قمر

وذات يوم فُتحت البوابة فندَّ عنها صرير هائل، ونُفض الغبار عن أركان الدار ونوافذها وأبوابها.

وحمل إلى الخارج نفايات الحديقة والأعشاب والغصون الجافة. وذُهل الناس ومضَوا نحو الدار من البيوت والدكاكين، يشاهدون الخدم العاملين ويتساءلون. ألفنا على مدى العمر منظر حارتنا، وفي الوسط منها تقوم دار مغلقة نشير إليها عند اللزوم فنقول دار قمر، دون أن نفقه للاسم أي معنًى، كما نقول أم الغلام وأرض المماليك. ها هي الدار تُعدُّ من جديد للحياة، وها هم الخدم يذهبون ويجيئون، وها هو الحنطور يقدم وئيدًا حاملًا امرأةً عجوزًا منتقبة. وأحاط الناس بالحنطور، وارتفع صياح الغلمان، ولمَّا ظهرت العجوز مستندةً إلى خادمتَين، تطايرت كلمات مستهزئة، فغضبت المرأة ونظرت نحو الهازئين، وصاحت بصوت خلخلته الشيخوخة: يا غجر، أنا قمر!

عند ذاك اختفت الأسطورة ورجع التاريخ إلى مجراه، وراح نفر من الباقين من الزمان الأول يروون ما احتفظت به الذاكرة من الحوادث الماضية، وينتشلونها من بحيرة النسيان. كانت دار الحاج قمر أفخم دار في حارتنا، ولكنها تطالع الأعين بسور عالٍ حجري، تلوح من فوقه رءوس نخيل. وكان الحاج قمر أغنى أغنياء الحارة، وملك تجار المسابح والعِصي والنشوق المفتخر. واشتُهر الحاج بحب زوجته ورعايتها، وهذه بدورها أنجبت له أجمل طفلة في الوجود أسماها باسمه «قمر»، ولم ينجب غيرها لمرض أصابه؛ فازداد تعلُّقه بالصغيرة الجميلة. وكانت الطفلة تُرى وهي تلعب أمام الدار وهي مستقلة الدوكار مع أبيها. وكان لون بشرتها الأبيض الصافي، وسواد عينَيها وشعرها من أفتن مفاتنها. وظلَّت بهجةَ الأعين، وزاد الخيال حتى سرى إليها دفء الأنوثة، فحجزها أبوها خلف السور العالي، وتوارى نورها عن الأبصار. ويذهب الناس ويجيئون أمام البوابة القائمة تحت التمساح المحنط وهم يَحِنون شوقًا إلى الوجه الصبيح، ويتخيَّلون صاحبته وهي تنضج، وتستوي على عرش الجمال والأُبهة. وتأمَّلت أم حسين الخاطبة الحال، ولخَّصت الموقف في جملة قائلة: «عشاقها بالمئات، أمَّا خُطابها الصالحون فواحد أو اثنان.» وحصل كلام من أكبر تاجر ليمون، مُزكِّيًا ابنه زين للزواج من قمر، فلم يرفض الحاج قمر العرض، ولكنه أجَّل إعلانه حتى تبلغ قمر الثامنة عشرة من عمرها السعيد. وعُرف زين بالعريس الموعود، ولم يستطع أحد من عُشَّاقها ذوي الدخل المحدود أن يقلِّل من شأنه فسلَّموا للمقادير. لكن ظهر في الحارة في ذلك الوقت شاب غريب لفت الأنظار بقامته المتينة، وجلبابه الفضفاض، ولاسته المزركشة، وعصاه الغليظة. لم تُربكه الغربة، فشق طريقه بثبات إلى المقهى، وجلس إلى مائدة كأنما يجلس في داره، ولمَّا رأى تطلُّع الأعين إليه متسائلةً قال بهدوء: محسوبكم عنتر ابن المعلم كفتة.

وسرى اسم أبيه في الأعصاب مثل قُشَعريرة الحمى، هو رجل من أطراف الحي ذو سطوة قادرة وسمعة سيئة. وتساءل الناس عمَّا جاء به، وظهر أنه كان ينتظر عودة الحاج قمر إلى داره، فلمَّا عاد نهض من مجلسه وسار نحو الدار في ثبات للقائه.

لم يعرف أحد ما دار بين عنتر وقمر، ولكنهم خمنوا السبب.

وانتشر القلق بين أهل الحارة مثل وجع الأسنان. هل طلب عنتر قمر؟ هل تنتقل قمر من دار العز إلى بؤرة الفساد والشر؟ وقلق أيضًا شيخ الحارة المسئول عن أمن الحارة وراحة أهلها، وقابل الحاج قمر وسأله عمَّا يجري، فقال الحاج: طلب عنتر القرب مني فأجبته بوضوح أن فاتحتها مقروءة، وأني لا أرجع عن كلمة أعطيتها. وبقدر ما ارتاح شيخ الحارة تضاعف قلقه. وقرأ الحاج ذلك في وجهه فقال: إني أعرف أني رفضت ابن كفتة ولكني قدها.

ومرَّت حارتنا بفترة من التوجُّس والقلق. وكل إنسان أدرك أن زفة العروس ستشهد معركةً دامية، ولكن من ذا يقف أمام كفتة ورجاله؟

وأجاب الحاج قمر إجابةً ملموسة: أؤجِّر فتًى من فتيان أرض المماليك عُرف بشدة البأس.

فجاء لحراسة الدار هو وعدد من عصابته. وأيقن أهل حارتنا أنهم سيشهدون معركةً حاميةً بين كفتة وعرجون، وتنَّوا النصر لعرجون إكرامًا لحارتهم، وحبًّا في الجميلة التي علَّمتهم الحب.

وأعلن الحاج عن يوم الفرح، ومهَّد له بالمقرئين يتلون القرآن الكريم والمدائح النبوية. وكثرت الحركة وعمَّ النشاط، واقترب يوم الهنا والدم، ولكن النشاط باخ وهمد وفترت الهمة.

وهمس إمام الزاوية في أُذن شيخ الحارة: «في الجو غيم.»

اختفى نصف العمال، وسكتت التلاوة، واختفى الحراس الجدد وفي مقدمتهم عرجون، والحاج قمر لم يعد يُرى، وخلا مقعده في الوكالة. وإذا بصيوان ينبئ عن موت ربة البيت، ولم يظهر الحاج لا في الجنازة ولا في المأتم، وذاع أنه مريض لا يغادر الفراش.

ولم يمضِ أسبوع حتى لحق الرجل بزوجته.

أهو المرض الذي دهم الأسرة وفرحها؟

وكيف تواجه الجميلة قمر الحياة بمفردها؟

ولكن الدار أُغلقت، وتُركت مهجورةً خالية لا يخدمها أحد.

ثم عُرفت الحكاية دون أن يُعرف مصدرها. عرفت الحارة حقيقة مأساتها وهي أن الجميلة المعبودة اختفت فجأةً فلم يقف أحد على أثر لها. اختفت في نفس اليوم الذي اختفى فيه عرجون الذي جيء به لحراستها ليلة زفافها.

واجتاح الحارة غضب وحزن وقنوط لم تشعر بمثله من قبل، قالوا محال أن تكون أحبته أو هربت معه مختارة، لعله خطفها، أو لعله عمل لها السحر والشبشبة.

وشعرنا مع الغضب والحزن والقنوط بالعار، وراحت نُخبة من عُشَّاقها تبحث عنها، وتتابِع أخبارها، وتفكِّر في إنقاذها ما وجدوا الحيلة إلى ذلك. وعُرف أن عرجون استخلص لها حقها في الميراث بالمحكمة وأنه استولى عليه، وأنه أساء معاملتها، وجرح مشاعرها بالجنايات التي احترف ارتكابها. وقيل إن بعض عُشَّاقها من أهل حارتها حاولوا الهروب بها، ولكنهم لم يُوفَّقوا، ولم يُسمع عنهم بعد ذلك.

ودخل الزمن في المأساة كما يدخل في كل شيء، فمضت حرارتها في الانخفاض التدريجي، حتى اعتاد الناس اختفاءها، وألفوا تعاسة مصيرها. وأخذت تُنسى ويكبر عُشَّاقها ويموتون، حتى جاء جيل لا يكاد يعرف عنها شيئًا، جيل يعيش أمام دارها المغلقة دون أن تثير فيه أي عاطفة، أو تدعوه إلى أي تأمُّل. وأصبح مثوى الجميلة أثرًا ميتًا يدعونه «دار قمر»، كأنها كلمة واحدة خالية من أي معنًى.

وذات يوم دبَّت الحياة في الدار وما حولها. فُتحت البوابة ونُفض الغبار عن أركان الدار ونوافذها، وظهرت أرض حديقتها من الأعشاب والغصون الجافة والنفايات، وأقبل الناس من البيوت والدكاكين يتساءلون. وأفعمت أعين القلة المخضرمة بالحنين. وأقبل الحنطور يتهادى حتى وقف أمام الدار، وفي بطء شديد غادرته عجوز منقبة معتمدة على منكبَي امرأتَين. أحدقت بها الأبصار بين صمت وهمهمة. وارتفعت أصوات الغِلمان في سخرية واستهانة. وبدا أن المرأة غضبت فنظرت نحو مصدر السخرية، وصاحت بصوت خلخلته الشيخوخة: يا غجر، أنا قمر!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤