الطاحونة

كانوا ثلاثةً قيل إنهم خرجوا إلى الدنيا في يومٍ واحد. وحديث الأعمار يبوح بأسراره في حارتنا عند الحوار بين الأمهات والجارات في شتى المناسبات. ولعبوا معًا عند مشارف الميدان حتى بلغوا السادسة، عند ذاك حُجزت البنت لتصبح خفيةً وراء الجدران. واستمرَّ الصديقان في اللعب والتذكُّر. أمَّا رزق فيتذكَّرها كلما احتاجوا إلى ثالث في لعبة من الألعاب، وأمَّا عبده فحتمًا منذ تلك السن المبكِّرة كان يشعر بها حبيبةً للقلب على نحو ما. ومنذ تلك السن المبكِّرة أيضًا أدرك أن عليه أن ينتظر عشر سنوات قبل أن يحقِّق أمله المشروع.

وكان عبده من الذين يملكون، أمَّا رزق فممن لا يملكون. وتزاملا في الكتَّاب كما تزاملا في اللعب. وانقطع رزق عن التعليم بحكم فقره، وواصله عبده حتى نال الابتدائية. ومنذ ذاك الزمن البعيد ورزق يتشكَّل في وجدان عبده مثالًا فائقًا في القوة والجرأة والمهارة؛ فاحترمه وأُعجِب به وتبعه رغم فارق الغنى والفقر.

ولمَّا مات والد عبده حلَّ الفتى محل أبيه في مطحن البن الذي ورثه. وكان الأب قد درَّبه، كما أن العُمَّال القدامى أخلصوا له أيَّما إخلاص، ولكنه سرعان ما ضمَّ صديقه رزق إلى المطحن كمعاون له، وكان كل ما حصَّله كل منهما من التعليم كافيًا له في عمله. وتجلَّت ألمعيَّة رزق في متابعة العمل من شرائه ﮐ «بُنٍّ» أخضر، إلى تحميصه وطحنه وتعبئته وتوزيعه. وقال لأسرته مفسِّرًا قراره بتعيين رزق: أنا لا أجد الطمأنينة إلا معه.

ذلك حق. لم يتخلَّ عن خدمته قط؛ يدفع أي أذى الصبية، يسارع إلى نجدته كلما احتاج إلى نجدة، يسعفه بالرأي والمشورة. ولمَّا ضمَّه إلى المحل قال له: كن في العمل ما كنته في الحارة، عينَي وأذنَي ويدَي.

وفي وقت قصير استحق أن يُلقَّب بالوكيل. إنه الرقيب بين العُمَّال، الدائب على رعاية الطاحونة، وأنشط من قام بتوزيع البن في الدكاكين والمقاهي. يا له من طاقة لا تخمد. وأصبح هو لا يدري كبيرةً أو صغيرةً من محله إلا عن طريقه. بالمقارنة أصبح هو لا شيء والآخر كل شيء.

وكان ارتياحه لذلك أضعاف ضيقه به؛ لِمَا طُبع عليه من كسل وحب الحياة اليسيرة والميل إلى الاستمتاع بالسهر كل ليلة في المقهى أو الغرزة. وكان العملاء يقصدون رزق لعقد الصفات وكأنه مالك كل شيء. ولاحظ خال عبده ذلك وهو في غايةٍ من الاستياء، ولكن الشاب قال له: بكلمة واحدة مني يتغيَّر كل شيء. أريد أن تجري الأمور على ما تجري عليه. وأنا يا خالي أحب المال ولا أحب العمل، ورزق أمين، وهو هدية ربنا إليَّ.

ومضت الأمور في طريقها المرسوم حتى قال عبده لرزق يومًا: آن لي أن أفكِّر في الزواج قبل أن يسرقنا الوقت.

ولم يبدُ على رزق أنه فوجئ، وسأله: هل فاتحتَ أحدًا في الموضوع؟

– أنت أول من أُفاتحه فيما يُهمُّني.

– أحسنت؛ فالطريق المعتاد إلى الزواج هو أردأ الطرق، فدعني أتحرَّى بأسلوبي الخاص والله يهدينا سواء السبيل.

هكذا سلَّمه شئون قلبه ضمن اختصاصاته، ولم يكُن رأى ظريفة طيلة السنين إلا مرات معدودة، ولكنه لم يُحب من جنس النساء سواها، غير أنه قال كالمعترض: أسرتها طيبة، وحسنة السمعة، ولا حاجة بنا إلى التحريات.

– هذا كلام الناس الطيبين، ولكننا لن نخسر بالسؤال شيئًا.

وانتظر عبده وهو يزداد قلقًا وتوتُّرًا، ويتساءل في حنق: متى تنتهي تلك التحريات المشئومة؟ والتقت عيناه بعينَي صاحبه إذ هما في المقهى، فقرأ فيهما ما أثار خواطره وسأله: ماذا وراءك؟

فقال بحزن شديد: ليس خيرًا.

فهتف: يا خبر أسود، ماذا قلت؟

– هي الحقيقة للأسف.

– لكن ظريفة ملاك.

– إنها ليست ملاكًا.

فغمغم بعد تردُّد: أنا أُريد البنت.

فقال الآخر بادي الامتعاض: أنت حر.

وانطوى على نفسه يفكِّر ويفكِّر، ويتردَّد بين الإقدام والإحجام، وضاعف من تعاسته أن رزق اعتكف في بيته لمرض طارئ. وذات أصيل وهو منفرد بنفسه في المطحن ترامت إلى أذنه زغرودة، وجاءه عامل ليُخبره بأن رزق كتب على ظريفة في حفل خاص ونفر من الأهل.

وثار عبده ثورةً جعلته يبدو بين عُمَّاله كالمجنون حقيقةً لا مجازًا. وزاره قريب لرزق يحمل إليه اعتذاره وقوله إنه فعل ما فعل لينقذه من شرٍّ كبير كان حتمًا سيقع فيه. وضاعف الاعتذار من جنونه، وأعلن طرده من المطحن، وتوعده بشرٍّ من ذلك.

ولكن الذي حدث غير ذلك. وقال لي شيخ الحارة — وهو راوي قصة عبده ورزق وظريفة — إن عبده عاد مع الأيام إلى رشده، وغرق في عمله لا يدري ماذا يفعل، فاقتنع بانه لا غنى عن رزق، وعفا عنه وأعاده إلى مركزه السابق.

والأعجب من ذلك كله أنه فاجأنا ذات يوم بالزواج من أم ظريفة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤