مقدمة

د. حمُّو النقاري

يأتي هذا الكتاب محطةً مستثمرةً لثمراتِ محطَّاتِ مسارٍ فكريٍّ وأكاديميٍّ مديدٍ للأستاذة الدكتورة يُمنى طريف الخولي ابتدأ برسالتَين جامعيَّتَين:

  • «فلسفة العلوم عند كارل بوبر: نظرية في تمييز المعرفة العلمية» (۱۹۸۱م).

  • «مبدأ اللاحتمية في العلم المعاصر ومشكلة الحرية» (١٩٨٥م).

واستمر تأليفًا ومراجعاتٍ وترجمةً في مجالات:

فلسفة العلوم

  • (۲۰۰۰م) فلسفة العلوم في القرن العشرين: الأصول، الحصاد، الآفاق المستقبلية.

  • (۲۰۰۳م) فلسفة كارل بوبر: منطق العلم ومنهج العلم.

  • (۲۰۱۰م) محاضرات في منهج العلم.

  • (۲۰۱۲م) مدخل إلى فلسفة العلوم ومناهج البحث.

تاريخ العلم

  • (۱۹۹۸م) بحوث في تاريخ العلوم عند العرب.

مناهج العلوم

  • (۲۰۱۰م) مفهوم المنهج: تحليلات أولية.

علم الكلام

  • (۱۹۹۸م) الطبيعيات في علم الكلام.

  • (۲۰۱۲م) الفلسفة الإسلامية تطورًا لعلم الكلام.

العلوم الإنسانية فلسفةً ومنهجًا

  • (۲۰۱۰م) مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلِّها.

إن الإطار النظري العام الذي يندرج فيه الاجتهاد الأكاديمي للأستاذة الدكتورة يُمنى الخولي، وهو إطار مباحث فلسفة العلوم وتاريخها ومناهجها من جهة ومباحث نظرية المعرفة والإبستمولوجيا والمنطق من جهة أخرى:

  • (أ)
    إطارٌ نظريٌّ عامٌّ مُنْتَقِدٌ للنزعتَين الوضعية والوضعية المنطقية اللتَين ثمَّنتا النظر في المعرفة العلمية من داخلها، مقتصرين على تعيين معايير علمية المعرفة في شروطٍ داخلية لهذه المعرفة إنْ من حيث آلياتها المنهجية أو قواعدها المنطقية، صوريةً كانت هذه الآليات والقواعد أم تجريبية؛
  • (ب)
    إطارٌ نظريٌّ عامٌّ مُسْتَثْمِرٌ لنتائج أبحاث توجهاتٍ في فلسفة العلوم وتاريخها، غربيةٍ، لم تنظُر فقط في المعرفة العلمية من داخلها ولكن نظرت فيها أيضًا من خارجها، معيدةً الاعتبارَ من جهة لتاريخية هذه المعرفة العلمية ومن ثمَّة لتاريخ العلم، ومبرزةً من جهةٍ ثانية أهميةَ الطابعِ الاجتماعي لبناء هذه المعرفة العلمية باعتبارها ظاهرةً إنسانيةً طبيعية؛ ومن ثمَّة تنظُر في العلم من حيث هو نشاطٌ حيٌّ يمارَس فعليًّا في إطارٍ حضاري مخصوص يشمل مؤثِّراتٍ حاسمة؛ ثقافية واعتقادية، سياسية ومؤسساتية، أخلاقية وقيمية؛ إطار حضاري مخصوص يُصطَلح على تسميته، في الكتابة الإبستمولوجية الغربية المتناوِلة لمسألة تطور العلم وتاريخه، ﺑ Paradigme والذي تؤدِّيه المؤلفة بمصطلحٍ عربيٍّ مركَّب، مصطلح «النموذج الإرشادي».
إن المطلب الأساس لكتاب نحو منهجيةٍ علمية – توطين العلم في ثقافتنا المساهمةُ، من داخل الحقل الفلسفي العربي المعاصر ذي التخصص الإبستمولوجي والمنطقي والمُستوعِب للكتابات الغربية المعاصرة في هذا التخصص، المساهمةُ في استنهاض الهمم لدفعها إلى الإيمان بأن «العلم» و«البحث العلمي»، بآلياتها ومناهجها لم يكونا غريبَين عن الحضارة الإسلامية-العربية؛ ومن ثمَّة إلى جعل هذه الهمم تستأنف تثبيتَهما وترسيخَهما في الفكر الإسلامي المعاصر في أفقٍ يستشرف المستقبل، تعيش فيه الأمة الإسلامية العصرَ العلميَّ الإنسانيَّ العام، لكن بوجهٍ لا تنقطع فيه عن تراثها الحضاري.
إن الاتصال بالتراث، الذي تدعو إليه المؤلفة، ينبغي ألا يُتَصَوَّرَ في صورة رجوع مُجْتَرٍّ لهذا التراث؛ إن الرجوع إلى التراث، لكي يكون مفيدًا، لا بد وأن يمُر عَبْر مجهودٍ يُبذل لأجل إعادة بناء هذا التراث وَفْق متطلبات العصر بصفةٍ عامة، ووَفْق الاختيارات الفلسفية الإبستمولوجية والميتيودولوجية والمنطقية «اللاوضعية» التي تتبنَّاها المؤلِّفة، خصوصًا مع ثبات بطلان «الزعم بغُربة روح المنهجية العلمية عن تُراثنا وعن ثوابت ثقافتنا».
قد يكون قطب الرحى في كتاب الأستاذة الدكتورة يُمنى الخولي متمثلًا في المجهود الذي بذلَتْه في التنبيه إلى أهمية مفهوم النموذج الإرشادي الإجرائية في فلسفة العلوم وتاريخها — فقد تطرَّقَت إلى مكوِّناته وإلى أصحابه في الدرس الإبستمولوجي الغربي المعاصر — وفي الانتهاض إلى محاولة بناء نموذجٍ إرشاديٍّ إسلاميٍّ يكون شاهدًا أمثل ﻟ «منهجية علمية إسلامية» تؤطِّر مناهج البحث المسلوكة من لدُن الباحثين المسلمين المعاصرين في أي ميدان من ميادين البحث العلمي، وتُرَسِّخُ «العقلانيةَ العلميةَ» في الثقافة الإسلامية المعاصرة — ولقد أثبتَت المؤلفة ضرورةَ إنجازِ قراءتَين تدافع بينهما، قراءة الوحي من جهة وقراءة الطبيعة من جهةٍ أخرى — وتمهِّد السبل ﻟ «نهضةٍ علميةٍ إسلاميةٍ مستشرفة» تنتظرها الأمة المسلمة.
في الفِقراتِ التاليةِ يجد القارئُ الكريمُ لمصنَّف الأستاذة الدكتورة يُمنى الخولي القيِّم تقريبًا لبعضٍ من أفكارها التي تُعَدُّ مجَدِّدَةً في مجال الكتابة الفلسفية الإبستمولوجية والميثودولوجية والمنطقية العربية المعاصرة، أفكارًا تشهد لإمكان إنجاز إبستمولوجيا بألوانٍ إسلامية من خلال الانطلاق من وضع «باراديم» مناسب للأمة المسلمة، يُمَكِّنُ إجراؤه وإعماله واستثمارُه من فوائدَ جمَّة.
بفضل النموذج الإرشادي المبني نستطيع إنجاز استثمار أعمق الآليات المنهجية؛ والذي يقتضي عمقُ هذا الاستثمار انطواءَ هذا النموذجِ على المشترك الإنساني العام من جهة، وعلى المميِّز الإسلامي الخاص من جهةٍ أخرى:
  • المشترك الإنساني العام المتصل بفلسفة العلم ومناهجه وثمراته الحداثية والمعاصرة؛ أي الرصيد العلمي العالمي المتمثِّل في النظريات العلمية المعمول بها في مجالٍ تخصُّصيٍّ معيَّن، فضلًا عن آليات التفكير وإجرائيات منهج البحث التي أتاحت بناء هذه النظريات العلمية.

  • المُمَيِّز الإسلامي الخاص الذي يُلَوِّن المشترك الإنساني العام من خلال تأصيله وترسيمه بمعيارياتٍ وقيم … تجعله نموذجًا علميًّا عاكسًا لثقافتنا ومُلَبِّيًا لاحتياجاتنا الحضارية المعاصرة من جهة، ومن خلال تأطير المنهجية العلمية بالإطار العقدي والقيمي والفكري والمنطقي والإجرائي الذي يميِّز الباحثَ المسلمَ وهو يمارس بحثه، من جهةٍ أخرى.

من مؤطِّرات البحث العلمي الأساسية الأطرُ المعيارية والقيمية من جهة والأطرُ المنطقية والمنهجية من جهةٍ أخرى، وللأمة الإسلامية تميُّزها الخاص في هذَين الإطارَين معًا؛ فلها معاييرُها وقيمُها الخاصة ولها تطبيقاتٌ منطقيةٌ ومنهجيةٌ في علومها الخاصة عامة وفي علمَي الأصول، أصول الفقه وأصول الدين، على وجه الخصوص. من هنا كان تطرُّق المؤلفة للحديث عن إعادة إبراز القيم الإسلامية ذات الصلة بالعلم ومناهجه، وعن علم أصول الفقه وعلم الكلام بالكشف عن روحَيهما المنهجية والمنطقية في أفقِ الاجتهاد لتجديدهما:

لقد تم تناول المعياريات والقيم باعتبارها أحد مكوِّنات النموذج الإرشادي، في الغرب، فيما يُسمَّى باسم «أخلاقيات العلم»؛ من هنا تطلَّب بناء نموذجٍ إرشاديٍّ إسلاميٍّ التطرُّقَ إلى أخلاقيات العلم من منظورٍ إسلامي، خصوصًا تلك الأخلاقياتِ التي من شأنها أن تكون ضابطةً لمناهج البحث العلمي ومكملة وموجِّهةً للقواعد المرعيَّة فيه، الاستنباطية والاستقرائية، الصورية والتجريبية. ولا بُد لهذه القيم الإسلامية الضابطة للمنهج أن تكون مستمدةً من الوحي القرآني، وإلا لم تكن قيمًا إسلامية.
تميِّز المؤلفة في هذه القيم، ذات الصلة بالعلم ومنهجه، بين مجموعتَين إحداهما أصلية والأخرى فرعية. تتضمَّن المجموعة الأصلية قيمًا ثلاثة؛ قيمة الاستخلاف، ومقصدها ترسيخُ أمانة التصرُّف، وقيمة التزكية، ومقصدها تطهيرُ النفس، وقيمة العمران، ومقصدها صونُ الحياة. أما المجموعة الفرعية فتتضمَّن مجموعة من القيم، كلها متفرعة عن المجموعة الأصلية، منها الأمانة وعدم اختلاق المعطيات أو النتائج، وجوب كون العلم نافعًا، الحذَر واليقظة، تجنُّب التعصُّب، المسئولية الاجتماعية للعلم والعالم، الانفتاح على الغير … إلخ.

بالنموذج الإرشادي المبني يُمكِن تجديدُ علم الكلام، فيُصبح علمُ الكلام الجديد ليس مجرَّد «تفكير فلسفي في القضايا التي أثارها نزولُ الوحي في المجتمع العربي» ولكن «تنضيدًا لعقائد الكتاب المُنَزَّل الدافعة إلى قراءة كتاب الطبيعة وإلى البحث العلمي»؛ أي يصبح «فلسفة للطبيعة» بفعل اتصاله ﺑ «أنطولوجيا العلم وإبستمولوجيَّته». لقد كانت الطبيعة في علم الكلام القديم مشكلةً أنطولوجية ولا بد أن تتحول إلى مشكلةٍ إبستمولوجية لتغدُوَ مهمة علم الكلام الجديد الانفتاح على كتاب الطبيعة بحثًا ودراسة له، وبذلك يصبح بحثًا نظريًّا ذا «فعاليةٍ وسيرورةٍ متناميتَين باستمرار».

بالنموذج الإرشادي الإسلامي المبني يُمكِن أيضًا تجديدُ علم أصول الفقه ليصبح «أحد أسس النهضة العقلية والحضارية واليقظة الفلسفية في حداثتنا العربية والإسلامية»، وذلك لأنه علمٌ منهجيٌّ بامتياز، «علمٌ إنساني اجتمع فيه دور الوحي ودور العقل»، علمٌ يدرس «منهجية التفكير العلمي الأصيل»، علمٌ يضبط «آليات منهجية عقلية وإنسانية» استنباطية واستقرائية. ويقتضي تجديد علم أصول الفقه الكشف عن روحه المنهجية المقنِّنة للاستنباط وللتجريب وللتفكير النقدي؛ ولن يتم هذا الكشف إلا بالتركيز على استخلاص وإبراز وتقويم الآليات والقواعد والسبل الاستدلالية التي انطوى عليها وأسَّس لها؛ بذلك يصبح علم أصول الفقه الجديد متعديًا من المجال الشرعي إلى تأسيس البحث أيضًا «في كتاب الكون والطبيعة والعالم والإنسان».

بعلمِ كلامٍ جديد وبأصولِ فقهٍ جديد يتمكَّن المفكِّر المسلم المعاصر من إنجاز قراءة الوحي من جهة، وبذلك يكون مشدودًا إلى أصل أصول انتمائه الحضاري، وقراءة الطبيعة من جهةٍ أخرى، وبذلك يكون منفتحًا على «أقوى الفعاليات الإنسانية الإبداعية» المعاصرة وهي «العلم».

إن النموذج الإرشادي الإسلامي، بمعارفه وعقائده، وبرؤيته للعالم ووقائعه وبمنظوره للكون والوجود، وبقيمه وتعاليمه الأخلاقية، وباستمداده من المشترك العلمي الإنساني العام الحديث والمعاصر، يصبح أداةً أو وسيلةً تؤطِّر وتؤسِّس العلم النظري والعلم العملي في المجتمع الإسلامي المعاصر، وبذلك يكون هذا النموذج الإرشادي الإسلامي نموذجًا خاصًّا ﻟ «الفكر والبحث العلمي وإعمال العقل»، وبه تكون المنهجية العلمية متوافقة مع المجال التداولي الإسلامي ومنظومته الثقافية والعقدية ومُوَطَّنة فيه من جهة، وبه، من جهةٍ أخرى، ينفتح الباب لمفكِّري الأمة المسلمة المعاصرين للإبداعِ والإضافةِ في العلم والبحث العلمي وإثباتِهم ذاتَهم الحضاريةَ فيهما.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤