كيف نصنع المدنية؟

بقي أمامنا سؤالان، أولهما: هل نريد المدنية؟ وثانيهما: هل نستطيع أن نظفر بها لو أردناها؟

هل نريدها؟ هناك من الأسباب — إلى جانب ما يراه ساسة الدول المتحالفة — ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن المدنية أمر مرغوب فيه؛ فهناك الاعتقاد الراسخ في قلب كل رجل مهذب وكل امرأة مهذبة؛ لأن كل إنسان مهذب — رجلًا كان أو امرأة — يحس أن تلك العصور الذهبية — التي حاولت أن أشير إلى صفاتها — كانت ذهبية حقًّا. وإنا جميعًا لنشعر أنها كانت مما يشرف التاريخ. ولا يمنع ذلك من وجود جماعة من الأذكياء يمتعهم أن يتغنَّوا بجمال الهمجية، ومن العقلاء من يدرك عيوب المدنية ومفاتن الهمجية، وإنك لتلمس بين أرقى المتمدنين ميلًا — من حين إلى حين — للثورة على تهذيبهم، وكثيرًا ما تجد فيهم شيئًا من السذاجة والحيوانية. إن في العودة إلى الطبيعة عن طريق الفنون والحرف، وفلاحة البساتين وسوء فهم فلتير، تناقضًا يقبله عادةً المتمدنون الذين يحسون الحاجة إلى دواء مسكن — وليس هناك ما هو أقرب إلى الطبيعة من أن يؤلف أمثال هؤلاء جماعات تتحسر في براعة وفي نغم جميل على ملذات الجهل المفقودة ونعمة البلاهة الضائعة. ولا يدعونا البتة إلى الدهشة أن تنال هذه الجماعات العطف الشديد، أو أن يمدهم بالمال أولئك الذين لبثوا على همجيتهم لأنهم عجزوا عن أن يكونوا شيئًا أفضل من ذلك — ومهما يكن من أمر فمن المرغوب فيه أن يكون هؤلاء الأذكياء، هؤلاء الذين يبشرون بالحنين إلى العصر الباليوليتك القديم ويجدون من يُصغي إليهم، من المرغوب فيه أن يبلغ بهؤلاء ذكاؤهم أن يدركوا أن هناك فارقًا جسيمًا جدًّا بين نظرية يذكرها صاحبها لمجرد الدعاية، وبين ما يعتقده المرء فعلًا. إن كل إنسان ذكي يدرك من صميم قلبه أن حياة المتوحش هي كما وصف هوبز — وذلك برغم ما فيها من فنون النحت، ورقصات الحرب، وتبادل المودة، والأثداء السمراء، وثمر الموز. إنها حياة لا يمكن لنا احتمالها لما فيها من مخاوف غير طبيعية تحدق بالناس وتتهددهم، ولما تنطوي عليه من انعدام الاطمئنان المادي، وانعدام التنوع — قد تهتز نفوسنا لما فيها من فنون خيالية للبناء، وقد نعجب بمظهر التحمس للعقائد، ولكنا ندرك من صميم قلوبنا أن العصور المظلمة كانت حقًّا مظلمة. إنا نعلم أن تلك الأيام الحالمة كانت تقع علينا كالكابوس لو عشنا فيها، لما سادها من مخاوف مفزعة، وآلام لها ما يبررها وما لا يبررها، ونقص في الأفكار الجديدة، وموانع عاطفية وذهنية، وتهديد مستمر بالدمار الشامل — وبعد ذلك النموذج الطيب من الهمجية الذي لمسناه بين أغسطس من عام ١٩١٤م ونوفمبر من عام ۱۹۱۸م، عرفنا — نحن الذين نحن إلى العقل — أننا عُدنا إلى الملذات المصطنعة التي تتيحها لنا حفلات العشاء الحديثة، حيث نستطيع أن نجلس ونثور في أمن واطمئنان ضد سكون الحياة المتمدنة الذي يخلو من دلائل البطولة، وفي أفئدتنا إحساس بالتفريج عن النفس خفي، ولكنه بعيد الغور.

هذه العقيدة الملحة — التي تختفي كثيرًا وتتستر أحيانًا — بأن المدنية أمر تشتد رغبتنا فيه، هذه العقيدة ربما كانت خير ما لدينا من سبب يدعونا إلى افتراض أن المدنية شيء محبب إلى النفوس. وكل من يريد لذلك سندًا من الفلسفة يستطيع أن يلتمس هذا السند. فإن فلاسفة الأخلاق يقولون له إنه ينبغي له أن يرغب في المدنية؛ إذ يبدو أن الفلاسفة على اتفاق تام بأنه ليس هناك ما هو خير في حد ذاته سوى بعض حالات العقل التي تبرز من بينها حالات الخلق والتأمل والتدبر والمحبة، ومن المؤكد أن المدنية لا تقوم بما يعوق الخلق الفني، والفنانون يظهرون في المجتمعات المتمدنة كما يظهرون في المجتمعات المتوحشة، والجو الذي يبلغ فيه التكلف أقصاه قد يكون خانقًا لأحد الفنانين، ولكنه لغيره مجال للتنفس. إن نظرة إلى التاريخ تقنع كل من يستطيع قراءته أنه ليست هناك علاقة معينة بين الإنتاج الفني لعصر من العصور، كمًّا وكيفًّا (وإن كنت لا أقصد الوصف السطحي) وبين درجة حضارة هذا العصر، وإذا كانت المدنية أقل ملاءمة لنشوة العقيدة التي لا تستند إلى عقل، فهي — على الأقل — لا تقاومها مقاومة إيجابية، فهي لا تمنح ولا تضطهد؛ في حين أنها تشجع المتع النفسية الأخرى التي يُحسها أولئك الذين يكرسون حياتهم للعلم، والفلاسفة المتفكرون، وعلماء الرياضة، ورجال البحث، وكل باحث وكل مفكر — وليس ذلك فحسب، بل إن المدنية كثيرًا ما تكون وحدها العامل الذي يجعل هذه المتعة ممكنة. أما حالات التقدير والتأمل، فهي مِن صميمها — وكذلك العلاقات الشخصية. ولا يُنكر في الواقع أن الرجل المتمدن الذي يبحث عن المتعة الفائقة، هو بطبيعته — ولا بد له أن يكون كذلك — هاوٍ لحالات عقلية رائعة؛ ومِن ثَم فليباركه أساتذة الأخلاق.

ولكن المذاهب الأخلاقية عقيمة في أحسن حالاتها، وميل الأساتذة للخلط بين الأخلاق وقواعد العرف كثيرًا ما تجعلهم جماعة منفردة، بَيد أنَّا في ثورة غضب ضد هذه الجماعة ننادي بحرارة بأن أشور بانيبال كان محقًّا في أنكيال١ حينما نقشَ هذه العبارة التي استرعت نظر أرستوبولوس٢ «كلوا، واشربوا … والعبوا. فإن ما خلا ذلك لا يساوي قلامة ظفر». بيد أن أشوربانيال كان مخطئًا، وسرعان ما تصبح الحياة التي يوصي بها مملة كالحياة المثالية التي يوصي بها الأخلاقي المحترف؛ فإن الإنسان الذكي لن يقنع طويلًا بالملذات الحيوانية، وإنما هو يضع لذة العقل والعاطفة في المقدمة ثم يضع الملذات الحسية في المؤخرة، فتكون أساسًا خلقيًّا فاتنًا، وهذا هو المكان الذي تعينه لها المدنية على وجه التحديد.

أما لماذا يرغب الناس في المدنية فسؤال آخر يجدر بي أن أجيب عنه؛ ما هو الدافع الذي يُخرج عددًا معينًا من المتوحشين عن حالتهم الطبيعية التي تسودها الخرافة وغريزة القطيع إلى حالة التأمل والفردية؟ ليجب عن هذا السؤال أولئك الذين يعرفون أنه لا بد أن يكون الباعث على هذا الإخراج دافعًا من الدوافع، ولا يدهشني إذا اكتشفوا ذات يوم أن هذا الدافع الفريد لم يكن شيئًا أفضل مما عرف عنا من تذوق للذة المجردة، ومهما يكن من أمر فمن الممكن أن يرى الباحث أن المدنية كانت نتيجة لهذه الرغبة العامة؛ لأنك لا تنكر أن أنبل رجل متوحش محروم من كثير من ملذاتنا بسبب الخوف والجهل، سواء شاطرت هوبز الرأي أو لم تشاطره بأن حياة الرجل الطبيعي قذرة وحشية قصيرة. الرجل المتوحش لا يستمتع البتة بأية متعة من المتع التي يستمدها المرء من حرية التفكير، وقلما يستمتع بالمتع التي تتولد عن الذوق، وليس من شك في أنه يستمد متعة من فنون النحت والنسيج عنده، وليس من شك في أنه ينعم بنوع من أنواع الموسيقى — وكل ذلك مما نقدره نحن أيضًا. ولكنك لو عرضت على أنبل المتوحشين مسرحية لأرستوفان أو شيكسبير أو راسين، أو فن الفسيفساء البيزنطي، أو بوسان، أو الموسيقى الحديثة أو السمفوني، أو حوارًا دقيقًا، أو حديثًا فكهًا ينمُّ عن ذكاء، أو غزلًا معقدًا، إن أنت فعلت ذلك، اعترفت فما أظن — بأن ضعف الثقافة يحرمه من ملذات اكتسبنا تذوق الاستمتاع بها. يقول ماك كويدي: «المتوحش لا يضحك مطلقًا»، وإني أعتقد أن ماك كويدي مخطئ، ولكني أتصور أن المتوحش قلما يبتسم. إنه يفتح فاه ولا يرفع قط كتفًا أو حاجبًا وليس للمتع الذهنية أو الظلال الدقيقة للعاطفة معنى لديه. ملذاته محدودة تسير على وتيرة واحدة، وكم من الآلام يحتمل مما هو ضروري وغير ضروري؛ ذلك لأن أقوى أسباب الألم، وألد أعداء المتعة هو الخرافة والجهل والعاطفة التي لا سلطان لصاحبها عليها — وتلك هي مميزات الهمجية الأساسية. إن الرجل الكاثوليكي الحديث، قد يكون بدينًا نهمًا يتناول اللحم والنبيذ، ويمتلئ قلبه بالحقد، ثم يجعجع قائلًا إنه سعيد وإنه مؤمن؛ بَيد أنه برغم هذا لا يعتقد فعلًا في الخرافة، وهو في ذلك يختلف عن الرجل الهمجي. إن كان سعيدًا فذلك لأنه يعتقد صادقًا في أمور قليلة سوى قدرته على الهضم، ولولا ما تقدمه له المدنية في الوقت الحاضر من أمن وعلم، ما طال اعتقاده في هذه القدرة. إن عقيدته لم تبلغ بها الحرارة أن يدرك ما هو الفزع الخرافي، ولكن الفلاح في العصور الوسطى الذي كان يؤمن بأنه بمتابعة ميوله يسير رأسًا إلى الجحيم المقيم، والرجل الهمجي الذي يعيش خائفًا من أن يقرب المحرمات — هؤلاء يعرفون الفزع، ويقضون شطرًا كبيرًا من حياتهم في ألم واضطراب نفساني، وتستطيع المدنية أن تنقذهم بأن تبين لهم أن الحياة شيء يستمتع به المرء، ثم تبين لهم بعد ذلك كيف يستمتعون بها، وذلك بأن تخرجهم عن اعتزازهم بنعمة الامتلاء والرضا بالراحة وبغض كل ما عداها — إن كان بهم أدنى ميل إلى الملذات الدقيقة، كما تظهرهم المدنية كذلك على عالم من الآراء يكتشفونه ومن العواطف يحسونه. المدنية — كالشيطان — تظهر المرء على كل ممالك العالم — عالم الروح — في لحظة من الزمان، وتدفعه إلى امتلاكها، وربما — بعد هذا كله — كان ذلك الدافع الخفي الذي كنا نبحث عنه هو الشيطان — الذي عرف في بلاد أخرى وعصور أخرى باسم بروميثيوس.

ومهما يكُن من أمر، فأنَا على يقين، من أن كل امرئ قادر على فهم هذا التعبير إذا خلص في الإجابة عن هذا السؤال: هل أريد المدنية؟ لم يجد مفرًّا من الاعتراف بأنه يريدها (ولكن كم من الناس يستطيع الإدراك؟)، وأنَا أعرف كذلك أن الفلاسفة يقولون له أنه من الواجب عليه أن يريدها؛ غير أنه فوق علمي أن أعرف إن كانت الأكثرية قد أرادت المدنية أو سوف تريدها. أكثر الناس يريد اللذة، ولكنها لا تطيق بعد النظر، والمدنية ليست بالطريق الواضح. إن الهمجي الذي أخذ الأرنب إلى بيته وطهاه كان رجلًا شاذًّا، ومن حسن حظي أنه ليس من شأني أن أحمل الأكثرية على التنبؤ بالمستقبل، ولكن ما دمت قد حاولت أن أفسر ما عنيت بالمدنية، وما دام ذلك غاية أرمي إليها، فسوف أسمح لنفسي بالإشارة إلى الوسائل. سوف أرسم صورة عامة للأداة التي يستطيع بها الناس أن يخلقوا المدنية، إن كانت المدنية ما يريده الناس.

الشعب المتمدن، الذي يتميز عن تلك النواة التي تضفي عليه المدنية، يتألف من رجال ونساء يتخذ الجانب الأكبر منهم موقفًا فيه شيء من النقد للحياة، ويتصف بتذوق بدائي للتفوق والامتياز. إنه يحاول بصورة غير مهذبة — وإن تكن واعية — أن يدرب نفسه على استغلال قوى التفكير والشعور التي يمتلكها أكبر استغلال. وقد اكتشف أهل إسبرطة أن مجتمعًا بأسره — أو على الأصح الجانب الحر من هذا المجتمع — يمكن أن يدرب نفسه على القتال، وكان الأثينيون — على قدر ما وصل إلينا من علم — أول من دربوا أنفسهم، عامدين، على تقدير الحياة. هذا التدريب المقصود الواعي بنفسه صفة مميزة من صفات المدنية. وما يترتب عليه من استمتاع، تلك الحالات العقلية الطيبة التي تنجم عنه، هو الغاية التي تعتبر المدنية إحدى وسائلها. وأقول: «إحدى الوسائل» لأن المدنية وإن كانت أخصب ما نعرف من وسائل إلا أنها ليست الوسيلة الوحيدة للخير، وهذه الوسيلة — التي تؤدي على الأرجح إلى الخير — التي استطاعت فطنة الإنسان (حتى الآن) أن تبدعها — كما رأينا — ليست سوى ذلك اللون الذي تضفيه على المجتمع نواة قوية — وإن تكن صغيرة — من الأفراد الضالعين في المدنية. ومن ثَم فإن الجماعة التي تريد أن تمدن نفسها لا بد أن تكتشف أولًا — ثم تنشئ ثانيًا — تلك الظروف التي تلائم إنتاج الممدنين.

لا يستطيع٣ امرؤ أن يتفوق في المدنية — وسوف أستعمل منذ الآن «التفوق في المدنية» تعبيرًا أميز به بين الممدنين ومجرد المتمدنين الذين يتلونون بلونهم — أقول: لا يستطيع امرؤ أن يتفوق في المدنية دون أن يتوفر له قسط كافٍ من الأمن المادي. والواقع أن الدولة لم تخرج إلى حيز الوجود إلا نتيجة للرغبة في الأمن المادي. وأرجو ألا تسارعوا فتحسبوا أن الأمن المادي وحده يستطيع أن ينتج أي لون من ألوان المدنية — ولنذكر الجماعات التي تتميز بحسن التنظيم في العالم الحديث؛ غير أن المرء إن أراد أن يحيا حياة متفوقة في المدنية لا بد أن يتوفر له الطعام، والدفء، والمأوى، والمجال، والفراغ، والحرية، ولذا فهنا — من أول الأمر — يواجه الرجل الذي يحب الإنسانية ويتحمس لها، والذي يتأثر بفصاحتي فيصمم على أن يكرس قدراته السياسية لرفع شأن المدنية — يواجه هذا الرجل سؤالًا عاجلًا شاذًّا وذلك هو: كيف نستطيع أن نمُد القلة الممدنة بالأمن والفراغ اللازمين إلا على حساب الكثرة؟

والجواب إنه ليست هناك وسيلة أخرى نمدهم بها: أن مواطنيهم ينبغي لهم أن يعولوهم كما فعلوا من قبل دائمًا. المدنية تحتاج إلى طبقة فارغة، والطبقة الفارغة تحتاج إلى وجود الرقيق — أعني أولئك الذين يخصصون جانبًا من فائض وقتهم ونشاطهم لعول غيرهم؛ فإن أحسست أن مثل هذه التفرقة لا يمكن احتمالها، فلتكن شجاعًا وتعترف أنك تستطيع أن تستغني عن المدنية، وإن المساواة — لا الخير — هي ما تريد. إن المساواة التامة بين البشر لا تتفق إلا مع الهمجية التامة، ولكن ليذكر من يزعم حب الإنسانية — قبل أن يدعو إلى الهمجية — أن بين الناس من يرغب في الخدمة أو أن بينهم — إن شاء — من يرضى بالتضحية في سبيل مثل أعلى.

ومهما يكن من أمر، فإنه من الواضح أن المرء لكي يكون كامل المدنية، ولكي يمارس أعمق الحالات العقلية وأروعها لا بد له من الأمن والفراغ. لا بد أن يتوفر له ما يكفي لطعامه وشرابه، وما يضمن له ذلك. ولا بد أن يتوفر له الدفء، والمأوى، وشيء من المجال، وكل ضرورات الحياة وبعض ما فيها من أسباب الترف. والفراغ كذلك ضروري. لا بد له من الفراغ لكي يربي نفسه على الاستمتاع بالخيرات، ومن الفراغ ما يمكنه من متابعة الاستمتاع بها، وكذلك يجب أن تتوفر له الحرية، الحرية الاقتصادية التي ترفعه فوق مستوى الظروف التي تحطم الروح، وتسمح له بالعيش كيفما وحيثما أراد، والحرية الروحية — حرية التفكير والشعور والتعبير والتجربة، يجب أن تتوفر له الحرية لكي ينمي قابليته، وأن يضعها دائمًا في طريق المغامرة. إن المرء لكي يظفر بخير ما في الحياة يجب أن يعيش من أجل خير ما فيها.

بَيد أن الأمن المادي والفراغ والحرية، كلها — لسوء الحظ — تتطلب المال والمال في النهاية لا يمكن الحصول عليه إلا بالعمل المنتج؛ إلا إن كل ضروب كسب المال تقريبًا عقبة في سبيل حالات العقل الغزيرة الدقيقة؛ لأن جميعها تقريبًا تتعب الجسم وتبلد الذهن، ويؤكد هذه الحقيقة الثابتة مثل الفنانين، الذين يكفُّ أكثرهم عن الخلق بتاتًا إذا اضطروا إلى العمل في تحطيم الأحجار أو جمع الأرقام ست أو سبع ساعات كل يوم، ثم إن الرجل الذي يتعلم كيف يكسب العيش لا يمكن أن نحسن تربيته على استغلال الحياة على أحسن وجه؛ فلكَي نتيح للشاب أن يمارس خير ما في الحياة لا بد له من تربية حرة محكمة حتى سن الرابعة والعشرين أو الخامسة والعشرين، تبقى في نهايتها الحاجة إلى الفراغ شديدة الإلحاح؛ لأن الإحساسات المرهفة عالية التدريب لا تعيش إلا في ظروف حرة فسيحة. كم من ألوف المحامين، وموظفي الحكومة، ورجال الأعمال، الذين تخرجوا في أكسفورد أو كمبردج مؤهلين للاستمتاع بخير ما في الحياة، كم من هؤلاء أمسى — بعد ثلاثين عامًا من النجاح المتواصل، عاجزًا عن الاستمتاع بأي شيء يفضل نشوة الخمر أو الصداقة العاطفية، أو الروايات الرخيصة، أو الصور الأرخص، أو الموسيقى الشعبية، أو الصور المتحركة، أو الجولف، أو ما يُروى في غرفة التدخين من حكايات، أو الأمر والنهي، أما عن العمل البدني، فإن من يزعم أنه بعد عمل يوم كامل في الحفر أو السباكة، أو الصيد والقنص، يكون في حالة تمكنه من استساغة نواحي النشاط الروحي الذي تتميز بدقتها، من يزعم ذلك فإنه يقول كلامًا ليس له معنى.

بل أكثر من ذلك أن توفر الأمن والفراغ والحرية وحده يمكن أن يعطي المرء ذلك الإحساس بالاطمئنان وتلك النخوة التي لا تبلغ الحياة بغيرها أو في مراحل تطورها وأعلاها، ولا يعرف كيف ينفق المال — على وجه العموم — إلا أولئك الذين لم يضطروا قط لكسب المال؛ أولئك وحدهم لا يزِنون المال بأكثر مما يستحق — فهو وسيلة لما يريدون، وإذا كان التحرر من العمل الشاق وحده هو الذي يبقي على المرء حدة ذهنه، فإن الاستقلال وحده هو الذي يعطي المرء الشجاعة على استخدامه، فلا يحتفظ بقوة الفكر والشعور بإخلاص مطلق إزاء كل موضوع إلا أولئك الذين لم يضطروا قط إلى إرضاء سيد أو التقرب إلى زميل. أولئك وحدهم يعرفون كيف يتخلصون من الغرض تمامًا، وكيف لا يخضعون البتة للأهواء، وكيف يتابعون فكرة دون النظر يمنة ويسرة ليتثبَّتوا من ملابساتها العملية، وكيف لا تؤذيهم ضمائرهم في اتباع المنطق، وكيف لا ينزلون عن شيء من ميولهم. هل يمكن لقائد من قواد الصناعة مهما يكن ذكيًّا أن يتجرد من الأهواء تمامًا حينما يناقش الاقتصاد السياسي؟ وهل يمكن لأسمي أفلاطوني — إن كان كذلك معلمًا مأجورًا لليونانية — أن يحكم على التربية الكلاسيكية بمزاياها فحسب؟ بل إن الاشتراكيين أنفسهم — إن كانوا كذلك من صغار العمال المأجورين — لا يستطيعون أن يفكروا بعقول متحررة في الموضوع الذي نجادل فيه: هل تتفق المساواة الاقتصادية مع أعلى درجات الخير؟ في حين أن الاشتراكية نفسها من ابتداع المفكرين من الطبقة المتفرغة، وأولئك أساسًا هم الذين دفعوها إلى ميدان السياسة العملية.

إن وجود طبقة متفرغة لا بد منه كوسيلة للخير ووسيلة للمدنية؛ أي إن الرجال والنساء الذين تتألف منهم تلك النواة التي تُشع المدنية منها لا بد أن يتوفر لهم الأمن والفراغ، والحرية الاقتصادية، وحرية التفكير والشعور والتجربة. إذا أراد المجتمع المدنية فلا مناص له من أن يدفع ثمنها. لا بد له من أن يَعول طبقة متفرغة كما يعول المدارس والجامعات، والمتاحف ومعارض الصور، ويقتضي ذلك التفرقة — التفرقة كوسيلة للخير. إن المدنية كلها استندت إلى هذه التفرقة. فكان للأثينيين عبيدهم، وكان العمال المأجورون الذين ليس لهم حق التصويت في فلورنسة يقومون بأوَد الطبقة التي أسبغت على فلورنسة ثقافتها، ولا يستمتع بنعمة العدل الاجتماعي سوى الإسكيمو ومن إليهم. لا غنى لنا عن طبقة متفرغة إذ قل من الناس من يولد قادرًا على أن يكشف لنفسه عن عالم الفكر والشعور الذي تنبثق منه خير ملذاتنا، وإن قدرات هذه الفئة لتفسد إذا لم تلق الرعاية وتصبح بذورًا في العراء، ثم إن المجتمع لكي يتمدن ينبغي أن يتشبع وأن يتغذى دائمًا بالتأثير اللاشعوري لهذه الفئة الممتازة التي تشع منها المدنية. يجب أن تُلقن الغالبية أن عالم الفكر والشعور موجود، ويجب أن تطلع — وهي تكمن خلف عالم مملول من المنفعة العملية — على أهمية العالم العاطفي، وواجب القلة الممتازة أن تشير إلى الطريق. إن أفراد هذه القلة الضالعة في المدنية لا ترشد ولا تحاضر، وإنما تكتفي بأن تحيا حياتها، وسيتبين من عيشهم أن لهم ملذات ورغبات، وقيم ومعايير، وموقف من الحياة، ووجهة نظر، تختلف عما يتصف به الجمهور العامل. إنهم بعيشهم عيشة سلبية يصبحون عوامل إيجابية للخير. إذ إنه عندما يظهر أن القلة قد اكتشفت متعًا غزيرة مشبعة لم يتنبه إليها الباحثون عن اللذة ممن هم أقصر نظرًا وأقل موهبة، عندئذ تبدأ الكثرة في التساؤل، فتراهم يتساءلون: أليست هناك ملذات تفضُل ما لدينا؟ هل يمكن حقًّا أن يعني الفن والفكر ونشاط الذكاء والخيال والعلاقات الشخصية الدقيقة لهؤلاء الأفذاذ أكثر مما يعني سباق الخيل وسباق الزوارق، والصيد، وكرة القدم، والسينما والويسكي؟ سوف يتبين ذات يوم مشهود وبغير لبس أو غموض أن ألوان النشاط الأولى تعني فعلًا أكثر مما تعني ألوان النشاط الثانية، وإن هناك من الناس من يستطيع الثانية، ولكنه يؤثر الأولى. ويدعونا ذلك إلى التفكير. وقد يظهر بين الحين والحين من الهمجيين من يمعن في البحث والتساؤل. فيساوره الشك والقلق إزاء تلك الملذات الواضحة التي كان يسلم دائمًا بتفوقها. فهل لا يمكن أن تكون الملذات التي لا يسهل اكتسابها أفضل في السعي وراءها؟ فيهب عليه عبق المدنية خفيفًا، كما تهب أحيانًا رائحة الحشيش الجاف ذات مساء صائف في أخريات شهر يونية على الأحياء الفقيرة في الضواحي؛ فيشتم في هذا العبق بصورة غامضة رائحة طيبة — أو على الأقل رائحة تفضل ما كان يهب عليه من قبل — وإذ هو يخترق الميدان العام الذي عبره من قبل ألف مرة يفاجئه إحساس بالسعادة لا يستطيع تفسيره، ويجد نفسه وقد وقف يحدق في نافورة جميلة، وشعر بالخجل لهذا الذهول الذي أصابه. وقد يحدث بعد ذلك أي شيء، وقد يغلبه شعور مفاجئ بالرضى حينما يكتشف تناقضًا في الصحيفة التي كان يقرؤها حتى ذلك الحين مبجلًا لما تحتويه غير ناقد لما فيها، وعلى ناصية إحدى الطرقات قد يستمع إلى خطيبٍ يستنكر بشدة قيام حكومة أجنبية بعمل فشلت حكومته هو في أدائه ليجد في هذا الاستنكار تسلية أكثر مما يجد فيه إحقاقًا للحق، وقد يتبين له بغتة أن ما صرح ببطلانه أو بمنافاته للأخلاق أحد الأساقفة أو القضاة لا يقوم على أساس؛ فيجد هذا الهمجي ذات يوم — من أثر المباغتة السارة — أنه يسخر مع بوكاشيو من الرهبان.

ويبدو لي أن الرأي القائل بأن الطبقة المتفرغة وحدها هي التي تتولد عنها فئة ممتازة متفوقة في المدنية وناشرة لها، يبدو لي أن هذا الرأي تؤيده الحُجَج الدامغة ويتمخض عنه التاريخ؛ ففي أثينا وفلورنسة وفرنسا في القرن الثامن عشر كانت هناك طبقة دنيا مأجورة تقوم بالعمل الوضيع، والظاهر أن محبي الإنسانية ينسَون أن الثقافة الأثينية كان يعولها العبيد؛ بَيد أن من يريد أن يكشف الظروف الضرورية لقيام المدنية يجب ألا ينسى، ويجب أن يذكر أن ثلثي — إن لم يكن ثلاثة أرباع — السكان في إتكا كانوا عبيدًا، ويجب ألا ينسى أن القبيادس كان استثناءً. كانت في أثينا قلة من الأغنياء، وليس هناك تنافر بين المدنية والاشتراكية: إن الدولة الاشتراكية إن أرادت أن تتمدن لا بد لها من أن تَعول طبقة عاطلة عن العمل كوسيلة من وسائل الخير، كما لا بد لها أن تعول المدارس والمعامل، والسؤال الوحيد هو كيف ننتقي هذه الطبقة. إنها في الوقت الحاضر تختار بالوراثة، وهو نظام فيه إسراف شديد. ليس هناك ما يدعونا إلى الفرض بأن أبناء الأغنياء أفذاذ في الذكاء والحساسية، والواقع أن نسبة الطبقة المتفرغة الحالية التي يمكن وصفها «بالتفوق في المدنية» ضئيلة إلى حد بعيد. إن إنجلترا الحديثة تَعول جمهورًا من العاطلين ليس من بينهم عدد من الرجال والنساء المتفوقين في المدنية يمكن أن تتألف منه نواة تمدين. ومن الواضح أن مثل هذا النظام غیر اقتصادي، ونستطيع أن نفترض — دون أن يكون تفاؤلنا في غير موضعه — أن المستقبل يمكنه أن يبتكر طريقة من الطرق تستبعد من الطبقة المتفرغة على الأقل ثلثي أولئك الذين تحمل أسماؤهم أسمى الألقاب والذين تتحلى بصورهم المجلات الأسبوعية، وأعتقد أنَّا نستطيع أن نخفض تكاليف الإنفاق على نواة العاطلين إلى حد كبير دون أن نضحي بما هو أثمن من آسكت وكاوز، وليس من شأني هنا أن أرسم الوسيلة لذلك؛ فالمشروعات في ذهن كل فرد، ونستطيع أن نقول كلمة عن امتحانات المسابقة، نستطيع أن ننقل إلى الطبقة المتفرغة التي تنفق عليها الدولة أوائل الطلبة والطالبات في مدارس الدولة كل عام، وإن كنت مثل تعتقد أن من المهم أن يبدأ إعداد أبناء الطبقة الممتازة منذ ميلادهم، فليكن الاختيار بالاقتراع. إنك لو اخترت الطفل الذي يكون ترتيبه الألفين بين أقرانه وجعلته عضوًا، فإنك سوف تحقق بالتأكيد نتيجة تفضل ما تحققه من النظام الحاضر، وأذكر كذلك أنه ليس من الضروري أن يكون العاطلون عن العمل جميعًا الذين يقع عليهم اختيارك من الطبقة الرفيعة؛ غير أنه من الضروري أن تكون النسبة المختارة كافية؛ فإن أية طريقة تسلكها لا بد أن تؤدي بك إلى أفراد يثبت فيهم سوء الاختيار؛ بَيد أن ذلك ليس بأمر ذي بال؛ فالعدد مهما انخفض لا يؤثر في الهدف الأساسي، وهو أن تكون هناك طبقة من الرجال والنساء الذين لا يطلب منهم شيء ما — حتى أن يبرروا وجودهم؛ ذلك لأن كثيرًا من أصحاب الفضل على الإنسانية، وأكثر كبار الفنانين والمفكرين، وأكثر المبشرين بالمدنية ممن لا تذكر أسماؤهم من غير شك، أكثر هؤلاء لم يبرروا وجودهم في أعين أغلب معاصريهم. إن عصرهم لم يستطع — على وجه العموم — أن يُقدر خدماتهم، ولم يمكنهم من البقاء سوى وجود طبقة متفرغة كانوا ينتمون إليها أو وجدوا من بين أفرادها من يرعاهم، ومن ثَم كان وجود طبقة متفرغة مستقلة تمام الاستقلال ليس عليها أي التزام، الشرط الأول، لا للمدنية فحسب، ولكن لأي مجتمع له نوع من الكرامة. إن أعلى الأمور قيمة وأشدها مشقة لا يؤدي بالإرغام، بل ولا يؤدي بدافع من الإحساس بالواجب، ولكنك إن خلقت طبقة لا تتطلب منها شيئًا، فكن على يقين أنه سيخرج من بينها أولئك الذين يقدمون لنا الكثير.

وأرجو ألا تحسب تلك الفئة التي تتقاضى أجورًا مرتفعة من هذه الطبقة المتفرغة، فإن أولئك الذين يكسبون الألوف العديدة من الأموال كل عام عن طريق تجارتهم أو مهنتهم أو خدماتهم، لا يفضلون في شيء العبيد الذين تغدق عليهم الأجور، وهنالك بطبيعة الحال لهذه القاعدة استثناء، ولكن هؤلاء الذين يشذون عن القاعدة يصبحون — عادة — بطبيعة حياتهم عاجزين عن بلوغ كمال المدنية شأنهم في ذلك شأن العامل اليدوي الذي يعجز كذلك بطبيعة عمله، والواقع أنه إذا ما أمسى من أولئك الذين يطلق عليهم «قادة الصناعة» أو «كبار مستخدمي العمال» فإنه كسيد يكون أقل مكانة من الرجل العادي. لأن مستخدم العمال والصانع الكبير، بل والصانع الصغير، يميل — في هذا الشأن — إلى اكتساب شهوة الحكم، والاعتقاد في النجاح كمعيار للقيم، وإحساس بأهمية ما يقوم به من عمل، مما يباعد بصفة خاصة بينه وبين التفكير الواضح والشعور الدقيق، ومن ظريف التعليقات على التفكير السياسي الحديث أننا نميز في فرض الضريبة بين الدخل المكتسب والمال غير المكتسب، ونؤثر الأول في المعاملة. إن الرجل الذي يكتسب ماله يستعمله عادة وسيلة للاستزادة منه، ووسيلة للنفوذ، والاعتبار، والتظاهر، والملذات الحيوانية والمتع البربرية. يجب أن تبحث عن تلك الطبقة المتفرغة التي تستخدم المال وسيلة للخير بين أولئك الذين يتناولون دخلًا غير مكتسب. إن الرجل الذي يكسب المال يميل إلى الجمود، وقسوة القلب، وضيق الأفق، وانقباض النفس. إنه يتمسك بما يحصل عليه في عنوةٍ وشراسةٍ، ولا يكف عن محاولة الاستزادة. إن أكثر نظريات الحرية والاشتراكية والثورة صدرت عن الرجال المتفرغين، بل عنهم كذلك صدر ذلك التشكك في حق الفرد في الملكية أو النفوذ الذي يكاد اليوم أن يكون صفة من صفات الثقافة. وقلَّما يكون للدخل المكتسب أي نفعٍ كبيرٍ لغير صاحبه — وهو كذلك كرأس مال مجرد في يد الدولة. في حين أن جانبًا كبيرًا من الدخل غير المكتسب كان دائمًا يخصص لعَوْل أولئك الذين يقدمون للبشرية أكبر الفوائد من عملهم الذي لا يعود عليهم بالربح الوافر؛ فإذا كان المبدأ الأساسي في فرض الضرائب هو امتصاص دخل الطبقة المتفرغة لمصلحة كاسبي الأجور — صغارًا كانوا أو كبارًا — فإنما يدل ذلك على أن العصر ناقص المدنية.

يشير رينان في مقال شهير له — بما يدلي من أسباب مقنعة كعادته — إلى أن الوظيفة الحقيقية للطبقة المتفرغة هي أن تبتعد عن مجرى الأمور وتكرس نفسها للاحتفاظ بالمعايير السليمة وذلك بتضحيتهم بالنافع في سبيل الحسن، وبمحافظتهم على كرامة ما في الحياة من أمور رقيقة عسيرة المنال. الطبقة المتفرغة التي تشب على عادة الاستقلال، هي في رأيه شرط ملازم للمدنية، وإني بطبيعة الحال إلى هذا الحد أتفق معه؛ غير أنه في رأيي لا يقف على أرض صلبة حينما يخلص من ذلك — تلميحًا لا تصريحًا — إلى أن الطبقة المتفرغة — إن كان لا بد من بقائها — يجب أن تحكم، ولست أرى لذلك ضرورة، بل على العكس من ذلك يبدو لي من العسير إن لم يكن من المستحيل لأي إنسان يشغله السلطان مباشرة وبدرجة قصوى أن يكون كامل المدنية. أليس من تناقض العبارة أن نقول: «الطبقة الحاكمة المتفرغة»؟ إني أرجح إن ما كان بذهن رينان أرستقراطية تنقسم قسمين: طبقة متفرغة وطبقة حاكمة، تنشآن على تقاليد واحدة، وتختلطان في كل موقف من المواقف، وليس من شك في أن هذه الطبقة تؤدي إلى المدنية، فهي تُمهد السبيل لقيام طبقة متفرغة وأخرى حاكمة تعطف عليها. وقد كانت فرنسا تقوم على هذا النظام خلال المائة وثلاثين عامًا من مدنيتها العالية — بالرغم من أن لويس الرابع عشر قد استمد أكثر رجال إدارته من طبقة لم تكن نبيلة اصطلاحًا. ويمكننا بسهولة أن نقسم الأرستقراطية إلى طبقة عاملة وطبقة مفكرة. والطبقة الأخيرة هي التي تمدنا بالمدنية، وأما الأولى فتمدنا بالحكومة. بَيد أنه مما يفتقر إلى إثبات أن يكون الأرستقراط العاملون خير الحكام — ولست أقطع في هذا برأي يؤيد أن يعارض، ومن الواضح أنه يجدر بالفئة التي تنشر المدنية ألا تكون لها كلمة في الحكم ما دامت السلطة — كما رأينا — يحتمل أن تعبث بقدرات المرء الدقيقة. وهناك من ناحية أخرى خطر ارتآه رينان من أنه ما لم يكن للحكام تقاليد ومعتقدات وتعاطف ومصالح مادية يشتركون فيها مع ناشري المدنية، فإن الإنسان بحقده وغبائه — وفي ثورته على هذا الاعتراف العام المكلف بالتفرقة بين الناس — يرفض أن يقيم أوَد الطبقة المتفرغة، فيسمح للمجتمع أن ينزلق إلى الهمجية التي يتساوى فيها الجمع وبحكم فيها الجميع، ومن ثم ينشأ هذا السؤال: أي أنواع الحكم أكثر ملاءمة للمدنية؟ وهو سؤال تكاد أن تستحيل إجابته.

إن أي نظام للحكم قد يكون ملائمًا بشرط أن يمد عددًا كافيًا من الأطفال بالتعليم الحر الكامل من جميع الوجوه، وبشرط الإنفاق على هؤلاء الأطفال طوال حياتهم، وأن تضمن لهم دخلًا يكفي حاجاتهم الثقافية، وبشرط — قبل كل شيء آخر — ألا تطلب إليهم أداء أي عمل. إن القول بأن ما نسميه: «النظم الحرة» ضروري للمدنية، قول يناقضه العقل والتاريخ؛ فإننا نعلم أن مدنية النهضة قد أينعت وأثمرت في عصر الطغاة — ولست في حاجة إلى أن أذكر في هذا الصدد شيئًا عن الشرق — عن الصين والفرس — فقد اتفقت معكم على ألا أذكر عنهما شيئًا؛ لأن «العجز السياسي» — كما يلاحظ بركهارت بحكمة في كتاباته عن الطغاة الطليان — «لا يعوق الميول المختلفة ومظاهر الحياة الخاصة عن الانتعاش بأقصى درجة من القوة والتنوع»،٤ ولكن حتى بعد أن تقرر الحكومة، أيًّا كان نوعها، أن تقيم أود طبقة متفرغة، فإنه لا بد لها من تقدير التكاليف وتوزيعها. يستحيل علينا أن نقدر بكم تمامًا يستطيع المرء — رجلًا كان أو امرأة — أن يحافظ على مدنيته؛ لأن التقدير يختلف باختلاف الظروف. لا أعتقد أن الشخص في الظروف الراهنة يستطيع أن يفعل ذلك بأقل من سبعمائة أو ثمانمائة في العام الواحد، والدولة — بطبيعة الحال — هي المسئولة عن الأطفال، وكذلك يستحيل علينا أن نقدِّر أية نسبة من السكان يجب أن تبلغ ذروة المدنية كي تمدن بقية السكان إلى درجة معتدلة. كل ما يعرفه المرء أن النسبة في إنجلترا غير كافية، ويبدو أن الأمر يحتاج إلى إيضاح؛ إن مقدار الدخل غير المكتسب في البلاد جسيم، وعدد المنتفعين به عديد، وقد يرجع أحد الأسباب إلى أن عددًا ضخمًا من أولئك الذين يتناولون دخلًا غير مكتسب — ويجب بناء على ذلك أن ينتموا إلى الطبقة المتفرغة الناشرة للمدنية — يؤثِرون أن يضاعفوا دخلهم بالإنتاج؛ ومن ثَم فإنهم يصبحون — على أحسن الفروض — نصف متمدنين، وسبب آخر هو أن مقدارًا كبيرًا من الدخل غير المكتسب يحشر في جيوب قليلة. هناك إذن إجراءان عملیان واضحان لا بد منهما للنهوض بالثقافة البريطانية، قانون يرغم الأغنياء على التعطل عن العمل، وقانون يلغي تلك الظاهرة الشاذة البربرية، وهي زيادة دخل الفرد عن ثلاثة آلاف جنيه في العام.

وقد تكون هذه نصيحة سياسية طيبة، غير أني أخشى ألا تقربنا كثيرًا إلى الإجابة عن سؤالنا هذا: أي نوع من أنواع الحكومة يكون أكثر ملاءمة للمدنية؟ ولكي نجيب عن هذا السؤال ونحن واثقون ينبغي أن نوجه أولًا سؤالًا آخر، سؤالًا سيكولوجيًّا: لما كانت الطبيعة البشرية على ما نعلم من حقد وارتياب، فهل يعقل أن يعول الناس بمحض إرادتهم وبعيون متفتحة — من أجل الخير الروحي، ولكن بما يبهظهم ماديًّا — هل يعولون جماعة من الناس المتفوقين في المدنية يكون لها امتياز خاص، ولكنها في ظاهر الأمر عاطلة عن العمل سعيدة؟ لا يستطيع إلا رجال السياسة وضباط البوليس أن يذكر على وجه التأكيد ما تستطيعه وما لا تستطيعه الطبيعة البشرية، ولهؤلاء أترك هذا الواجب راضيًا، ولكني أعرف أمرًا واحدًا؛ ذلك أنه ما لم يكن الناس قادرين على بذل هذا السخاء المستنير، فإن الديمقراطية لا يمكن أن تتفق والمدنية.

لم تكن هناك قط ديمقراطية متمدنة، ولكن من الحق كذلك أنه حتى القرن العشرين لم تقم في العالم ديمقراطية، أما فيما نسميه ديمقراطية في اليونان وإيطاليا فلم تكن سوى طبقة صغيرة ممتازة هي التي تمارس السلطة. وبرغم ذلك ولأنه كانت هناك خلال القرن التاسع عشر حركة مطردة نحو الديمقراطية — ولو أن جميع السكان البالغين في أي بلد من البلاد لم يظفروا حتى القرن العشرين من النفوذ السياسي بالقدر الذي يهيئ السبيل له نظام التصويت — برغم ما ذكرت ومن أجل ذلك، فإني لو كتبت هذه المقالة عقب تخطيطها مباشرة — منذ عشرين عامًا — لقلت: إن مناقشة مستقبل المدنية في ظل أي لون من ألوان الحكم غير الديمقراطية عمل علمي بحت ربما لا يعود بأي نفع؛ غير أن الحرب قد غيرت كل ذلك. إن الحرب — وما استتبعته من كوارث — قد أثبتت لأبناء هذا الجيل تلك الحقيقة المرة، وهي أن الاستبداد الحربي صورة من صور الحكم لا زالت ممكنة، بل إنها لمحتملة خلال الخمسين سنة المقبلة. ذكَّرتنا الحرب أن المصدر الحقيقي للسلطان لم يزل كما كان في الماضي لا إرادة الشعب، ولكن هيئة من الناس كاملة التسليح والنظام يمكن أن يوكل إليها تنفيذ أوامر الضباط دون تساؤل. وفي الفترات التي تتوفر فيها الراحة — كما حدث في أخريات القرن التاسع عشر — يميل المرء إلى التغاضي عن هذه الحقيقة؛ لأنه قلما ينشأ في أمثال هذه الفترات موقف يعقد الناس فيه العزم على أن ينفذوا إرادتهم بأكملها بأي ثمن؛ فإن بين ما يحتاج زيد من الناس وما يؤثر عمرو في فترات الهدوء مجال لضروب لا تنتهي من التسوية والتوفيق، ولكن جمال الحرب العظمى — كما عرضه ساسة الحلفاء — ينحصر في أن التوفيق أمر لا يجوز التفكير فيه؛ ومن ثَم فإني أعتقد أن ساسة الحلفاء يجب أن يكونوا أقل دهشة مما يبدو عليهم حينما يجدون أن عددًا كبيرًا من الناس قد أدرك أخيرًا أنك إن أردت أن تفرض إرادتك بأكملها على غيرك من الناس، فإن الطريق إلى ذلك هو أن تحمل الآخرين على أن يدركوا أن الأمر إما أن يكون طاعة عمياء أو عذابًا وموتًا. الحرب أقرت في نفس كل امرئ ما عرفه الفلاسفة السياسيون في جميع العصور السالفة، وهو أن أقوى حجة هي الخوف والقوة. أولئك الذين يستولون على أعظم قسط من القوة ويستطيعون بث الرعب الشامل في نفوس الآخرين يمكنهم دائما — إن أرادوا — أن يحكموا.

وقد رأينا الألوف من الرجال — طبقًا لقانون الخدمة العسكرية — ينزعون من بيوتهم ومن أعمالهم وملاهيهم، ويدفعون إلى حياة يمقتونها يعقبها بعد وقت قصير موت يخشونه، وقد التحقوا بالجيش للأسباب عينها التي يدخل من أجلها الغنم المذابح، وأطاعوا لأنهم كانوا يخشون العصيان، وكان الأمر كذلك في كل البلدان المحاربة التي كان التجنيد فيها إجباريًّا، ولم أقابل قط رجلًا أرغم على الالتحاق بالجيش خلال العامين الأخيرين من الحرب لم يقرَّ بأن الدافع الوحيد له إلى القتال هو خوفه من الامتناع عنه، وعلى أية حال، فما إن حل عام ١٩١٧م حتى فقدت القضايا التي كان يحارب من أجلها الجندي العادي كل معنى لها، فإن صدر إليه الأمر أن يتقدم إلى نيران الأتون المقدس الذي كانت تضحي عنده الأطفال (نيران ملوك Moloch) بدلًا من أن يتقدم ضد عدوه، كان الأمر لديه سواء، ولو أن هؤلاء الضحايا المروعون نودوا في تلك السنين من بين صفوفهم لخدمة الإله — وقد نودوا فعلًا لذلك — لأدَّوا ما عهد إليهم من واجبات، وإذن فالحكومة المركزية — التي تعتمد صراحة على الصحافة الموجَّهة، وعلى المحاكم العسكرية، وذلك الفزع الذي تبعثه في النفوس المحاكمات وأحكام الإعدام — الحكومة المركزية التي تملك النفوذ الذي يحمل الرجال على أداء ذلك، تحمل أيضًا النفوذ الذي يحملهم على أداء أي شيء — وقد وجد في روسيا وفي إيطاليا وفي غيرهما من البلدان عدد من الحكام ذوي البصائر النافذة الذين أدركوا هذه الحقيقة.

إن أصدق أصدقاء البلشفية لا يزعمون أنها تقوم على أساس من الرأي العام والعطف، كما أن شعبية الفاشية أمر يبعث على الشك، ومع ذلك فالحكومة الروسية والحكومة الإيطالية تستطيع أن تمنع الإضراب وترغم العمال العصاة على الإنتاج، وهو ما لا تستطيعه أية حكومة ديمقراطية. إنها تستطيع ذلك لأن لينين وموسوليني يملكان الجرأة على تنظيم الحرس البريتوري واستخدامهم دومًا استخدامًا معقولًا. وإن النجاح الذي على أساسه أقامت قلة من الرجال القادرين من ذوي العزم والتصميم السلطان المطلق في روسيا وفي إيطاليا — وما يزالون يمارسون هذا السلطان — هذا النجاح لا بد أن يثير الحقد ويجتذب خيال الحكام في البلدان الأخرى ممن لم يصيبوا مثل هذا الحظ، ومن الممكن أن يُحتذى في العالم أجمع مثالهم بأية طريقة من الطرق، ولست أعرف أن المدنية تفقد شيئًا من قيمتها في نهاية الأمر من جراء هذا التبديل؛ فإن الثورة في أول مراحلها قد تكون هدامة؛ لأن الطبقة الصغيرة المتفرغة التي تنشر المدنية هي عادة أول من يهلك، ومن الطبيعي أن من يبقى من المجاهدين يحس إحساسًا قويًّا بهاتين الحقيقتين: أولاهما أنهم متمدنون، وثانيتهما أن الدمار قد لحق بهم، فنراهم لهذا يشكون مر الشكوى من وحشية النظام الجديد، ومهما يكن ما تنتهي إليه التجربة فيما بعد، فإن نتائجها المباشرة سيئة بالنسبة إليهم. وهؤلاء المنبوذون المحطمون المجردون من تراثهم لا يمكن أن نتوقع منهم أن ينظروا إلى الموضوع نظرة فلسفية، أما نحن الذين لم يمسسنا سوء تقريبًا فليس بوسعنا — إن كنا حقًّا على شيء من المدنية — أن ننظر إلى الموضوع من وجهة نظر أخرى. وعند النظر إلى الموضوع نظرة فلسفية لا نملك إلا أن نعترف بأنه ليس هناك مبرر قوي يحملنا على الاعتقاد بأن الاستبداد العسكري الروسي سيسير في اتجاهات تختلف كثيرًا عن الاتجاهات التي سارت فيها حكومات أخرى عسكرية مستبدة، ويبدو أن إعادة تنظيم الطغمة الحاكمة هو النتيجة المحتمة للثورة في نهاية الأمر؛ فإن رأس الدولة — سواء كان أغسطس أو لينين أو موسوليني أو نابليون — لا بد له لكي يحكم ويدير أن يجمع حوله جماعة من الزعماء المدنيين والعسكريين، ولهؤلاء نفوذ ورغبات، وما يرغبون فيه هو بعينه ما كان يستمتع به المنبوذون والمحكوم عليهم بالإعدام، ولما كان لديهم من النفوذ ما يمكنهم من إشباع رغباتهم، فلا مفر من أن يشبعوها، وتنشأ طبقة جديدة من الملاك، تتفرع منهم الطبقة المتفرغة، ومن هؤلاء قد تنبثق مدنية جديدة.

ويحتمل جدًّا أن تتم العودة من الرحلة عن طريق أقصر. قل من الأمور ما تشتهيه الحكومة الناشئة أكثر من الجاه، وباستثناء السلطان الحربي ليس هناك ما يضفي عليها تلك الجاذبية الغامضة ما هو أنصع من الثقافة (ولنذكر عرضًا أن تكاليف الإنفاق على الثقافة الرفيعة لا تقاس إلى ما ينفق على بضع حملات صغيرة)، ومن أجل هذا كان من أولى الأمور التي تشغل أذهان أكثر الطغاة الغاصبين رعاية الفنون والعلوم وتشجيع نمو الجماعة المثقفة. ومثل نابليون الأول ونابليون الثالث ماثل في جميع الأذهان، وأكثر الأذهان تعلق بها ذكرى عصر أغسطس وزعيمه الذي منحه هذا الاسم التاريخي. إن تلك المدنية التي حققتها روما، إنما حققتها تحت حكم الأباطرة الأوائل، ومن بين هؤلاء كان أكفأهم — كوسيلة من الوسائل — ذلك الحاكم العسكري المستبد النموذجي هادريان. ويظهر أن كبار الغزاة، كورش والإسكندر وشرلمان وتيمور وأكبر، كانوا جميعًا يتعالون بإيمانهم بالثقافة، ولم يكن الأمر يقتضي إلا فترة يسيرة من النضوج حتى يحقق خلفاء جنكيز خان ما حققه الأمراء الرومان، أو أن يبلغوا ما بلغه مديشي في حكم الإمبراطورية الرومانية، ومن المؤكد أن العذوبة والضياء كثيرًا ما شعت من بلاط الطغاة والغاصبين؛ لأن الحكام — وإن كانوا لا يستطيعون أن يخدموا الفنانين المبدعين خدمة مباشرة أكثر من توفير النظام والأمن لهم ثم يتركون حبلهم بعد ذلك على غاربه — بوسعهم أن يقدموا للمدنية خدمة كبرى؛ فهم يستطيعون أن ينعموا على طبقة تنشر المدنية ويدفعوا عنها، ومن أجل هذا أفكر في إرسال نسخ من هذا المقال للرؤساء الروس، وللسنيور موسوليني ولمستر ونستن تشرشل.

إني لا أحب الاستبداد، فليس فيه خير أو جمال؛ بَيد أني أدهش لتفاهة أولئك القوم الجادين الذين يفترضون — دون أن يفكروا في الأمر لحظة — إنه لا يمكن أن يكون وسيلة للخير، وإذا كان الاستبداد وما يلازمه من استرقاق دائمًا وفي وقت من الأوقات وسيلة للخير الأعظم — أي إلى الذروة من حالات العقل الطيبة — فلست أعتقد إلا أن الأشرار من الرجال هم الذين ينفرون من استخدام الاستبداد والرق، والواقع أن ما يميل أولئك المحبون للإنسانية الذين لا يفكرون — إن ما يميلون إلى القول به هو أنه لا يمكن بحال من الأحوال أن يكون خيرًا، ولا يمكن لمدنية أن تكون جديرة بهذا الاسم، ما لم تقُم على أساس من الحرية والعدالة والديمقراطية … إلى آخر ذلك. إنهم يجعلون هذه الصفات غايات في حد ذاتها، فيضعون أنفسهم موضعًا يثير الضحك؛ لأن الديمقراطية والعدالة وما إليهما ليست لها قيمة إلا كوسائل. إن العالم الذي تسوده الحرية الشاملة أو العدالة الكاملة ولا يتصف بشيء غير ذلك يكون في تفاهة العالم الذي يتلون كله باللون القرنفلي أو اللون الأزرق، ولكي نحكم على مدنية من المدنيات بالتجرد من المزايا لا يكفي أن نبين أنها تقوم على الرق أو الظلم، بل ينبغي أن نبين أن الحرية والعدالة لا بد أن يتمخضا عن شيء أفضل من هذا.

إذا تساوت جميع الظروف فإني أفضل مدنية تقوم على الحرية والعدالة، من ناحية لأنه يبدو لي أن وجود الرقيق قد يكون هادمًا لتلك الطبقة الممتازة نفسها التي تنبثق منها المدنية، ومن ناحية أخرى؛ لأن العبيد إذا انحطوا إلى درجة كبرى يصبحون عاجزين عن تقبل أدنى لون من الألوان التي تحاول الطبقة الممتازة أن تضفيه عليهم. إن الرجل الحساس الذكي لا يسعه إلا أن يدرك الظروف الاجتماعية التي يتعين عليه أن يعيش فيها، فإن أدرك أن المجتمع يتوقف في وجوده على رقيق غير طائع فلا بد أن يعود عليه ذلك بإحدى نتيجتين: إما إحساس بالقلق، أو برودة تامة، وإنه ليبدو لي أن الفتور العقلي الذي يؤدي إما إلى الانصراف عن جانب من جوانب الحياة الهامة أو إلى جمود العقل، لا بد أن ينتهي بانخفاض قيمة الإنسان المتمدن كغاية وإضعاف كفاءته كوسيلة، وأنَا أعلم أن أحسن الآراء الدينية لا تتفق معي في هذا، فإن قداسة لا تكمل دون تلك النشوة التي تصدر عن التأمل في آلام الآثمين، وكان القديس أغسطين يؤمن بأن من الشر المطلق عند النخبة المختارة أن تشفق على من يلحق بهم غضب الله، ولكن معدتي أضعف من معدة الأسقف: وإنه ليزعج فؤادي في الواقع أن أضطر إلى إلقاء اللوم على الطاهي؛ ومن ثَم فإني أوثِر ديمقراطية اجتماعية تسند وسائل المدنية من تلقاء نفسها على حكم الاستبداد الذي يكفل وجود طبقة متمدنة بتنظيم الرق، وعلى حكومة الأغنياء التي تخشى أن تعرض مصالحها للخطر فتلقي على زملائهم في المدنية درعًا واقيًا من رجال الشرطة لحمايتهم؛ بَيد أن الديمقراطية المستنيرة التي أوثرها لم نسمع بها بعد.

إن كل المدنيات التي سمعنا بها فرضتها إما إرادة حاكم مستبد أو سندتها أوليجاركية حاكمة، وما نطلق عليه خطأ اسم «الديمقراطية الأثينية» كان أوليجاركية تعتمد على الرقيق في وسائلها للمدنية. ففي إتكا — ويبلغ سكانها زهاء نصف مليون — يقدر العلماء أن من كان له حق التصويت أو ممارسة السلطان على أي لون من الألوان لم يزيدوا عن اثنين وعشرين ألفًا، وإذا أضفنا إلى هؤلاء المواليد الأحرار من النساء والأطفال، كان عدد الأثينيين الأحرار زهاء مائة وخمسين ألفًا. ومن بين الرقيق الذين كانوا هناك أقل شقاء منهم في أي مكان آخر عدد كبير من الصناع المهرة يؤجرهم أصحابهم، وكثيرون آخرون كانوا يخدمون في البيوت، ويبدو أن هؤلاء كان يُحسن استخدامهم ويستمتعون ببعض فوائد الثقافة الأثينية كانوا يرودون المسارح، وإذا كانوا يقدرون هذه المزية فلا بد أنهم كانوا يفوقون أبناء العامة في مدارسنا الإلزامية ذوقًا وذكاء وتربية. ولو لم تنشُب حرب بلبونيز، بل لو أنها انتهت عند صلح نكياس، لكان من المحتمل أن يكتسب هؤلاء العبيد المتفوقون تدريجًّا حقوق المواطنين، ولكنا نستطيع أن نؤكد أنهم كانوا يبقون عبيدًا، إذا قصدنا بالعبد ذلك الرجل الذي يحرم النفوذ السياسي ويرغم على العمل للآخرين، ودون هؤلاء الخدم المهرة المتعلمون نجد قطيعًا من الحيوانات البشرية التي تحمل الأثقال، ويمكننا بالتأكيد أن نستبدل الآلات بهؤلاء في هذا القرن العشرين.

ومن ثم ترون الجهل الذي يطبق على أولئك الذين يزعمون أنهم سياسيون مثقفون، الذين يوردون أثينا مثالًا للمدنية التي تقوم على الحرية والعدالة والديمقراطية. إن ما يستطيعون الإصرار عليه بصورة مجدية هو وجود المساواة الاجتماعية والسياسية التامة، والمساواة المالية التي تكاد أن تكون تامة، بين أفراد الطبقة المالكة المتمدنة — أو في الواقع بين المواطنين — ويخيل إلى الناظر لأول وهلة أن طبقة المواطنين هذه تشبه في الكثير تلك الديمقراطية الاجتماعية المتمدنة التي داعبت طويلًا أحلام كثير من أفذاذ الرجال، في ظل هذا النظام تجد طبقة تعيش إلى حد كبير على كسب غيرهم، ويعيش جانب كبير منها أساسًا — لا كلية — من أجل الأمور العقلية والملذات الدقيقة الرائعة. من بين هؤلاء يتيسر لنا أن نجد نواة ناشري المدنية، كهان وكاهنات الثقافة الكبار، تليهم مباشرة كتلة المواطنين المشربين تمامًا بروحهم إلى درجة لا تبعدهم كثيرًا عنهم، وبقي أن توحد الثقافة بين الطبقة العليا من العبيد، وهذه الطبقة الدنيا من المواطنين.

وبالنسبة إلينا — نحن أبناء القرن العشرين، المحصنين بالمكتشفات العلمية والمخترعات التي تمت خلال القرنين السابقين — لا يحتاج الوصل بين هاتين الطبقتين إلى وثبة بعيدة الاحتمال؛ فما الذي يمنع إذن مجتمعًا حديثًا من التمدن؟ والجواب على ذلك لا يحتاج إلى تفكير. كانت أثينا ممكنة لأن الأثينيين كانوا يحبون أن يتمدنوا، ولم تشته «الحياة الطيبة» الطبقة المتفرغة فحسب، بل كان كذلك يشتهيها الصناع والعاملون. أما في إنجلترا فلا يزال لدينا الدخل غير المكتسب الذي يعول طبقة ضخمة من المتفرغين، وقد حقق المنتجون لأنفسهم — بتوجيه من المفكرين المتمدنين — قسطًا كبيرًا من الأمن والطمأنينة، ولكن الأكثرية من الطبقة التي كان ينبغي أن تكون النواة الصغيرة التي تنشر المدنية، هذه الأكثرية تؤثر أن تتبربر بالعمل المكسب الذي يهدم الروح وبالملذات التي تتصف بالخشونة، في حين أن الصناع والعمال يكرسون مالهم الذي اكتسبوه حديثًا للإنفاق في سبيل محاكاة هؤلاء.

إن خير العقول تتجه نحو أثينا دائمًا تلتمس عندها قبسًا من الأمل، ومن ثم يجدر بنا أن نذكر أن أثينا كانت أوليجاركية كبرى، وأن جميع المواطنين من الذكور البالغين كانوا متساوين سياسيًّا واجتماعيًّا، وأنه لم يكن بين المواطنين فقير مدقع، وقل من كان ثريًّا، وأن النساء لم يكن جميعًا من الرقيق، وإن لم يكن لهن حق التصويت. إن مركز المرأة — في أثينا خاصة — وفي المدنية عامة لا يمكن إغفاله ونحن بصدد البحث في وسائل المدنية؛ لأن النساء — بطرق واضحة وأخرى خفية — من وسائل المدنية. حقًّا لقد كانت الزوجة الأثينية العادية تعامَل إلى حد كبير كأنها رقيق له احترام كبير، وكان ذلك طبيعيًّا؛ لأن الزوجية رِق، وفي هذا — كما في غيره من كثير من الأمور — كان الأثينيون يحاولون أن يرَوا الأشياء كما هي؛ كانوا يواجهون الحقائق ويشحذون الذهن لمعالجتها، فشيدوا بذلك مدنية تتقدم على كل ما سبقها وما لحقها. إننا نعترف عادة أن المرأة في الحياة المعاصرة في مركز لا يرضى. لقد ظفرن بحق التصويت، وبدأن يكتشفن قيمة هذه المنحة التي اكتسبنها بشق الأنفس؛ إلا أنهن ما زِلن في موقف لا يُحسدن عليه، وسوف يلزمنه حتى يتساوى عمل الأم والزوجة تمامًا مع عمل الميكانيكي والمحامي؛ لأن الزوجة عاملة، وكان يُعترف للزوجة الأثينية بهذا الوضع. وكانت تعامل بالاحترام الذي يستحقه كل عامل مخلص كفء، ولكنها لم تنتمِ إلى الطبقة الممتازة المتمدنة التي تنشر المدنية؛ لأنها لم تستطع ذلك بطبيعة مصالحها وأعمالها، وكان الأثينيون يقررون لها أهميتها، ولكنهم كانوا كذلك يقدرون أهمية المرأة المتقدمة في المدنية — كانوا يقررون أهميتها كوسيلة من وسائل المدنية. كانوا يدركون أن المدنية إذا خلت من وجهة النظر النسوية ومن الاستجابة النسائية، وإذا خَلت من الذوق النسوي، وبصر المرأة، وإلهامها، وفطنتها، ودقتها، وإخلاصها، وعنادها، وريبتها، إذا خلت من ذلك كانت مدنية ناقصة عرجاء، ولوجود هذا العنصر النسوي اعتمد الأثينيون على نظام الهتيرا (المحظيات). أو هكذا على الأقل أدرك الموضوع. هناك خرافة سائدة نشرها فيما أظن بعض أساتذة الجامعات أن الحياة في أثينا كانت تشبه الحياة في كلية أو في دير، لا تلعب فيها المرأة دورًا، أو تلعب دورًا تافهًا، وكل ما أستطيع أن أقوله لهؤلاء الأساتذة المسنين أنهم قرءوا الآداب القديمة قراءة جزئية، وأحب أن أوجه أنظارهم أولًا إلى كتب «بكر» التي بدأت تختفي، ثم إلى الثقاة الذين ورد ذكرهم في هذه الكتب، ويقيني أن أكثر من كتب من المحدثين عن المجتمع القديم يظهر أنهم رجعوا إلى «بكر» واطلعوا فيه على قائمة بأسماء الثقاة، ولم يفعلوا أكثر من ذلك، وأرجو أن يتابعوا بحوثهم؛ لأن هؤلاء الثقاة سوف يدلونهم على الأقل على الدور العظيم الذي لعبته طبقة خاصة من السيدات العصريات.

•••

لو كنت حاكمًا مستبدًّا لتنازلت عن حكمي فورًا، ولكني لو ورثت مع السلطان تذوفا لفعل الخير، لوجهت أطماعي نحو نشر المدنية، وكخطوة أولى في هذا السبيل أقيم طبقة متفرغة وأمنحها المزايا، على ألا يتناول أي عضو من أعضائها أكثر مما يكفيه، كما أني أجعل من المستحيل على كل فرد من أفراد هذه الطبقة — رجلًا كان أو امرأة — أن يضاعف دخله بأية وسيلة من الوسائل، ويهمني بعد ذلك أن أنظم المجتمع بحيث يتوفر للطبقة الدنيا، طبقة العمال، قدر كافٍ من الفراغ وراحة العيش يمكنهم من الإفادة من وجود طبقة المتفرغين، ولا بد أن أوفر للطبقة الممتازة تربية كاملة وكل وسائل الثقافة المعروفة، وأن أوفر لبقية أفراد المجتمع من التعليم ومن فرص الاستمتاع بما يهيئه التعليم بقدر ما تسمح به خزانتي.

ولكي أهيئ الوسائل لفراغ مجموع الشعب وراحته أتطلع مستبشرًا في اتجاهين: أتطلع إلى المخترعات، التي تُمكن رجلًا واحدًا يشرف على آلة من الآلات من أن يؤدي ما يقوم به مائة من الرجال من خدمات، وأتطلع كذلك إلى الإقلال من السكان، وقد تقدمنا كثيرًا في ناحية توفير العمل؛ إلا أن الثروة التي نجمت عن ذلك لم تخصص في أكثر الأحيان لتزجية الفراغ، وإنما خصصت — إلى حد كبير — لمضاعفة الثراء، ولإشعال الحرب، وصنع السلاح، وللمتع الدنيا (مثل دور الصور المتحركة، والجولف، والسيارات، وسباق الكلاب، وكرة القدم) وتربية الأطفال، وسوف يزداد عدد السكان؛ إذ إن العلم عندنا يعطيهم آلة يستطيع المرء أن يؤدي بها عمل مائة رجل، فإن المائة بأسرها، تستطيع — دون أن تهوي في مستوى العيش — أن توفر لنفسها وقتًا أوسع. بَيد أنهم بدلًا من أن يفعلوا ذلك تراهم ينجبون تسعة وتسعين طفلًا يستهلكون الفائض، ويبقون هم في مكانهم لا يتزحزحون، أي في حالة من الهمجية الشاقة. وقد سمعت بعض الخبراء يقول: إن ثروة العالم حتى في الوقت الحاضر يمكن — لو نظم الإنتاج تنظيمًا يقوم على العقل — أن ينتجها نصف السكان، ومعنى ذلك أننا لو نصَّفنا عدد السكان استطاع كل امرئ أن يضاعف أجره أو دخله مرتين — ولكن الخبراء يؤكدون كل افتراض، وفي دولتي يُنفق نصف فائض الثروة الممكنة عن الحاجات المعقولة في الرفاهية المادية — اللهو والسلع — ويُنفق النصف الآخر في الفراغ، وعندما يقل عدد السكان إلى الحد الذي يوفق توفيقًا طيبًا بين الإنتاج والفراغ، يثبت عدد السكان على ما وصل إليه. أما الأمر كما هو الآن فمؤداه أن كل اختراع جديد يعني مجرد زيادة الإنتاج لكي يكفي زيادة السكان مع إضافة وسائل قليلة للراحة، وما دام ازدياد السكان يلاحق المخترعات الجديدة فلن يفيد منها أحد شيئًا، وتبقى المدنية — على الأقل — كما كانت دائمًا بعيدة المنال.٥

وإني لأعطي لرعيتي حرية كاملة في التفكير والتعبير، كما أعطيهم حق إجراء ما يرون من تجارب في حياتهم الخاصة، ولكني لن أعطيهم حرية كاملة في العمل؛ لأن العمل لا علاقة له بالمدنية، فهي تتعلق بالحالات العقلية، وسيقع ذلك موقعًا شديدًا على أولئك البرابرة المنكودين الذين لا يستطيعون أن يعبروا عن أنفسهم إلا بالعمل على هؤلاء أن يقنعوا بإلقاء الخطب، والاشتراك في اللجان، ومحاولة إقناعنا — لا إرغامنا — بأداء ما يرغبون، وأستطيع أن أتخذ منهم رجال الشرطة، وفي دولتي أحبس اللصوص المطبوعين والسفاكين والفضوليين وأصحاب النزعة النابليونية والمتحمسين لتفسير القانون غير المكتوب. إن حرية العمل بغير قيد لا تتفق والمدنية؛ ففي العالم أناس يتدخلون في شئون غيرهم، متعصبين، شرهين، مستهترين، في قلوبهم قسوة الحيوان، لو أتيحت لهم الفرصة سلكوا مسلكًا يجعل الحياة غير محتملة والمدنية مستحيلة، وفي دولتي لن تتاح الفرصة لهؤلاء، وربما تصور تولستوي عالمًا كل سكانه طيبون، فهو لا يحب أن يتدخل في شأن أي فرد سواه، عالم متطهر من الشراهة والبغضاء والحقد والأطماع، عالم لو وجد فيه من يتصف بهذه الصفات فلن يعمل قط بدافع من ميوله الشريرة. والأرجح أن تولستوي كان يعتقد أن العالم لا يخلو قط من المتوحشين الذين يتصفون بالعنف والفضول والشراهة والحقد، الذين يتبعون غرائزهم مهما بلغت سفالتها، ولكنه لم يحسب لوجودهم حسابًا ما دام الآخرون يحتفظون بطهارتهم ناصعة من غير سوء. يزعم تولستوي أن طهارة النفس يمكن الاحتفاظ بها إذا استسلم المرء استسلامًا سلبيًّا وعن طيب خاطر وبقاء طهارة النفس ممكن، بل ممكن أيضًا أن تزيد أضعافًا مضاعفة، ولكن المدنية لا بد أن تهلك، إن عبد الهمجي الذي يعذب ويساق سوق الأغنام يمكن أن يكون قديسًا أو رواقيًّا، ولكنه لن يكون إنسانًا متمدنًا. إذ ينقصه الفراغ الذي لا بد منه، والأمن، وفرص الحياة، ومن ثم كانت السيطرة على العمل، التي تعني قوة بوليسية قادرة — فيما يبدو لي — ضرورة في كل مكان إلا في مجتمع من الملائكة أو الحيوان — الحيوان الذي يهبط إلى درك لا أمل البتة في انتشاله منه، ولا يهمنا قط لذلك أن يسيء أحدهم إلى الآخر أو يتسلط عليه.

•••

ولا مناص للمتقدمين في المدنية من أن يعجزوا عن الدفاع عن أنفسهم، ومهما يكن إملاء العقل، فإن حساسيتهم تجعل من المستحيل عليهم أن يكيلوا الضربات قاصدين أو أن يوقعوا العقوبات عامدين. إنهم لا يستطيعون البقاء ما لم يعتقد زملاؤهم المواطنون أو السلطة الحاكمة — أيًّا كانت — في ضرورة عونهم والدفاع عنهم. إذ إنه في اللحظة التي يشرعون فيها في الدفاع عن أنفسهم يفقدون كمالهم، ولم أنسَ أن كل أثيني كان عرضة لاستدعائه للخدمة العسكرية، وكان ذلك السبب الأول في عدم استقرار الثقافة الأثينية التي تدهورت تدريجًا خلال الحرب، وربما هبطت في نهاية الأمر إلى المستوى الإسبرطي لولا أن موقعة إیجوسبو تامي كانت نعمة عظيمة، وإذا كان التنظيم من أجل الدفاع يعبث بمدنية الدولة فكيف يكون أثره الهدام على إنسان حساس كالفرد المتقدم في مدنيته. كان سقراط جنديًّا حسنًا، بَيد أن سقراط كان فيلسوفًا إلى جانب أنه سقراط وحسب، وقد رمى هوارس درعه في قلبي.

•••

أريد في دولتي قوة بوليسية لحماية المدنية لا لكي تفرضها فرضًا على الناس؛ فالمدنية لا يمكن أن تفرض بالقوة، ولو كانت تنحصر في الإيمان ببعض الأفكار لاقتضى الأمر حشرها حشرًا في حلوق العازفين عنها. أما وهي تنحصر في موقف معين من الحياة، وفي طرق التفكير والشعور، فيجب نشرها. إن مَن يريد أن ينشر المدنية بين زملائه يجب أن يسمح لهم بأن يكتشفوا بأنفسهم أن للحياة أسلوبًا أفضل من أساليبهم: وهكذا كانت المدنيات العليا تنتشر دائمًا، وكثيرًا ما حدث في التاريخ أن أممًا همجية عرفت بالسلب والنهب بدأت زحفها وهي تؤمن بتفوقها من جميع الوجوه على الشعب المسالم الذي توشك أن تخضعه وتتمثله. كم مرة أعاد التاريخ نفسه؟ إن بلاد الإغريق التي استولى عليها غزاة الرومان غزت هؤلاء الأجلاف ونقلت إلى سهل لايتوم الريفي فنون الحضارة.

يرى زعماء الغزاة أولًا أن الشعوب المغلوبة تملك أسرارًا يجهلونها يقلبون بها ما يبدو لهم خبرة تافهة إلى متعة غزيرة. وسرعان ما يتأثر الملك الهمجي بنفوذ الثقافة الأعلى ويغري بها فيبدأ في الاعتماد في لهوه — ثم فيما بعد في مشورته — على النساء والرجال من العنصر «الأحط». ثم سرعان ما يحتل هؤلاء — بسبب تفوقهم في الإدراك والمعرفة — مكان الثقة والشرف والمنفعة، حتى يصبح الملك في النهاية نصف متمدن، ويتحول معه إلى المدنية الأذكياء من رفاقه القواد وكبار الإقطاعيين. وفي هذه اللحظة بالذات تبدأ الطبقة الأقل ذكاء في تذمرها، ويزداد تمردها، وتنظم معارضة رجعية. عندئذ يكون الملك — لحسن حظه — والزعماء والمرافقون له الذين تأثروا بمن يفضلونهم من الشعب المغلوب، يكون هؤلاء بدورهم قد علموا عددًا كافيًا من الحشد التابع لهم يقابلون به المدافعين القدامى عن الوحشية التقليدية، وهكذا تفعل الخميرة فعلها: لقد تمدن المغول الغزاة إلى درجة ما على يد الصينيين والفرس الذين غلبوهم، ولاقت جيوش العرب نفس هذا المصير في فارس والهند ومصر، وكذلك تمدن الفاتحون الميديون الأوائل فيما بين النهرين، ونستطيع أن نراقب في روما خلال القرن الأول النزاع بين سذاجة الرومان ومدنية الشرق المغلوب. فكاتو وتيبريوس لم يرتفعا إلى مستوى أوفيد وجوليلي، ومع ذلك فإنا نجد في القرن الثاني شيئًا أشبه بالحضارة مما كان يتوقع المرء صدور بهذه السرعة عن الهمجية المظلمة التي خيمت على تلك الجمهورية المروعة، وقد بذل الزعماء حتى في تلك الشعوب التي دخلت الإمبراطورية واستوطنتها في النهاية بعض الجهد — ولكنه جهد متأخر ضعيف — لكي يفيدوا من الثقافة الأعلى التي عرف بها الرومان الإقليميون. بيد أنهم فشلوا، ويرجع السبب الأول في ذلك إلى أن رجال الأقاليم لم يكونوا متمدنين ولم يكن عددهم كافيًا للقيام بهذه المهمة. ومن أجل هذا فلم يكتسب البرابرة سوى أهداب من الثقافة براقة يتزين بها بلاط شرلمان والملوك من بيت أوتو الذي يدعو إلى الرثاء، ولو أنهم تثقفوا ثقافة حقيقية لجنبوا أوروبا العصور المظلمة.

وقد تُنشأ وسائل المدنية، وقد توجد الحكومة المحسنة التي تنفق على طبقة متفرغة مثقفة، وتكفل الأمر، وتبيح حرية التعبير في الفن والفكر والحياة، وتنهض بالتعليم وتحد من العمل، ولكن يبقى أمر واحد لا بد منه لكي تخرج المدنية إلى حيز الوجود، وذلك هو الإرادة — إرادة المدنية، وهي قد لا تعدو أن تكون الرغبة في المتعة بعد تهذيبها وسيرها في اتجاه ذهني، ومن الحماقة أن نفترض أن هذه الرغبة عميقة الجذور بعيدة الغور في الطبيعة الإنسانية، وليس أقل من ذلك حماقة أن نعتقد أنها لم توجد قط، وإذا كانت إرادة المدنية لم توجد قط، فكيف خرجت المدنية إلى الوجود؟ هل كان ذلك بالحظ؟ هل خرج الناس من فوضى الهمجية إلى نوع من أنواع النظام بالحظ؟ ولماذا يخرجون؟ إذا كانت هناك حالات قريبة من المدنية، وإذا كانت هناك مدنيات رفيعة، أليس من الحماقة أن ننسب ذلك كله وما يتطلبه من مجهود جبار أليم إلى المصادفة؟ ومن ناحية أخرى، لما كانت المدنية في بعض الأماكن لم تتقدم قط، وفي أماكن أخرى ارتفعت عن مستوى التأخر لتغوص فيه ثانية، وفي أماكن كثيرة نراها تقطع من الشوط بعضه ثم تعجز عن مواصلة المسير، وقلما كان الدافع قويًّا مستمرًّا إلى درجة يتمكن بها من رفع المجتمع إلى مقربة من المثل الأعلى المتواضع المعقول، إذا كان الأمر كذلك فمن الحماقة أيضًا أن نفترض أن إرادة المدنية التي ذكرناها ظاهرة موحدة في كل مكان، ثابتة، أساسية في الطبيعة البشرية. هناك أسباب عدة تحول دون اعتقادنا في استمرار التقدم، وهناك كذلك أسباب عدة تحملنا على الاعتقاد بأن المستوى الحالي لما نسميه عامة بالمجتمعات المتمدنة ينخفض كثيرًا عن الحد المطلوب، وليس هناك من الأسباب ما يدعونا إلى أن نفترض بأن المجتمع سوف يصل إلى هذا الحد أو يعلو عليه، أو أنه لن يبلغه. كل ما نؤكده هو أن الناس لرغبتهم الدائمة في الاستمتاع بالملذات، يوجهون رغبتهم هذه أحيانًا توجيهًا ذهنيًّا، ويعتقدون أحيانًا أخرى أن الملذات أندر وأبعد وأدق من تلك التي تسوق إليها الغرائز، وإنهم أحيانًا يحققون هذه الملذات، ومن الجلي أن المدنية لم تكن هدف ذلك الهمجي الذي أخذ الأرنب إلى بيته وطهاه؛ بَيد أنه تصور واشتهى متعة أدق وأبعد من متعة التهامه نيئًا، وهكذا نرى أن الناس بتصورهم واشتهائهم قد يحققون المدنية في نهاية الأمر.

ليس من شك في أن إرادة المدنية قد وجدت، وأنها ربما لم تختفِ قط من الوجود، ولكنها اختلفت من مكان إلى مكان ومن وقت إلى آخر اختلافًا شديدًا من حيث قوتها وكفايتها، وهذه الإرادة — من الوجهة النظرية — يجب أن تسير جنبًا إلى جنب مع إرادة الخير، التي يزعم بعض الفلاسفة أنها موجودة دائمًا وأنها وجدت في كل مكان، ومن سوء الحظ أنه من العسير أن نميز بين الغايات والوسائل حتى إن رجال الأخلاق العمليين يخطئون دائمًا فيحسبون وسائل الخير العتيقة غير المباشرة الخير ذاته، ومن ثم فإن إرادة الخير لا تعين إرادة المدنية دائمًا فحسب، بل إنها تعرقل سيرها أحيانًا عرقلة إيجابية. إن إرادة الخير كثيرًا ما توجه نشاطها إلى ما كان في وقت ما وسيلة بعيدة، وهي بذلك تقف عقبة في سبيل الوسائل المباشرة والقريبة. في لحظة معينة من تاريخ أي مجتمع قد يكون شكل الحكومة، أو الدين، أو الناموس الخلقي، وسيلة للخير وللمدنية، ولكنه بعد أن يؤدي غرضه بوقت طويل، وبعدما يصبح أداة تعطيل بوقت طويل، ترى كثيرًا من دعاة الخير لا يزالون يكرسون حياتهم للإبقاء عليه، فقد كان الإصلاح البروتستنتي في شمالي أوروبا — من غير شك — وسيلة الخير بمقدار ما كان وسيلة لتطهير العالم من مجموعة من الخرافات. بَيد أن هذه الوسيلة، التي بولغ فيها حتى أصبحت غاية من الغايات، وأمست في نهاية الأمر حركة بيوريتانية (تطهيرية) — تركز جهدها في بعض العقائد الدينية والخلقية — وربما وقفت في إنجلترا عقبة وحائلًا في سبيل إرادة المدنية أكثر من أي شيء آخر. إن البيوريتان — برغم كل نواياهم الطيبة — أعداء الخير؛ لأنهم يجعلون الاستمتاع بالحالات العقلية الطيبة أشق على أنفسهم وعلى غيرهم مما ينبغي. إنهم يعلقون على ما كان في وقت من الأوقات وسيلة للخير أهمية لا تتعلق إلا بالغاية، ثم يصرون على هذه الوسائل العتيقة فيعوقون بذلك انتشار الوسائل التي تفضلها في تحقيق الأغراض؛ لأنها أكثر منها ملاءمة، ومن ثم فإن العفة التي ربما كانت من الفضائل في عصر الحيوانية القصوى حينما كان القوم يخرجون للرعي وللغزو والنهب مسلحين، وحينما كانوا لا يمتطون الدواب الاغتصاب النساء — هذه العفة لا يزال لها في القرن العشرين من يصرون على أنها وسيلة للخير تفضل مزايا عيادات الأطباء الشائعة التي تقوم بالتحكم في النسل، ولا يمكن الناس أن يأملوا في التفريق بين الغابات والوسائل أو بين الوسائل المباشرة والوسائل البعيدة إلا بعد أن يتكون لديهم إحساس بالقيم، بشرط أن يكون ذلك في جو من التجرد العقلي. إن الوسائل غير المباشرة تختلف من عصر إلى عصر ومن قطر إلى آخر، وقيمتها محدودة وموقوتة، وتطبيقها محلي، وإلى أن يدرك هذه الحقيقة المحبون للخير فلا بد أن ينصرف جانب كبير من نشاطهم الخلقي إلى الحث على وسائل تناقض ما يهدفون إليه من غايات، وتُمسي إرادتهم للخير إرادة سيئة لتلك الوسيلة التي هي أدنى إليهم — وأعني بها المدنية.

ما أكثر ما في إنجلترا من نشاط خلقي أميل إلى وصفه بإرادة للخير منحرفة، ولكن هل هناك إرادة للمدنية؟ إن قدرًا كافيًا من الدخل غير المكتسب يَعول عددًا عديدًا من العاطلين، بَيد أن هذا الدخل يساء إنفاقه، والعاطلون جاهلون، ومن ثم فإن مجموعة المتمدنين في إنجلترا المعاصرة — وإن كنت لا أشك أن بها بضعة آلاف بلغوا من رُقي المدنية ما بلغه أي عدد فيما مضى — هذه المجموعة أصغر من أن تكون تلك النواة الفعالة التي تحول الثقافة السلبية إلى قوة ممدنة، وهذه المجموعة — على قلتها — يتضاءل عددها تدريجًّا. إن روح العصر تقف في وجوههم، ويعترض سبيلهم الإيمان بالعمل، والرأي الذي ينادي بأن الناس إنما أتوا إلى هذا العالم لجمع المال، ولمباريات اللعب، وارتياد دور السينما وحلبات السباق، وسوق العربات، وإنجاب الأطفال. ذلك هو مذهب المنتجين، ومن يؤمن به لا يفيد من العمل الذي لا ينتج اقتصاديًّا، أو من الملذات الدقيقة الشاقة. من يؤمن به لا يريد المدنية، ولكنه يملك النفوذ والسلطان.

إن حكومة إنجلترا تقوم على أساس التوفيق الاعتباطي بين كبار أصحاب الأجور وصغارهم. هي حكومة الأغنياء يخفف من غلوائها نقابات العمال، وحكومة الأغنياء هي صاحبة الكلمة الفصل في السياسة في الوقت الحاضر، وهي التي ترسم طريق الحياة، ولا يعرف هذا الطريق تمام المعرفة إلا أولئك الذين يطالعون الصحف المصورة اليومية والأسبوعية، وهذه الطريق هي ما يريده الناس، وهي أيضًا ما يسمونه المدنية، وهي التي حاربوا من أجلها لإرضاء الأغنياء، والتي قد يحاربون من أجلها لإرضاء أنفسهم؛ لأن التوفيق المنشود بين كبار الكاسبين وصغارهم أمر اعتباطي، ولا يفتأ الصغار يخالفون الوصية العاشرة؛ ومن ثَم كان هذا الحديث الذي لا ينقطع عن الثورة. والأمر العجيب أن هناك دائمًا متفائلين ممن يحبون البشرية يتوقعون خيرًا من مثل هذه الثورة. إنهم يلومونني جهرًا؛ لأني لا أميل إلى التخلي عما أملك أملًا في الحصول على ما يظنون أنه ربما كان وسيلة لما هو أحسن. إنهم يؤكدون لي «أن الناس لو تركوا وشأنهم لتحققت كل آمالك في المدنية في لحظة، وينبغي لك أن تعلم أن الناس دائمًا يحبون الخير والجمال — يحبون الأرقى حينما تقع عليه عيونهم؛ وهنا تقع الطريق التي تبحث عنها».

وإن كنت برغم هذا النداء لم أتخلَّ عن الدرس لأنصرف إلى الحياة العادية، فإنما يرجع ذلك إلى أن العامل الراقي — الذي يترقبون تطوره عن العامل المعروف في إنجلترا من قديم — لا يبدي أية رغبة ملحة للإفادة من وسائل المدنية التي تقع تحت يديه، بل إنه ليبدو لي أن مطامعه تتجه وجهة أخرى، وبدلًا من أن أكتشف بين العمال أية إرادة للمدنية، أجدني مساقًا إلى الظن بأن العامل البريطاني يُحب همجيته حبًّا جمًّا، بل إنه ليريد المزيد منها. إنه لا يجد مغمزًا في جنة المنتفعين حتى إنه ليودُّ لو كانت له، وهو لا يتطلع إلى ثورة مجيدة لكي يعيد تشكيل الحياة فيقربها من المثل الأعلى، بل لكي يسلك مسلك الأثرياء، والواقع أن العمال المأجورين وأصحاب رءوس الأموال على اتفاق تام في كل أمر من الأمور إلا فيما يتعلق بتقسيم الغنائم. إن العامل في منجم الفحم الثائر لا يتطلع إلى حياة أفضل من حياة صاحب المنجم الرجعي. إنه يتطلع إلى شرب الروم واللبن قبل الفطور، وإلى فطور من أربعة أصناف، وإلى يوم يقضيه في الصيد والقنص، أو في لهوٍ لا تسفك فيه دماء، وإلى الشمبانيا في العشاء، والسيجار الطويل بعد العشاء، وإلى مساء يقضيه في دار الصور المتحركة أو في قاعة الموسيقى، إلى أن يقرأ بين الحين والحين لمس كورلي وميخائيل آرلن، وفي صحيفة «مرور» و«جون بل» أو مجلة «ستراند». هو يعتقد في كل حين اعتقادًا نظريًّا ثابتًا في قداسة رباط الزوجية وفي بغض الأجانب والفنانين والمتحذلقين بغضًا صادقًا، وإن هذه الحياة لتلائم بِل جونز كما تلائم لورد ميدنهد. إنها الحياة التي يعجب بها ويفهمها، ولذلك فهو — بطبيعة الحال — يحبها لنفسه. ومن أجل ذلك كان ثائرًا، وإنك لتقدر مركزه، وإنك لتدرك تمام الإدراك أنه يود لو استطاع أن يتبادل مع اللورد مكانته، وإنك كذلك لا ترى مانعًا من ذلك، بل إنك — أهم من ذلك كله — لا ترى سببًا يدعوه إلى أن يتوقع العطف والإعجاب من رجل يقف موقف الحكم المحايد إزاء ما يود أن يسميه «بالنضال من أجل الحرية والعدالة». إن الشد والجذب بين جونز وسيده على ثمار الهمجية أمر يخصهما وحدهما دون سواهما، وليس هناك من الأهداف العامة في هذا النضال ما يتعرض للخطر فيثير أولئك الذين يقفون خارج حلبة النضال. إن من يهتم بالمدنية وما إليها لا يهمه البتة من يحصل على السيارات وحفلات الكوكتيل، وسواء عنده من ينتمي إلى نقابة العمال ومن ينتفع؛ كلاهما تافه، عامي، ساذج، عاطفي، شره، عديم الإحساس، وحيث إن كليهما يسعده أن يبقى كما هو، فلا ينتظر لأحدهما أن يتحسن. إن إرادة المدنية قد توجد بين الفدا في سيلان أو بين الميجي في ساحل الذهب، ولكن بادرة منها لا نظهر في سوق الأوراق المالية أو في مؤتمر نقابات العمال.

١  مدينة في الأناضول.
٢  فيلسوف عاش في القرن الرابع قبل الميلاد.
٣  هذا رأي المؤلف ولا نوافق عليه، بل نراه موضع شك كبير.
٤  النهضة لبروكارت – الجزء الأول – صفحة ١٨٤.
٥  استطاع الأثينيون كعادتهم أن يجابهوا هذه الحقائق بشجاعة، فعالجوا الأمر بتعريض الأطفال للموت، وهو إجراء يتنافى مع ذوقنا في العصر الحاضر، ومن ثَم كان ازدياد المواليد في أثينا يقابله ازدياد في وفيات الأطفال، وقد جعل العلم هذه الوسائل العتيقة أمرًا لا ضرورة منه، أو لعل العلم كان يستطيع ذلك لو أن المعرفة العلمية امتدت إلى منال أولئك الذين هم في أشد الحاجة إليها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤