مغامرة البقعة الثانية

كنتُ قد نويتُ أن تكون «مغامرة منزل آبي جرانج» هي آخرَ ما أُقدِّمه للجمهور على الإطلاق من مآثر صديقي السيد شيرلوك هولمز. ولمْ يكن قراري هذا ناتجًا عن نقص في المادة؛ فلديَّ مذكرات عن مئات القضايا التي لم أُشِر إليها قط من قبل، ولم يكن ناجمًا كذلك عن أي تراجع في ولَعِ قُرَّائي بالشخصيةِ الفذة والأساليب الفريدة لهذا الرجل الاستثنائي. إن السبب الحقيقي وراء قراري يَكمن فيما أبداه السيد هولمز من معارضةٍ لنشر مغامراته على هذا النحو المُتواصِل. فقد كان لتدوين نجاحاته شيءٌ من القيمة العمَلية عنده وقتما كان مُنخرِطًا في ممارسة عمله فعليًّا؛ ولكنه منذ اعتزل العمل في لندن على نحو قاطعٍ وكرَّس نفسه لدراسة النحل وتربيتِه في ساسكس داونز، صارت الشهرة بغيضةً إليه، وأبدى طلبًا حاسمًا أن تُراعى رغباتُه في هذا الشأن بدقة. ولمْ أنجح أخيرًا في الحصول على موافقتِه على أن أُقدِّم للجمهور سردًا خاضعًا لمراقبته الدقيقة للواقعة، إلَّا عندما صرحت له بأنني قد قطعتُ عهدًا بأن تُنشر هذه المغامرة التي بين أيدينا عندما يكون الوقتُ مُواتيًا، ولفتُّ انتباهه إلى أنه من المناسب أن تُختَتم هذه السلسلةُ الطويلةُ من الوقائع بالقضية الدولية الأهم بين جميع القضايا التي دُعِي إلى تولِّيها على الإطلاق. ولئن بدا سردي لأحداث القصة غامضًا نوعًا ما في تفاصيل بعينها، فسوف يتفهَّم الجمهور على الفور أن ثمة سببًا وجيهًا وراء تحفُّظي هذا.

حدَثَ في أحد الأعوام، بل حتى في أحد العقود — ينبغي أن يَبقى غير محدد — في صباح أحد أيام الثلاثاء من فصل الخريف، أن وجَدنا ضيفَين من المشاهير في أوروبا بين جُدرانِ شقتنا المتواضعة بشارع بيكر ستريت. لم يكن أولهما — وهو رجلٌ رصينٌ أشَمُّ الأنفِ، حادُّ البصر، ذو شخصية مُسيطِرة — سوى اللورد الشهير بلينجر، الذي تولَّى رئاسة وزراء بريطانيا مرتَين. أما الثاني — وهو الأنيق ذو البشرة الداكنة والملامح الواضحة وبالكاد لم يُجاوِز منتصف العمر، وكان يتمتَّع كذلك بجميع محاسن الجسد والعقل — فهو سعادة الشريف تريلوني هوب وزير الشئون الأوروبية، والسياسي الأبرز في الدولة. جلس الرجلان جنبًا إلى جنب على أريكتنا التي غمرَتها الأوراق المُبعثَرة، وكان واضحًا من وجهيهما المكتسيَيْن إرهاقًا وقلقًا أنه ما أتى بهما إلينا إلَّا أمرٌ بالغُ الأهمية. كانت يدا رئيس الوزراء النحيلتان ذواتا العُروق الزُّرق مُطبَقتَين بإحكامٍ على يدِ مظلته العاجية، وكان وجهه المُنهَكُ الشبيهُ بوجوه النُّساك يُوزِّع نظراته الكئيبة بيني وبين هولمز. أما وزير الشئون الأوروبية، فكان يشدُّ شاربَه بتوتُّرٍ ويعبثُ بأقفال سلسلة ساعته.

قال: «عندما اكتشفتُ ما فُقد مني، يا سيد هولمز، وكان هذا في الثامنة من صباح اليوم، أخبرتُ رئيس الوزراء على الفور. وقد أتينا إليك بناءً على اقتراحه.»

«هل أبلغتَ الشرطة؟»

قال رئيس الوزراء بما عُرف عنه من سرعة وحسم: «لا يا سيدي، لمْ نفعل، ولا يُمكن أن نفعل؛ فإخبار الشرطة يعني — على المدى البعيد — إخبار الجمهور. وهذا تحديدًا ما نريد أن نتجنَّبه.»

«ولِمَ يا سيدي؟»

«لأن الوثيقة التي نتحدَّث عنها من الأهمية البالغة بحيث يُحتمَل — بل حتى من المرجَّح — أن يُؤدي نشرها بكل سهولة إلى تعقيداتٍ بالغة الخطورة في الشأن الأوروبي. ولن يكون مِن قبيل المبالَغة القولُ إنَّ الاختيار بين السلام أو الحرب قد يتوقَّف على هذه المسألة. وإذا لمْ تُصحب استعادتُها بالسرية القصوى، فقد لا نَستعيدها أبدًا؛ لأن غايةَ ما يهدفُ إليه أولئك الذين استولوا عليها أن تُذاع محتوياتُها علنًا.»

«فهمت. والآن، يا سيد تريلوني هوب، سأكون في غاية الامتِنان لو أخبرتَني على وجه التحديد بملابسات اختِفاء هذه الوثيقة.»

«يُمكن تلخيصُ هذا في كلماتٍ قليلة جدًّا يا سيد هولمز. لقد تسلَّمتُ الخطاب — إذ كانت الوثيقة عبارة عن خطاب من أحد الملوك الأجانب — منذ ستة أيام، وكانت شديدة الأهمية لدرجة أنني لمْ أتركْها قطُّ في خزانتي، ولكن كنتُ آخذُها كلَّ ليلةٍ إلى منزلي في وايتهول تيراس، وكنتُ أحتفظ بها في غرفة نومي في صندوق حفظ الأوراق الرسمية داخل خزانة مُغلَقة. وقد كانت هناك أمس. أنا واثق من هذا. لقد فتحتُ الصندوق بالفعل بينما كنتُ أتجهَّز لتناول العشاء، ورأيتُ الوثيقة بداخله، لكنها اختفَتْ هذا الصباح. لقد ظلَّ الصندوق بجوار المرآة فوق المِزْيَنَة طوال الليل. وأنا رجلٌ خفيفُ النوم، وزوجتي هي الأخرى كذلك، وأنا وهي مُستعِدان للقسم إنه ما كان أحد ليستطيع دخول الغرفة أثناء الليل. ورغم هذا فأنا أُعيد ما قلتُ بشأن اختفاء الوثيقة.»

«متى تناولتَ العشاء؟»

«في السابعة والنصف.»

«وكم مرَّ من الوقت قبل أن تَخلد إلى النوم؟»

«كانت زوجتي قد ذهبتْ إلى المسرح، فانتظرتُ عودتها. وقد كانت الساعةُ الحاديةَ عشرة والنصف قبل ذهابنا لغرفتنا.»

«إذن فقد بقيَتِ الخزانة أربع ساعاتٍ دون مراقبة، أليس كذلك؟»

«غير مسموح لأحدٍ بتاتًا بدخول تلك الغرفة عدا الخادمة في الصباح، وخادمي الخاص، أو خادمة زوجتي، خلال ما تبقى من اليوم. وكلاهما محل ثقة ويَخدماننا منذ وقتٍ طويل. علاوة على ذلك، ما كان لأيٍّ منهما أن يَعلم أن خزانتي بها أيُّ شيءٍ أكثر قيمةً من الأوراق الإدارية العادية.»

«ومَن كان يعلم بوجود هذا الخطاب؟»

«لمْ يعلم بهذا أحدٌ من المنزل.»

«ولكن زوجتُك كانت تعرف بالتأكيد، أليس كذلك؟»

«لا يا سيدي؛ فأنا لمْ أُخبر زوجتي بأيِّ شيءٍ إلَّا عندما فقدتُ الخطاب هذا الصباح.»

أومأ رئيس الوزراء برأسه تأييدًا لما قِيل.

ثم قال: «أعلم منذ زمن، يا سيدي، مدى عُمقِ إحساسك بالمسئولية الوطنية. وأنا واثقٌ أنه في حالة وجود سرٍّ بهذه الأهمية، فسيفوق عندك أخصَّ العلاقات الأسرية.»

فانحنى وزير الشئون الأوروبية امتنانًا.

ثم قال: «إنَّ ما قلتَه لا يُجاوزُ حقيقةَ ما أنا عليه يا سيدي. وأنا لمْ أَنبِس لزوجتي قطُّ ببنتِ شفةٍ عن هذا الأمر قبل هذا الصباح.»

«أَمَا كان يُمكنها أن تُخمِّن الأمر؟»

«لا يا سيد هولمز، لمْ يكن بإمكانها أن تُخمِّن، ولا بإمكان أيِّ أحد أن يخمن.»

«هل فقدتَ أي مستندات من قبل؟»

«لا يا سيدي.»

«ومَن كان يعلم بوجود هذا الخطاب في إنجلترا كلها؟»

«لقد علم به جميع أعضاء مجلس الوزراء أمس؛ ولكنَّ عهد التزام السرية الذي يُصاحب كلَّ اجتماع من اجتماعات المجلس ازدادَ تأكيدًا بالتحذير المغلَّظ الذي وجَّهَه إلينا رئيس الوزراء. يا إلهي! كم هو صادمٌ أن أُضيِّعه أنا شخصيًّا بعد ساعاتٍ قليلة!» وشُوِّهتْ وسامةُ وجهه بنوبة يأس، وراح يشدُّ شَعره بيده. وللحظةٍ من الزمن أدركنا لمحةً من طبيعة الرجل؛ إذ بدا لنا متهورًا مندفعًا شديد الحساسية. وفي اللحظة التالية حلَّ القناعُ الأرستقراطي محل هذا كله، وعاد الصوتُ الهادئ مرةً أخرى يقول: «بالإضافة إلى أعضاء المجلس، هناك اثنان أو ربما ثلاثة من الموظَّفين الإداريين يعرفون بشأن الخطاب. ليس غير هؤلاء في إنجلترا بكاملها يا سيد هولمز، أؤكد لك.»

«ولكن ماذا عن خارج البلاد؟»

«أعتقد أنه لمْ يَرَها أحدٌ من خارج البلاد غير الرجل الذي كتَبَها. وأنا مقتنعٌ تمامًا أن وزراءه — وهم وسيلة الاتصال الرسمية المُعتادة — لمْ يُشرَكوا في الأمر.»

أخذَ هولمز يُفكر قليلًا.

ثم قال: «والآن سيدي، عليَّ أن أسألك بطريقة أكثر تحديدًا عن طبيعة هذه الوثيقة، ولِمَ قد يَستتبِع اختفاءها مثلُ هذه العَواقب الخطيرة؟»

فتبادَلَ رجُلا الدولة نظرةً سريعةً وعقد رئيس الوزراء ما بين حاجبيه الأشعثين.

«يا سيد هولمز، إن مظروف الخطاب طويلٌ رقيقُ السُّمك، لونه أزرقُ باهت، ومطبوعٌ عليه ختمٌ من الشمع الأحمر على هيئة أسدٍ رابض، وعنوانُه مكتوبٌ بحروف كبيرة واضحة بخط اليد إلى …»

قال هولمز: «مع الأسف يا سيدي، هذه التفاصيل مُشوِّقةٌ وجوهريةٌ بالفعل، إلا أن تحرياتي ينبغي أن تسبر أغوار الأمور أكثر من هذا. ماذا كانت طبيعة هذا الخطاب؟»

«إن هذا من أقصى أسرار الدولة أهمية، وأخشى أنه ليس بإمكاني أن أُخبرَك، ولستُ أرى ذلك ضروريًّا كذلك. ولَئن تمكَّنتَ — بواسطة ما حُبيتَ به من قدرات كما يُقال عنك — أن تجد مظروفًا كهذا الذي وصفتُ بما فيه من محتويات، فستكون قد استحققتَ الكثير من بلدك، واستأهلت أيًّا مما تُمكِّننا سلطتنا أن نمنحك إياه من مكافآت.»

نهض شيرلوك هولمز من مكانه مبتسمًا.

ثم قال: «إن كلَيْكما من أكثر الرجال انشغالًا في البلاد، وأنا كذلك، وعلى تواضُعِ قدري، إلا أن لديَّ قدرًا لا بأسَ به من المسئوليات. أنا آسفٌ جدًّا أنني لن أستطيع مساعدتكما في هذه القضية، وسيكون أيُّ استمرار لهذه المحادثة مضيعةً للوقت.»

انتفض رئيسُ الوزراء واقفًا وفي عينَيه الغائرتَين تلك الالتماعة الخاطفة الضارية التي كان يجثم أمامها الوزراء مُرتعِدين، وبادر بالحديث قائلًا: «سيدي، أنا لمْ أعتَدْ …» ولكنه سيطرَ على غضبه وعاد إلى مقعده مرةً أخرى. وخيَّم الصمت علينا جميعًا لدقيقة أو أكثر، ثم هزَّ السياسي العجوز كتفَيه تعبيرًا عن استسلامه.

وقال: «لا بُدَّ لنا من قبول شروطك يا سيد هولمز. ولا شكَّ أنك على حق، فلا يُعقل أن ننتظر منك أن تتولى المهمة ما لمْ نَمنحْكَ ثقتنا غيرَ منقوصة.»

وقال السياسي الأصغر سنًّا: «أُوافقك الرأي يا سيدي.»

«سأُخبرك إذن، مُعولًا في ذلك كليًّا على حُسن سُمعتك أنت وزميلك الدكتور واطسون. وقد أناشد فيك حسَّك الوطني كذلك؛ فأنا لا أستطيع أن أتخيَّلَ محنةً أخطرَ على البلاد من انكشاف هذا الأمر.»

«يُمكنُك الوثوق بنا وأنت مطمئن.»

«الخطاب، إذن، من أحد الملوك الأجانب، أزعجتْه بعض التوسُّعات الاستعمارية التي قامت بها البلاد مؤخرًا. وقد كُتِبَ في عجالة وعلى مسئوليته الشخصية الكاملة. وأظهَرَت التحقيقاتُ أنَّ وزراءه لا يعلمون شيئًا عن الموضوع. وفي الوقت نفسه، فإن الخطاب مَصُوغٌ بأسلوب غير ملائمٍ تمامًا، ولغة بعض العبارات فيه مُستفزَّة لأبعد الحدود، حتى إنه إذا نُشِر فسيُؤدِّي بلا شك إلى حالة شديدة الخطورة في الرأي العام في هذا البلد. ستسود حالة من الهياج والاضطراب يا سيدي، حتى إنني لا أتردَّد في القول إنه في ظرف أسبوع مِن نشر ذلك الخطاب، سيتورَّط هذا البلد في حربٍ ضروس.»

كتب هولمز اسمًا ما على قصاصة من الورق وناوَلَها رئيس الوزراء.

«بالضبط. كان هو ذلك الرجل. وهذا الخطاب — هذا الخطاب الذي ربما يتسبَّب في إنفاق ملايين لا حصرَ لها وإزهاق أَرواح آلاف الرجال — هو الذي فُقِدَ بهذه الطريقة الغامضة.»

«وهل أخبرتَ مرسله؟»

«نعم يا سيدي، لقد أَرسلتُ إليه برقيةً مشفَّرةً على وجه السرعة.»

«ربما يرغب في نشر الخطاب.»

«لا يا سيدي، إن لدينا سببًا وجيهًا للاعتقاد أنه يَعي بالفعل أنه قد تصرَّف بأسلوب مُتسرِّع وأرعن. وإن انكشف أمر هذا الخطاب، فستكون الكارثة أعظمَ عليه وعلى بلاده منا.»

«لو أن الأمر هكذا، فمِن مصلحةِ مَن أن يُشاع أمر ذلك الخطاب؟ لماذا قد يَرغب أيُّ شخص في سرقته أو نشره؟»

«مهلًا يا سيد هولمز، إنك تأخُذُني إلى مناطق السياسة الدولية العليا. ولكنكَ إنْ تأمَّلتَ الوضع الأوروبي، فلن تجد صعوبةً في إدراك الدافع. إنَّ أوروبا بأكملها مُعسكَر مُسلَّح، ويُوجد تحالفان ذوا قوةٍ عسكرية متوازنة، وبريطانيا العظمى تحفَظ هذا التوازن. ولو أنها استُدرِجتْ للحرب مع أحد التحالُفَيْن، فسيؤكد هذا تفوُّق التحالُف الآخر، سواء شاركوا في الحرب أم لا. هل أنتَ مُدرِك لما أقول؟»

«بكل وضوح. إذن مِن مصلحة أعداء هذا الملك أن يتحصَّلوا على هذا الخطاب وينشروه؛ لكي يُحدِثوا صدعًا في العلاقة بين بلده وبلدنا، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي!»

«وإلى مَن قد تُرسَل هذه الوثيقةُ حال وقعَتْ في يد أحد الأعداء؟»

«إلى أيٍّ مِن حكومات الدول الأوروبية العُظمى. وربما كانت تحثُّ السيرَ الآن متوجِّهةً إلى هناك بأسرع ما يُمكن لباخرةٍ أن تحملها.»

نكَّس السيد تريلوني هوب رأسَه على صدرِه وعلا صوتُه بالأنين. فوضع رئيس الوزراء يدَه برفق على كتفِه.

وقال: «إنه حظُّكَ العاثر يا صديقي العزيز. لا أحد يستطيع أن يلومك. إنك لمْ تُفرِّط في أيِّ تدبير احترازي. والآن يا سيد هولمز، لقد باتت الحقائق كاملةً بين يديك. فأيُّ مَسلكٍ تقترح؟»

هزَّ هولمز رأسه في أسًى.

وقال: «أتعتقد يا سيدي أن ثمة حربًا ستَندلِع إن لمْ تُستردَّ هذه الوثيقة؟»

«أراها واردة جدًّا.»

«إذن يا سيدي، فلتَتجهَّز للحرب.»

«هذا كلام غير مفهوم يا سيد هولمز.»

«تأمَّلْ حقائق القضية يا سيدي. مِن غير المعقول أن يكون الخطاب قد أُخِذ بعد الحادية عشرة والنصف مساءً؛ فحسبما فهمت، كان السيد هوب وزوجته مَوجودَين في الغرفة منذ ذلك الوقت وحتى اكتشاف فقدانِ الوثيقة. إذن فقد أُخِذتْ مساءَ أمس بين الساعة السابعة والنصف والساعة الحادية عشرة والنصف، ربما عند الساعة المبكِّرة منهما؛ لأنَّه من الواضح أن مَن أخذها، أيًّا كان، كان يَعلم بوجودِها هناك، وبالطبع كان سيرغب في الحصول عليها مُبكرًا قدرَ الإمكان. والآن يا سيدي، لو أنَّ وثيقة بهذه الأهمية قد أُخذتْ في ذلك التوقيت، فأين يُمكن أن تكون الآن؟ لا يوجد ما يدعو أحدًا للاحتفاظ بها. لقد مُرِّرتْ على وجه السرعة إلى أولئك الذين يَحتاجون إليها. فما فرصتنا الآن في اللحاق بها أو حتى تتبُّع أثرها؟ لقد صارت بعيدة عن مُتناوَل أيدينا.»

انتفض رئيس الوزراء من فوق الأريكة.

وقال: «ما تقوله منطقيٌّ تمامًا يا سيد هولمز. إنني أشعر بالفعل أنَّ الأمر لمْ يَعُد في أيدينا.»

«لكن لنَفترِض، على سبيل النقاش لا أكثر، أن مَن أخذ الوثيقة هو الخادم أو الخادمة …»

«إنهما مُسنَّان وموثوق فيهما.»

«لقد فهمتُ من كلامك أن غُرفَتَك في الطابق الثاني، ومعنى هذا أنه لا مدخلَ لها من خارج المنزل، ولا أحد يَستطيع الصعود إليها من داخل المنزل دون أن يلاحظه أحد؛ فلا بد إذن أن يكون شخصٌ ما مِن داخل المنزل هو مَن أخذها. ولمن قد يَذهب اللص بها؟ إلى واحد من عدة جواسيس وعُملاء سرِّيِّين دوليين من الوارد أن تكون أسماؤهم مألوفةً لي. ثمة ثلاثة يُقال إنهم زعماء مِهنتهم هذه، وسوف أبدأ بحثي بالخروج واستِكشاف إذا ما كان كلٌّ منهم في موقعه. وفي حال غياب واحدٍ منهم — وخاصَّة إذا كان قد اختفى منذ ليلة أمس — فستكون لدينا إشارة إلى المكان الذي ذهبتْ إليه الوثيقة.»

سأله وزير الشئون الأوروبية: «ولِمَ قد يَغيب هذا الشخص؟ فبوسعه أخذ الخطاب إلى إحدى السفارات في لندن، وهذا مرجَّح جدًّا.»

«لا أظن هذا؛ فهؤلاء العملاء يَعملون على نحوٍ مُستقل، وعلاقاتهم مع السفارات متوتِّرة في أغلب الأحيان.»

أومأ رئيس الوزراء برأسه مؤيدًا حديث هولمز.

«أعتقد أنك مُحِق يا سيد هولمز. فسوف يأخذ مثل هذه الغنيمة القيِّمة إلى مَقرِّ القيادة بنفسه. أعتقد أن المَسار الذي تتَّخذه ممتاز. وفي الوقت نفسه، يا هوب، لا يُمكنُنا أن نَتهاون في واجباتنا الأخرى كلها بسبب هذه المِحنة. إذا حدثتْ أيُّ تطورات جديدة في أثناء اليوم، فسنتَّصل بك يا سيد هولمز، وبالتأكيد ستُطلِعنا على نتائج تحقيقاتك.»

وانحنى لنا السياسيان وغادرا الغرفة في وقار.

عندما غادَر ضيفانا المرموقان أشعل هولمز غليونه في صمت، ثم جلس لبعض الوقت مُستغرِقًا في تفكير عميق، بينما فتحتُ أنا جريدةَ الصباح واستغرقتُ في قراءة جريمة مثيرة وقعتْ في لندن في الليلة السابقة، وهُنا هتَف صديقي، ثم هبَّ واقفًا، ووضع غليونه على رفِّ المدفأة.

وقال: «نعم، ما مِن طريقةٍ أفضلُ للتعامل مع القضية. إن الموقف متأزِّمٌ ولكن ليس ميئوسًا منه. فحتى في هذه اللحظة، إذا استطعنا أن نعرفَ على وجه التحديد مَن منهم أخذها، فمِن المُمكن جدًّا ألا تكون قد خرجَت مِن بين يديه. فالمسألة لهؤلاء الرجال في نهاية المطاف مسألة مالٍ، وأنا مدعوم مِن وزارة الخزانة البريطانية. فإن كانوا يَعرضونها للبيع، فسأشتريها، حتى لو كلَّفنا الأمر بنسًا إضافيًّا على ضريبة الدخل. ومِن الجائز أن يكون الرجل مُحتفظًا بالوثيقة ريثَما يرى مقدارَ ما سيدفعه هذا الفريق قبل أن يُجرِّب حظه مع الفريق الآخَر. وليس هناك مَن هو قادرٌ على لعب مثل هذه اللعبة الوقحة سوى أولئك الثلاثة: أوبرشتاين، ولا روثييه، وإدواردو لوكاس. سألتقي كل واحد منهم.»

ألقيتُ نظرة سريعة على الجريدة الصباحية التي بين يديَّ.

وقلتُ: «أتقصد إدواردو لوكاس القاطن في شارع جودولفين؟»

«نعم.»

«لكنك لن تُقابله.»

«ولِمَ؟»

«لقد قُتلَ في منزله ليلة أمس.»

كثيرًا ما أدهشني صديقي على مدى مُغامراتنا معًا، حتى إنني قد انتابني شعورٌ بالنشوة عندما أدركتُ دهشته التامة بهذا الخبر. فراح يُحدِّق في ذهول، ثم انتزع الجريدة من يدي. كانت هذه هي الفقرة التي كنتُ مشغولًا بقراءتها عندما هبَّ من كرسيه:

جريمة قتل في وستمنستر

ارتُكِبت أمسِ جريمةٌ ذات طبيعة غامضة في ١٦ شارع جودولفين، في واحد من صفوف المنازل المنعزلة القديمة الطراز التي تعودُ إلى القرن الثامن عشر، الواقعة بين النهر والكنيسة، تحت ظلِّ برج قصر وستمنستر العظيم تقريبًا. كان السيد إدواردو لوكاس يسكن هذا المنزل الراقي — بالرغم من صِغَر حَجمه — منذ بضع سنوات، وكان معروفًا بين أوساط المجتمع بفضل شخصيته الجذابة، ومكانته المرموقة التي استحقَّها عن جدارةٍ؛ لكونه واحدًا من أفضل المُغنِّين الصادحين الهواة في البلاد. والسيد لوكاس رجل عَزَب، في الرابعة والثلاثين من عمره، ويتألَّف منزله من السيدة برينجل، وهي مدبِّرة منزله المسنَّة، وميتون خادمه الخاص. هذا ومن عادة السيدة أن تأوي إلى فراشها مبكرًا، وهي تنام في الدور العُلوي من المنزل. أما الخادم فكان خارج المنزل في المساء في زيارةٍ لأحد أصدقائه في منطقة هامرسميث. لذا كان السيد لوكاس بمفرده في المنزل من الساعة العاشرة. ولمْ يتَّضح بعدُ ما الذي جرى خلال تلك الفترة، ولكنَّ ضابطَ الشرطة باريت لاحَظَ أثناء مروره بشارع جودولفين قبل الثانية عشرة بربع الساعة أن باب المنزل رقم ١٦ كان مُواربًا، فطرَقَ البابَ لكنْ لمْ يُجِبْه أحد. وعندما رأى ضوءًا في الغرفة الأمامية تقدَّمَ ناحيةَ الممر ثم طرَقَ البابَ ثانيةً، ولكن دون أن يتلقى أيَّ رد؛ ومِن ثمَّ دفع الباب ودخل. كانت الغرفة في حالة من الفوضى العارمة؛ إذ تكدَّس الأثاث كله في واحد من جوانب الغرفة، وكان ثمة كرسي واحد ملقًى على ظهره في منتصفها، وإلى جوار هذا الكرسي كان صاحبُ المنزل السيئُ الحظ مُلقًى على الأرض وهو لا يزال ممسكًا بأحد قوائم الكرسي. كان الرجل مَطعونًا في القلب، ولا بدَّ أنه تُوفيَ في الحال. وكان السلاح الذي ارتُكبت به الجريمة خنجرًا هِنديًّا مقوَّسًا اجتَذَبه القاتل مِن مجموعة تذكارية من الأسلحة ذات الطراز الشرقي كانت تُزين أحد الجدران. ويبدو أنَّ الجريمة لمْ تُرتكَب بدافع السرقة؛ إذ لم يكن ثمَّة محاولة لإخراج المحتويات القيِّمة التي كانت في الغُرفة. لقد كان السيد إدواردو لوكاس ذا شُهرة وشعبية واسعتَيْن للغاية، وسيتسبَّب موته بهذه الطريقة العنيفة والغامضة في أسًى مُضنٍ وتعاطُف شديد بين دائرة أصدقائه الواسعة الانتِشار.

بعد صمت طويل تساءل هولمز قائلًا: «حسنٌ يا واطسون، ماذا تَفهم من هذا؟»

«إنها لَصدفة غريبة.»

«صدفة! ها هو ذا أحد الرجال الثلاثة الذين اشتبَهنا في تورُّطهم في هذه الواقعة، وها هو يموت ميتة عنيفة خلال الساعات نفسها التي اكتشفنا فيها وقوع تلك الواقعة. إنَّ الاحتمالات المنافية لكون ذلك صدفةً لَهائلةٌ، ولا يُمكن لأي عددٍ أن يُعبِّر عن ضخامتها. لا يا عزيزي واطسون، إن الحدثين متصلان، «لا بد» أنهما متصلان، ودورُنا هو كشف الصلة بينهما.»

«ولكن لا بد أن الشرطة الرسمية تَعرف كل شيء الآن.»

«إطلاقًا. إنهم يعرفون كل ما شهدوه في شارع جودولفين، ولكنهم لا يَعرفون — ولن يعرفوا — شيئًا عما حدث في وايتهول تيراس. نحن فقط مَن نَعرف كلا الحدثَين، ونستطيع تتبُّع العلاقة بينهما. وثمة نقطة واضحة كان مِن شأنها، على كل حال، أن تُحوِّل شكوكي ناحية لوكاس. إن شارع جودولفين في وستمنستر لا يَبعُد عن وايتهول تيراس سوى دقائق سيرًا على الأقدام. والعميلان السريان الآخران اللذان ذكرتُ اسميهما يعيشان في أقصى منطقة ويست اند؛ لذا فقد كان إقامة علاقة أو استقبال رسالة من سكان بيت وزير الشئون الأوروبية أكثر يُسرًا بالنسبة إلى لوكاس من الرجلَين الآخرَيْن. لعلها ملاحظةٌ صغيرة، ولكن عندما تنضغط الأحداث في ساعات قليلة هكذا، ربما يَثبُت أنها جوهرية. مرحى مرحى! ماذا لدينا هنا؟»

كانتِ السيدة هدسون قد أتَتْ حاملةً على صينية لها بطاقةَ تعريف لسيدةٍ ما. نظر إليها هولمز ورفع حاجبَيه، ثم ناولني إيَّاها.

وقال: «أخبري السيدة هيلدا تريلوني هوب أن تتفضَّل بالدخول.»

وبعد هنيهة ازدادت شقتنا المُتواضِعة شرفًا — فوق ما حظيَت به صباحًا — بدخول السيدة الأكثر جمالًا في لندن. سمعتُ كثيرًا عن جمال صُغرى بنات دوق مدينة بلمينستر، ولكن لم يَستَطِع أي وصف قيل في جمالها، ولا أي تأمُّل لصورها الفوتوغرافية الخالية من الألوان أن يُهيئني لمشاهدة السحر الرقيق الأغيد الساري في ذلك الوجه الرائع الفاتن وما يُزيِّنه من ألوان بديعة. ولكننا عندما رأينا وجهها في ذلك الصباح الخريفي، لمْ يكن جماله أولَ ما قد يُؤثِّر فيمَن يتأمله؛ فقد كانت وجنتاها جميلتَين، لكنَّهما كانتا شاحبتَين من الانفعال؛ وكانت عيناها لامعتَين، لكنه كان لمعان الحُمى؛ وكان فمها الرقيق مُطبقًا ومسحوبًا في محاولة منها لتمالُك نفسها. كان الرعب — لا الجمال — هو أول ما تبدَّى للأَعيُن عندما وقفتْ ضيفتُنا الفاتنة للحظة يحوطها الباب المفتوح كإطار الصورة.

«هل أتى زوجي إلى هنا يا سيد هولمز؟»

«نعم يا سيدتي، كان هنا.»

«أتوسَّل إليك يا سيد هولمز ألَّا تخبره بأنني جئتُ إلى هنا.» فانحنى هولمز إذعانًا لمَطلبها في فتور، وأشار إلى السيدة أن تتخذ لنفسها مقعدًا.

«إنكِ تضعينَني في موقف حَرِج جدًّا يا صاحبة العصمة. أرجو أن تتفضَّلي بالجلوس وتُخبريني بما تُريدين؛ ولكنَّني أعتذر، فلن أستطيع أن أعطيكِ أي وعد غير مشروط.»

اندفعتْ عبر الغرفة وجلست مُوليةً ظهرها إلى النافذة. كان لها سيماء الملكات، من طول القامة، والرشاقة، والأنوثة الطاغية.

قالت ويداها تتشابَكان أثناء حديثها تارةً وتتجافيان تارةً أخرى في قفازَيهما الأبيضَين: «سيد هولمز، سوف أتحدَّث معك بصراحة على أمل أن يَدفعك هذا للحديث معي بصراحة أيضًا. إن بيني وبين زوجي ثِقَة كاملة في كل الأمور عدا أمر واحد، وهو السياسة؛ فشَفَتاه مُغلَقتان بإحكام في هذا الأمر، ولا يُخبرني بأي شيء. ولكني علمتُ الآن أنه قد وقَعَ في بيتِنا ليلة أمس حدثٌ من أشد ما يَبعث على الأسى. لقد علمتُ أن ثمة ورقةً ما قد اختَفَت. ولكن لأنَّ الأمر مُتعلِّق بالسياسة؛ يرفض زوجي أن يَمنحني ثقته الكاملة ويأتَمنَني على سرِّه. ولكن من الضروري الآن — وأقول من الضروري — أن أفهم الأمر برمَّتِه. وأنت الشخص الآخر الوحيد، بخلاف هذَين السياسيَّين، الذي يعرف الحقائق كاملة؛ ولهذا أتوسَّلُ إليك يا سيد هولمز أن تُخبِرَني بما حدث بالضبط وبما سيترتَّب عليه. أخبرني بكل شيء يا سيد هولمز. لا تدَعْ مُراعاتِك لمصالح عميلك تُبقِك صامتًا؛ لأنني أُؤكِّد لك أن مصالحه هذه — لو أنه فطنَ لذلك — كانت ستُخدَم على أكمل وجه لو أولاني ثقتَه غير منقوصة. ما هذه الورقة التي سُرقت؟»

«سيدتي، إن ما تَطلبينه منِّي مستحيلٌ حقًّا.»

فأخذت السيدة تَئِنُّ ووضعَت وجهَها بين يديها.

«ينبغي أن تعرفي أن الأمر مُستحيل حقًّا يا سيدتي. فإذا كان زَوجُكِ يرى أنه من المناسب ألَّا يُطلِعَكِ على هذا الأمر، فهل مِن المُمكن لي — وأنا الذي لمْ أعلم بحقيقة الأمور إلا بعد التعهُّد بحفظ أسرار المِهنة — أن أفشي ما امتنَعَ هو عن قوله؟ ليس من العدل أن تَطلُبي هذا. هو مَن ينبغي أن تتوجَّهي إليه بالسؤال.»

«لقد سألتُه بالفعل، وأتيتُ إليكَ باعتبارك ملاذًا أخيرًا. ولكنك تستطيع يا سيد هولمز — حتى إنْ لمْ تُخبرني بأي شيء محدَّد — أن تُسدي إليَّ خدمة عظيمة لو أوضحتَ لي أمرًا واحدًا.»

«ما هو يا سيدتي؟»

«هل مِن المُحتمَل أن يتأثَّر عمل زوجي في السياسة سلبًا بهذه الواقعة؟»

«في الواقع يا سيدتي، إذا لمْ يُصحَّح هذا الوضع، فلا شك أن عاقبته ستكون وخيمة للغاية.»

«آه!» وشهقتْ شهقة حادَّة كمَن كان يخشى شيئًا وتثبَّتَ من شكوكه.

قالت: «لديَّ سؤال آخر يا سيد هولمز. لقد فهمتُ من خلال عبارةٍ أفلتَتْ من لسان زوجي في غمرة صدمتِه الأولى بهذه الفاجعة أنه ربما يَنجُم عن ضياع هذه الوثيقة عواقبُ وخيمةٌ بالنسبة إلى الشأن العام.»

«لئن كان قال هذا، فأنا لا أَستطيع أن أُنكر ما قاله بالتأكيد.»

«وما طبيعة هذه العَواقب؟»

«كلا يا سيدتي، ها أنتِ ذي تسألينني ثانيةً أكثَرَ مما أستطيع أن أجيب.»

«إذن لن آخُذَ المزيد مِن وقتك. ولا أستطيع أن ألومكَ على رفضك الكلام بحرية أكبر من ذلك يا سيد هولمز، ومن جانبك أنت، فأنا متُأكِّدة أنكَ لن تُسيء الظن بي؛ لأنني أردتُ أن أشارك زوجي مخاوِفَه، حتى إن كان هذا على خلاف رغبتِه. وأرجوك مرةً أخرى ألَّا تقول شيئًا عن زيارتي تلك.» والتفتتْ ونظرت إلينا مِن عند الباب، والتقطتُ صورةً ذهنية أخيرة لهذا الوجه الجميل الخائف، وتلك العينَين المذعورتَين، وذاك الفم المُنقبِض، ثم ذهَبَت.

قال هولمز متبسمًا، عندما اختفى صوت حفيفِ ذيل ثوبها الآخِذ في الخفوت بإغلاق الباب الأمامي: «والآن يا واطسون، إن الجنسَ اللطيف من اختصاصِك، أخبرني عن حيلة السيدة الجميلة؟ ما الذي كانت تُريده بالفعل؟»

«إن كلامها لَواضح من دون رَيب وقلقها طبيعي تمامًا.»

«ولكن، تأمَّلْ هيئتها يا واطسون؛ طريقتها، انفعالها المَكبوت، تململها، إصرارها على طرح الأسئلة. وتذكَّر أنها من طائفة اجتماعية لا تُظهِر مشاعرها بهذه السهولة.»

«لقد كانت في شدة التأثُّر بلا شك.»

«وتذكَّرْ كذلك كيف كانت تُؤكِّد لنا بشدة غريبة أنه كان الأفضل لزوجها أن تَعرِف بكل شيء. فما الذي كانت تَقصده بهذا؟ ولا بد أنك لاحظتَ يا واطسون كيف أنها تحايلَتْ كي تجلس والضوء في ظهرها؛ فلم تكن تَرغب في أن نقرأ تعبيرات وجهها.»

«نعم، لقد اختارت الكرسي الوحيد في الغرفة.»

«ولكن دوافع النساء في غاية الغموض. لعلك تذكر تلك المرأة من مدينة مارجيت، التي اشتبهتُ بها من أجل السبب نفسه. تذكر كيف ثبتَ أن الحل الصحيح في قضيتها كان يَكمن فقط في أنها لمْ تضع بودرة التجميل على أنفها. كيف يمكنك أن تؤسِّس شيئًا على مثل هذه الرمال المتحرِّكة؟ إن أكثر أفعالهن تَفاهةً قد يعني الكثير، أو قد يقوم أشدُّ تصرُّفاتهن غرابةً على دبوسٍ أو بكرة من بكرات تَجعيد الشعر. استَفِق يا واطسون.»

«هل ستغادر المنزل؟»

«نعم، سوف أقضي النهار في شارع جودولفين مع أصدقائنا من رجال الشرطة. إن حلَّ قضيتِنا عند إدواردو لوكاس، وإن كان عليَّ الاعتراف بأنني ليس لديَّ أدنى فكرة عن الصورة التي قد يكون عليها. إنه لخطأ فادح أن يبدأ المرء في تفسير الأمور قبل أن يَعرف الحقائق. هلَّا تبقى منتبهًا يا عزيزي واطسون لتستقبل أيَّ ضيوف جُدد، وسوف أوافيك على الغداء إن استطعت.»

ظل هولمز طوال ذلك اليوم واليومين التاليين في حالة قد يُسمِّيها أصدقاؤه تكتُّمًا، بينما سيُسمِّيها الآخرون كآبة. كان يُتابع بين دخول المنزل والخروج منه، ويُدخِّن دون انقطاع، وكان حينًا يعزف نُتَفًا من الموسيقى على الكمان، أو يستغرق في التأمل، أو يلتهم الشطائر في غير ساعات الطعام المعتادة، وبالكاد كان يُجيب على الأسئلة العابرة التي كنتُ أطرحها عليه. كان واضحًا لي أن الأمور لا تسير على ما يُرام معه ولا مع التحقيق الذي يجريه. لم يكن يقول أي شيء عن القضية، ولمْ أعرف تفاصيل التحقيق، وما كان مِن القبض على جون ميتون — خادم المُتوفى — وما تلا ذلك من إطلاق سراحه إلا من الصحف. أعلنت هيئة التحقيق أن الوفاة ناجمة عن «جريمة قتل متعمَّدة»، لكن الجناة ظلوا مجهولين كالمُعتاد. ولم يُعرَف أي دافع لارتكاب الجريمة؛ فقد كانت الغرفة مليئة بالأشياء القيمة، إلا أن أيًّا منها لم يُؤخذ. ولم يعبث أحد بالمُستندات الخاصة بالضحية، والتي فحصتها الشرطة بدورها جيدًا واكتشَفَت منها أنه كان خبيرًا حقيقيًّا في السياسة الدولية، وكان ثرثارًا لا يَعرف الكلل، كما أنه كان يجيد أكثر من لغة على نحوٍ لافِت للنظر، وكان لا يَملُّ من كتابة الخطابات. وكان على علاقة وطيدة بأبرز السياسيِّين في دُوَل عدة. لكن لم تَحمل المستندات التي كانت تملأ أدراجه أي شيء مُثير. أما عن علاقاته بالنساء، فقد بدَت أنها كانت علاقات مفتوحة، ولكنها كانت سطحية أيضًا؛ فالكثير منهنَّ كنَّ مجرد معارف، والقليل منهنَّ كن صديقات له، بينما لم يَكُن من بينهن حبيبة. كانت عاداته مألوفة، ولم يكن سلوكه مؤذيًا؛ لذا كانت وفاته لغزًا بكل ما تَحمِل الكلمة من معنًى، وربما تبقى هكذا.

أمَّا عن اعتقال جون ميتون، الخادم، فقد كان نابعًا من اليأس بدلًا من عدم القيام بأي شيء مطلقًا. ولكن لم تَثبُتْ عليه أيُّ تهمة؛ إذ كان في زيارة لأصدقائه في هامرسميث في تلك الليلة، أي كان «غائبًا» تمامًا عند وقوع الجريمة. صحيحٌ أنه قد بدأ يَشقُّ طريقه عائدًا إلى المنزل في وقتٍ كان من المفترض أن يُمكِّنه من الوصول إلى وستمنستر قبل ساعةِ اكتشافِ الجريمة، ولكن تفسيره لذلك بقطعه جزءًا من الطريق سيرًا على قدمَيه بَدا واردًا بما يكفي بالنظر إلى ما يتمتَّع به الليل من جمال. لقد وصل فعليًّا في الساعة الثانية عشرة، وبدا مصدومًا لتلك المأساة غير المتوقعة. كان دومًا على علاقة طيبة مع سيده. وقد وُجِد كثير من متعلقات القتيل — وكان أبرزها علبة صغيرة من أمواس الحلاقة — في حَقائب الخادم، لكنه أوضحَ أنها كانت هدايا من الراحل، وهو ما استطاعت مُدبِّرة المنزل تأكيده. عمل ميتون في خدمة لوكاس مدة ثلاث سنوات. وكان من الملاحظ أن لوكاس لمْ يَصطحِب معه ميتون إلى داخل أوروبا؛ فأحيانًا ما كانت تَستغرِق زيارته لباريس ثلاثة أشهر متوالية، ولكن ميتون كان يُترَك لتولِّي مسئولية المنزل في شارع جودولفين. أما عن مدبرة المنزل، فلمْ تسمَع أي شيء ليلةَ الجريمة. وإذا كان أحد قد جاء لزيارة مخدومها، فلا بد أنه هو شخصيًّا الذي سمحَ له بالدخول.

وهكذا بقي اللغز متداولًا ثلاثة أيام، حسبما استطعتُ أن أتتبَّعه في الصحف. وإذا كان هولمز قد علم بالمزيد، فقد احتفظ به لنفسِه، ولكنه عندما أخبرني أن المحقق ليستراد قد أطلعه على أسرار بخصوص القضية، أدركتُ أنه كان على دراية بكل المُستجدَّات أولًا بأول. وفي اليوم الرابع ظهرتْ برقية طويلة مُرسَلة من باريس بدا أنها حلُّ القضية كلها:

توصَّلت شرطة مدينة باريس لتوِّها (بحسب صحيفة ديلي تليجراف) إلى اكتشافٍ مِن شأنه أن يرفع النقاب عن النهاية المأساوية للسيد إدواردو لوكاس، والذي لقيَ مصرعه من جرَّاء اعتداءٍ تعرَّضَ له ليلةَ الاثنين الماضي بشارع جودولفين، في وستمنستر. سيتذكر قُرَّاؤنا أن السيد الراحل قد وُجِدَ مطعونًا داخل حجرته، وأنه قد ثارت بعض الشكوك حول خادمه، ولكن الاتهام سقط بثبوت غياب المتَّهم لحظةَ وقوع الجريمة. وأمس أخبر خدَمُ سيدةٍ تُعرَف بمدام هنري فرناي — وتُقيم في فيلا صغيرة بشارع أوسترليتز في باريس — السلطاتِ أنها قد فقَدَت عقلها. وعند الفحص ظهر أنها أُصِيبت بالفعل بنَوع خطير ودائم من الجنون. وفي التحقيق اكتشفَت الشرطة أن مدام هنري فرناي كانت قد عادت يوم الثلاثاء الماضي فقط من رحلة إلى لندن، وأن ثمَّة دليلًا يربطها بالجريمة التي ارتُكِبت في وستمنستر. وقد ثبت من مضاهاة الصور الفوتوغرافية بما لا يدع مجالًا للشك أن السيد هنري فرناي وإدواردو لوكاس كانا في الواقع شخصًا واحدًا، وأن الراحل — لسببٍ ما — كان يعيش حياةً مزدوجةً في لندن وباريس. ومدام فرناي، والتي ترَجِع أصولها إلى جماعة الكريول العِرْقية، امرأةٌ سريعة الانفعال إلى أبعد الحدود، وكانت تُعاني في الماضي من نوبات انفعالية تنتج عن الغيرة كانت تتطوَّر إلى نوبات من الجنون المؤقت، ويُشتبَه في أنها قد أقدمتْ في واحدةٍ من هذه النوبات على ارتكابِ هذه الجريمة التي أثارت تلك الضجة في لندن. هذا ولمْ تُقتفَ تحرُّكاتها في ليلة الاثنين بعدُ، ولكن المؤكَّد أن امرأةً تتطابق أوصافها مع أوصاف مدام فرناي قد لفَتَتِ الأنظار بقوةٍ في محطة تشيرنج كروس بسبب ضَراوة هيئتها وعنف تصرُّفاتها، وذلك في صبيحة يوم الاثنين الماضي. ولهذا، فمِن المُحتمَل أن تكون قد ارتكبت الجريمة في أثناء إحدى نوبات الجنون هذه، أو أن يكون تأثيرُ الجريمة المباشِر هو ما دفع تلك المرأة التعيسة للجنون. وهي الآن عاجِزةٌ عن تقديم أيِّ وصفٍ مُترابط منطقيًّا لأحداث الماضي، ولا يُبصِر الأطباء أيَّ أمل في أن تعود إلى رشدها. وثمة دليلٌ على أنَّ امرأةً ما — ربما تكون مدام فرناي نفسها — قد شُوهِدت مساءَ يومِ الاثنين وهي تُراقِب منزل الراحل لبضعِ ساعات بشارع جودولفين.

قرأتُ هذا التقرير لهولمز بصوت عالٍ عندما انتهى من تناول فطوره، ثم سألتُه: «ما رأيك في هذا يا هولمز؟»

قال وقد نهض عن الطاولة وأخذ يَذرع الغُرفة جيئة وذهابًا: «عزيزي واطسون، إنك صبورٌ جدًّا وتحمَّلتَ مني الكثير، ولكن إذا كنتُ لمْ أقل لك شيئًا في الأيام الثلاثة الماضية؛ فذلك لأنه لا يوجد ما أقوله. حتى هذا التقرير القادم من باريس لن يُفيدَنا كثيرًا.»

«ولكنه حقًّا تقرير حاسم فيما يتعلَّق بوفاة الرجل.»

«إن وفاة الرجل مجرد حادثة — أو واقعة عَرَضية عديمة الأهمية — إذا ما قُورنت بمهمَّتنا الحقيقية، وهي اقتفاء أثر هذه الوثيقة وتجنُّب وقوع كارثة في أوروبا. ولمْ يحدث شيء مُهم في الأيام الثلاثة الماضية غير أمر واحد فقط، وهو أنه لم يَحدث أي شيء. إنني أتلقَّى تقاريرَ من الحكومة على مدار الساعة تقريبًا، وهم على يقينٍ مِن عدم وجود أي شيء يُشير إلى حدوثِ مشاكلَ في أيِّ مكانٍ بأوروبا. والآن، لو كان هذا الخطاب قد تداولَتْه الأيدي — لا، لا يُمكن مطلقًا أن يكون كذلك — ولكن إذا لمْ يكن قد جرى تداوله، فأين يُمكن أن يكون؟ وفي حوزة مَن؟ ولِمَ يتكتَّم عليه؟ هذا هو السؤال الذي يُرهِق عقلي كضربِ المطرقة. هل كان حقًّا من قبيل الصدفة أن يَلقى لوكاس مصرعه ليلةَ اختفاء الخطاب؟ وهل وصل الخطاب إليه أصلًا؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا يوجد بين أوراقه؟ ترى هل أخذَتْه زوجته المجنونة هذه معها؟ ولو كانت قد أخذته، فهل الخطاب في بيتها في باريس؟ كيف أستطيع أن أفتِّش عنه دون إثارة شكوك الشرطة الفرنسية؟ إنها قضية تَتساوى فيها خطورة القانون علينا بخُطورة المجرمين يا عزيزي واطسون؟ إننا نُواجِه الجميع بمفردنا، ولكنَّ قدرًا هائلًا من الأمور أمسى على المحك. ولَئِن تمكَّنتُ من إنهاء هذه القضية بنجاح، فسيُعَدُّ هذا دون شكٍّ تتويجًا لحياتي المهنية بتاجٍ من المجد. آه، ها هي ذي آخِرُ جولاتي على الجبهة!» ونظر نظرةً سريعة في الرسالة الموجَزة التي تلقَّاها وقال: «انظر! يبدو أن ليستراد اكتشف شيئًا مهمًّا. ارتدِ قبَّعتك يا واطسون، سنتمشَّى معًا إلى وستمنستر.»

كانت هذه أول زيارة لي لمسرح الجريمة؛ وهو منزلٌ مرتفعٌ أغبر ذو واجهةٍ ضيِّقة، يُشبه في قِدَمه القرنَ الذي برز فيه للوجود، جموده وطابعه الرسمي المتشبِّث بالشكليات. كان ليستراد يحدِّق إلينا عبر النافذة الأمامية بملامحه التي تُشبِه ملامح كلب البولدوج، وراح يُحيِّينا بحرارة بعدما فتح لنا البابَ شرطي ضخم وأدخلنا إلى المنزل. كانت الغرفة التي استُقبلنا فيها هي الغرفة التي ارتُكبت فيها الجريمة، غير أنه لمْ يتبقَّ منها أثر الآن سوى بُقعة دم كريهة المنظر غير منتظمة الشكل فوق السجادة. كانت هذه السجادة عبارة عن بساط صغير مربع الشكل في منتصف الغرفة، ومحاطٍ برقعة واسعة من خشب الأرضيات الجَميل القديم الطراز على هيئة ألواح مربعة شديدة اللمعان. كان فوق المدفأة مجموعة أسلحة تذكارية رائعة، استُخدِم أحدُها في تلك الليلة المأساوية. وكان بجوار النافذة مكتب فخم، كما كان كل جزءٍ من أجزاء الشقة من صور وسجاد وستائر ينمُّ عن ذوق مُترَف يكاد يقارِب أذواقَ النساء.

تساءل ليستراد قائلًا: «هل قرأتم الخبر الوارد من باريس؟»

أومأ هولمز.

«يبدو أن أصدقاءنا الفرنسيين أصابوا كبد الحقيقة هذه المرة. لا شكَّ أن الأمر كما يقولون بالضبط؛ فقد طرقتِ المرأةُ الباب — في زيارةٍ أظنها كانت مفاجِئةً؛ لأن القتيل كان يَحفظ أسرار حياته في وعاءٍ غيرِ سَرِب — وسمحَ لها بالدخول؛ فما كان ليستطيع أن يَتركها في الشارع. وقد أخبرتْه كيف تتبعتْ أثره، ثم راحتْ تُؤنبه، وأخذت الأمور يؤدِّي بعضُها إلى بعض، ثم وقعتْ نهايتُه سريعًا بذلك الخنجر الذي كان من اليسير عليها جدًّا أن تتحصَّل عليه. ومع ذلك لم يحدث كل هذا في لحظة واحدة، حيث دُفِعَت هذه المقاعد كلها إلى ذلك الجانب هناك، وكان الرجل مُمسِكًا بأحدها في يده وكأنه كان يُحاول أن يصدَّها به. إن الأمر واضح أمامنا تمامًا رأي العين.»

رفع هولمز حاجبَيه.

وقال: «وبالرغم من هذا أرسلتُم في طلبي؟»

«آه، نعم، هذا موضوع آخَر — مجرَّد أمر تافه، لكنه من النوعية التي تُثير اهتمامك — أمر شاذٌّ، كما تعلم، وهو ما قد تُسمِّيه أنت غريبًا. ولا علاقة له بالحادثة الرئيسية — ولا يمكن أن تكون له علاقة بها، حسبما يبدو.»

«ما هو إذن؟»

«حسنٌ، كما تعلم، عندما تُرتكب جريمة من هذا النوع، نكون حريصين أشدَّ الحرص على أن نُبقِي الأشياء في أماكنها. ولمْ يُنقل شيء من مكانه، ويوجد هنا ضابط منتدَب لذلك موجود ليلًا ونهارًا. لكن في صباح اليوم، بعدما دُفِن الرجل وانتهى التحقيق — وبخصوص هذه الغرفة تحديدًا — فقد ارتأينا أن بإمكاننا أن نُرتِّبها قليلًا. هذه السجادة. أتدري! إنها غير مُثبتة في الأرض، بل كانت موضوعة هناك وحسب؛ فكان لدينا ما يَستدعي رفْعَها من مكانها. ووجدنا …»

«نعم؟ وجدتم …»

تشنَّج وجه هولمز توجسًا.

«حسنًا، أنا متأكِّد أن ما وجدناه لمْ يكن ليَخطُر على بالك قط. أترى تلك البُقعة التي على السجادة؟ حسنًا، لا بد أن تكون السجادة قد امتصَّت قدرًا كبيرًا من الدم من خلالها، أليس كذلك؟»

«لا شك في هذا.»

«حسنًا، سوف تَندهش عندما تسمع أنه ما من بقعةٍ تُوازيها على الأرضية الخشبية البيضاء.»

«لا تُوجد بقعة! لكن لا بد أن …»

«نعم، هكذا كنتَ ستقول أنت. لكن تبقى الحقيقة أنه لا توجد أي بُقعة تضاهيها.»

وتناول ليستراد طرفَ السجادة بيده، وأخذ يقلِّبه ليبين أن الأمر كما قال بالفعل.

«لكن الجانب السفلي من السجادة ملطَّخ مثل جانبها الأعلى. لا بدَّ أن تكون قد تركت أثرًا.»

ضحك ليستراد ضحكة خافتة فرحًا بأنه استَطاع إرباك الخبير الشهير.

«والآن سأريك تفسير هذا. توجد بقعة ثانية بالفعل، لكنها لا تَتطابق مع البقعة الأخرى. انظُر بنفسك.» وبينما هو يتكلم قَلَبَ جانبًا آخَر من السجادة، فوجدنا هناك، يَقينًا، بقعة قرمزية كبيرة من الدم المسفوح فوق الطبقة المربَّعة البيضاء التي تكسو الأرضية العتيقة الطراز. فقال ليستراد: «ما رأيك في هذه يا سيد هولمز؟»

«مهلًا، الأمر بسيط تمامًا. لقد كانت البقعتان متطابقتين بالفعل، ولكن السجادة أُديرت. وكان من اليسير فعل هذا لأنَّها كانت مربعة وغير مُثبَتة بالأرض.»

«إن جهاز الشرطة الرسمي لا يحتاج منك أن تُخبره بأنه لا بد أن السجادة قد أُديرت يا سيد هولمز. فهذا واضح بما يكفي؛ فالبُقعتان تقع إحداهما فوق الأخرى إذا فُرِشت السجادة بهذه الطريقة. ولكن ما أريد أن أعرفه هو مَن الذي غيَّرَ اتجاه السجادة، ولماذا؟»

استطعتُ أن أرى من ملامح وجه هولمز الجامدة أنه كان يرتجُّ نتيجةَ انفعالٍ عميق في داخله.

قال: «اسمعني يا ليستراد، هل كان ذلك الشرطي الذي في المَمر قائمًا على حماية المكان طوال الوقت؟»

«نعم.»

«حسنًا، فَلْتأخذ بنصيحتي. فتِّشْه جيدًا، ولا تفعل هذا أمامنا. سوف نَنتظر هنا، وخُذه أنت إلى الغرفة الخلفية؛ فثمَّة احتمالٌ أفضل أن تحصل على اعترافٍ منه وأنتما بمُفردكما. سَلْه كيف جرُؤ على السماح للناس بالدخول وترْكِهم بمُفردهم في هذه الغرفة. لا تسأله إن كان قد فعل ذلك أم لا، بل تعامَلَ وكأنك متأكِّدٌ من الأمر. أخبره أنك «تعلم» بالفعل أن شخصًا ما كان موجودًا هنا. اضغط عليه. أَخبِره أن الاعتراف الكامل هو فرصته الوحيدة كي يَنال العفو. افعل ما أقوله لك بالضبط!»

صاح ليستراد: «أقسم لك، إن كان يعرف شيئًا، فسأَستَخرِجه منه!» واندفع باتجاه الردهة، وما هي إلا لحظات قليلة حتى دوَّى صوتُه المتنمر من الغرفة الخلفية.

وهنا صاح بي هولمز في لهفة محمومة قائلًا: «الآن يا واطسون، الآن!» وانفجرتْ كل قوة الرجل الشيطانية المُختبئة وراء ذلك الأسلوب الفاتر في نوبة نشاط مفاجئة. فانتزع البِساط من فوق الأرض، وفي لحظةٍ كان جاثيًا على يديه وركبتيه وأخذ يَخدش لوحَيِ الخشب المربعَيْن من تحته؛ فانحرف أحدهما جانبيًّا عندما أدخل أظافره تحت حافته، ثم انفتح إلى الوراء مثلما ينفتح غطاء الصندوق، وظهر تجويف أسود صغير تحته. وهنا أقحَمَ هولمز يده المتَّقِدة حماسًا داخل هذا التجويف، ثم انتزعها مزمجرًا بمرارة من أثر الغضب والإحباط؛ فقد وجد التجويف فارغًا.

«أسرع يا واطسون، أسرع! أَعِده إلى مكانه ثانية!» فأُعيد الغطاء الخشبي إلى مكانه، وسُوِّيَ البساط بينما كان صوت ليستراد يتردَّد في الممر. عندما دخل ليستراد وجدَ هولمز مستنِدًا في سأم على رف المدفأة، يكسوه الإذعان والصبر وهو يُحاول إخفاء تثاؤباته التي عجز عن كبحها.

«أعتذر لأنني جعلتك تنتظر يا سيد هولمز. أرى أنك ضقتَ ذرعًا بالقضية كلها. حسنًا، لقد اعترف الرجل بالفعل. تعالَ إلى هنا يا مكفيرسون. لتُخبر هذين السيدين عن تصرُّفك الأبعد من أن يُغتفَر.»

سار الشرطي الضخم على استحياءٍ حتى دخل الغرفة في انفعال وندم شديدَين.

وقال: «لمْ أتعمَّد أيَّ أذًى يا سيدي، أقسم لك. لقد أتت السيدة الشابة إلى باب المنزل أمس، وكانت قد أخطأَت وجهتها، هذا ما حدث. ثم رُحنا نتكلم. إنه لَشعورٌ موحش حين تتولى الخدمة هنا طوال اليوم.»

«حسنٌ، وماذا حدث بعد هذا؟»

«أرادَت أن ترى أين وقعت الجريمة؛ لأنها قرأتْ عنها في الجرائد، هكذا قالت. كانت شابة عذبة الحديث وفي غاية الاحترام يا سيدي، ولمْ أرَ بأسًا في أن أدعها تُلقي نظرة. وعندما رأت تلك العلامة التي على السجادة سقطتْ على الأرض، وتمدَّدتْ وكأنها ميتة؛ فأسرعتُ إلى الخلف وأحضرت بعض الماء، ولكن لمْ أستطع إفاقتها؛ ومن ثَمَّ خرجتُ مُتوجِّهًا إلى حانة آيفي بلانت القريبة من هنا لأُحضر بعضًا من البراندي، وعندما أحضرته كانت الشابة قد استعادتْ وعيها وانصرفتْ، أظنُّها خجلت من نفسها، ولمْ تجرؤ على مواجهتي.»

«وماذا عن تحريك هذا البساط من مكانه؟»

«حسنًا يا سيدي، لقد وجدته متجعِّدًا قليلًا عندما عدت، لا شك في هذا. لكن، كما تعلم، لقد سقطتِ المرأة عليه، وهو موضوع على أرضيةٍ مصقولة بلا شيء يُثبته في مكانه. وقد سويتُه بعد ذلك.»

قال ليستراد في هيبة: «هذا درسٌ لك لتعلم أنك لا تَستطيع خداعي أيها الشرطي مكفيرسون. لا شك أنك كنت تَعتقِد أنه لن يتسنَّى لأحد أبدًا أن يكتشف ما ارتكبته من إخلالٍ بواجباتك الوظيفية، ولكن كانت مجرد نظرة خاطفة لهذا البساط كافيةً لكي أَقتنع أنه قد سُمِح لأحدٍ ما بدخول الغرفة. ومن حُسْن حظِّك أيها الشرطي أن شيئًا لمْ يُفقَد، وإلَّا لَوجدتَ نفسك واقعًا في مأزِق عويص. أعتذر يا سيد هولمز أنني قد استدعيتُك من أجل شيء تافه كهذا، ولكني ظننتُ أن موضوع البُقعة الثانية التي لا تتطابق مع الأولى قد يثير اهتمامك.»

«بالتأكيد، لقد كان مشوِّقًا للغاية. مَا أتتْ تلك المرأة إلى هنا غير مرة واحدة أيها الشرطي، أليس كذلك؟»

«بلى يا سيدي، لمْ تأتِ سوى مرة واحدة فقط.»

«ومَن كانت هذه المرأة؟»

«لا أعرف اسمها يا سيدي، لكنها كانت قادمة تلبيةً لإعلان يطلب كاتبًا على الآلة الكاتبة، فأتت إلى العنوان الخطأ، وكانت شابة دمثة وجذابة جدًّا يا سيدي.»

«أكانت طويلة وجميلة؟»

«نعم يا سيدي؛ كانت شابة يافعة، وأعتقد أنه يُمكنك القول إنها كانت جميلة. وقد يقول بعضهم إنها كانت فائقة الجمال. وقد قالت لي: «أوه، أيها الضابط، دعني ألقِ نظرة!» كان أسلوبها، إذا جاز القول، فاتنًا مُتملِّقًا، ولمْ أرَ بأسًا في تركها تدخل رأسها وحسب عبر الباب.»

«كيف كانت ملابسها؟»

«مُحافِظةً يا سيدي؛ كانت تَرتدي عباءة طويلة تصل إلى قدميها.»

«ومتى كان هذا؟»

«كنا آنذاك في بداية وقت الغسق. كانوا يُوقدون مصابيح الشوارع عندما عدتُ بالبراندي.»

قال هولمز: «جيد جدًّا. هيا بنا يا واطسون، أظن أن لدينا عملًا أكثر أهميةً في مكان آخَر.»

عندما تركنا المنزل بقيَ ليستراد في الغرفة الأمامية، بينما فتح لنا الشرطي التائب الباب لكي نغادر. واستدار هولمز وهو على عتبة الباب وكان شيءٌ ما في يده. فحدَّق إليه الشرطي في اهتمام.

ثم صاح، والدهشة على وجهه: «يا إلهي، سيدي!» فوضع هولمز إصبعه على شفتَيْه، وأعاد يده مرةً أخرى إلى جيب صدرِه، ثم انفجر في الضحك ونحن نستدير ناحية الشارع، وقال: «ممتاز! هيا بنا يا صديقي واطسون، إنَّ الستارة على وشك الانفراج عن الفصل الأخير. وسوف تشعر بالارتياح حين تسمع أنه لن تكون ثمة حرب، وأن سعادة الشريف تريلوني هوب لن يُعاني من عقبة في مسيرته المهنية المرموقة، وأن الملك الطائش لن يُعاقَب على طيشه، ولن تكون لدى رئيس الوزراء أزمة بخصوص الشأن الأوروبي عليه أن يعالجها، وأنه بقليل من البراعة وحُسْن التصرف من جانبنا، لن يُصاب أيُّ أحد بمثقال ذرة من أذًى بسبب ذاك الذي كان من المحُتمل أن يكون حَدَثًا في غاية البشاعة.»

امتلأتْ نفسي إعجابًا بهذا الرجل الرائع.

وصحتُ قائلًا: «لقد حللتَ القضية!»

«ليس تمامًا يا واطسون، لا تزالُ بعضُ النقاط غامضةً كالمعتاد. ولكن لدينا الكثير وإذا لمْ نَستَطِع الحصول على البقية فسيكون هذا خطأنا نحن. سوف نتجه مباشَرةً إلى وايتهول تيراس ونشعل فتيلًا في القضية.»

عندما وصلنا إلى مقر إقامة وزير الشئون الأوروبية، سأل شيرلوك هولمز عن السيدة هيلدا تريلوني هوب، فأدخلونا إلى حجرة الجلوس الصباحية.

قالت السيدة ووجهُها متورِّدٌ غضبًا: «سيد هولمز! إن تصرُّفك هذا لفي غاية الجور والبُعد عن النُّبل بلا ريب. وقد كنت أرغب، كما أوضحتُ من قبلُ، أن أُبقيَ زيارتي لك سرًّا، مخافةَ أن يظن زوجي أنني كنت أتدخل في شئونه. وبالرغم من هذا فإنك تُعرِّضني لفضيحةٍ بمجيئك إلى هنا ومن ثَمَّ إظهارك أن ثمة علاقاتِ عملٍ بيننا.»

«للأسف يا سيدتي، لمْ أجد بديلًا آخَر. لقد كُلِّفتُ باستعادة هذه الوثيقة البالغة الأهمية؛ ولهذا فلا بد لي أن أطلب منكِ، سيدتي، أن تَتفضَّلي وتُسلِّميني إياها.»

انتفضت السيدة واقفةً، وقد تلاشَت كلُّ نضرةٍ من وجهها الجميل في لحظة. كانت عيناها تلمعان — وبدأت تترنَّح — واعتقدتُ أنه سيُغشى عليها. وبجهدٍ جهيدٍ استجمعَتْ قواها بعد الصدمة، وراح ذهولٌ وغضبٌ شديدان يَطرُدان كل تعبير آخر من تعابير وجهها.

قالت: «إنك … إنك تُهينني يا سيد هولمز.»

«دعي عنكِ هذا يا سيدتي، فلا طائلَ من ورائه. أعطيني الخطاب.»

فأسرعتْ باتجاه الجرس.

وقالت: «سوف يُوصِلكما كبيرُ الخدم إلى الخارج.»

«لا تقرعي الجرس يا سيدة هيلدا، وإلَّا ضاع كل ما أبذله من جهودٍ مُخلِصة لتجنُّب وقوع فضيحة سُدًى. أعطيني الخطاب وسيُسوَّى كل شيء. إذا تعاونتِ معي، يُمكنني إصلاح كل شيء. أما إذا وقفتِ في طريقي، فلن أجد بُدًّا من كشف أمرك.»

وقفت مُنتصِبة في تحدٍّ وغرور، كهيئة الملوك، وثبَّتتْ عينيها في عينيه كأنما كانت تُريد قراءة ما يدور في أعماق نفسه. كانت يدها على الجرس، لكنها أحجمتْ عن قرعه.

«إنك تُحاول أن تخيفني. وليس من الرجولة في شيء يا سيد هولمز أن تأتي إلى هنا وتَسْتأسِد على امرأة. تقول إنك تعلم شيئًا ما، فما هذا الذي تعرفه؟»

«اجلسي أرجوكِ يا سيدتي؛ فسوف تُؤذين نفسك إذا سقطتِ هناك. ولن أتكلم حتى تَجلسي. أشكرك.»

«سوف أُمهلكَ خمس دقائق يا سيد هولمز.»

«دقيقة واحدة تكفي يا سيدة هيلدا. إنني أعلم بزيارتك لإدواردو لوكاس، وإعطائك إياه تلك الوثيقة، وعودتك البارعة إلى الغُرفة ليلةَ أمس، وأعلم كذلك بالطريقة التي أخذت بها الخطاب من المخبأ الذي تحت السجادة.»

حدَّقتْ فيه بوجهٍ شاحبٍ وابتلَعتْ ريقها مرتين قبل أن تتمكَّن من الكلام.

وأخيرًا صاحت قائلةً: «أنت مجنون يا سيد هولمز … مجنون!»

فأخرج من جيبه قطعة صغيرة من الورق المقوَّى. كانت عبارة عن وجه امرأة مُقتطَع من لوحة.

وقال: «لقد أخذتُ هذه ظنًّا مني أنها قد تكون مفيدة، وقد تعرَّف الشرطي عليها.»

فشهقتْ ولم يَلبث رأسها أن سقط إلى الوراء على الكرسي.

«اهدئي يا سيدة هيلدا. إن الخطاب معك، ولا يَزال إصلاح الأمر مُمكنًا. أنا لا أريد أن أتسبَّب لك في المشاكل. إن مهمَّتي تنتهي عندما أُسلِّم زوجك الخطاب المفقود؛ فتقبَّلي نصيحتي وكوني واضحةً معي؛ فهذه هي فرصتك الأخيرة.»

كانتْ شجاعتها مُبهرة. فعلى الرغم مما حدث، لمْ ترغَب في الاعتراف بهزيمتها.

«مرةً أخرى يا سيد هولمز، أنت واقع تحت تأثير وهمٍ سخيف.»

فنهض هولمز مِن مقعده.

قال: «أنا في شدة الأسف يا سيدة هيلدا. لقد بذلتُ ما في وسعي من أجلك، ولكني أرى أن كل ما فعلتُه كان دون جدوى.»

وقرع الجرس، فدخل كبير الخدم.

«هل السيد تريلوني هوب في البيت؟»

«سيَصل في الواحدة إلا الربع يا سيدي.»

فنظر هولمز إلى ساعته.

وقال: «لا يزال أمامنا ربع ساعة، جيد جدًّا، سوف أنتظر.»

ولمْ يكد كبير الخدم يُغلِق الباب خلفه حتى جثَتِ السيدة هيلدا على ركبتَيها عند قدمَيْ هولمز، ويداها ممدودتان، ووجهُها الجميل مرتفعٌ لأعلى وقد بللته الدموع.

أخذت تتوسَّل إليه، في نوبة محمومة من التضرع: «أرجوك، اعفُ عني يا سيد هولمز! اعفُ عني! أتوسل إليك، لا تُخبِره! إنني أحبه جدًّا! ولم أكن أرغب في إفساد حياته ولو بمِثقال ذرة، وأنا أعرف أن هذا سوف يَفطر قلبه النبيل.»

أنهض هولمز السيدة، وقال: «أنا ممتنٌّ لكِ يا سيدتي أنكِ قد عُدتِ إلى رشدك حتى ولو كان هذا في اللحظة الأخيرة! ليس لدينا وقتٌ نُضيِّعه. أين الخطاب؟»

هرولتْ باتجاه مكتبٍ ما، وفتحتْه، وسحبتْ منه مظروفًا طويلًا أزرق.

وقالت: «ها هو ذا يا سيد هولمز. ليتَني ما رأيته قط!»

تمتم هولمز قائلًا: «كيف يُمكننا إعادته؟ بسرعة، بسرعة، لا بد أن نفكر في طريقةٍ ما! أين خزينة حفظ الأوراق الرسمية؟»

«لا تزال في غرفة النوم.»

«يا للحظ السعيد! أسرعي يا سيدتي، أحضريها إلى هنا!»

وبعد لحظاتٍ جاءتْ وفي يدها صندوق أحمر مسطحٌ.

«كيف فتحتِه من قبلُ؟ هل تملكين نسخةً من المفتاح؟ نعم، بالطبع تملكين نسخة. فَلْتفتحِيه!»

أخرجت السيدة هيلدا مفتاحًا صغيرًا من صدر ثيابها، وفتحت الصندوق الذي كان مكدَّسًا بالأوراق. فأقحم هولمز المظروف الأزرق في وسطها، بين صفحات مُستنَد آخر. وأُغلق الصندوق، وقُفل بالمفتاح، ثم أُعيد إلى غرفة النوم.

قال هولمز: «نحن الآن مُستعدُّون لاستقباله، لا يزال أمامنا عشر دقائق. إنني مُستعِدٌّ لفعل أي شيء لسَتْر أمرك يا سيدة هيلدا. وفي المقابل ستُمضين الوقتَ المتبقي في إخباري بصراحةٍ عن الغاية الحقيقية من وراء هذه المسألة الغريبة.»

صاحت السيدة باكية: «سوف أُخبرك بكل شيء يا سيد هولمز. آهٍ يا سيد هولمز، لَأهون عليَّ أن أقطع يميني قبل أن أتسبَّب له في لحظة أسًى واحدة! ما مِن امرأةٍ في لندن كلها تحب زوجها مثلي، ولكن لو عرَفَ بما فعلتُه — أو بما أُجبرتُ على فعله — لما سامحني أبدًا. فمقامه وسُمعته أعلى من أن يستطيع نسيان أو مسامحة هفوات الآخرين. ساعِدني، يا سيد هولمز! إن سعادتي وسعادته وحياتنا نفسها صارَت على المحك!»

«أسرعي يا سيدتي، الوقت يداهمنا!»

«لقد بدأ الأمر برسالةٍ كتبتُها أنا يا سيد هولمز، رسالةٍ طائشةٍ كتبتُها قبل زواجي، رسالةٍ حمقاء من فتاةٍ عاشقةٍ مُتهوِّرة. ما كنتُ أقصد وقوعَ أذًى، ولكن كان من الممكن أن يَعُدَّها هو إثمًا. ولو كان قرأ هذه الرسالة، لَانهارت ثقتُه بي إلى الأبد. لقد مرت سنوات منذ كتبتُها، وظننت أن الأمر كله قد صار طيَّ النسيان. وأخيرًا عرفتُ من هذا الرجل، لوكاس، أنها قد وقعتْ في يده، وأنه سوف يُطلِع زوجي عليها. توسلت إليه أن يكون رحيمًا. فقال إنه سوف يعيد إليَّ رسالتي في حال أحضرتُ له وثيقةً معينة وصفَها لي موجودةً في صندوق حفظ الأوراق الرسمية الخاص بزوجي. وكان هناك جاسوس في الوزارة يعمل لحسابه هو الذي أخبره بوجودها. وقد أكد لي أنه لن يُصيبَ زوجي أيُّ أذًى من جرَّاء ذلك. ضع نفسك مكاني يا سيد هولمز! ماذا كان عليَّ أن أفعل؟»

«أطلِعي زوجك على سرِّك.»

«لا أستطيع يا سيد هولمز، لا أستطيع! فقد بدا الأمر — من جهةٍ — سيتسبَّب في دمارٍ حتمي؛ ومن جهة أخرى، بقدر ما يبدو الأمر كارثيًّا أن أسرق مُستندات زوجي، لكنني لم أستطع فهْمَ عواقب أمرٍ سياسي كهذا، أمَّا فيما يتعلق بأمور الحب والثِّقة، فقد كانت العواقب واضحة تمامًا لي. وقد فعلتُها يا سيد هولمز! أخذتُ طبعةً من مفتاحه على قطعة من الشمع، وبواسطتها زوَّدني هذا الرجل لوكاس بنسخة من المفتاح. ففتحتُ صندوق زوجي، وأخذتُ المستند، ثم أخذته إلى شارع جودولفين.»

«وماذا حدث هناك يا سيدتي؟»

«طرقت الباب كما اتفقنا، وفتح لي لوكاس. فتبعتُه إلى غرفته، وتركتُ باب الردهة مواربًا خلفي؛ خوفًا من أن أكون بمفردي مع الرجل. أذكر أنني عندما دخلتُ، كانت ثمة امرأةٌ خارج المنزل. وقد انتهى موضوعنا سريعًا؛ فقد كانت رسالتي على مكتبِه؛ فسلمتُه الوثيقة، وأعطاني الرسالة. وفي هذه اللحظة كان ثمة صوتٌ عند الباب، ثم وقْعُ أقدامٍ في الرواق. فأسرع لوكاس بقلب البساط، وأقحم الوثيقةَ في مخبأٍ تحتها، ثم غطَّاه بالبساط.

أما ما حدث بعد ذلك فكان أشبه بحلم مُفزع. أتذكرُ وجهًا عابسًا ثائرًا، وصوتَ امرأةٍ تصرخ بالفرنسية قائلةً: «لم يذهب انتظاري أدراج الرياح. أخيرًا، أخيرًا وجدتُك معها!» ثم وقع صراعٌ عنيف. رأيتُ في يده كرسيًّا، وفي يدِها سكينًا لامعًا، فأسرعتُ بالهروب من هذا المكان المرعب، وركضتُ خارجةً من المنزل، ولمْ أعلم بالعاقبة المروِّعة لما حدث إلَّا في صباح اليوم التالي من الجريدة. شعرتُ في تلك الليلة بالسعادة؛ لأنني أخذتُ رسالتي، ولم أكن أعلم بعدُ بما سيَجلِبُه المستقبل.

وفي صباح اليوم التالي أدركتُ أنني لم أفعل شيئًا سوى أن استبدلتُ بمشكلة مشكلةً أخرى؛ فقد تسرَّبتْ لوعةُ زوجي على ضياع مستنده إلى قلبي. وجاهدتُ أيما جهاد حتى أمنع نفسي من الركوعِ عند قدمَيه في الحال وإخبارِه بما فعلت. ولكنْ، مرةً أخرى، كان ذلك سيَعني اعترافًا بالماضي. وأتيتُ إليك في ذاك الصباح لكي أفهم بشاعةَ جريمتي كاملةً. ومن لحظةِ أن أدركتُها، توجَّهَ عقلي بكامله إلى فكرة واحدة، وهي استعادة الوثيقة الخاصة بزوجي. لا بد أنها لا تزال هناك حيث وضعها لوكاس؛ لأنها أُخفيَت قبل أن تدخل هذه المرأة المخيفة الغرفة. ولولا مجيئُها لما عرفتُ مكان مخبَئه. أمَّا كيف استطعتُ دخول الغرفة، فقد ظللتُ أراقب المكان على مدى يومَين، ولكن الباب لمْ يُترك مفتوحًا قط. وأمس أجريتُ محاوَلةً أخيرة. أمَّا ما فعلته وكيف نجحتُ فيه، فقد علمتَه أنت بالفعل. وعُدتُ بالمستند معي، ولكني فكرتُ في تدميره؛ إذ لمْ أجد طريقةً لإعادته دون أن أُضطرَّ إلى الاعتراف بجريرتي لزوجي. يا إلهي، إنني أسمع وقْعَ خُطاه على الدَّرَج!»

اندفع وزير الشئون الأوروبية إلى داخل الغرفة في حماس.

وصاح قائلًا: «هل من أخبار يا سيد هولمز، هل من أخبار؟»

«لديَّ بعض الآمال.»

قال وقد أشرق وجهه: «آه، حمدًا للرب! سوف يتناول رئيس الوزراء غداءه معي، فهلَّا تُشركه فيما لديك من آمال؟ إن لديه أعصابًا من حديد، وبالرغم من هذا فأنا أعرف أنه لم يَذُقِ النوم إلَّا نادرًا منذ وقوع هذا الحدث المريع. جيكوبس، هلَّا طلبتَ من رئيس الوزراء أن يتفضَّل بالصعود إلى هنا؟ أمَّا أنتِ يا عزيزتي، فأنا أرى أن هذا أمرٌ من أمور السياسة. سوف نَلحق بكِ بعد قليل في غرفة الطعام.»

كان رئيس الوزراء يَكبتُ انفعالاته، ولكنني أدركتُ من بريق عينَيه واختلاجات يدَيْه ذات العظام الناتئة أنه كان يشارك زميلَه الشاب حماسه.

«أرى أن لديك ما تُخبرنا به يا سيد هولمز، أليس كذلك؟»

فأجابه صديقي قائلًا: «لا شيء يُذكَر مطلقًا حتى الآن، لقد بحثتُ في كل مكان يُحتمَل أن تكون الوثيقة فيه، وأنا واثقٌ أنه ما من شيءٍ تُخشى خطورته.»

«ولكن هذا لا يكفي يا سيد هولمز. لا يُمكننا أن نعيش إلى الأبد فوق فوَّهة ذلك البركان. لا بد أن نضع أيدينا على شيء مؤكد.»

«آملُ أن أحصل عليه. وهذا سبب وجودي هنا. فكلَّما فكرتُ في الأمر، ازدادت قناعتي أن الخطاب لمْ يبرح هذا المنزل مطلقًا.»

«سيد هولمز!»

«لو كان قد غادرَه، لَصار أمرُه الآن مذاعًا لا محالة.»

«ولكن لِمَ قد يأخذه أحد من أجل أن يَحتفظ به في بيته؟»

«لا أعتقد أن أحدًا قد أخذه.»

«فكيف غادر صندوق حفظ الأوراق إذن؟»

«لا أعتقد أنه غادر صندوق حفظ الأوراق على الإطلاق.»

«سيد هولمز، هذا مزاحٌ في غير وقته بالمرة. أؤكد لك أنه قد غادَرَ الصندوق.»

«هل فحصتَ الصندوق منذ صباح يوم الثلاثاء؟»

«لا، لمْ يكن هذا ضروريًّا.»

«من الجائز أن تكون غفلتَ عنه وهو موجود.»

«مستحيل، غير معقول.»

«لكنني غير مُقتنِع بهذا؛ فمثل هذه الأمور تحدث حسب علمي. أعتقد أنَّ في الصندوق بعض الأوراق الأخرى. من الممكن إذن أن يكون الخطاب قد اختلط بها.»

«لقد كان فوق الأوراق كلها.»

«ربما يكون أحدهم قد رجَّ الصندوق فأبدلَ مكان الخطاب.»

«لا، لا؛ لقد أخرجتُ كل ما كان به.»

قال رئيس الوزراء: «من اليسير قطعًا أن نقف على حقيقة الأمر يا هوب. فَلْنُحضِر صندوقَ حفظ الأوراق إلى هنا.»

دقَّ الوزير الجرس.

وقال: «جيكوبس، أحضر صندوق حفظ الأوراق الخاص بي. تلك مضيعة هزلية للوقت، ومع ذلك، فإذا كان لن يُرضيَك غير هذا، فسوف يُنفَّذ. أشكرك يا جيكوبس؛ ضعْهُ هنا. إنني أحتفظ بالمفتاح دومًا في سلسلة ساعتي. ها هي ذي الأوراق، كما ترون. خطابٌ من اللورد مِرُو، تقريرٌ من السير تشارلز هاردي، مذكرةٌ دبلوماسية من بِلجراد، رسالةٌ عن ضرائب القمح الروسية والألمانية، خطابٌ من مدريد، رسالةٌ من اللورد فلاورز … يا إلهي! ما هذا؟ لورد بلينجر! لورد بلينجر!»

انتزع رئيس الوزراء المظروف الأزرق من يده.

وقال: «نعم، إنه هو … والخطابُ لمْ يُمسَّ. أُهنِّئك يا هوب.»

«أشكرك! أشكرك! يا له من عبء أُزِيحَ عن صدري. لكن هذا لا يُصدَّق … مُستحيل. سيد هولمز، إنك عبقري، أنت ساحر! كيف عرفتَ أنه هنا؟»

«لأنني تأكدتُ أنه ليس في أي مكان آخر.»

قال الوزير: «لا أصدق عينيَّ!» ثم أخذ يجري في جموح باتجاه الباب. وسمعنا صوته وهو على درجات السلم يقول: «أين زوجتي؟ لا بد أن أُخبرَها أن كل شيء أصبح على ما يرام. هيلدا! هيلدا!»

راح رئيس الوزراء ينظر إلى هولمز بعينَين لامعتَين.

وقال: «بربك يا سيدي، إن في هذا الأمر أكثر مما يَبدو للعين. كيف عاد الخطاب مرةً ثانية إلى الصندوق؟»

أشاح هولمز وجهه مُتبسمًا كيْما يتفادى النظرات الفاحصة الحادة المنبعثة من هاتَين العينَين الرائعتَين.

وقال: «نحن أيضًا لدينا أسرارنا الدبلوماسية.» وأخذ قبَّعته واتجه صوب الباب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤