن هذا النوع من التسامح، وهو من أقوى الدلائل على رقي المدنية، لا يتأتى إلَّا من الثقة في العقل، فإن حسن الذوق لا يكفي. إن الإحساس بالقيم قد يؤدي بطرق ملتوية إلى الإحساس بضرورة الحرية الشخصية، إلا إن الأساس الثابت الوحيد للتسامح هو الإدراك الذهني الواضح؛ لأن العقل وحده هو الذي يحق له أن يحد من الحرية. العقل وحده هو الذي يستطيع أن يقنعنا بتلك الحقائق الأساسية الثلاث التي لن تكون هناك حرية فعالة دون إدراكها، وهي إن ما نعتقد فيه لا يتحتم صدقه، وإن ما نحب لا يتحتم أن يكون خيرًا، وإن كل فرض محتمل. إن إحساسنا بالقيم يجب أن يبين لنا أننا لو حرمنا على أي فرد أن يعبر عن نفسه تعبيرًا كاملًا أفقرنا حياتنا، ولكن العقل وحده هو الذي يقوى على الحد من تلك الرغبة الجامحة — التي تكمن في صدر كل منا — في إرغام الآخرين على أن يكونوا على غرارنا. ينبغي أن يكون العقل هو الحكم الوحيد، والعقل يسمح لنا بألا نحد من التعبير الذاتي عند الآخرين إلا بمقدار ما يمكن التدليل — عقلًا — أن مثل هذا التعبير الذاتي يهدم من أسباب الخير أكثر مما يبني.

إن إحساسنا بالقيم يحملنا على أن نشعر بالرغبة في توفير أكبر قسط ممكن من التعبير الذاتي لكل إنسان؛ ومِن ثمَّ وجب علينا أن نتسامح لا فيما يرى غيرنا فحسب، بل كذلك في طرائق سلوكهم في الحياة.

•••

إن شعار المدنية عند الأثينيين، وهو من أروع ما يفخرون به يتمثل في هذه العبارة:

«لسنا أحرار الفكر في السياسة وحدها. إننا دون أدنى غيرة نتسامح في الاتجاهات الخاصة بجميع ضروبها في حياة كل منا، ولا يعارض أحدنا في أن يسير جاره وفق مزاجه، ولا ينظر أحدنا شزرًا، نظرات تضايق وربما لا تؤذي».

وإذا قلت لي: إن الأثينيين حكموا على سقراط بالموت ما حققت بهذا القول هدفًا طيبًا؛ فأنَا أعلم ذلك من قبل، ولكن إذا كان عصفور واحد من عصافير الجنة لا يخلق جو الصيف، فإن ثلاثة أيام مظلمة لا تخلق الشتاء، إن الأثينيين — بما كان لديهم من حرية الفكر والنقد، واتساع آفاق العقل، والتطلع إلى المعرفة، واستساغة التجريب — قدموا مثالًا حاولت خير العصور المقبلة عبثًا أن تحاكيه، إن خير عقول الغرب تتجه دائمًا نحو أثينا تلتمس الوحي والتشجيع. أثينا وحدها تقدم لهم ما يقرب إمكان تحقيق آمالهم في المثل العليا؛ لأن الشهوة الجامحة للحق والجمال نالت شيئًا من التحقيق العملي في أثينا وحدها. كان الأثينيون يهتمون بغريزتهم بالجمال ويؤمنون بالحق، وقد أعطاهم هذا الإيمان شيئًا يفضل استساغة الحرية. أعطاهم الاعتقاد في ضرورتها المطلقة. كان عند الأثينيين دين للدولة لا تعوقه المذاهب كثيرًا، بل ولم يعتنقه في حماسة أصحاب العقول النافذة بعد منتصف القرن الخامس. كان دينًا يبدو أنه لم يقف إلا في وجه سقراط — وفي وجه أنكساجوراس لفترة ما — فحال دونهما وحرية التأمل. كانوا بحاجة إلى تقديس محرم أو محرمين قديمين تقديسًا رسميًّا، إلا إن الناموس الأخلاقي الوحيد الذي وضعه القانون والرأي العام موضع الاعتبار العظيم هو ناموس الأخلاق العملي. كان يُطلب إلى المواطن ألا يرتكب أفعالًا تنافي المجتمع منافاة شديدة، غير أن الأثينيين لم يقصدوا بالأفعال التي تنافي المجتمع أي شيء تمقته الأغلبية أو تسيء فهمه. فلم يعارض أحدهم في أن يسير جاره وفق مزاجه. لقد حاولوا أن يكونوا متسامحين.

وحينما أقول: إن تتويج العقل صفة لازمة من صفات المجتمع الضالع في المدنية، فإني أرجو ألا تتصوروا أني أفترض أن كل أثيني ينظر إلى كل موضوع يمر بحياته نظرة عقلية بحت. لا تتصوروا أن يوليس قيصر حينما قال: إن البلجيكيين جنس شجاع كان يفترض أن كل فرد بلجيكي كان جسورًا كالأسد، ومن المؤكد أن القرن الثامن عشر في فرنسا الذي شغف بالعقل أكثر مما شغف به القرن الخامس الهليني كان يعتقد أنَّا بحاجة إلى تعديلات يسيرة في النظم لكي نجعل كل امرئ سعيدًا عاقلًا، أما نحن أبناء القرن العشرين الذين نتمتع بكثير من نواحي الإصلاح والثورات المجيدة فلا مفرَّ لنا من أن نكون أقل حماسة، أما الإيطاليون لعهد النهضة، فقد بذلوا قصارى جهدهم لكي يحطموا حواجز عدم التسامح التي كانت قائمة في العصور الوسطى؛ فكان مقياس نجاحهم هو مقدار ما في الرد على أفعالهم من همجية. ولنذكر أن من آراء بروكارت الحكيم رأي له اعتباره وهو أنه فيما بين منتصف القرن الخامس عشر والفزع الإسباني — الذي تولدت عنه حركة إصلاحية مضادة — كان جميع الإيطاليين المتعلمين يبيحون حرية النقاش في الموضوعات التي تشبه خلود الروح، وبطبيعة الحال لم تكُن جميع العصور الضالعة في المدنية على درجة واحدة من التسامح غير أنها كانت جميعًا تكافح في سبيل بلوغ الضياء، وهم يُحسون أن محاولة فرض طرق التفكير والشعور والحياة بالقوة أمر قبيح. لقد أدركوا، على درجات متفاوتة من الوضوح، أن العقائد الجامدة والموت سواء، وكانوا يميلون فيما يتعلق بما تبقى لديهم من خرافة أن يحتفظوا به لأنفسهم. لم يحاولوا كثيرًا أن يفرضوه بالقوة أو بالتهديد بفرض العقوبات الخلقية. كانت النهضة من غير شك — بما لديها من اعتقاد في التنجيم والأدوية الخرافية التي تولد العشق — تؤمن بالخرافة، ولكنها كانت في ذلك أقل من العصور الوسطى بدرجة كبيرة، ومن المواطنين الأثينيين عدد كبير لم يكن يؤمن بالخرافة، بغض النظر عما كانت عليه الحال مع الرعاع المولعين بالألغاز وأكثرهم من الرقيق، أما القرن الثامن عشر في فرنسا، فلم يكن متشككًا فحسب، بل اعترف بالخرافة كما كانت قائمة — واعتبرها العدو اللدود لما يجعل للحياة قيمتها — «إنه عار يجب أن يسحق».

لأن الخرافة أمر يحول دون الرجل وإحساسه بالواقع، وتحرمه من تلك الخبرة الغزيرة المثيرة، وهي إدراك الواقع. إن إدراك الحق ورؤية الشيء ذاته، خبرات توازي الحب والاستمتاع بالجمال، ولكن كيف يتوفر لمن يرقب السماوات ذلك الإحساس الذي يتولد عن ظهور كوكب جديد في محيط بصره إذا كانت الخرافة ترغمه على الاعتقاد بأن السماء إناء مقلوب، والنجوم خصاصات يتطلع خلالها الآلة، وإنه ليست هناك كواكب؟ وكما أن العاشق يرى معشوقته دائمًا خلال سحب من الخيال، فلا يدرك قط تلك المتعة السامية التي تنشأ عن ذلك الإدراك الكامل عند إنسان آخر، أو عند موجود آخر، له ما للعاشق من واقع، فكذلك من يتدبر الكون خلال منظار الخرافة لا يمكن أن يدرك ذلك الإحساس الذي يقابل إدراك الحقيقة العارية وقبولها في حماسة شديدة. الخزانة تختلس من العاطفة باعثًا من بواعثها الدقيقة، ولا تكتفي بذلك، بل إنها بفرض حدودها على العقل المتنقل تحرمنا لذة من أدق وأرق ملذاتها؛ لأن العقل — وإن كان لا يموت — يتبلَّد ويترهل في الأَسر. إن العقل يستطيع أن يمدنا بكل ما يجعل الحديث مسليًا والمجتمع لامعًا — النكتة، والتهكم، والتناقض، وحضور البديهة، والعبث العقلي — على شريطة أن يتحرر العقل. يجب ألا تكون هناك محرمات، أو موضوعات لا يجوز المساس بها؛ لأنك لن تظفر من العقل الذي يرسف في الأغلال بشيء خير من مقال رنان أو نكتة عملية. يجب أن يتحرر العقل ليتناول كل ما في السماوات والأرض، لا جادًّا فحسب بل هازلًا كذلك. إنه يستطيع أن يكون مجيدًا كالنسر يمتد بصره إلى آفاق بعيدة، ولكنه كذلك كالنسر لو أصابه الكساح تخبط في الظلام. كل ما يكون، وما كان، وما يمكن أن يكون، ألاعيب ملائمة بين يديه. ولكن الخرافة تحصر ميدانه الذي يلعب فيه في طاولات محدودة، وفي هذا المجال، الذي تحده التقاليد الجامدة. يعشي بصره ويصبح صبيانيًّا في حركاته. فيقف التأمل المثير عند حد، وتنتهي دقة التفكير العقلي. الخرافة تختلس من العقل مجده وجانبًا كبيرًا من لهوه، وقد أدرك ذلك القرن الثامن عشر، فأعلن الحرب على الخرافة.

إن المتسامحين الذين لا يؤمنون بالخرافة لا يحتمل أن تقسو قلوبهم قسوة شديدة، إلا إن كانوا عن طريق الصدفة ممن يجدون لذة في تعذيب الناس وفي القسوة لذاتها، وهي صفة لا تفشو بين المتمدنين أكثر مما تفشو بين المتوحشين، ومن المؤكد أنهم يمقتون القسوة التي لا تنفع، وأنهم ليرون أن أكثر الأعمال التي تتسم بالقسوة لا تضر ولا تنفع. كان القانون في أثينا يحرم التعذيب، كما كان يمجه روح الشعب الأثيني، وحينما كان هذا الشعب يقوم جماعة بعمل وحشي غير مألوف، كان يحس إحساسًا جماعيًّا بالخجل، ومهما يكن من أمر، فإن هذا الإذلال كان أندر في وقوعه من أن يعد صفة من صفات المدنية. إن الفردية الصارخة في عهد النهضة أنجبت حشدًا من الرجال الممتازين، وقل منهم من نجا من وصمة تلك الصفة المقززة التي كان يتميز بها أبناء الطائفة التي ينتمون إليها. لقد تركوا سجلًّا من أعمال الوحشية الهائجة التي لا تهدف إلى غرض، سجلًّا لا يفوت المؤرخ المضني أن ينعم النظر فيه، بيد أن أكثر جرائمهم كانت عملية إلى حدٍّ بعيدٍ، ولو ذكرتم — وقد دعوتكم أن تذكروا — أن هذه الجرائم الشخصية كثيرًا ما كانت تقوم مقام الحرب، لتساءلتم إن كان من حق عصرنا هذا أن يلقي بالحجر الأول في وجه ساسة النهضة، وقد بلغت الروح الإنسانية عند الفرنسيين في القرن الثامن عشر حدًّا دعا الجمهور إلى الشعور بالاشمئزاز الشديد حينما اكتشف أن كالاس قد حكم عليه بالإعدام ظلمًا. وكذلك فلتير لم يمُت ميتة غامضة في السجن كما كان من الجائز أن يحدث له في القرن العشرين، وفي عصر الإيمان كان لا مناص للناس من أن يرتابوا في إدراك ما كان يثيره من موضوعات، وكان لا مندوحة لهم عن إحراقه برغم هذا. لا مفرَّ لعصور الخرافة من أن تكون قاسية؛ لأن من خرافة العقيدة عندهم دائمًا أن الألم وسيلة طيبة، وهو مبدأ يدين به خاصة أولئك الذين يخجلون من الاعتراف بأنهم يعتبرونه غاية طيبة. إن حب التعذيب عند الشواذ في عصور المدنية لا يخرج عن أن يكون بقية من بقايا الهمجية.

إن العقل يميل دائمًا إلى فحص تلك الغرائز والذكريات الهمجية التي هي بمثابة مصادر الأهواء ومكان عبادتها؛ لأن الأهواء تصدر إما عن رد الفعل الجثماني، كما يصدر بُغضي للجبن، أو من المحرمات المنسية التي كان يمتنع عنها آباؤنا المتوحشون، وما زالت من الشابات حتى يومنا هذا في أواسط أفريقيا من يعشن عيشةً مريرةً من جراء تكرار رؤيتهن للقمر فوق أكتافهنَّ اليسرى؛ في حين أن غيرهن يتسلل إلى الغابة في فزع دائم إذا فاجأن الابن الثاني لعم إحدى خالاتهنَّ، ومن اليسير على الفتاة أن تفقد شخصيتها في الكنغو كما تفقدها في مدينة كتدرائية. إننا ندين بأكثر مما نظن لجداتنا البعيدات، وقد حدثنا سرأد مندجوس كيف كان اعتقاده بأنه ارتكب إثمًا في حق الروح القدس عبئًا ثقيلًا على كاهله في بعض سني طفولته. كما بين لنا مستر جيمس جويس منذ عهد قريب فقط في تلك الدراسة العجيبة التي شرع فيها ولم يتم نضجها أن العقل الذي ما لبث ملوثًا بالخرافة يمكن أن يتعذب إلى حد الجنون تقريبًا عندما يذكر أنه ارتكب ما يرتكبه أكثر الأطفال وفكر فيما يفكرون فيه. وإني أعترف أن تأنيب الضمير، الذي يشعر به كل إنسان حساس إزاء القسوة العشواء التي صدرت عنهم والملذات التي تمادوا فيها، ليس له من علاج، ولكن ذلك الشعور بالإثم، الذي ما زال يشكو منه كثير من ذوي النيات الطيبة، والذي يحملون كثيرين غيرهم على الشكوى منه، هذا الشعور — بصفة عامة — لا يعدو أن يكون أثرًا من آثار الهمجية تمكن معالجته، وعلاجه في حب المعرفة الذي يقوى ويشتد كلما ارتفع الإنسان في سُلَّم الحضارة.

إن المتوحشين يتطلعون إلى المعرفة، ولكنه تطلع محصور وفي نزوات، فهناك عدد معين من الحقائق لا يجسرون على تخطيها في البحث، وهم لا يجسرون على بحثها إلا بأسلوب معين. إنهم لا يطلبون الحق، وإنما يطلبون السلامة. تطلعهم غريزي، لا عقلي، ولا تستطيع أذهانهم المحشوة بالمخاوف أن تحولها إلى معرفة. ولكن لما كان أحد لا ينكر أن الجهل — كما تدل عليه هذه الكلمة عامة — صفة من صفات الهمجية، فلست في حاجة إلى مزيد من الإيضاح لهذه النقطة أكثر من حاجتي إلى التدليل بالأمثلة على التطلع الحي عند أهل أثينا في عهد بركليز، وأهل فلورنسا في القرن الخامس عشر، والفرنسيين في القرن الثامن عشر، ولا بد لي من أن أؤكد نتيجة واحدة من نتائج هذا التطلع عند المتمدنين، وهي أن الشعوب المتمدنة تستطيع أن تناقش أي موضوع من الموضوعات، لا يحرم عليهم واحد منها ما دام لديهم ما يذكرون بصدده مما يبعث في النفس متعة أو سرورًا. ليست هناك في المجتمعات المتمدنة مخاوف عقلية نتوقع من كبار السن صغار العقول أن يغمضوا أعينهم عند رؤيتها، وسوف أستفيض بعد حين في حديثي عن «محاورة المأدبة» ويكفيني الآن أن أذكر أننا نستطيع — من صورة الحديث المثالي بعد تناول العشاء التي لا مثيل لها — أن نرى أنه لم تكن هناك موضوعات يحرم الحديث فيها بين أي جماعة من الأثينيين المثقفين. ويعلم وارسود يكامرون — وقد كان خلال قرنين أحب القراءات عند رجال إيطاليا ونسائها في طول البلاد وعرضها — أنه في عصور بترارك وکوسیمودي مديشي وميخائيل أنجلو، لم يكن ما يعرف «بحقائق الحياة الكبرى» ولا أشد النظم احترامًا أو أكثر الأشخاص تقديسًا، لم يكن ذلك مما لا يصح أن يتعرض للنقد الحي الجريء، وإذا أردت أن تعرف بأية نظرة حرة كان السيدات والسادة في القرن الثامن عشر ينظرون إلى عالم الحقائق والآراء فإني أوصيك «بأحلام دالمبير» الذي يقدم مؤلفه دیدرو جزءه الثاني — وهو أكثر الأجزاء صراحة — على شكل خواطر يتفوه بها دالمبير في نومه، وتدونها مدموازيل لسبناس؛ في حين أن الجزء الثالث، وهو أشد الأجزاء إثارة للذعر، يتألف من حديث خيالي، ليس من الجلي مستحيلًا — بين مدموازيل لسبناس ومسيو بوردي.

إن أردتم مجتمعًا متمدنًا، فلا بد من أن يتحرر العقل فيعالج كيفما شاء كل ما يمر بخاطره، ولا بد أن يكون حرًّا في اختيار مصطلحاته وعباراته وصوره، وأن يتعرض لكل أمر بأي أسلوب يريد، يجب ألا تكون بالبيت غرفة محرمة (غرفة بلوبيرد). لأنك إن حرمت على العقل أن يرود إحدى حجرات البيت حكمت عليه بالتجول الأعرج في باقي الحجرات. من أجل هذا كان تكلف الحشمة عدوًّا خطرًا، وهو أشد خطرًا؛ لأن ما يزعمه يثير السخرية. من الجلي أن ما نقبله أو لا نقبله في العاطفة أو التعبير أمر من أمور الذوق. فذوقي لا يسيغ تلك العاطفة التي تحتويها أكثر الأغاني التي تمس قلوب الناس — مثل أغنية «مع السلامة» أو أغنية «سكت القلب» — والتعبير فيها منحط، ولكني برغم ذلك — لا أشير بكبتها عنوة من أجل هذا، فإني أقر بأن ذوقي يختلف عن ذوق زملائي، ولكني لا يمكن قط أن أفترض أن اشمئزازي مما يحبون يمكن أن ينهض سببًا لحرمانهم من ملذاتهم، فعندي من العقل ما يحملني على التسامح، ولا أود أن أرى القانون يعاقب على انحطاط الذوق. في عهد الملكة فكتوريا كان ذوق الطبقات الوسطى يتقزز مما كان يبدو ممتعًا ومسليًا وجميلًا لأكثر كبار الشعراء والفنانين والمفكرين والنقاد في العصور الأخرى. وربما ظننت أن آراء أمثال هؤلاء القوم فيما أجمع عليه الرأي أنه يتعلق بالذوق لها شيء من الوزن، وإنها تُعتبر حتى عند أولئك القسس والتجار الصغار الذين اكتشفوا بغتة وبدقة عظيمة ما كان دقيقًا وما لم يكن، وكل ما أستطيع أن أقول هو أن القسس والتجار كانوا أغلظ ذوقًا، ولم يتطرق إليهم أي لون من ألوان الشك في أن أفلاطون وأرستوفان وسافو وكاتلس ولوكسر يشس ودانتي وبوكاشيو ورابليه وشيكسبير وملتن ولافونتين وفلتير وديدرو وبوب وسوفت وفيلدنج كانوا غلاظًا عديمي الحس في تلك الأمور التي يستطيعون هم أنفسهم أن يحكموا فيها حكمًا صائبًا، وصغار القسس والتجار — فوق ذلك — يسيطرون على الميدان، ولم يستطع مؤلف حي أن يطبع في إنجلترا شيئًا من مثل ما كان يكتبه أفلاطون أو دانتي أو شيكسبير. إن القانون يعترف بانحراف الذوق السليم. إنه يتسامح من غير شك فيما كان يبدو من قبل سوقيًّا مبتذلًا إلى درجة لا يمكن التسامح فيها — فيما كان يبدو كذلك لأولئك العظماء من الرجال الذين تحتاج مؤلفاتهم اليوم منا إلى تبرير. إن القانون يتسامح فيما كان السادة في عهد فكتوريا يقدرون، وما زالت جمهرة الناس تحب. إنه يقبل الأدب والفنون التشكيلية والموسيقى، التي تعرض عرضًا حرًّا في المكتبات والمتاحف وقاعات الموسيقى — وهي إذلال متصل لأي رجل أو امرأة له ذوق سليم. إنه يقبل آراء الصحفيين الشعبيين وعواطف كتاب المسرحية الشعبيين، بل إنه ليقبل ما عندنا من نصب تذكارية عامة، ويستسيغ تمثال «الممرضة كافل». وفي عبارة موجزة: إنه يتسامح ويرعى نظرة إلى الحياة والفن كان ملتن بنكاته البذيئة وشيكسبير بأغانيه التي تدعو إلى الرثاء، يريانها مجلبة للعار على أحط مخلوق يأخذ بها. دعنا لا نشكو؛ فإن كل فرد حتى سرهول كين ومستر إيفور نوفلد، ينبغي أن يسمح له بالتعبير عن نفسه تعبيرًا كاملًا بقدر المستطاع، ولكن دعنا نأمل أنه إذا امتزج الذوق السليم بالقوة، كان هذا المزج الموفق للقوى أرقى مدنية من أن يحكم بالإحراق على «الطبيب» و«حديقة الورد» و«دع نار البيت موقدة».

إن كل ما نأمل فيه، وكل ما نصبو إليه في الأمور التي تتعلق بالذوق هو التسامح المطلق. دعنا إذن لا نشكو إيثار لورد تشمبرلين٢ «شوسن شو» على «ست شخصيات»، وإنما نشكو منه أن يحول دون استمتاعنا بالكتاب الثاني، ومن العجيب — فيما أحسب — أن يسمح لقاضي المحكمة الجزئية أو عضو البلدية، أو الأسقف — في أمور دقيقة رقيقة كأمور الذوق — أن يفضل في معرفته أروع فنان وأدق ناقد، ولكن من رأيي أنه ليس من المرغوب فيه أن يتحكم العقلاء الحساسون في ملذات الأغبياء والسوقة، كما أنه من المؤسف أن يتحكم الأغبياء والسوقة في ملذات في الحساسين والعقلاء. إن أولئك المتحمسين الذين يدعون للإعجاب الذين تتحرك نفوسهم من حين إلى حين فيثيرون في مجلس النواب أسئلة عن الرقابة على الكتب والمسرحيات، بل ويشكون حينما يدركون أن رجال السياسة لا يأبهون مثقال ذرة لشئون الثقافة — هؤلاء يتجهون في عملهم وجهة خاطئة. يجب عليهم ألا يصروا على تفوقهم الجمالي فيما يحبون، بل أن يصروا على مبدأ التسامح العام. إنهم يبدون نوعًا من الغرور له شره الوبيل في هذا البلد وفي أمريكا خاصة، وإن أرادوا أن يتحاشوه، وجب عليهم أن يحاولوا — ولو مرة — أن يتصفوا بالمهارة كما يتصفون بالخير، والواقع أن الحكم في أمر من أمور الذوق يتطلب درجة من الإحساس أعلى من تلك التي يتطلبها الناخب العادي، ولكنا إذا كررنا هذا القول للناخب العادي ما بعثنا فيه قط إحساسًا بالسرور. ومن الحق الذي لا مرية فيه أن القوة العقلية والنزاهة الضروريتان للحكم على أي أمر من الأمور بما يستحق، تبلغان حدًّا يجعل الحكم عامة أبعد من مناله. بيد أنه يميل إلى الحكم، ومن أجل هذا تراه يقبل، بل يحتم المعايير الآلية، وهذه المعايير ليست — بطبيعة الحال — معايير للذوق؛ لأن المعايير الآلية لا يمكن أن تنطبق على الذوق؛ لأن الذوق أمر يتعلق بالاستجابة والإحساس الذاتي. ولكنها تؤدي غرضًا لأولئك الذين لم يعرفوا قط استجابة ذاتية من الدرجة الأولى، بل ولم يُكوِّنوا حكمًا على أمر من أمور الذوق. كما أن المعيار الآلي الحسن في يد رجل ثابت في غبائه وانعدام حسه له هذه الميزة الكبرى، إنه يمكن أن يطبق على كل أمر من الأمور. إن مطابقة الحال عندئذ لا يكون لها وجود. وما إن يألف المرء الحكم على الخوخ بوزنه يجد من الميسور والممتع له أن يتجه إلى الكتب والصور. إن الرجل العادي يحب المعيار المجهز الذي يكون مستعدًّا دائمًا ويمكن تطبيقه على أي أمر من الأمور. وكما أنه لا يستطيع أن يعرف إذا كان العمل الفني جميلًا أو غير جميل، ولكنه يستطيع أن يدرك الدليل على الحكم بأنه ليس من صنع رفائيل، فكذلك لا يستطيع أن يعرف إذا كان الشيء مبتذلًا أو غير مبتذل — لأن الابتذال أمر من أمور الحس والتعبير — ولكنه يستطيع أن يعرف إن كانت بضع كلمات بعينها قد سبق ذكرها. إن لديه معياره، ويستطيع أن يطبقه صباحًا ومساءً في عربة السكة الحديدية، سواء كانت من الدرجة الثالثة أو من الدرجة الأولى. إن تكلف الحشمة تذوق آلي كما أن التظاهر بالتقوى تدين آلي، وكما أن الشخص المتدين حقًّا لا يضطرب للنجاسة، فكذلك الرجل الذواقة حقًّا لا يكترث للفحش أو البذاءة، ولكنك لا تستطيع أن تقنع الناخبين بهذه الحجج.
إن طريق العقل ليس ممهدًا دائمًا، إلا إن مَن يتابعه مخلصًا له أن يثق في الفوز بنوع من أنواع الجزاء الطيب. إنه يتخلص من الخوف من الاستمتاع بما في الحياة من طيب الأشياء — ذلك الخوف الذي ليس له من العقل سند. ثقوا أن العقل يقضي على تلك الخرافات التي تشغل أذهان البرابرة، وتفسد عليهم لذة القنص، وتكبلهم في قيود من النواهي. إن المتعة الخالصة بكل ما تقدمه الحياة لنا ميزة لا يتمتع بها إلا من كملت مدنيته. إن كمال المتعة يتطلب من المرء أن يطهر عقيدته من المحرمات، ويجب أن يتخلص من الاحتشام المتكلف، والخرافة، والخجل الكاذب، والإحساس بالذنب، ولا يحمله على ذلك إلا العقل وحده. ينبغي ألا يستند ناموسه الخلقي إلا على العماد الثاني من عمد المدنية — وأعني به الإحساس بالقيم. إن إحساسه بالقيم يرشده إلى أن الملذات التي تهبها إياه الحواس، أو يهبها إياه الحس الممتزج بالعاطفة، أو الحس الممتزج بالتعقل، ملذات ليست سيئة في حد ذاتها، بل إن إحساسه بالقيم ليرشده إلى أن اللذة — في حد ذاتها — طيبة دائمًا، وعلى العقل المتمدن ألا يسمح لهذه الملذات قط أن تصبح وسيلة إلى الشر وذلك بوقوفها عقبة في سبيل الخير أو بجعلها هذا الخير مستحيلًا، ولنضرب لذلك مثلًا: إن الشخص المتمدن حقًّا لا يرى الشراب خطأ، ولكن المتمدنين جميعًا يحتقرون من يدمن على الشراب، فالمدمن سرعان ما يجعل نفسه عاجزًا عن بلوغ حالات العقل الطبية، وإنسانًا مزعجًا للرأي العام ينبغي نبذه، ولكن حفلة للعشاء يسودها المرح، أمر من الأمور التي لا يتحاشاها الرجل المتمدن ما دام في صحة جيدة. ألم يعتقد أفلاطون المتقشف نفسه أن من واجب المواطن أن يسكر في حفل ديونيسيا؟٣ الرجل المتمدن لا يخشى الملذات حينما يسمع أنها تنعت نعوتًا سيئة — فيقال عنها فاسدة، وشريرة، ومخجلة. إن أمثال هذه الصفات لا تعني بصفة عامة أكثر من أن معظم الناس يخشون جوانب الطبيعة الإنسانية التي لم تكتشف بعد أو التي أخطأنا في كشفها، وما دامت اللذة ليست سيئة في حد ذاتها؛ فليس هناك ما يدعو إلى الخجل من أي لذة من اللذات، وإن كانت هناك لذات يرى الرجل المتمدن ألا يسترسل فيها، فليس مرد ذلك إلى أنها سيئة، وإنما مرده أن نتائجها سيئة، ومن المؤكد أنه من المخجل أن تسترق الشهوة المرء إلى حد يُنزل العقل عن عرشه فيفقد المرء القدرة على وزن النتائج. من المخجل أن يسمح المرء لنفسه بالإدمان في الملذات الحسية الساذجة حتى يشل قدرته على الاستمتاع بملذات أدق وملذات أشد إثارة للحواس. الرجل المتمدن يخجل إذا لم يكن مُعدًّا للاستمتاع بملذات المتمدنين، ويخجل من نقص قدرته على التفكير الصافي والشعور الرقيق يخجله أن يشبع عاطفة لا يمكن إشباعها دون أن ينتهك إحساسه بالقيم ودون أن ينزل عقله عن عرشه، ولا يخجله شيء غير هذا. إن المتوحشين يسمونه رجلًا بغير حياء.

ومنذ أن أصبحت دراسة اليونانية جزءًا من تثقيف الرجل المهذب، أصبح مما يبعث على الدهشة الأليمة دائمًا عند أكثر من يؤجرون لتعليم اليونانية أنه لا يوجد شعب من الشعوب أكثر جرأة على الاستمتاع بالحياة من الشعب الأثيني. لا شك أنهم كانوا يعرفون ما هو الخجل؛ لأنهم مخترعوه. اخترعوه لأن الحس عندهم كان مرهفًا إلى درجة لم يسبق لها مثيل، ولكن الأثينيين لم يخجلوا من ملذاتهم، واسترسلوا فيها كذلك متحررين إلى حد كبير. إنما كانوا يخجلون من فقدان كل سيطرة على النفس، ومن تحولهم إلى حيوانات أو من وضع أنفسهم موضع السخرية، ويبدو أن وخز الضمير كان يطاردهم في أعمال القسوة والعنف، ولكن ما كان أبعدهم عن ازدراء الملذات التي كانت الفلسفة اليونانية تعدها جزءًا لا يتجزأ عن الحياة الطيبة؛ غير أن الأثينيين وضعوا «العقل» — فوق الملذات جميعًا بل فوق كل شيء آخر— عاملًا من عوامل الاعتدال والانسجام، ولا أحسب معلمًا من المعلمين يقصر في نقل ذلك إلى تلاميذه حينما يشعر — وهو لا بد أن يشعر أحيانًا — بشدة الصدام بين الأخلاق اليونانية والأخلاق اليهودية. ومن المؤسف أن الإيطاليين لعهد النهضة، الذين استعاروا الكثير من أثينا، لم يستطيعوا أن يستعيروا منها قدرًا أكبر من هذا «التعقل الحلو»، ومن المؤسف أنهم أسقطوا هبة الاعتدال بشكل ما من بين مواهبهم الرفيعة. ومن المؤسف أنهم لم يستطيعوا السيطرة على ميلهم إلى المتعة بطريقة أفضل مما فعلوا — إنه أمر مؤسف، ولكنه لا يمس غرضي المباشر، ومن المؤكد أن الرجال والنساء لعهد النهضة لم يكونوا يخافون الأشياء الطيبة في هذه الحياة. كانوا يستطيعون الاستخفاف بالتنجيم والسحر، وكانوا يستطيعون إهمال تلك الخرافات التي كانت تحول بينهم وبين لهوهم. كانوا لا يشعرون بالخجل، وإن لم تصدقني فاقرأ بنفنيوتو شليني في سيرته التي كتبها بقلمه. قال لاون العاشر: «ما دام الله قد أعطانا البابوية فلنستمتع بها»، وهو يعني بالضبط ما يقول. كانت ملذاته ملذات الرجل الضالع في المدنية (كان يمثل عصره خير تمثيل وعصره يمثل حضارة النهضة): وكانت ملذاته تتضمن تقدير الفن والأدب، والموسيقى والدراسة، وكان من بينها الغناء، وكذلك النساء والنبيذ. إن قداسته لم يخجل من شيء من هذا.

واقترب ذلك القرن الثامن عشر المحبوب مرة أخرى من المثل الأعلى عند الإغريق. إن سحر ذلك العصر الساحر ينبعث حقًّا — ربما أكثر مِن أي شيء آخر — مِن تعقله البالغ الذي يحليه إحساس بالقيم لا مثيل له، ولست أشك في أن هذا المزيج هو الذي يعطينا المدنية الرفيعة. وقد بلغت النهضة الإيطالية مدنية أرقى من أي مستوى كان يمكن أن يطوف ببال العصور الوسطى؛ لأن إحساس النهضة الإيطالية الجمالي الغريزي كانت تخفف من حدته وتعززه عقيدة في العقل أكثر جدية بدرجة كبيرة من ذلك الإحساس الذي كان مصدر الوعي لفلاسفة العصور الوسطى المتحذلقين، وإن ما يعطي النصف الثاني من القرن الثامن عشر حلاوته الخاصة به هو هذا؛ بينما كان الرجال — والنساء كذلك — يفكرون بعنف وجرأة في كل أمر من الأمور كما فعل أي قوم غيرهم ممن سبقوهم، وبينما كانوا لا يكتفون بالتأمل، بل كانوا مستعدين ليروا آراءهم تتحول فعالًا، بينما كانوا كذلك مكنهم إحساس بالقيم أن يبثوا دعوتهم للنقد ونشاطهم الهدام بتلك الرقة البالغة التي اتسم به الجيل السابق، وخلصت عقيدتهم في اللذة حتى رأوا أن السياسة نفسها يجب أن تكون مستساغة، وكان يطلب إلى رجال الاقتصاد أن يعرضوا نظرياتهم في صيغة تقبلها السيدات الرقيقات، ولكن يجب ألا ننسى أن السيدة لكي تكون رقيقة كانت ترغم على الاهتمام بالنظريات — إن هؤلاء القوم المحببين إلى النفس الشجعان كانوا يرون أن البحث الجدي في الأمور الأساسية لم يكن يتعارض وصحة المزاج أو الإنسانية، والقرن الذي أنجب فلتير وجبون وهيوم واثنين من البابوات المتفلسفين، لم يتصف بالنزاهة العقلية للتقدميين فحسب، بل اتصف كذلك بالتسامح مع المتشككين وسلوك السيدات والسادة. إن مثل هذا المزج يبدو دائمًا جذابًا، وبخاصة في عصر بلغ به سوء الحظ أن يعاني ثائرين تنقصهم الفطنة كما ينقصهم حسن السلوك، ورجعيين ينقصهم حسن السلوك كما تنقصهم الفطنة.

العقل في القرن الثامن عشر هو الذي كان يُرجى منه أن يجعل الأمور مستساغة بتطهير الميول من غلظتها وتوحشها، وكانت اللذة — اللذة المعقولة — هي غاية ما يشتهيه الرجل المخلص. القرن الثامن عشر هو الذي جعل اللذة المحك في الجدل السياسي، كما جعله يحكم على النظم والمشروعات الحكومية بمقدار ما تؤدي إلى ازدياد سعادة الإنسان. القرن الثامن عشر هو الذي اكتشف في حسرة أن الماضي الخيالي كان يتخبط في مسير هذا الاتجاه، وكان بالبؤس المدقع الذي ساد في القرن الحادي عشر أشد منه تأثرًا بسحر الحرب الصليبية الأولى، وفي القرن الثامن عشر — للمرة الأولى منذ نهاية العالم القديم — تطورت وشرحت شرحًا وافيًا فلسفة للذة في مجلدات ممعنة في سلامة التفكير، إن لم تكن ممعنة في البحث والتقصي. فلسفة يمكنك أن تُلم بعصارتها إلمامًا لا بأس به من قصص فولتير وكتاباته المتنوعة. مثال ذلك:

«… كان العالم كله يقول بأن الآلهة لم يقيموا الملوك إلا لتكون الأيام كلها أعيادًا، على أن تكون منوعة؛ إذ إن الحياة أقصر من أن ننفقها في غير ذلك. وليست الأفعال والدسائس والحروب ومنازعات رجال الدين التي تستنفد حياة الناس إلا أمورًا مزعجة سخيفة: ذلك أن الإنسان لم يولد إلا لكي يستمتع بنفسه. وإنه ما كان ليعشق المتعة دائمًا وبكل قلبه لولا أنه من أجلها خلق. إن جوهر الطبيعة البشرية هو الاستمتاع بالنفس. وما عدا ذلك حماقة وسخف. وهذا مذهب خلقي ممتاز لم تكذبه قط إلا فعالنا».

وينبغي ألا تفترض أن القرن الثامن عشر صاغ فلسفته لصالح طبقة واحدة فقط، بل على العكس من ذلك كان القرن الثامن عشر يرى أن التقدم ينحصر في نشر جميع وسائل المتعة تدريجًا — الوسائل التي تؤدي مثلًا إلى إشباع الطبائع «لأن المتعة من صميم الطبيعة الإنسانية». كانت فلسفة اللذة — تحت اسمها المعروف في العالم القديم بحب الإنسانية — شائعة إلى أبعد الحدود؛ أما اليوم فهذه الفلسفة توصم بتقصيرها دون المثل العليا، ما دامت تهدف إلى إرضاء الفرد أكثر مما تهدف إلى تمجيد الجنس، أو المذهب أو الطبقة. إنها فلسفة يمقتها الوطنيون كما يمقتها الشيوعيون، ولم يعد يؤمن بوجاهتها سوى قلة من المتشبثين بالقديم.

ولما كان — من زمن بعيد — من رأى أولئك الذين تؤخذ آراؤهم عامة مأخذ الجد، أن أثينا في أخريات القرن الخامس رفعت المدنية إلى درجة لم يسبق لها مثيل، فليس من الخطأ — فيما أحسب — أن أختم هذا الفصل بتحليل ما اتفق على أنه أحسن صورة للمجتمع الأثيني في أوجه. إذا كان الشعراء والعلماء والفنانون، وكذلك الأساقفة والقضاة، والمثقفون من التجار، وإذا كان الفلاسفة الوثنيون، بل ورعاة الكنيسة — إذا كان هؤلاء جميعًا يعدون «محاورة المأدبة» لأفلاطون من أجمل المؤلفات وأبعدها أثرًا التي أنجبتها القرائح البشرية، فإن ذلك لا يعود إلى الآراء البراقة التي تضيء لامعة خلال آراء سقراط المعقدة أكثر مما يعود إلى الصورة الرائعة التي تعرض طريقة رائعة من طرق الحياة. في هذا الحوار الجميل نرى لمحة — بل وأكثر من لمحة — من مدنية يبدو أنها أقرب إلى رغبات القلب من أي شيء آخر كانت تعده ممكنًا تلك العصور التي لم تبلغ من نفوسنا مبلغ العصر الأثيني. ومع ذلك فإن هذه الصورة لطريقة معينة من طرق الحياة إنما تشف عن لحظة من اللحظات في تلك الصورة المثالية التي يلمحها الفنان ويخلدها. ولنذكر أن الصورة ليست رؤيا قديس مذهول مستغرق في التفكير، وليست خطة لنموذج سماوي لا نستطيع بلوغه لما في نفوسنا من نقص، وإنما هي صورة عاشها من قبل أناس يجوز عليهم الفناء، ويمكن أن يعيشها الناس مرة أخرى.

هذه قصة يرويها أبولورس نقلًا عن أرستوديموس، وهو — كما يقول زنفون — كافر، ضئيل الجسم يسير دائمًا بغير حذاء، عضو تافه في تلك المجموعة التي كان يلمع فيها سقراط وأجاثون. وفيدرس وبوسانياس وأركسيماكس وأرستوفان والقبيادس — كانوا مجتمعين في حفل عشاء ودي أقامه أجاثون احتفالًا بنجاحه في المباراة بين شعراء المأساة، وكان اليوم السابق قد خصص لتهاني الجمهور، وهي دلالة طيبة على الجدية التي كانت تؤخذ بها الفنون في أثينا، وفي طريقه إلى الحفل التقى سقراط — وهو في ثياب فاخر على غير عادته — بأرستوديموس الذي يبحث بطبيعة الحال عن السبب في هذا البهاء الذي لم يألفه، فقال له: «إني متوجه إلى العشاء عند أجاثون»، ثم روى سطرًا محرفًا عن يوربديز، وقال بعدئذ: «إني أنيق أتوجه في أناقة إلى رجل أنيق»، ثم يشير سقراط — وهو بإجماع الرأي أقبح وأقذر شخص في أثينا — على أرستوديموس أن يرافقه، فيتردد أرستوديموس؛ لأنه لم يدع للحفل. بيد أن سقراط يلح في الرجاء؛ لأنه يعلم أن الكرم وحسن الزمالة من الفضائل التي لا يتحلى بها المتوحشون. ولما لم يفلح في إلحاحه، تخلف متفكرًا حتى يصل صاحبه المتردد وحده فيطمئنه أجاثون، الذي يذكر له أنه كان يبحث عنه طيلة النهار مشغوفًا برفقته، ولكنه لم يعثر له على أثر.

ويصل المدعوون، ويلتفت أجاثون إلى الخدم قائلًا لهم: «أرجو أن تعدونا جميعًا ضيوفكم، وأن تعاملونا بهذه الصفة»، وقد كان أجاثون — فوق كونه شاعر مأساة — شخصية ساحرة كما كان رجلًا موهوبًا، وكان كذلك حسن البزة، فأبى أن يقوم بدور الداعي المضيف، وأخيرًا وآخِرًا يصل سقراط. ويرفض الجلوس، بل يرفض الاتكاء، إلا بعد أن يستمتع بدور مما لا أستطيع أن أصفه إلا «بالمغازلة الساخرة» مع أجاثون — وهي مداعبة لست في حاجة إلى أن أقول إنها قوبلت بروح طيبة — وفي نهايتها تناول الجميع طعام العشاء. والآن دعنا نلقي عليها نظرة عابرة: كان بين الحاضرين شاعران، أجاثون وأرستوفان، والطبيب أركسيماكوس، وذلك المفلس المشعث الذي يعظ الناس في زوايا الطرقات سقراط، وأخيرًا القبيادس، وهو سياسي شعبي حسن النشأة، متأنق في ملبسه، وأغنى رجل في أثينا، وهنا أيضًا فيدرس وبوسانياس، وهنا كذلك آخرون لا يذكر عنهم أرستوديموس شيئًا؛ لأنه لا يزعم أنه يقدم قائمة كاملة بالأسماء أو سجلًّا لكل ما قيل، وبين هؤلاء الآخرون ربما كان صناع مهرة وعمال عابرون وسفسطائيون، لا يفضلون المتشردين إلا قليلًا، ولكنا على ثقة من أنه لم يكن من بينهم من كرس خير سني حياته لجمع المال. إن الوقت الذي يعده رجال الأعمال في العصر الحديث مالًا، كان عند سقراط للعبيد، ولم يخطر في بال أثيني أن إنسانًا يُخضع نفسه طائعًا لذلك النظام الذي هو حياة جامعي المال، أولئك الذين يعيشون للعمل. كان الأثينيون يرون أن الرجل لكي يكون كامل المدنية ينبغي أن يتحرر من الأعباء المادية، وحيث إنه لا بد أن يتوفر له الفراغ الكافي يتمتع فيه بكل جميل يقدمه له العقل أو العواطف أو الحواس، فلا بد من وجود العبيد، وحيث إن هؤلاء العبيد يعيشون لينتجوا لا ليستمتعوا، وحيث إنهم لانعدام الثقافة والفراغ عندهم، يعجزون عن حرية التفكير ودقة الشعور، فقد كانوا أقل شأنًا من غيرهم. كانت المساواة مطلقة بين المواطنين، ولم تعترف أثينا بالفوارق إلا في الذكاء والتعليم، وهي — لسوء الحظ من غير شك — حواجز طبيعية تعوق التبادل السهل الممتع. لم يكن بين المواطنين مميزات طبقية، ولم يكن في أثينا مَن يتعاظم على الآخرين.

وبعد العشاء أثار بوسانياس هذا السؤال: هل يعودون إلى الشراب ويسكرون، ويستمعون إلى الناس، أم يتحدثون، ويخرجون العازفة «تعرف لنفسها، أو — إن أرادت — للخدم في الداخل»؟ نحن هنا على أبواب محاورة من أسمى المحاورات في تاريخ البشر باعتراف الناس أجمعين، وعلينا أن نلاحظ جيدًا موقف أولئك الذين يوشكون أن يجروها. إن العقل يجعلهم لا يخشون ما في الحياة من أشياء طيبة. إنهم لا يخجلون من الاستمتاع — حتى إلى درجة ما يسمونه الإفراط — يمثل الملذات التي توفرها الخمر والعازفات على الناي. إلا إنهم لا يدمنون ولا يفسقون. يدفعهم الإحساس بالقيم، تعززه إلى حدٍّ ما ذكرى شرابهم المساء، إلى أن يختاروا — في هذه المناسبة — لذة أروع، وهي لذة الحديث الجدي. وإن لم يكن جديًّا إلى درجة كبرى، فقد كانوا يستطيعون أن يتناولوه في دعابة؛ يمزحون مزاحًا عقليًّا وجثمانيًّا، ويتنازعون نزاعًا طفيفًا عمن يجلس منهم جوار الآخر، يهزلون ويمرحون ويتبادلون الدعابة الصريحة، ومنذ بداية الجدل، حينما حل دور أرستوفان في الكلام، شكا من الفواق، ثم طلب أركسيماكس الطبيب إما أن يأخذ دوره في الحديث أو يشفيه مما أصابه؛ فيسارع أركسيماكس إلى أداء العملين، ويصف علاجًا يثير الضحك وإن يكن فعالًا. إن الرجال الضالعين في المدنية قلما يتصفون بالوقار.

ويعرف كل امرئ موضوع هذه المحاورة التي ذاع صيتها، كان موضوعها الحب، ولكن كثيرين لا يعرفون أن المتحاورين لكيلا يبطلون ما يصلون إليه من نتائج بتحديد قضايا البحث، لم يستبعدوا في حوارهم أي وجه من وجوه الموضوع. تحدثوا عن الحب في أدعى صوره إلى الإعجاب والتقدير، وكذلك تكلموا كثيرًا مثنين على صورة من صور الحب يحكم بسببها على الناس في إنجلترا بالسجن، وإن استجابتي الغريزية لهذه الصورة لتشبه استجابة أكثر زملائي، إني أعجب لها أشد العجب وأقابلها بالتقزز والاشمئزاز، غير أني لم تبلغ بي الغفلة والغرور أن أثق في استجابتي ثقة عمياء وأعترض على عاطفة أحستها، وأرى ثابت ارتأته جماعة من أحكم وخير الناس قاطبة، وإني لأذكر أولئك الناس الضالين المفزعين الذين يأكلون الجبن وأحاول ألا أكون سخيفًا، ولا أستطيع أن أعطي نفسي حق الحكم أيهما أفضل ذوقي أو ذوق سقراط وصحبه. ولكن أستطيع أن أصغي باحترام لحجج خصومي الذين يبعثون الذعر في نفسي، وأستطيع أن أمتنع عن أن أجعل من استجابتي الجثمانية استنكارًا خلقيًّا، وأستطيع أن أحتج من كل قلبي ضد من يصم بالجريمة ما بدا خيرًا لكثير من عظماء الرجال. لا يحق لأحد أن ينعت نفسه بالمدنية إلا إن استطاع أن يستمع إلى الطرفين، ولا يفضل الحيوان من لا يتسامح في أمور كثيرة كريهة له شخصيًّا.

ليس في نيتي أن أناقش «محاورة المأدبة» إلا بمقدار ما تلقي على موضوعي ضوءًا. وأستطيع أن أنوه بالرغبة الحقيقية في الحق الذي تنطوي عليه أكثر الخطب، وأن أنوه بالإحساس بالقيم الذي يحمل كل متكلم على أن يعرض قضيته عرضًا جميلًا بقدر ما يستطيع. وحتى سقراط نفسه لم يجادل لينتصر في الجدال، ولم يكن من بينهم من يمتنع عن التسليم حينما يكون ضعيفًا في موقفه. فيدرس يتكلم جادًّا، وبوسانياس متحذلق قليلًا، وأركسيماكوس يميل إلى مهنته. إلا أن الطبيب — على خلاف أكثر زملائه — لا يخشى أن يجابه ما يترتب على علمه من نتائج، ويشير بعقل يدعو إلى الإعجاب أنه ينبغي لنا ألا نخضع لبانديميون فينس (ويقصد بها الشهوة) «إلا بمقدار ما نستمد منها اللذة دون أن نسترسل فيها إلى حد الإفراط، مثلنا في ذلك — طبقًا لفننا — مثل ما نُلقنه من البحث وراء متعة المائدة، بمقدار ما نستسيغها دون أن يترتب عليها مرض وحسب». (وهذه العبارة نقلًا عن ترجمة شلي). وهناك بعد ذلك حديث أرستوفان، وهو عندي حديث بلغ غاية الإشراق. إنه بما يحوطه من دعابة عقلية عذبة يؤدي — بطرق تثير فينا غاية الضحك ولا نتوقعها — إلى نتيجة جدية، يشير إليها الكاتب تلميحًا لا تصريحًا، لا تكاد تظهر حتى تختفي في أقمطة كثيرة الألوان. وفي هذه الآونة أخاطر بالاستعارة والتشبيه. وأذكر هنا تعثر الآلهة تعثرًا لا يحفظ لهم قداستهم بما يدل في جلاء تام على أن هذه الجماعة المتمدنة قد صفوا أمر الخرافات السائدة، ويؤسفني أن أقول: إن الحديث لا يخلو من النكات البذيئة. ولكنا قد اتفقنا على أن الميل إلى الكلام والسخرية في كل أمر مميز من مميزات الشعب المتمدن. ولا أتصور إلا أن قليلًا من العاشقين — حتى أكثرهم رقة وأشدهم تهذيبًا — هم الذين يرون موقفهم استثناء من هذه القاعدة. «هؤلاء (أي أولئك الذين عثروا على أنصافهم المفقودة) هم الذين يكرسون حياتهم كلها أحدهما للآخر، في شوق لا طائل تحته ولا يمكن التعبير عنه إلى أن يجد كل منهما عند الآخر شيئًا لا يدري ما هو؛ لأن الواحد منهما لا يهدي نفسه للآخر بكل هذا العشق الجدي لمجرد المتعة الحسية من الاتصال، وإنما تتعطش روح كل منهما في وضوح وجلاء إلى شيء عند الآخر لا يمكن التعبير عنه في كلمات، وتقدس ما تسعى إليه، وتتعقب في غموض مظان رغبتها الغامضة». (نقلًا عن ترجمة شلي).٤ وإن الكاتب ليعود في الفقرة التالية إلى بذاءته، فيقول: إنا إذا لم نرعَ الآلهة تمام الرعاية فإنه يُخشى أن يقطعنا زيوس إلى نصفين مرة أخرى (ونظريته في الحب إننا كنا من قبل منتصفين، وأن الأنصاف تسعى دائمًا إلى اتحادها)، ثم نسير بعد ذلك — كما يقول — أشبه ما نكون بالصور التي يرسمها الفنانون على الأعمدة، أنوفنا مشقوقة في وسطها، ولست بحاجة إلى القول بأن المرء حينئذ لا بد له من الوثب بساق واحدة. هذه عادة من عادات التمدن: وهي أن يتخلى المرء عن الوقار وهو في حالة الجد، وهي حالة تدعو إلى الحيرة الشديدة.

أما حديث أجاثون، فقد كان غنائيًّا جميلًا فصيحًا، وهو يبدأ بقوله هناك فارق بين أن تخاطب الجمهور في مسرح وأن تناشد مستمعين ناقدين حقًّا. إنه يقول: «بالتأكيد يا سقراط، إنك لا تحسب أن الزهو بانتصاري في المسرح قد بلغ مني حدًّا يجعلني أجهل أن قلة من الناقدين الأكفاء يخشى العاقل بأسهم أكثر مما يخشى مجموع الناس في الطريق». وهذا الرأي يبدو لي أنه يشير إلى إحساس بالقيم، ولكنه فتح لسقراط بابًا للسفسطة والدعابة، التي أوقفها فيدرس بقوله: «إنك يا عزيزي أجاثون لو دخلت في نقاش مع سقراط، فلن تبلغ بهذا النقاش إلى نهاية؛ لأنه لا يفتأ يواصل الجدل في أي موضوع مع أي مخلوق — أو على الأقل مع أي مخلوق جميل الصورة، وأؤكد لك أنه من الممتع دائمًا أن تستمع إليه وهو يتحدث، ولكني في هذا المساء لا بد أن أضمن أن «الحب» (موضوعنا المختار) لن يكون محلًّا لغدر». وهكذا يواصل أجاثون حديثه ويقرر أن الحب كغيره من الموضوعات يمكن أن يجعل من أي إنسان شاعرًا، ويروي تأييدًا لذلك بيتًا من الشعر من نظمه ينم عن تأثير يوريديز.

«مهما يكن المرء ثائرًا فيما مضى فإن لمسة الحب تجعل منه شاعرًا».

فيهيئ بذلك الفرصة فيما بعد لسقراط ليسخر من أستاذ أجاثون الذي لم يكن يحبه، وبعدما انتهى أجاثون من الإفضاء بكل آرائه الجميلة، رد عليه سقراط قائلًا: إنه يستحيل عليه أن يفي بما وعد. «إن مثل هذا الثناء لا أفهمه، ولجهلي قبلت أن أنظم المديح».

وصاح بصوت مرتفع على طريقة يوربديز قائلًا:

بلساني قط وعدت، ولم أعد بعقلي.

وعندما أصغي إلى أسلوب أجاثون المنمق رفع أحد حاجبيه، وبدأ حديثه المشهور عن طبيعة الحب، والحديث رائع، وإن كان في ذوقي يتسم بشيء من السفسطة، وربما كان مما يستحق الذكر كعلامة من علامات المدنية أن المتكلم في أشد لحظات حديثه حرارة يسخر ضاحكًا من حذلقة السفسطائيين المحترفين، أعدائه، وفي أعقاب حديثه يندفع إلى الداخل القبيادس، مخمورًا إلى الغاية، تتبعه عازفات الناي، ويتقدم لتويج أجاثون، وبعدما ينتهي من ذلك يقول: إنه يبقى معهم إن أقبلوا على الشراب، وينصرف إن لم يشربوا؛ فيستبقونه بطبيعة الحال. إن الفلاسفة الحقيقيين يستغلون طرفي الحياة.

ويقبلون على الشراب، ويتبادلون المزاح في مهارة فائقة في شئون حبهم، ويبدون تفوقًا رائعًا يعلو على أقوى لون من ألوان العواطف البربرية جميعًا — وأعني به الغيرة، ثم يقول أركسيماكوس: هل هذا عدل؟ وهل من الإنصاف أن يشاركنا القبيادس دون أن يسهم في لهونا؟ ليدل هو الآخر بحديث في مديح الحب. ويرد القبيادس قائلًا: إنه يكلفني حياتي أن أثني على أي أمر من الأمور سوى سقراط في حضرة سقراط؛ فيجيبه: حسنًا إذن، عليك بمدح سقراط، وهنا يأتي الحديث الذي بعث في دكتور جويت أشد القلق. إن القبيادس يروي — في شيء من الدقة — قصة ميله الشديد إلى سقراط الذي لم يعد عليه بنفع، بينما ينتحي سقراط ناحية، ويبتسم ابتسامة دقيقة كما أتخيله، ولم يكن القبيادس بالتأكيد خجلًا من مشاعره، وحيث إنه لم يغفل عن أن مشاعره ستبدو لأصدقائه مضحكة إلى حدٍّ ما، حيث إنه لم يخطئ فيأخذ نفسه مأخذًا جديًّا أكثر مما ينبغي، فإن اعترافاته جميعًا لم تقع من نفوس أصدقائه موقعًا ثقيلًا مؤلمًا. كان صريحًا، مسليًا، لا يشعر بالعار الشديد، وإن كان قد شعر باليسير منه، فهو يشعر به حينما يتهمه سقراط بتقليده العامة في تهليلهم أكثر من إخلاصه للحق والجمال، وهنا — في النهاية — نقف عند أمر يبدو مشينًا للرجل المتمدن؛ ذلك أن القبيادس يختتم قصة ويلاته برجاء أجاثون ألا يقع في حب سقراط خشية أن يلاقي مصيرًا كمصيره، وهنا نجد سقراط بانتظاره معلنًا أنه توقع منذ البداية ألا يكون هذا المديح سوى حيلة ماكرة؛ لكي تسيء العلاقة بينه وبين أجاثون، ولكي يصلحوا ثلاثتهم٥ ما فسد يتقارعون — وكانوا يجلسون معًا — مقارعة لطفيفة أيهم يمدح الآن الآخر، ومن يجلس إلى جوار الآخر، ولا يوقفهم عن المقارعة إلا تدفق حشد من المعربدين لم يُدعَوا إلى الحفل «ويسود المكان كله هرج ومرج، ويختل النظام، ويشعر كل حاضر بضرورة الإدمان في الشراب».

ويؤسفني أن أقول: إن هذا الحفل من حفلات العقل — الذي كان محل إعجاب وتقدير خلال ثلاثة وعشرين قرنًا — انتهى بما قد يسميه قاضٍ من قضاة الشرطة في لندن «خلاعة مخلة بالآداب». وكان أركسيماكوس المحترف وفيدرس الجاد أول من عادا إلى بيتهما وهما يترنحان. أما أرستوديموس فقد خر نائمًا حيث كان. واستغرق في نومه طويلًا، وكان الفصل فصل الشتاء حيث يطول الليل. وعندما انبثق النهار تيقظ، وكان أكثر المدعوين نيامًا — وكان من الطبيعي جدًّا عند الأثينيين البارزين أن يدَّثروا في عباءاتهم ويناموا على أرض غرفة الطعام — ولكنه تنبَّه إلى أن أجاثون وأرستوفان وسقراط كانوا ما يزالون أيقاظًا، يشربون من قدح كبير ويسمُرون، وعلى قدر ما استطاع أرستوديموس أن يدرك كان سقراط يرغم الآخرين على الاعتراف بأن المأساة والملهاة يتطابقان بالضرورة، ولما كان في حالة نعاس ولا يزال مخمورًا لم يكن على ثقة تمامًا من سير النقاش؛ إلا إنه أيقن أن الكرى أخذ يداعب أجفان أرستوفان، ثم استغرق في النوم، ولما أشرق النهار تبعه أجاثون «ولما خلص سقراط منهما معًا سار (يتبعه أرستوديموس) إلى الليسيوم (الندوة العلمية) حيث استحم كعادته وأنفق يومه في العمل، وفي المساء أوى إلى فراشه في بيته».

١  ثيوسيديد — الجزء الثاني، صفحة ٣٧.
٢  كبير الأمناء، وهو في إنجلترا مختص بالرقابة على المسرح.
٣  هذا مأخوذ من كتاب «القوانين» لأفلاطون، والفصل كله ضد السكر.
٤  إن ترجمة شلي — أو تفسيره على الأصح — للمحاورات رائعة جدًّا فيما نقل، ولكنه لسوء الحظ لم ينقل كثيرًا؛ لأنه في جانب كبير مما كتب — حتى حينما يعبر به تعبيرًا أجمل تعبير عن روح المحاورة — لا تجد الدليل على وجوده في الأصل، وأهم من ذلك إغفاله إغفالًا تامًّا لأجزاء من الحوار لها دلالتها الكبرى، ويقال: إن هذه الثغرات لا ترجع إلى الشاعر، وإنما إلى تلك المرأة البغيضة المتكلفة عديمة الضمير التي اتخذها له زوجة ثانية، وعاشت لسوء الحظ من بعده، ولكن في هذه النقطة من تاريخ الأدب يعوزني العلم الذي يخول لي أن أدلي برأيي.
٥  كان من عادتهم ألا يجلس على مقعد واحد سوى اثنين، فإن جلس منهم ثلاثة كان ذلك مدعاة إلى التحرش.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤