معركة في الحصن القديم

عاد إلى الحارة في أول إجازة بعد فترة غياب غير قصيرة. وهمسَت امرأة: «ذهب يوم الكشف بجلبابه، وها هو يعود بالبدلة الكاكي. ما أجمله في البدلة الكاكي!» وحذاؤه الأسود الضخم لم يخفَ على أحد، ولا طربوشه الطويل. أجل نحُف، ولكن عوده اشتدَّ وصلب. اكتست بشرته بسُمرة غميقة من شمس الصَّحْراء. وقال عجوز سبق تجنيده: أمامه خمس سنوات سُخرة كسائر الجنود المساكين.

يوم دُعي للتجنيد كان من أيام الحارة الحزينة. هُرعَت أمه إلى شيخ الحارة وقالت له في ضراعة: «نحن في عرضك!» فقال لها الرجل: «قوانين الحكومة لا تجدي معها الشفاعة.» وأوصاها أن تذهب به إلى رجل مشهود له بالمهارة فيضمن له عاهةً تعفيه من القَبول يوم الكشف، ولكن الشاب رفض الفكرة وقال لأمه: إنه يفضِّل خدمة الجيش خمس سنوات عن عاهة تلتصق به طوال الحياة. هكذا قُبل جنديًّا بلا زغاريد.

ويوم المحمل احتفلت به الحارة كلها. احتلَّ الرجال قطاعًا من الطريق فيما يلي حي الشوام، وتكأكأت النسوة فيما بين الحمَّام والجامع. وخفتت ضجة الجماهير حين ترامت أنغام الموسيقى النحاسية، ثم أقبلت فرقة من المُشاة تتقدَّم الموكب، تسير أربعةً أربعةً واضعةً البنادق على المناكب. وظهر الشاب بين الجنود، جادًّا جدًّا بخلاف ما ألِفوه. ولمَّا مرَّ صفُّه أمام أهل الحارة من الجانبَين، تعالى الهتاف والزغاريد، ورفعوا أمه فوق عربة كارو وقفت عند جانب الطريق، وخفقت القلوب بالأفراح.

وعاد الشاب إلى حارته في الإجازة ليستمتع بشيء من الحرية والراحة. وعزمت أمه على ألَّا تضن عليه بشيء ولو باعت آخر أسورة في معصمها. وقال لأمه وهو يخلع ملابسه: حياة القشلاق فوق طاقة البشر.

فدعت له بالقوة والصبر، ثم قالت متشكية بدورها: وحياتنا في الحارة أصبحت مثل حياة القشلاق وأسوأ، ألم تسمع بما حصل؟

بلى قد سمع كلمات متناثرة، ولكنه لم يدرك أبعاد الحكاية، فواصلت أمه قائلة: لم يكن ينقصنا إلا العفاريت، ألم يكن في الناس الكفاية؟

الواقع أدرك الشاب أن الحارة تمر بمحنة. قدر رهيب حرَّك الشر في قلوب ساكني الحصن الذي يوجد بابه المغلق تحت القبو. وعلى غير عادة جاوزوا حدودهم في العبث، فقطعوا الطريق على كل من انفردوا به ليلًا، وملئوه رعبًا، فسقط منهم جرحى وهم يفرون من الهَول. استمع الجندي إلى حكايات الضحايا، وعاين الجراح والكسور، ثم قال بامتعاض شديد: ما يصح أن تعبث العفاريت بحارة مؤمنة.

فأيَّده جميع السامعين، وقال صوت: نحن في حاجة إلى بطل.

فهزَّ الحماس الشاب وقال: أنا لها!

فثارت ضجة وهتاف، وتحمَّس كل شخص باستثناء أمه، فأسكره الحماس وصاح متحديًا: أنا لها!

وانتظروا المغيب وقد تعلَّقت به الآمال. وانزوت أمه تبكي. وهبط المساء ذلك اليوم في هالة من التهاويل والأخيلة الخارقة. ووقف الجندي ممسكًا بعصًا أهداها إليه فتوة متقاعد. وتقدَّم من القبو يشق طريقه في زحمة الخلق، فعلت الضوضاء حتى غطَّت على تحذيرات أمه الباكية. وفي صوت قوي واحد صاحوا: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.» وفي ثبات ظاهر مرق الجندي من باب الحصن القديم. وأنصتوا بقلوب راجفة ودفنوا الهمسات في الصدور. ومال شيخ الحارة نحو الإمام وسأله: كيف تنتهي المعركة؟

فأجاب الإمام: الله يؤتي النصر من يشاء.

وندت من الداخل حركات عنيفة ارتعدت لها القلوب، ثم كان انفجار، تبعه صوت كالرعد، وانتشرت في جوف القبو أصوات دقٍّ وكسر وتمزُّق وزمجرة، ودار همس حار مع الأنفاس المضطربة: «الدقيقة بعام كامل. لو انهزم الحق، علينا أن نرحل عن الحارة. لولا حكمة ربنا ما أقدم الشاب على المعركة.»

وساد الصمت فجأة، وفُتح باب الحصن مرةً أخرى، فاقتحم صريره سكون الليل. وأمر شيخ الحارة بإشعال فوانيس الطوارئ، فاشتعلت وتراءت على أضوائها الوجوه الشاحبة، ولاح الجندي في الباب، فهتف الناس بجنون: «الله! الله!» وتقدَّم نحو الحارة يسير في مِشية عسكرية فأوسعوا له. وإذا بطابور من الأشباح يتبعه بنفس المِشية يسيرون أربعةً أربعة. ذُهل الناس وهم يرَون الطابور وهو يشغل سطح الحارة من القبو حتى مخرج الميدان. وتوقَّف الجندي، فتوقَّفوا وهم يتحرَّكون محلك سر. ظلُّوا يتحرَّكون هكذا حتى لم يجِد الناس مكانًا إلا لصق الجدران.

وألِف الناس الفرحة، وأفاقوا من سكرتها، وحل محل ذلك تساؤل ودهشة وقشعريرة خوف. وسأل رجل شيخ الحارة: عمَّ أسفرَت المعركة؟

فقال الرجل بضيق وسرعة: ألَا ترى ما أمامك يا أعمى؟!

وأصرَّت الأم على إطلاق تحذيراتها حتى رُميت بالجنون. ولم يعُد يُسمع في الليل إلا وقع الأقدام الثقيلة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤