الفصل الأول

ريعو

من هنا وإلى ما شاء الله سنحكي للقراء قصة بزوغ وسقوط قهوة كتكوت. وقهوة كتكوت، وإن كان لها شكل القهاوي المنتشرة في كل ركن في ربوع مصر، إلا أنها كانت بحقٍّ نموذجًا مصغرًا لمصر كلها، وهي دون القهاوي كلها كانت تغير جلدها عدة مرات في اليوم الواحد؛ في الصباح الباكر كان يتردد عليها بعض كتبة المحامين وجمع كثير من الفلاحين الذين ينتظرون النظر في قضاياهم أمام المحكمة. وفي الظهيرة كان يجلس عليها بعض الطلبة المزوغين من مدارسهم، وبعض عمال استوديو مزراحي، وهو يهودي إيطالي عمل مخرجًا بالسينما المصرية، وأحيانًا كان يتجمهر أمام القهوة بعض الصبية والشباب للفرجة على بعض الكومبارس الذين كانوا يترددون على القهوة حتى يحين دورهم في الوقوف أمام الكاميرا، وكان فقراء الجيزة ينظرون إلى هؤلاء الكومبارس نظرتهم إلى النجوم، وكان تلاميذ مدرسة ميلاد يصحبون معهم مصورين يحملون آلات عتيقة لها ستائر سوداء بالإضافة إلى جردل مملوء ماء لزوم التحميض. وفي ساعة المغربية كان يقصد القهوة جماعة من الموظفين — صغارًا وكبارًا — من العاملين في دوائر الحكومة، من درجة رئيس قلم ومدير إدارة.

وكان هؤلاء حريصين كل الحرص على ارتداء ملابسهم كاملة، مع الأكسسوار اللازم من مِنَشَّات وعِصِيٍّ بعضها كريز وبعضها أبنوس. وفي تلك الفترة التي تمتد من المغرب وحتى الحادية عشرة مساءً، كان الهدوء يخيم على القهوة، فلا صوت يعلو أكثر من اللازم، ولا درجة حرارة المناقشات ترتفع أكثر من الضروري. وعندما يغادر الموظفون قهوة كتكوت تشهد القهوة نوعًا آخر من الرواد؛ مجموعة من الأدباء والصحفيين، وهؤلاء تسبقهم جلبة وضوضاء، والسبب أن مجموعة من طلبة الجامعة كانوا يأتون مبكرين قبل حضور الأساتذة، وكان هؤلاء يبدءون المناقشة قبل بدء الجلسة، يصيحون ويصرخون ويسبون بعضهم بعضًا، وعندما يحضر الأساتذة كان الهدوء يعود إلى القهوة، ولكنه هدوء يختلف عن هدوء الموظفين. وكانت جلسة الأدباء تنتهي عند الفجر، ومع أن السهر كان ممنوعًا بعد منتصف الليل، إلا أن عساكر الدورية كانوا يشعرون بحاستهم السادسة أن هذه النوعية من الزبائن تختلف عن الزبائن الآخرين، وربما كانوا يعتبرونهم جزءًا من الحكومة، خصوصًا وأن جلستهم كان يتردد عليها بعض «اللواءات» في ملابسهم الرسمية، وكان المعلم كتكوت نفسه يبقى أيضًا في مكانه لا يتحرك وقد بدت عليه علامات الزهو لوجود هؤلاء السادة ضيوفًا على القهوة، وبالتأكيد فإن زهوه لم يكن سببه معرفته بأن هؤلاء الزبائن من الأدباء، ولكن لأنه كان يؤمن بأنهم من رجال المباحث. وبعد انصراف الأدباء وتلاميذهم من الطلبة كان العمال ينهمكون في تنظيف القهوة وغسيل الصواني والملاعق والأكواب. ومع ذلك كانت لا تخلو من زبائن آخرين، أبرزهم زوبة، وهي امرأة كانت لها شنة ورنة، وكانت أثيرة عند كبار تجار الماشية والحبوب، ثم تدحرجت بها الأحوال عندما تقدمت في السن، فأصبحت أثيرة لدى طلبة الجامعة الريفيين الذين جاءوا لتحصيل العلم في القاهرة، ثم تدحرجت أكثر حتى أصبحت مرغوبة عند طبقة الشيالين والعتالين والتباعين، وكانت تمارس الحب في سيارات النقل أحيانًا وعلى الرصيف في أغلب الأحيان، وكان من عادتها أن تسرح طول الليل في شارع الترماي وفي الشوارع المتفرقة من الميدان، فإذا ظهر ضوء الصباح لجأت إلى قهوة كتكوت فتشرب الشاي بالميزة، وتدخل في خناقة حامية مع الواد ريعو، ثم تُضطر إلى مغادرة القهوة بعد أن يلعن لها المعلم كتكوت «أباها»، ولكن زوبة لم تكن من الناس الذين يرعبهم الصياح، ثم إنها كانت تعرف المعلم كتكوت جيدًا وتعرف أنه رغم منظره المخيف إلا أنه كان من النوع الذي يحاول بالصوت إرهاب خصمه، فإذا لم يَخَف الخصم وأظهر ميلًا إلى العراك تحول المعلم إلى عجينة لينة وهشة وظهر على حقيقته؛ مجرد جَعجاع لا غير، ولذلك كانت أغلب خناقات زوبة والمعلم كتكوت تنتهي بطلب واحد شاي للست زوبة على حساب المعلم، الذي كان يتنازل ويجلس مع زوبة يذكرها بالأيام التي ولت والزمن الذي كان، وفي أثناء جلسة الصلح كان المعلم كتكوت يحكي كذبًا عن علاقته الطيبة مع زوبة، التي لم يكن لها وجود في أي يوم من الأيام، فقد كانت العلاقة بينهما متوترة، وكان المعلم في أعماقه يحقد عليها إلى حد بعيد؛ ففي أيام عز زوبة، حين كان يتخطفها التجار الأثرياء وأصحاب الوكالات وتجار الجملة في ساحل الغلال، كان المعلم كتكوت في أيام شبابه ذا شارب مفتول وصحة مش بطالة، ولكنه كان مجرد قهوجي، ولهذا السبب لم يتمكن من دخول دائرة عشاق زوبة، ولما كان المعلم كتكوت يرى نفسه أحق بزوبة من الآخرين، فقد بادلها احتقارًا باحتقار، وكان يتجاهلها عن عمد، حتى فوجئ ذات صباحٍ بدخولها القهوة تطلب كوب ماء مثلج، ودعاها المعلم إلى زجاجة قازوزة سباتس، ودعاها إلى الجلوس، ولما كان الوقت مبكرًا فقد مازحها المعلم ومازحته، وامتدح حسنها وجمالها، وشكرته زوبة، وتمادى المعلم وطلب لها شيشة، وانهمك في توليعها حتى أصبحت تمام التمام، ثم مد يده بالشيشة، فلما مدت يدها تجاهل اليد الممدودة ووضع الشيشة بين شفتيها ثم نزل بيده على صدرها البارز في حركة تبدو للغشيم أنه لا يقصدها، ولكن زوبة الأروبة دفعت يده بعيدًا وهي تلعنه وتلعن أباه، وخاف المعلم كتكوت من الفضيحة فأقسم برأس المعلم كتكوت الكبير أنه لم يقصد شيئًا على الإطلاق وأن يده اصطدمت بصدرها البارز دون إرادته، ومن يومها وحسك عينك لا يرتكب المعلم كتكوت أي خطأ مع زوبة.

وإذا كانت هذه السطور لمحات عاجلة عن قهوة كتكوت، إلا أنها كانت ضرورية قبل أن ندخل في صلب الموضوع، لكي يعرف القراء أن قهوة كتكوت وإن كان لها شكل القهاوي إلا أنها تختلف عن جميع القهاوي، فزبائنها ليسوا من نوع واحد أو لون واحد، وتأريخنا لها يبدأ في العام الذي سبق قيام الحرب العالمية الثانية، وإذا كانت الحرب العالمية قد نشبت في أوروبا، فقد أثرت بشدة على قهوة كتكوت في الجيزة وعلى العاملين فيها وعلى زبائنها المترددين عليها، وكان تأثيرها الأكبر على صبي القهوة «ريعو»، وهو رجل في الخامسة والثلاثين من عمره في هيئة ولد في الخامسة عشرة، كان ضئيلًا ونحيلًا ومصابًا بالهزال بسبب البلهارسيا وسوء التغذية، وكان بينه وبين المعلم كتكوت ما صنع الحداد، وبالرغم من ذلك لم يفكر ريعو في الاستقالة، وأيضًا لم يفكر المعلم كتكوت في طرده، ولعل حاجة المعلم كتكوت لريعو كانت أكبر من حاجة ريعو للمعلم كتكوت؛ إذ كان من عادة المعلم إذا تعكر دمه أو انحرف مزاجه أن يفش غله في الولد ريعو، كان أحيانًا يصرخ في وجه ريعو حتى تنتفخ عروقه ويتصبب العرق من جبهته، ثم يهوي عليه بالركلات حتى يهدأ ويصفو ويعود إلى حالته الطبيعية. وعندما قامت الحرب العالمية لم يشعر المعلم كتكوت بأي تغيير، فالميدان كما هو، وزبائن القهوة هم هم، والحياة تمضي في الحرب كما كانت تمضي قبلها، صحيح أن صفارات الإنذار تعوي أحيانًا، ولكن المعلم كتكوت تعلم بالتجربة أنها صفافير كدابة، فلا قنابل سقطت ولا شهداء سقطوا ولا جرحى نُقلوا للمستشفيات، ولذلك أعطى المعلم كتكوت ظهره للحرب وتفرغ للقهوة وللزبائن وللولد ريعو.

أما ريعو فقد غيرته الحرب كثيرًا، فبين الحين والآخر كان المعلم كتكوت يضبط مع ريعو بطانية جديدة أو خرطوشة سجاير أجنبية، ولم يهتم المعلم كتكوت كثيرًا بهذه الظاهرة، فهو يعلم أن الولد ريعو عِفريت، وربما وصلت إليه عن طريق عسكري إنجليزي، ولكن حدث بعد ذلك أن المعلم كتكوت فكر ذات يوم في إجراء بعض الإصلاحات في القهوة، فاستدعى أحد المهندسين وطاف به داخل القهوة، وبدأ المعلم رحلته إلى دورة مياه قديمة كان قد أغلقها لكثرة أعطالها وجسامة تكاليف إصلاحها، فكاد يُجَن عندما وقع بصره داخل الزنزانة على مخزنٍ عامر بكل أنواع متعلقات الجيش البريطاني؛ بطاطين أشكال وألوان وخراطيش سجاير أصناف وماركات، وانهال المعلم بالضرب على ريعو حتى كاد يقتله، واعتذر ريعو للمعلم لأنه لم يستأذن قبل استخدام دورة المياه المهجورة كمخزن، وأقسم المعلم كتكوت أنه سيقتله إذا لم يكشف له عن الحقيقة، واعترف ريعو بأن كل الموجود في القهوة يعود لحسين الجنايني أحد رجال الفتوة عبده الإنجليزي، ولما كان المعلم يعمل ألف حساب للفتوة عبده الإنجليزي فقد غطرش على المسألة، مع لفت نظر ريعو إلى عدم العودة إلى هذا العمل مرة أخرى، ولكن بعد مضي فترة قصيرة اكتشف المعلم أن الولد ريعو كذاب وأن البضاعة كانت تخصه ولا تخص أحدًا آخر، فأقسم المعلم على الانتقام وتلقين ريعو درسًا لا ينساه، ليس هذا فقط ولكنه استطاع أن يقنع ريعو أنه نسي المسألة تمامًا، وأنه أهمل عملية إجراء إصلاحات في القهوة، ويبدو أن ريعو انخدع بالفعل فعاد إلى استخدام دورة المياه المهجورة كمخزن، ولم تكد تمضي أيام حتى هبط ضابط المباحث على القهوة واتجه مباشرة إلى المخزن، وألقى القبض على ريعو الذي اختفى في السجن لمدة عام، وعندما عاد كان قد ازداد شحوبًا، ومع ذلك لم يتردد المعلم كتكوت في إعادته إلى عمله في نفس اللحظة، وريعو أيضًا أعلن قبوله للعمل في قهوة كتكوت في اللحظة نفسها، بالرغم من تأكده من أن المعلم كتكوت هو الذي وشى به لضابط المباحث. وكان ريعو إذا لامه أحدهم لقبوله العمل لدى المعلم كتكوت بعد الذي جرى كان يغمز بعينه ويقول: ما هي دي فرصتي عشان أقرصه قرصة تطلع بالدم.

ولكن الذين كانوا يسمعون تعليق ريعو كانوا يعلمون يقينًا أن ريعو كذاب وجبان وليس بوسعه أن يرد الضربة للمعلم، وأن قبوله العمل مع المعلم كتكوت هو قدر مفروض عليه لأنه لا يعرف مكانًا آخر يذهب إليه غير قهوة كتكوت، وكان ريعو يعلم في قرارة نفسه أنه لا يستطيع أن يؤذي المعلم كتكوت أو يثأر منه، ومع ذلك قال للناس، بعد موت المعلم كتكوت، الذي فارق دنيانا بعد أربعين عامًا من انتهاء الحرب العالمية: نفد بجلده أما أنا كنت مجهز له حتة خازوق.

وضحك الناس بالرغم من أنهم كانوا يؤدون واجب العزاء في السرادق المنصوب أمام القهوة، وبعضهم تمادى في السخرية بريعو وقال له أحدهم: طيب اعتقه لوجه الله عشان خاطرنا والمسامح كريم يا معلم ريعو.

المهم أن ريعو مات بعد المعلم بعامين اثنين فقط، ولكنه للعجب هجر القهوة وانهمك في تشكيل رابطة لعمال القهاوي، وجعل من نفسه رئيسًا يتقاضى عمولة من أصحاب القهاوي ونسبة من القهوجية. وكانت آخر إنجازاته في الحياة أنه طبع بطاقات عليها اسمه مسبوقة بلقب المعلم، ورقم تليفون الحاج سيد الجزار على أنه تليفون الرابطة.

وجرى على قهوة كتكوت ما يجري على كل شيء في الحياة، ماتت القهوة بعد موت صاحبها بأشهر قليلة، اختلف الورثة الذين لم يهتم أبوهم بتدريبهم على أي عمل غير عمل القهوة، وانتهزوا فرصة عرض أحد التجار عليهم خلوَّ رِجل مائة ألف جنيه، فتنازلوا له عن القهوة، مع أنهم كانوا يستأجرون القهوة وليست ملكًا لهم، وحل محل القهوة محل آخر ديكوراته تكلفت مئات الآلاف، محل أحذيةٍ الحذاءُ عنده بالشيء الفلاني، ولم يكن هذا غريبًا، ففي السنوات الأخيرة حلت الجزم محل الكتب والتحف والقهاوي، حتى أكاد أقول إن القاهرة تحولت إلى متحف كبير زاخر بكل أنواع الجزم ومن كل المقاسات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤