المدنية وناشروها

لم أُعرِّف المدنية بعد، ولكني ربما جعلت التعريف أمرًا لا ضرورة له، إني أتصور أن كل من تفضل عليَّ بقراءة ما كتبت حتى الآن لا بد أن يكون قد فهم جيدًا ما أعني. المدنية صفة من صفات الجماعة، وهي في أبسط صورها الصفة التي تفرق بين ما يسميه علماء الأنثروبولوجي المجتمعات «المتقدمة» وما يسمونه المجتمعات «المنحطة» أو «المتأخرة»، عندما يشرع المتوحشون في تطبيق أحكام العقل على الغريزة، وعندما يكتسبون إحساسًا بدائيًّا بالقيم — أي عندما يميزون بين الغايات والوسائل، أو بين الوسائل المباشرة للخير والوسائل البعيدة — عندئذ يخطون الخطوة الأولى إلى أعلى. إن الخطوة الأولى نحو المدنية هي تصحيح العقل للغريزة، والخطوة الثانية هي أن يتعمد المرء التخلي عن إشباع رغباته الملحة الموقوتة في سبيل تحقيق رغبات أدق منها. إن المتوحش الجائع عندما يمسك أرنبًا، يأكله توًّا في مكانه، أو يحمله معه بحكم غريزته إلى بيته، كما قد يفعل الثعلب، كي يأكله أشباله نيئًا، وأول من حمله إلى بيته — برغم جوعه الشديد — وطهاه، كان في طريقه إلى أثينا. كان رائدًا، يمكن أن نصفه عدلًا كذلك بأنه أول المتدهورين. هذه حقيقة لها دلالتها، فالمدنية شيء مصطنع غير طبيعي، إن التقدم والتدهور، كلمتان يمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى. إن كل من زود المعرفة البشرية والحس البشري، بل وأكثر من اكتفى بزيادة أسباب الراحة المادية، هؤلاء هلل لهم معاصروهم الذين استطاعوا أن يفيدوا من مكتشفاتهم واعتبروهم محسنين عليهم، ووصمهم بالانحلال كل من حالت سنه أو غباؤه أو غيرته دون الإفادة من هذه المكتشفات. ومن السخف أن نختلف اختلافًا لفظيًّا. ولنتفق على أن عادة طهو المأكولات يمكن أن تعد خطوة نحو المدنية، كما يمكن بنفس الصدق أن تعد انحدارًا من الكمال البدائي للقرد المنتصب.

من هاتين الصفتين الأوليتين — التعقل والإحساس بالقيم — يمكن أن يتفرع عدد عديد من الصفات الثانوية. تذوق الحق والجمال، والتسامح، والإخلاص العقلي، وشدة التأنق، وروح الفكاهة، وحسن الأدب، وحب الاستطلاع، وبغض الفظاظة والهمجية والمبالغة في التأكيد، والتحرر من الخرافة والحشمة المتكلفة، وقبول ما في الحياة من طيبات دون وجل، والرغبة في التعبير الذاتي تعبيرًا كاملًا وفي التربية الحرة، وازدراء النفعية والابتذال، أو في كلمتين اثنتين — العذوبة والنور، ولا تدرك كل المجتمعات التي تكافح في التخلص من المدنية جميع هذه الصفات، أو حتى أكثرها، وأقل من هؤلاء من يشتد في تمسكه بإحدى هذه الصفات. من أجل هذا قد تجد عددًا كبيرًا من المجتمعات المتمدنة وعددًا قليلًا جدًّا من المجتمعات ذات المدنية الرفيعة؛ لأن المجتمع لا يكون رفيع المدنية إلا إذا استمسك بعدد لا بأس به من صفات المدنية واشتد في تمسكه بها.

ولكن هل يمكن لوحدة غامضة كالمجتمع أن تملك أو تستمسك بصفات دقيقة كهذه؟ لا يمكن أن يكون ذلك إلا بأشد المعاني غموضًا. إن المجتمعات تعبر عن نفسها في صور تتفاوت في ثباتها كما تتفاوت في وضوحها، وهذه الصور هي التي تصبح للأنثروبولوجيين والمؤرخين آثار مدنيات هذه المجتمعات. إنهم يعبرون عن أنفسهم في السلوك والعادات والتقاليد، وفي القوانين والنظم الاجتماعية والاقتصادية، ويعبرون عن أنفسهم — فوق هذا كله — في الأدب والعلم والفن الذي قدروه وشجعوه. كما يحدثوننا عن شيء من أنفسهم — بدرجة أقل وثوقًا — خلال الأدب والعلم والفن الذي ربما قدروه وربما لم يقدروه، ولكنه من خلق الفنانين والمفكرين الذين أنجبوهم، ولو ضممنا ذلك كله بعضه إلى بعض أمكننا أن نؤلف — في شيء من الوثوق — رمزًا واضحًا لنظرة إزاء الحياة سائدة وهذه النظرة — التي تتبدى في هذه الصور التي تتفاوت في عمومها وثبوتها — هي ما نسميه المدنية.

المدنية — إذا خاطرت باستعمال استعارة لا يمكن الدفاع عنها بسهولة — هي النكهة التي تضفيها نظرة عقلية معينة على التعبير الذاتي لعصر من العصور أو مجتمع من المجتمعات. إنها اللون الذي تخلعه وجهة نظر خاصة سائدة على المظاهر الاجتماعية. من أين تأتي هذه النظرة التي تُلون الحياة، وهذه النكهة التي تعطيها طعمها؟ لا شك أنها تأتي من الأفراد؛ لأن الأفراد وحدهم — كما نعلم — هم الذين لهم عقول يقفون بها موقفًا معينًا أو ينتقون بها وجهة نظر معينة من وجهات النظر. إن عقل الفرد هو منبع وأصل المدنية — لا جدال في ذلك، ولكن عقلًا بشريًّا واحدًا نقطة عذبة في محيط، وبقعة قرمزية واحدة على الشاطئ. إن فردًا متمدنًا واحدًا لا يصنع المدنية. ربما لم يخل العالم من السكان المتمدنين خلال الثلاثة آلاف سنة الأخيرة، ومن المحتمل وجود واحد أو اثنين منهم في أظلم العصور — وإن لم يكن بطبيعة الحال من بين القبائل الممعنة في الهمجية والبدائية. في غربي أوروبا في القرن العاشر — ولا نستطيع أن ننحدر إلى أبعد من ذلك وإلا كنا بين قبائل فيدا وبوشمان — يصادفنا جوبرت وهو يبدو كالمتمدن ويظهر غريبًا بين قومه، كما يبدو كذلك — وهو على نقيضه — الإمبراطور أوتو الثالث، الذي ربما لم يعدُ أن يكون متصلفًا معجبًا بذاته، ولا نستطيع أن نثق أنه حتى في القرن الثامن لم ينزو — مجهولين في الأديرة الهادئة — رجال ما كانوا لينبوا في بلاط لورنزو العظيم. بَيد أن عصفورًا واحدًا من عصافير الجنة لا يخلق جو الصيف، ولا تصبح المدنية ممكنة إلا حينما ينضم عدد كافٍ من أفراد متمدنين بعضهم إلى بعض تتكون منهم نواة يمكن أن يشع منها الضوء وتفيض العذوبة، ومن ثم فإن ناشري المدنية هم الرجال والنساء الضالعون في المدنية الذين تتألف منهم جماعات لها من النفوذ ما يكفي للتأثير في مجموعات أكبر، وفي مجتمعات بأسرها في نهاية الأمر. إن جماعة من المتمدنين لا يصبحون ممدنين إلا حينما يمكنهم أن يؤثروا في المجتمع الذي يعيشون فيه حتى يبدأ هذا المجتمع — بعدما يكتسب ما يميز هذه الجماعة من فضائل خاصة — في إظهار هذه الفضائل في طرائق التفكير والشعور، والنواة المتمدنة تصبح ممدنة حينما يكفي عددها ونفوذها لتلوين الجماهير، و«النواة المتمدنة» مجرد اسم محدد لعدد غير محدد من الرجال والنساء ذوي المدنية الرفيعة. وهؤلاء الرجال والنساء هم خالقو المدنية وناشروها، هم شرط لازم للتمدن لا محيص عنه.

وإنما يجب علينا أن نبحث عن نشأة المدنية والباعث عليها في عقل الإنسان، فالقوانين والعادات والأخلاق والنظم والحيل الميكانيكية، كما يتبين لنا من مجرد النظر إلى المجتمعات المتوحشة والمستعمرات البريطانية، لا تستطيع أن تخلقها. هذه الأشياء لا يمكن أن تصنع لأنها من صنع الإنسان. إنما هو العقل؛ عقل الفرد، الذي يفكر ويبدع وينفذ، وإنما هو تأثير عقول عدة، تفكر وتشعر بالعطف، التي تشكل عادة — على غير وعي منها ودون قصد — المجتمعات والعصور، ومن ثم فقد بلغنا في النهاية شيئًا محددًا — وذلك هو الإنسان المتمدن؛ ذلك الإنسان رجلًا كان أو امرأة — نتوقع أن نجده متصفًا — بطريقة أدق وأشد تهذيبًا وتأكيدًا — بتلك الصفات التي ذكرنا أنها من خصائص المجتمعات المتمدنة.

إن الشخص المتمدن من جميع الوجوه يود في كل لحظة أن يتابع العقل في أسحق الجحور والزوايا، بينما استجابته الغريزية للحياة تتكيف دائمًا بالذوق. إن الحياة للشخص المتمدن — رجلًا كان أو امرأة — ليست مسألة ضرورة فحسب، إنما هي — إلى حدٍّ ما — مسألة اختيار. إنه إذا أمسك بالأرنب، سيطر على نفسه في القرار الذي يصدره عن الكيفية والزمان والمكان الذي يأكل فيه هذا الأرنب. الرجل المتمدن متصنع بالضرورة، ومن التصنيع أن تنظف أسنانك وأن تقول «من فضلك» و«شكرًا»، ومن غير الطبيعي ألا تصرع رجلًا تغاضبه وهو أضعف منك، ولكن لا تشك أيها القارئ في أني أحاول أن أبرهن على أن الرجل المتمدن هو الرجل الطيب. خير الرجال — إن كان للخير معنًى — من يطيق خير الحالات العقلية ويستمتع بها أطول وقت ممكن. يجب علينا أن نبحث عن القديسين في عالم المدنية بين الفنانين والفلاسفة والمتصوفين، لما عندهم من قدرة لا تحد على الاستمتاع بالتأمل والخلق. إن العقل يؤكد للمتمدن إن في هذا يكون خير الأمور، وإن كان الذوق المنحرف قد يهمس قائلًا إن خير الأمور لا يتنوع، ومن الأمور الكثير بالطيب مما لا يبلغ أقصى حد للخير فلا يصلح للاستمتاع به. إن الكمال لا يتسع للعوامل التي لا تبلغ الذروة، والمثل الأعلى هو لحظة من لحظات الكمال تستمر إلى ما لا نهاية — إنه أفضل الخير دائمًا. إنه الشمس المشرقة دائمًا في السماء؛ إلا إن المرء قد يكون بالغ المدنية بالرغم من أنه يحب ظلال المساء والليالي التي تسطع فيها النجوم، بل ويحب المطر والثلج مما يحمله على أن يزيد من اشتعال ناره. إن المثل الأعلى شيء دائم فريد؛ وقد يجد الرجل الضالع في المدنية نفسه أحيانًا على شيء من القلق في نعيم السماء المقيم.

أرجو ألا يُفهم أني أقول إن الفنان والفيلسوف والمتصوف لا يمكن أن يكون رفيع المدنية. إنما أقول إن الشخص كامل المدنية لا يمكن أن يكون من النوع الذي ينظر بعين واحدة. لم يكن القديس فرانس، ولا دانتي، أو بليك، أو سزان، أو دستوفسكي، كامل المدنية، ولا يمكن أن يكون كذلك بكل عمله وما يتعلق به، بل إن أفلاطون نفسه، حينما يحلق في سمائه — كما يفعل في «الجمهورية» — ينصرف عن إحساسه بالقيم. إن الرجل الضالع في المدنية أشمل تقديرًا من أن يفقد إحساسه بكل شيء سوی موضوع الساعة في أكثر الأحيان أو لفترة طويلة حتى إن كان موضوعه O Altitudo — ولا ننسى أن لتعدد الجوانب مثالبه كما أن له مزاياه. الرجل الضالع في المدنية مُقدر فوق كل شيء. إنه يكتسب في اتساع المدى والتنوع، ولكنه يخسر في جانب الغزارة، والغزارة — كما يزعم الفلاسفة — هي خير الأمور. فإن كان فنانًا كان — فيما أظن — ذلك الجانب منه الذي لا ينكب في حماسة شديدة على التعبير الذاتي — ذلك التعبير الذاتي الذي يكاد أن يبلغ تقرير الذات فيبدو خطره — أقول: كان هذا الجانب هو أرقى جوانبه مدنية، (ومع ذلك فإن هذه القدرة على التقدير عند المتمدن، هذه العادة المثقفة عادة نقد الذات، قدمت لنا كل لون من ألوان الفن، من هوراس، إلى بوب، ومريمي، بل وملتن، ومانتجنا، وبوسان، ورن إلخ …)، ومهما يكن من أمر فإن الرجل المتمدن شديد الحساسية للمؤثرات الجمالية، ولهذه المؤثرات التي ليست من نوع واحد فحسب. إنه ينتقي منها. إنه يميز في تقديره للتجارب الجمالية الجديدة ويتقبلها دائمًا. وبرغم هذا، وبالرغم من أنه لا بد أن يكون معنيًّا كل العناية بالجمال والحق والمعرفة، ممتلئ النفس بعرفان الجميل والتقدير الطبيعي للتعبير الجميل عن النفس، فليس من شك في أنه أدق من الفنانين والمفكرين، والعلماء المحترفين، شعورًا بأن هناك أمورًا أخرى في الحياة تستحق منه اهتمامًا لا يقل عن اهتمامه بهذه الأمور شدة وحماسة.

وإذا لم يبلغ تعقله حدًّا يجعل منه فيلسوفًا أو عالمًا متفرغًا للعلم أو الفلسفة، فلا أقل من أن يبصره بأهمية الفكر والمعرفة باعتبارها وسائل لحالات عقلية محببة وللتقدم الذاتي. ومن ثم فإن الرجل الضالع في المدنية يؤثر طلب العلم على أي شيء آخر. وميزته التي لا نزاع فيها هي أنه يفتح الباب لعالم رغباته. التعلم والحساسية هما أثمن الأدوات لرجل ذكي يبحث عن اللذة. فإن كان ذا حساسية وبغير معرفة، إن كان — لذلك — لا يستطيع أن يربط تجاربه الشخصية بالحاضر والمستقبل، أو بقوى الطبيعة، إن كان لا يستطيع البحث في أسباب ونتائج آرائه ومشاعره أو يتلاعب بنظائرها، إن هذا الرجل مثله كمن يجرع النبيذ المختار طوال حياته دون أن يقف لحظة عند رائحته، أو يستطعم عطره، أو يبتسم للونه. الرجل بغير تعليم، إن لم يكن شديد الحساسية، يتحتم عليه أن يبقى على هامش التجربة، يعوزه المفتاح لقصر اللذة الداخلي. إن كل فكرة وكل لون من ألوان الشعور له من النغم الدقيق ما لا يطرق سمع الرجل الذي لم يتعلم. إن الاستمتاع بكل واحدة منها عندما ترتفع، ومعرفة ما في الأماكن غير المطروقة من خفايا غير منظورة، ورؤية موضوع من عدة زوايا مختلفة، وتصور المرء نفسه في ظروف غير ظروفه، وشعوره إنه وريث العصور جميعًا وإنه في الوقت ذاته لاهٍ مسكين ينفق الوقت ويتبرم به في غير طائل، وإدراكه أن الدكتور جونسن مفخرة لبني جنسه، وهو في الوقت نفسه حمار مضحك أيضًا — هذه هي الملذات التي يجلبها التعليم، ولا يجلبها إلا التعليم وحده. وصدقوني إنها كالشمبانيا أو الكافيار للحياة الروحية، بل وألذ من هذين الشبيهين الماديين.

التعليم حاستنا السادسة، أما عن ذلك التلقين الفني الذي نسميه بالتعليم أحيانًا فليس له شأن فيما نتحدث عنه. إن له أهميته، ومن الخير أن يتعلم البنون كيف يحصلون على أكبر قدر ممكن من اللبن من ست بقرات، وأن تتعلم البنات إمساك دفاتر الحساب. إن مثل هذه المعرفة وسيلة للخير، ووسيلة إلى المدنية كذلك، ولكنها وسيلة بعيدة، أما ما عدا ذلك، فإنه من اضطراب الرأي أن نكرم تلقين ما هو مجرد وسيلة «للسير في الحياة» فنطلق عليه اسم «التعليم» الذي هو «استخراج» استخراج لأدق ما لدينا من قوى. وأنَا أعلم أنه من الخطأ فلسفيًّا أن نصف هذا التعليم الحر بأن غايته جمع المعارف، فالمعرفة — كما رأينا — لا تُطلب كغاية، ولكن كوسيلة لحالات عقلية لها قيمتها. إن المعرفة في حد ذاتها لا قيمة لها. ومع ذلك فإن القول الشائع بأن الغرض من التعليم الحر هو إثارة حب الاستطلاع لغير ما غرض، هذا القول ليس خطأ، لأنَّا نفهم منه أنه يعني أن التعليم الحر لا يعين أحدًا على «مواصلة السير في الحياة» أو على «النهوض» — أو نقلًا عن التعبير الإنجليزي الدقيق «جمع المال» — وإنما يعين على فهم الحياة والاستمتاع بملذاتها الدقيقة.

إن الشخص المتمدن — رجلًا كان أو امرأة — في هذا العصر من التاريخ يجب ألا يصدمه أمر من الأمور. يجب أن تتلاشى هذه العلامة من علامات الهمجية، وإذا كان التاريخ، بما يسجله خير عما فكر فيه وشعر به خيار الناس وأحكمهم، وما يسجله عن حكم الاستبداد، وعن البلاهة، والمحرمات، والعلوم، وبصورته عن الإنسان كشبكة من ردود الأفعال اللاشعورية، إذا كان التاريخ — بهذه الصورة — لم يمكنَّا في القرن العشرين من التمييز بين الحكم الخلقي والهزة الجثمانية، فإن اللوم لا يقع على «العقل». لقد قيل: إن الآلهة نفسها عبثًا ما حاربت الغباء. إن الصدمة النفسية معناها أن العقل قد نزل عن عرشه، والحشمة المتكلفة — كالخوف — تحول بين الإنسان وحكمه الذي لا انحياز فيه. وتجذبنا في هذا الاتجاه وذاك الاتجاه، وتحيرنا في النتائج. حدثني ضباط المدفعية أنه في اللحظة التي يفقد فيها الملاحظ أعصابه يفقد قواه في تصويب بندقيته نحو الهدف تصويبًا دقيقًا، كما يفقد قواه في الحكم على أثرها في عدوه. عندئذ يستولي الخوف على المرء ويتلاعب به كيفما شاء، ويحرف الحكم لمصلحته، والحشمة المتكلفة لها أثر مشابه. ولو أن علماء التشريح تقززوا من منظر جثة الإنسان، وأشاحوا عنها بوجوههم، وأبوَا أن يتابعوا عملية التشريح، لو أنهم فعلوا ذلك لبقينا إلى يومنا هذا في جهل بيولوجي مطبق، وكيف يمكن لأولئك الذين يأبون أن يبحثوا — بل أن يتفهموا إن أمكن ذلك — في الشاذ، أو غير المألوف، من الأذواق والعادات والميول وأنواع الإسراف البدني والعاطفي — كيف يمكن لهؤلاء أن يعرفوا أي شيء من علم النفس أو الأخلاق، لو أنهم ذُعِروا وصاحوا «لقد صدمنا». إنهم لن يفحصوا أسباب ما يغمهم أو نتائجه. إنهم لا يرون قط الشيء نفسه بكليته في ثبات؛ لأن نوعًا من الغثيان الجثماني أو المحرمات البائدة — التي يسرهم أن يسموها «تنكرًا خلقيًّا» أو «إحساسًا بالاحتشام» — يثور في نفوسهم ويعمي أبصارهم. إنهم لا يستطيعون أن يمسُّوا الثعبان لأن أبدانهم تقشعر لملمسه، وربما كان كذلك، وليس هذا مما يؤيدهم في شيء، ولا يجوز أن يجعلوا من العجز البدني فضيلة، ولا يجوز أن يُدينوا الثعبان ودارسيه من أجل هذا، ولكنهم «مضطربون». وحقًّا إنهم ليضطربون، والوصف بهذه الكلمة فيه حسن اختيار ما دام العقل يُنبذ، وهم يعلمون أن الثعابين «مريعة» وإن كان علماء الحيوان يؤكدون لهم أنها جميلة ومسلية، وهذه الحشمة المتكلفة تختلف عن الخوف — الذي كثيرًا ما يكون وسيلة للاحتفاظ بالذات، وقد يقوم على العقل — تختلف عنه في أنها تعود بكليتها إلى الخرافة حينما لا تكون مجرد غثيان بدني. إنها محنة لا تقابلها مزية، ونحن لا نستطيع أن نتمنى استبعاد الخوف كلية، غير أننا لو استطعنا أن نخلص أنفسنا من الاحتشام تقدمنا في ألف اتجاه ولم نتقهقر في اتجاه واحد.

إن الرجل الكامل المدنية يعلو على تكلف الحشمة، وحيث إنه يرغب في بلوغ الحقيقة فإنه يحاول أن يعلو كذلك على الغضب والهوى، فإن لهما نفس الأثر في تقييد حرية التفكير. الرجل المتمدن متسامح متحرر. وليس معنى ذلك أنه لا يحتدُّ قط أو يشتطُّن وكما اكتشف أنه إذا أغلق أحد أبواب العقل بالتحيز فلا مفر من أنه بذلك يصدُّ بعضًا من أكثر زائريه سحرًا، فكذلك سوف يدرك الرجل المتمدن أنه قل جدًّا من حوادث الغضب ما لا يمكن إخضاعه للعلاج العقلي. وكما أن الجواب الهادئ يبدد الغضب، فكذلك تطفئ روح الفكاهة نيران الغيظ. لا بُد للرجل المتمدن من أن يكون حرًّا متسامحًا.

وإني لعلَى يقين من أن أحدًا لا يتصور أني حينما أقول «حرًّا» أفكر في السياسة؛ فلسنا نعرف ماذا عسى أن تكون عليه الآراء السياسية للرجل المتمدن، ولا نؤكد إلا أمرًا واحدًا؛ ستكون هذه الآراء النتيجة المنطقية لفكرة واضحة عما يريده فعلًا، وما يريده قد يكون الخير المطلق، أو أن يكتفي بتوفير أسباب راحته بقدر المستطاع. وكلا الغرضين هدف معقول، وكلاهما — مع حسن إدراكهما وصحة الرغبة فيهما — يمنعه من أن يعلق أقل أهمية على تلك العبارة المذهلة التي يتلاعب بها الساسة المحترفون. الحرية، والعدالة، والمساواة، والإخاء، والمقدسات، والحقوق، والواجبات، والشرف، كل هذه الألفاظ الغالية قد تحمل معنى وقد لا تحمل أي معنى. وسيان إن قلت إنك تؤيد مشروع قانون نقابات العمال لأنه عادل، أو قلت إنك تؤيده لأنه غير عادل، فليس لهذا القول أو ذاك معنى؛ فإن العدالة ليست غاية في حد ذاتها، إن العالم الذي يسوده العدل الشامل ولا شيء غير هذا، عالم تافه كذلك الذي يسوده الظلم المطلق ولا شيء غير ذلك؛ فإذا كنت تؤيد مشروع قانون نقابات العمال لأنه وسيلة بعيدة للخير المطلق كان ذلك منك قولًا جريئًا وموقفًا كريمًا (لأن النتيجة ترتكز على مقدمات صحيحة، وليس عليك إلا أن تثبت أن النتيجة قد استنبطت استنباطًا طبيعيًّا) وكذلك إن أنت اعترضت على مشروع القانون لأنك تعتقد أنه سيؤدي في النهاية إلى تخفيض ما تتناول من أجر كان ذلك سببًا جميلًا جدًّا للمعارضة. أما إن أيدت القانون لأنه عادل، أو اعترضت عليه لأن جائر، فأنت تؤيد أو تعترض لغير ما سبب صحيح، لغير ما سبب بتاتًا. إن السؤال الوحيد الذي يسأله الرجل المتمدن عن أي إجراء سياسي هو هذا «هل هو وسيلة لما أريد، أو هل يؤدي إلى غير ما أريد؟» فإن أحدًا لا يريد العدالة أو المساواة في الفضاء، إنما هذه أمور — إن رغبت فيها إطلاقًا — رغبت فيها كوسائل، وهنا يتساءل الرجل المتمدن: وسائل لماذا؟ وبطبيعة الحال، قد يحدث أن أرغب أنَا وترغب أنت معي في غاية واحدة، ولكنا نختلف فيما إذا كان قانون معين يصدره البرلمان يكون الوسيلة لهذه الغاية. هنا يتسع المجال للجدل والتفسير. وأكثر من ذلك احتمالًا أن ما يكون وسيلة لما يريده رجل يكتسب أربعة جنيهات في الأسبوع لا يكون وسيلة لما يريده رجل يكتسب عشرة آلاف جنيه في العام. وحيث إن الإجراء المقترح يُحكم عليه بمختلف المعايير، فإن الاتفاق النهائي لا أمل فيه، والتوفيق هو خير ما نأمل فيه، ولكن في مثل هذه الحالة إذا أثار أحد الجانبين كلمات خلابة «كالحقوق» و«الواجبات» أو إذا اتهم أحد الطرفين الآخر بالانحراف عن الأخلاق، ما كان في ذلك من العقل أكثر مما يكون عندما يشتم لاعب الكريكت في جامعة أكسفورد خصمه من كامبردج لأنه هزمه في اللعب. إن أهداف الطرفين معقولة، ولكنها تختلف، وليس هناك مجال للكلام القارص. وإنما ينشأ هذا المجال حينما يرغب غيرنا من الناس في الغاية التي نرغب فيها، ولكنهم يستخدمون وسائل من الواضح أنها لا تؤدي في النهاية إلى تحقيق الغاية؛ هؤلاء نسميهم أغبياء ولا نسميهم أشرارًا. إن النقد الخلقي لا يمكن قبوله في الجدل السياسي إلا إذا اتفق الجميع على ما يكون خيرًا كغاية، وقد يكون ذلك ممكنًا، واتفقوا كذلك على أن الإجراءات السياسية وسائل لهذه الغاية، وليس ذلك أمرًا ميسورًا. هل زيادة راتبي خمسين جنيهًا في العام يحتمل — في النهاية القصوى — أن تؤدي إلى زيادة الخير المطلق — أي زيادة الحالات العقلية التي لها قيمتها — أكثر مما يؤدي إليه إمداد ملاعب سنت بانكراس بتلال الرمال وصناديق الأوراق المهملة؟ إنه سؤال دقيق لي فيه رأي محدد كما سيتبين لكم إذا طالعتم كتابي حتى نهايته، ولكنكم سوف ترون كذلك أني لا آمل كثيرًا في أن أحمل كل إنسان على الاتفاق معي في الرأي. إن الرجل المتمدن من جميع الوجوه يضع كل هذه الأمور في اعتباره، وهو وإن يكن شديد الاهتمام بشئون السياسة أن يرجع إلى تلك المبادئ العتيقة الرنانة، ولن ينظر إلى رغبته الطبيعية في الاستمساك بما لديه على أنها أحق من رغبة خصمه في الحصول عليه لنفسه. إنه لا يخدع نفسه بالكلمات والعبارات. إن صاحب الملايين المتمدن يتفق مع الحكومة الروسية الحالية لأنها تحرم الإضراب، ولو كان مستر لانزبري متمدنًا ما أعتقد من صميم قلبه أن أبناء دائرته الانتخابية أحق بأجر العمل من دوق نورثمبرلاند بثروته. إن عجزنا عن أن ندرك أن آمال الفرد أو مخاوفه الخاصة تتفق والخير المطلق — إن عجزنا هذا يجعل من غير المحتمل للرجل الضالع في المدنية أن يظفر بالثقة في انتخاب شعبي.

ولما كان الرجل المتمدن متسامحًا لا يميل إلى التدخل في شئون الآخرين، فلا بد أن يكون على سلوك حسن. أن إحساسه بالقيم يقنعه بأهمية هذا السلوك في التنعم بالحياة، حتى إن لم يدله العقل على أنه ضروري للمعرفة، فإذا كان فهمك الناس أجمعين يدعو إلى تسامحك معهم أجمعين، فإن تسامحك يسير بك إلى منتصف الطريق في فهمهم. إذا طمأنت الرجل بحسن سلوكك وجميل خطابك سرت على الدرب الذي يؤدي بك إلى تأسيس علاقات عاطفية، وبذلك تيسر له أن يقدم خير ما عنده، وإن أنت أقمت تلك الحواجز التي يصطلح على نبذها كل سلوك حسن، إن أنت فعلت ذلك أقمت بينك وبينه الشك، والتوتر، والمضاربة، وتقرير الذات، وثق أنك لن تظفر بشيء أفضل مما أعطيت. لا يغرينا شيء قط بالإفضاء بأعز أسرارنا للمتكبرين ناقصي التربية. من أجل هذا ترى الرجل الدنيء، والوثاب، والمشاغب، مدعي العلم الذي لا يوثق فيه، ومدعي الكمال الذي يفرض شخصيته — هؤلاء يتسللون في هذه الحياة أو تجرفهم الحياة دون أن يتذوقوها. إن كل اتصالاتهم من جانب واحد، وحينما يشتد الواحد منهم يستطيع أحيانًا أن يقبض على ناصية الحياة ويهزها هزًّا. ذلك أن الرجل الذي يحمل المشابك في أطراف يديه يستطيع أحيانًا أن يمسك بك من عقبك ويلقيك أرضًا، ولكنه لا يستطيع أن يدرك آلاف الهزات العاطفية العجيبة التي يحسها عندما يربت على كتف زميل أو يضغط على كفيه. ليس من شك أن في الحياة كثيرًا من الأمور الطيبة يستطيع المرء أن يحققها بمجرد قوة الذهن والشخصية. غير أن هناك ما هو خير منها — أو أدق منها على الأقل — لا تستطيع أن تشتريها بأقل ثمنًا من حسن السلوك. ومن هذه أفضلها الحديث — الحديث الحقيقي — تبادل العواطف والآراء بين أفراد عزل من السلاح تمامًا، قلوبهم مطمئنة، أفراد تخلو نفوسهم من الخوف ومن الريبة، كما يخلون من الأغراض، لا يسعى الواحد منهم إلى فرض نفسه أو التظاهر بها، وإنما يسعى إلى الحقيقة عن طريق اللذة، الحديث متعة لا يعرفها إلا المتمدن وحده.

الرجل الضالع في المدنية — بطبيعة الحال — لا بد أن يكون ذواقة في الحياة. لا بد أن يميز، وأن تكون له حاجات معينة ورغبات معينة. إن المدنية — ذلك المظهر المعقد من مظاهر الذكاء الفردي والحساسية ضد غريزة القطيع، هذه المدنية لا تقبل قط المعايير المنحطة أو تخضع لسلطان السوقة. إن الخراف الهمجية والنعاج البلهاء عبيد للسيد الذي يرتدي لباس السهرة. تحدد لهم السوقة ما ينبغي أن يكون من اختيارهم الشخصي الخاص. ينتقي لهم السادة هارود وسلفردج النبيذ والسيجار، والمعاطف، والأحذية والقبعات والقمصان، ويعين لهم السادة هتشرد ومودي أي الكتب يقرءون، ويمدهم تجار شارع بوند بالصور، كما يمدهم سر توماس بيتشم وسر هنري وود بالموسيقى وحبوب الدواء، وسر أزولدسنتُل وهوليود بالنكتة، والجمال، والإحساس بالخيال. إن ملوك الأسواق الكبرى يصيحون فيهم قائلين: «هنا أيتها السيدات والسادة في الإمبراطورية البريطانية، هنا خير الأصناف»، وتقف سيدات وسادة الإمبراطورية البريطانية طائعين في الصف، ولا يجرؤ على مواجهة هؤلاء المتعهدين بالتوريد الذين يقدمون السلع المزخرفة إلا قليل من الضالعين في المدنية، قائلين لهم: إن ما يقدمونه لا يتفق وما هم في حاجة إليه.

لكي يكون الرجل متمدنًا يجب أن يكون لديه ذوق للاختيار والتقدير، ولكني أذكركم مرة أخرى أنه لا ينبغي أن تكون لديه القدرة على الابتكار، فإن ابتكر، فلا بد أن يحمل ابتكاره علامات المدنية، غير أن هذه العلامات — ما دامت كلها عرضية لا تؤثر قط في القيمة الذاتية لعمله — ليست مما يأبه له رجل يقدر الجمال خالصًا، وإن تكن لها أهمية قصوى للمؤرخين الذين يحاولون أن يكشفوا عن مميزات العصر الذي صيغت فيه، أو الفنان الذي صاغها، وإذا كانت «الأوديسي» أعلى قدرًا من «أغاني رولان»، فليس مرد ذلك إلى أن الأولى تلونت بلون مدنية بازغة، والثانية بهمجية آفلة. إن الفنان المتمدن يظهر في فنه مدنيته، إلا أن هذا المظهر ليس من جوانب الفن التي لا محيص عنها. إن الرجل المتمدن لا يتصف بالخلق أكثر مما يتصف به الرجل الهمجي، ولكن التمييز والتقدير الواعي من صفات الرجل المتمدن، ومن العسير أن نحكم بالمدنية على الرجل الذي لا يتأثر البتة بأي فن من الفنون.

ومهما يكن من أمر، فإن حياة المدنية إذا خلت من الإحساس الجمالي المتصل العنيف تتعرض لخطر الفراغ. إن ملذات حياة المدنية تأملية في أساسها، ومن بين التجارب التي يمارسها المرء خلال تأمله، ربما كانت التجارب الجمالية أكثرها أهمية؛ لأنها وإن تكن أقل غزارة من العواطف التي يستمدها المرء من صلاته الشخصية إلا أنها أشد تأكيدًا وأكثر دوامًا، وهذا الإيثار للتأمل (وأنَا أستخدم الكلمة في أوسع معانيها) وهو من أعز المميزات التي يستمدها المتمدنون من إحساسهم بالقيم، هو الذي يعلل بغضهم المستمر للتدخل في شئون الآخرين، ذلك التدخل الذي يسميه كتاب السير المتميزون «حياة العمل»، وواضح أن من ضروب النشاط ما يمكن أن يكون وسائل للخير، وهذه الضروب لا مناص للرجل المتمدن من تأييدها دائمًا، ومن ممارستها أحيانًا، ولكن لما كانت حياته بالفعل مليئة بوسائل الخير المباشرة، وما دام لديه من الصلات الشخصية ما يستمتع به، ومن الجمال ما يتأمله، أو يبدعه، ومن الحق ما يسعى إليه، فإنه يعزف دائمًا عن التضحية بهذا المحسوس في سبيل ما قد يتبين أنه وهم من الأوهام. إنه يريد أن يعمل لكي يعيش — إن كان لا بد له من ذلك، فالحياة وسيلة ضرورية من وسائل الخير. ولكنه بعدما يكفل بقاءه، يقف من الحياة موقفًا قابلًا لا فاعلًا. إن حياة العمل — في أحسن حالاتها — قد تكون حياة حركة دائبة في السعي وراء ما قد يتبين أنه وسيلة من وسائل الخير — الخير للعامل — أو على الأرجح — للآخرين، ولكن العمل في حد ذاته عديم القيمة، وقلما تكون للحالة العقلية التي تتولد عنه أية قيمة. وفي أكثر الأحيان يكون العمل باعثًا على حالات عقلية سيئة بالنسبة إلى العامل، وباعثًا على الإزعاج المتواصل بالنسبة للآخرين.

لقد اعترفت بأن حياة العمل (ولست أسمي الحياة التي يكرسها صاحبها لمجرد اكتساب القوت، حياة عمل — فالعامل الزراعي ليس رجلًا من رجال العمل) ربما كانت وسيلة من وسائل الخير، وبخاصة خير الآخرين، إلا أن الأشخاص العاملين حقًّا — رجالًا كانوا أو نساء — لا يشنون الحرب عادة أو يقيمون المذابح، ولا يتسلطون على الضعيف ويستثيرون القوى، ولا يتدخلون في شئون جيرانهم ويقلبون الدنيا رأسًا على عقب — لا يفعلون ذلك مدفوعين ببواعث الإيثار، إنهم لا يفعلون ذلك إلا لأنهم لا يستطيعون أن يفرضوا شخصياتهم إلا بالعمل. إن ما يسمونه شخصًا عمليًّا — رجلًا كان أو امرأة — ليس إلا فنانًا شائهًا ناقصًا، يتشوق إلى التعبير عن نفسه، ولما كان لا يستطيع ذلك بالخلق والإبداع، فلا مناص له من التدخل في شئون الآخرين. أمثال هؤلاء هم نكبتنا، وما أكثرهم. إنهم لا يكتفون بالمحبة والصداقة، والحديث، وإبداع الجمال أو التأمل فيه، أو متابعة الحق والمعرفة، أو إشباع حواسهم، أو باكتساب قوت يومهم في هدوء، بل لا بد لهم من الظفر بالنفوذ، ولا بد أن يفرضوا أشخاصهم، ولا بد أن يتدخلوا في شئون غيرهم. هم صانعو الأمم والإمبراطوريات، وهم الذين يخلون بالسلام. هم مخرجو الإنسان من خير جوانبه. هم عمد الهمجية — أو إذا تبعنا كتاب السير — هم عمد المجتمع. إنهم غير مهيئين للذات المدنية، ولكنهم لا يسمحون لجيرانهم الذين كانوا أوفر منهم حظًّا في هذا السبيل بالاستمتاع بها. لا بد لهم من فرض معاييرهم وطرقهم في الحياة. وأسوأ من هذا كله أنهم يدفعون من بين من هم يسيرون في اتجاه المدنية بالطبيعة من كان أقل وضوحًا في بصيرته — يدفعون بهؤلاء إلى عمل يدفعون به عن ذواتهم — أو قل يدفعون بهم إلى شبه الهمجية.١ وعن هذه الحشرات تصدر تلك الدعوة الغالية، تقديس العمل؛ كأن العمل يمكن أن يكون خيرًا في حد ذاته. وعنهم تصدر الحروب، وأسباب الاضطهاد، وقوانين الشرطة والتحقيقات الظالمة. إنهم يتوهمون أنهم يستطيعون بالقوة أن يفرضوا على غيرهم المعتقدات والميول، وقد بلغ هؤلاء الآخرون من الحماقة أنهم يصدقونهم. إنهم يستطيعون أن يفرضوا — بل إنهم ليفرضون — التوحيد الظاهري، والنظام. إنهم ينظمون العداوة لكل ما ليس بالشائع أو المألوف — أي لكل ما هو متميز نادر. لا شك أنهم قلة مسحوقة، ولكن لما كانوا لا يحسنون عملًا سوى السعي وراء السلطان، ولما كانت الغالبية غبية وديعة، فإنهم يظفرون به عادة.

ولنعد إلى الرجل المتمدن. الرجل المتمدن مصنوع لا مطبوع. هو شخص مصطنع، غير طبيعي. إنه يُكوِّن نفسه عامدًا واعيًا، وفي اعتباره الحصول على خير وأدق الموجود والاستمتاع به. وبرغم هذا — بمعنى آخر — إنه وإن يكن متكلفًا في كل أموره، إلا أنه أقل الكائنات البشرية انحرافًا، وهو كذلك لأن استجاباته أقل انحيازًا، ولكي نفهم هذا التناقض الظاهر يجب علينا أن نسلط أذهاننا على صورتين: على الحياة، أو التجارب، باعتبارها تيارًا دائم التدفق، وعلى ذلك المجرى العجيب الذي نجريها فيه. وهو الشخصية، والعجيب في الشخصية أنها تكيف وتتكيف بالتجارب، ولا تجد شخصيتين في شكلهما الأصيل متطابقتين، ولكن خلال السنوات الأولى لحياة كل إنسان تشكل الظروف والتربية الشخصية وتحورها — وأقصد بالشخصية المجرى الذي يسري خلاله تيار التجارب. إنها تنسد وتتضخم من أثر الخرافة المتخلفة أو تراكم العادات التي تلتوي هنا وتنبعج من فعل الأهواء التقليدية، وأحيانًا تعيد الثقافة تشكيلها قصدًا. ولكي تقدر تقديرًا تامًّا قوة التيار الذي يمر بها وحرارته ونوعه، ولكي تسجل الدوامات والأمواج التي تصطدم بها، ولكي تميز تمييزًا واضحًا بين التحاريق والفيضان، يجب أن نحافظ في عناية تامة على نظافة هذه الأداة الدقيقة. الشخصية (هذا الموصل للتجارب) تحتاج إلى الجلاء دائمًا، ولا يستطيع إلا العقل وحده أن يؤدي هذه العملية الأساسية. العقل وحده يخلص الشخصية من الآراء المتعصبة وردود الأفعال العنيفة، وذلك لكي نقاوم دائمًا المعتقدات الثابتة وردود الأفعال الغريزية. شخصية الهمجي تتلوث بالأهواء والمخاوف الخرافية. أما شخصية المتمدن فليست بالتأكيد تلك الشخصية التي وُلد بها، فقد طرقتها الأقدار وشكلتها التربية، ولكنها شخصية نظيفة. ولا تحول بينه وبين الحياة محرمات بالية، أو عرف على غير أساس أو مخاوف لا طائل تحتها، ومن ثم تتاح الفرصة لكي يمارس يومًا ما أمرًا من الأمور مباشرة ممارسة كاملة وبشخصه، لا باعتباره مسيحيًّا أو عابد شيطان، ولا باعتباره سيدًا إنجليزيًّا أو من عامة قراء الصحف، وإنما باعتباره الذاتي.

الرجل المتمدن لا يعبث بصفاته الموروثة حبًّا في توحيدها مع صفات غيره، ولا من أجل الضمان العقلي والعاطفي — وهما من أهداف القطيع الكبرى، ولا يحاول أن يعدل من هذه الصفات إلا حينما تحول بينه وبين إدراك الحياة والاستمتاع بها. إنه يحاول أن يعالج نفسه من حدة الطبع كما يحاول أن يعالج نفسه من لكنة اللسان. إنه يكافح ميول الغيرة كما يكافح السل في بدايته. إن الميول الهمجية لا تعود بفائدة تدوم متعتها. إنها تهدم السعادة كما تهدمها أمراض الأسنان. إنها تجعلنا نعاني معاناة المرضى ونسلك سلوك المجانين. الرجل المتمدن يبذل كل جهده للتخلص من كل ما يحول بين وعيه والحقيقة، كل ما يحرف الأحكام، كل ما يُظلم البصيرة. إنه يحاول أن يبدد الطبيعة بمعول التربية، وهو بهذه المحاولة إنسان متكلف مصطنع. ولهذا فهو وإن كان لا ينبذ لذة من اللذات لأنها تنافي المبادئ، إلا أن عادة التحليل عنده وإحساسه بالقيم سرعان ما تقنعه بأنه يضحي بالأسمى في سبيل الأدنى إن هو سار وراء ميوله الطبيعية. إنه يستبعد أو يحد من تذوق اللذات الدنيا، وإن بدا له أن الجشع يحد من تأثره بالفكر والشعور تحكم في شهوته. الرجل الهمجي يأكل ويشرب حتى يمرض، والرجل نصف المتمدن يفعل ذلك حتى يتبلد. أما الرجل المتمدن فيحاول دائمًا أن يطور الطبيعة ومن المحتمل أن ينجح. يعزز من نفسه ناحية ويمحو منها ناحية أخرى. إنه لا يقبل الطبيعة كما هي، ولست أرى سببًا يدعوه إلى هذا. أما أولئك الذين يقبلون الطبيعة على علاتها. أولئك الذين يرفضون التدخل في هذه الآلهة، أولئك الذين عقدوا العزم على استبعاد كل ما ليس بالطبيعي — هؤلاء أنصحهم بالعودة إلى الصواب بأسرع ما تمكنهم قدراتهم الطبيعية.

هكذا أصور الرجل المتمدن. فهل تصدمك هذه الصورة ولا تلاقي عندك عطفًا؟ لم يكن من شأني أن أرسمها على غير هذا الشكل. وسواء رضيت عنها أو لم ترضَ، وسواء ترققت فأسميتها «رسمًا تخطيطيًّا» أو نبذتها قطعًا لأنها «ضعيفة». سواء كان هذا أو ذاك فإني أعتقد أنك توافق على أن الشخص الذي قصدت أن أصوره بها، هو في الواقع الشخص الذي نسميه متمدنًا. إنه ليس الرجل الطيب، وليس الرجل الطبيعي. إنه ليس الفنان، أو البطل، أو القديس، أو الفيلسوف، ولكنه يقدر الفن، ويحترم الحق، ويعرف كيف ينبغي أن يكون سلوكه. هدفه أن يستمتع بالحياة استمتاعًا كاملًا، وأن يستمتع بها جملة وفي أدق نواحيها وأشدها خفاء. ووسيلته الأولى لتحقيق هذا الهدف هي قوة الفكر والشعور، مهذبة إلى أقصى الحدود. إنه صاحب ذوق في كل الأمور. تطلعه الذهني لا حد له، لا يخشى شيئًا، ولا ينطوي على غرض. إنه متسامح، متحرر، لا يُصدم، وإذا لم يكن دائمًا ودودًا ظريفًا، فهو على الأقل ليس شرسًا، ولا مرتابًا أو متعاليًا، إنه ينتقي ملذاته قصدًا، ولا يحد انتقاءه خوف أو هوى. إنه يميز بين الوسائل والغايات، ومن ثم تراه يقدر الأمور لدلالتها الوجدانية أكثر مما يقدرها لفائدتها العملية. كل نفاق في الحديث عن «الحقوق» و«الواجبات» و«المقدسات» يهب بعيدًا عنه كالقش والرمال، يضايق ولا يؤذي. إحساسه بالقيم، حينما يوجهه بذكائه، كالإبرة التي يفقأ بها الفقاعات المزيدة التي يثيرها الاستنكار الخلقي. إنه ناقد، واعٍ لنفسه، وهو على كل حال — إلى حدٍّ ما — يحلل المواقف. ولا مناص له من أن يكون فذًّا فريدًا، ولما كان واعيًا لنفسه كفرد كان قليل العطف على إجماع القطيع، ولما كان مهذب العقل والوجدان والحس، فإنه يشق للحياة طريقًا يزبل منه — على قدر المستطاع — ما يعترضه من عادات وأهواء. كلَّا، إنه لن يكون طبيعيًّا أبدًا.

إن النموذج الفذ للإنسان المتمدن قد يوجد — فيما أحسب — منفردًا، مستوحشًا، مستكفيًا بذاته، له قيمته الذاتية، ولكن الرجل المتمدن لا يمسي ممدنًا لغيره إلا عندما يجتمع حشد من المتمدنين. فجماعة المتمدنين هي نواة المدنية. يقول فلتير: «في النهاية تتحكم الجماعة الطيبة في الجميع في كل مكان». والجماعة طيبة كانت أو سيئة — لا بد أن تتألف من أكثر من فرد واحد. وعندما توجد «الجماعة الطيبة»، أو نواة التمدين، فإنها لا تسود — إن صح أن ننعتها بالسيادة — إلا بطلاء البيئة بلون خفيف. وهذه البيئة — مدينة كانت أو دولة أو عصرًا — لا يمكن أن يقال عنها إنها أصبحت رفيعة المدنية (كبيئة) إلا عندما يصطبغ جانب عظيم من جمهورها بهذه الصبغة الغالبة — وإن بقي هذا الجمهور على قدر كبير من الهمجية إذا قسناه بتلك المعايير الدقيقة التي طبقتها على الأفراد، وفي العصور المحظوظة والبقاع السعيدة نرى أن جانبًا كبيرًا من السكان قد أبدى ميلًا إلى المناظر والأصوات الجميلة، وبدت عليه علامات تدل على تنبه إلى التطلع الذهني، كما أظهر قلقًا من القيود الهمجية على الفكر والشعور التي تدفع بالغالبية عادة إلى تخوم الحيوانية، وقام بتزيين المدن كبار الفنانين الذين فُضِّلت أعمالهم عن وعي وقصد على أعمال الفنانين المتخلفين. وإني لأؤكد عن يقين أن تمثال مس كافل لم يكن بالإمكان أن يعرض في أثينا لعهد بركليز أو فلورنسا المديشية، ولقد مرت عصور بدأ كثير من الناس فيها يحسون ببغض الكذب والجهل، بغضًا ينبني على أساس عقلي وأساس جمالي في آنٍ واحد، وفي القرن الثامن عشر سخر فلتير متجاوبًا مع الرأي العام من مؤلفين كان لديهم من العقل ما ليس لمستر بَلُك أو سير آرثر كونان دويل، وفي ذلك العصر كان لا بد أن تكون جنازة فالنتينو نفسه أقل روعة من جنازة سير إسحق نيوتن، وكان الأثينيون يخصصون للفن أضخم اعتماد من الخزانة العامة، وكان الإيطاليون لعهد النهضة يعدون رفائيل أعظم أمجادهم الوطنية، ومن أمثال هذه الريشات يتبين المرء اتجاه الريح، ويؤكد لنا الفحص الدقيق صحة الانطباع الذي تكوَّن لدينا من أنه كانت هناك حقًّا جماعات سادها وانتشر فيها تقدير عادل — وإن يكن غامضًا — للقيم العليا ولما في الحياة من جميل الأشياء، بل سادتها رغبة في متابعة هذه القيم والأشياء ولو على حساب إشباع الرغبات الأكثر وضوحًا وجلاء، وكان ذلك من فعل جماعة من الأفراد الضالعين في المدنية؛ هذه الجماعة بتأثيرها في الجماهير لونت عصرها عن غير قصد وبطريقة غير مباشرة في أكثر الأحيان. إن الجماعات الضالعة في المدنية من رجال وسيدات هي التي نشرت الحضارة.٢
١  كان المتقدمون في المدنية من بين المواطنين في أثينا يصرون على المعارضة في سياسة الحرب والتوسع الاستعماري التي كان الزعماء الشعبيون يزجون بالمدينة فيها، وهذه السياسة التوسعية أدت مباشرة إلى تدهور المدنية الأثينية، كما أدت إلى انهيارها السياسي، ولو أن القبيادس قنع بحياة الفكر والشعور لما أيد تلك الحملة الصقلية القاتلة.
٢  يمدنا تاريخ «قصر رامبوييه» بمثال قديم لقوم متمدنين انضم بعضهم إلى بعض لكي يتفادوا البيئة الهمجية التي تحوطتهم، فكوَّنوا نواة ومدنوا عصرهم تدريجًا — وهم في الوقت عينه مثال لمادة تتعلق بموضوعنا ولا يمكن أن يتضمنها النص على وجه حسن؛ ففي السنوات الأولى من القرن السابع عشر نرى اللون الذي تضفيه الرامبوييه على ما حولها وهو يفعل فعله، وينتشر رويدًا رويدًا، ونرى هذه الجماعة وهي تُولِّد جماعات أكبر منها من سلالتها المباشرة، وتتضخم هذه الجماعات شيئًا فشيئًا، وتزداد في أهميتها ومدنيتها، ولا تفتأ تنشر لونها، حتى تبلغ الحركة أوجها في المدنية الرفيعة التي ذاعت في صالونات السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر.
ونقلًا عن بولنييه (وهو حجة قوية في الموضوع): «حوالي عام ١٦٠٧م أعلنت كاترين دي فيفون، ماركيزة رامبوييه، وكانت إذ ذاك في العشرين من عمرها، أعلنت سخطها على ما كان عليه رجال الحاشية في «فيرجالان» من خُلق، وعلى أسلوبهم في الحياة، فكفت عن ارتياد مجتمعات قصر اللوفر، وقبعت في كسر بيتها.
ولما كانت هذه المركيزة دمثة لطيفة وعلى جانب كبير من الثقافة، مُلمة باللغة الإسبانية واللغة الإيطالية، فضلًا عن ثرائها العريض، وخفة روحها التي كانت تسحر بها من حولها، فقد كانت تأوي إلى غرفة نومها حيث كان يلذ لها أن تقضي وقتها بعد العشاء، كما تؤكد الآنسة سودري، أو تقضي هناك يومًا من أيام الصيف حيث كان السيدات يُقمن السهرات في غرفهن للتخفف من شدة الحرارة.
وكانت شديدة الحماسة لخدمة الحق والمجتمع، وفي يوم الاستقبال كانت تدعو شخصيات معينة من جنسها، وسرعان ما أمسى قصرها مكانًا تلتقي فنه جماعة مختارة من صفوة السيدات والسادة من أرباب القلم … وكانت لقصر رامبوييه آثار أخرى ممتازة؛ ففي الحجرة الزرقاء لم يكن يطلب من النزلاء إلا التسلية والاستمتاع، وهنا كان موضع الابتكار. ثم إن السيد المهذب كان لا يهتم كثيرًا بأن يسحر بأحاديثه وكتاباته، بل إن ما يتمناه أن يكون شجاعًا أولًا، قويًّا ثانيًا، عظيمًا، قادرًا على السعة في الإنفاق، فالروح إنما هي وليدة هذه الصفات، ثم إنه لم تكن هناك قبل قصر رامبوييه أية فكرة ترمي إلى أن تكون المناقشة وحدها متعة كبرى يسعى إليها الناس؛ إذ يجتمعون لغرض واحد، هو تبادل الحديث، وبسبب ما كان لجماعة رامبوييه من مكانة، سرعان ما كان الرائد يفقد منزلته حتى إن كان من النبلاء أنفسهم إذا لم يَبدُ منه ما يكفي على الدلالة على أنه «رجل مخلص» أو رجل من رجال الحياة.
وكان من آثار قصر رامبوييه عند لانسون «تنظيم الطبقة الأرستقراطية في مجتمع مدني»، بَيد أن المدنية سرعان ما تسفه الفوارق الطبقية، ففي القرن السابع عشر الحائر كانت تعيش (في الغرفة الزرقاء) الدوقات إلى جانب سيدات الطبقة الوسطى وأرباب القلم — كما روى بولنييه — ولا تتصوروا أن الحديث كان تافهًا، فقد كان هذا القصر قبل كل شيء صالونًا أدبيًّا؛ حيث كان المجتمعون يتبادلون قصائد الشعر وروائع الأدب … وكان هناك مَن يُصغي … وكان هناك مَن يجادل …
وكان أفراد هذا المجتمع من صفوة الرجال والنساء يحسنون اللغة الفرنسية الرصينة، فيناقشون في حرارة مشكلات قواعد هذه اللغة، كما كان الاهتمام يدور كذلك حول أسلوبها في الغرفة الزرقاء — وكل هذا كان له من غير شك أثره في الأدب واللغة.
وفيما عدا الحلقة الصغيرة — حلقة أرتنيس التي لا يُشق لها غبار — فإن طبقة النبلاء وخيار الطبقة الوسطى في فرنسا لم يتم تهذيبهم إلا ببطء وشيئًا فشيئًا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤