الفصل الأول

ما قبل المنهج وما حوله: مقدماتٌ راسمة

أولًا: فلسفةُ العلم ومنهجُه في الإطار الحضاري

بادئ ذي بدء نتفقُ على أن المنهج طريقٌ واضح وطريقةٌ ناجزة. ولئن كان — من زاوية المنهجية العلمية — يَعْنينا كطريقٍ لإعمال العقل وطريقةٍ لإنجاز بحوثٍ مفضيةٍ إلى العلم والمعرفة، فإن عالم البحث والعلم والمعرفة، بما في ذلك أصفى وأنقى ضروبِه؛ أي عالم العلم الرياضياتي والتجريبي ذاتِه، لا يهبط من السماء ولا يسبَح في الفراغ، بل ينشَأ في إطارٍ حضاريٍّ هيأ له السبيل ومهَّد له الطريق، وطرح عليه التساؤلات وصبغَه بالأصول والتوجهات؛ لأن العلم، باختصار، عالَمٌ من عوالم الإنسان، أو ظاهرةٌ من ظواهر الحضارة الإنسانية؛ فيشتبك العلم بعلاقاتٍ مع بقية مكوِّنات الحضارة الإنسانية من قيمٍ ومفاهيم، ومن مؤسَّساتٍ وكياناتٍ ثقافية؛ لهذا ينبغي أن تتأتَّى المنهجية — تحديدًا وتقنينًا وممارسةً — في إطار تصوُّر أو رؤيةٍ أشمل، فيما يُسمَّى في أدبياتِ فلسفةِ العلمِ المحدثة نموذجًا إرشاديًّا أو براديم (Paradigm).
عناصر من هذا التصوُّر أو النموذَج الإرشادي، إنما تمثِّل فروضًا ومسلَّماتٍ تتجاوز المنهج ذاته. إنها ما قبل المنهج، أو الفلسفة الكامنة وراءه. وباستخدام مصطلحاتٍ جاريةٍ في الخطاب الفلسفي الراهن، نقول إنها ما وراء المنهج (Meta-Method). ويظل المنهج العلمي بآلياته وإجرائياته صلبًا جوهريًّا في النموذج الإرشادي العلمي.

وقبل أن نخوضَ في المنهجِ والمنهجية وما حول المنهج وما وراء المنهجية، ينبغي أن نقفَ على ما يتصل بهذه العناصر قبل المنهجية، أو ما قبلها هي الأخرى. والمقصود هو ذلك التطوُّر الحادث إبَّان العقود الأخيرة في المعقل الرسمي لحديث المنهاج والمنهجية العلمية؛ أي في فلسفة العلوم، وما ترتَّب على هذا التطور، أو كان أن ترتب ذلك التطور عليه، في رؤيةٍ عالميةٍ قبل أن تكون خصوصية.

التطور المقصود يتمثل في أن فلسفة العلوم في قلب عالمها الغربي كانت تقتصر على النظرة إلى العلم من الداخل، لتتمثل فقط في آلياتِ منهجه وقواعدِ منطقه، ولا شأن لها بأية مقولةٍ تتجاوز الإطار الإبستمولوجي لنسَق العلم، من قبيل التصوُّر والرؤية والبراديم أو النموذج الإرشادي المعيَّن بما يتضمَّنه من أخلاقياتٍ ومعيارياتٍ وقيمٍ وموجِّهات.

ظلت فلسفة العلم هكذا مقتصرةً على منهجه ومنطقه حتى الثلث أو الربع الأخير من القرن العشرين، حين تدفَّقَت في النهر مياهٌ جديدة، جعلَت فلسفةَ العلم تتحرَّر من مرحلة الافتتان والانبهار بالعلم والدوران في فلكِ سِر نجاحه وتقدُّمه المطَّرد، وأدركَت أن العلم ليس نسقًا واحدًا ووحيدًا، بل هو ظاهرةٌ اجتماعيةٌ متغيرةٌ عَبْر التاريخ الإنساني، وتتدخل في هذا العوامل الخارجية الثقافية والحضارية والاجتماعية والأيديولوجية؛١ لأن العلمَ التجريبيَّ ذاتَه لا ينفصل عن أيديولوجيا خاصة به نشأ في إطارها، ولا يستغني البتةَ عن منظومةٍ قيمية توجه ممارساته ومساره. وقد باتت أخلاقياتُ العلم والبحث العلمي وقيمُ التطبيقات العلمية في العقود الأخيرة من الأولويات الجديرة بالاهتمام.٢ بعبارةٍ أخرى موجزة، وكما تذهب البنائية الاجتماعية — وسنُفصِّلها في حينها — بات واضحًا أن: «الدليل التجريبي الذي نملكه لنظرياتنا إنما يمثل تحديدًا ناقصًا لها. إننا في حاجة إلى الإتيان بقيمٍ أخرى لتُلقيَ بثقلها في الحكم على نظرياتنا العلمية، قيم من قبيل الاتساق الداخلي والبساطة والتساوق مع معتقداتنا وقيمنا الأخرى.»٣

•••

وفي هذا، نجد أن الوضعيةَ الفرنسية والنزعةَ الاستقرائية (Inductivism) الإنكليزية٤ في القرنِ التاسعَ عشر، وسليلتهما في القرن العشرين؛ أي الوضعية المنطقية (Logical Positivism)، أو التجريبية المنطقية (Logical Empiricism)٥ كما تُسمَّى أحيانًا، قد وصلَت جميعُها إلى طريق مسدود، وانقشع هيلمانُها على أجواء فلسفة العلم. كانت الوضعية المنطقية ترى أن فلسفة العلم وبالتالي نظرية المنهج العلمي تقتصر على اللغة البعدية المعنية بالتحليل المنطقي لهيكل النظريات العلمية من دون مضمونها، أو على أوسع الفروض وأكثرها تسامحًا تقتصر على النظر إلى العلم والبحث العلمي من الداخل فقط في حدود منطقه ومنهجه، فكادت فلسفة العلم، وقبلًا الميثودولوجيا (= نظرية المنهج العلمي أو منهجيته)، أن تنحصر في تقنيات المنطق الصوري وأساليبه، وقطعَت كل علاقةٍ لها بالعلم كنشاطٍ حيٍّ وممارسةٍ فعلية؛ أي العلم في تعيُّنه الواقعي المتدفق النابض بالحياة في مجرى التاريخ وسياق الحضارة الإنسانية. هكذا أمعَنوا في تنزيه العلم من التوجُّهات الاجتماعية وقيمها ومبادئها، وفي إنكار الدور الذي يلعبه تاريخ العلم والواقع الحضاري في فهم ظاهرة العلم فهمًا أعمق، يُسهِم في دفعِها إلى الأمام وتسريعِ معاملاتِ تقدُّمها.
رأى هؤلاء الوضعيون أن التجربة والإمبيريقيات قادرةٌ على تفسير كل شيء ويجب أن يرتد إليها كل شيء، فتكاد ترتفع التجربة إلى مستوى بديهياتِ المنطقِ تُلامِس حدودَ المُطلَق الذي يعلو على الزمان والمكان، ودع عنك القيم والتوجُّهات الحضارية! إن الوضعية المنطقية مغالاةٌ وتشدُّد في المنزع الوضعي الذي صبغ العلم في الحضارة الغربية، مستعينةً بأساليب المنطق الرياضي الدقيق لتأكيد هذا التشدُّد وتقنينه وفرضه، عَبْر ما أسمَوه بالتحقُّقية (Verificationism)؛ أي معيار التحقُّق من أن العبارة الإخبارية مردودةٌ بجملتها إلى الواقع التجريبي، وإلا كانت لغوًا بغير معنًى. وهذا المعيار يُجسِّد مجمل فلسفة الوضعية المنطقية من أن كل ما يُسهِم به العقل في المعرفة ذو طبيعةٍ تحليلية، أما المعرفةُ ذاتُها فلا تُستمَد إلا من الخبرة الحسية والتجربة، وما عدا ذلك لغوٌ بغير معنًى، فكانت صياغةُ هذا المعيارِ مع ألفرد آير كالآتي: «يكونُ للجملة معنًى حرفيٌّ فقط، إذا كانت تُعبِّر عن قضيةٍ تحليلية، أو قضيةٍ ممكنة التحقُّق تجريبيًّا.»٦ ثمَّة أيضًا معيارٌ آخر وضعوه، وهو لغة العلم الموحَّد التي تردُّ العلومَ جميعَها إلى الفيزياء باعتبارها العلمَ الشاملَ لعالمنا التجريبي، وما يخرج عن حدودها يُعدُّ لغوًا.
فكرة العلم الموحَّد ذاتها التي شاعت وذاعت إنما تعود أصولها إلى الموسوعيين الفرنسيين في القرنِ الثامنَ عشر،٧ وهم كوكبة من أقطاب الفكر الفرنسي التنويريين، أدباء وفلاسفة وعلماء، التفُّوا حول التنويري الرائد دينس ديدرو (D. Diderot, 1713–1784) من أجل وضع موسوعةٍ عامةٍ للعلوم والفنون والصنائع، تُضاهِي الموسوعة الإنكليزية التي لاقت رواجًا تجاريًّا كبيرًا، وتقفُ على آخرِ تقدُّم للعلوم في العصر. أرادوا أن تحملَ موسوعتُهم مشروعَ علمٍ موحَّد مجالُه الطبيعة، وانهالت مقدِّمتها بنقدٍ ضارٍّ للميتافيزيقا والدين ومحاولة إثبات عُقمِهما، وذلك كتأسيسٍ للواحدية المادية والمشروع الوضعي. على العموم بلغ مشروع العلم الموحَّد أَوْج نضجه في صورته المنطقية المؤمثلة حين طرح الوضعيون المناطقة فكرة لغة العلم الموحَّد خصوصًا على يد رودلف كارناب (R. Carnap, 1891-1970) الذي عمل على صياغة البناء المنطقي للغة العلم، على أساس أن العلم يتعامل فقط مع وصف الخصائص البنائية للأشياء في الزمان والمكان والعلاقات التي تربطها ببعضها. ووضع كارناب قواعد هذه اللغة وهي قواعد تشكيل وصياغة الجمل والتعبيرات الفيزيائية ثم قواعد استنباط جملة من أخرى.٨ تعمل هذه القواعد على أن تكون دقيقة؛ فتستوعب كل التعبيرات الفيزيائية وتستبعد تمامًا ما سواها، وأي فرع آخر من فروع العلم يمكن صياغته في حدود هذه اللغة، وإلا كان علمًا زائفًا.
لقد كانت الوضعية المنطقية فلسفةً متطرفةً متعصبة، مارسَت نوعًا من الإرهاب الفكري في أجواء فلسفة العلم والميثودولوجيا، فمن لا يكتفي بتحليلاتهم المنطقية هو المتخلِّف الغارق في سُدُمِ الأوهام المعيارية، أو السادر في الشطحات الميتافيزيقية. وبدا سدَنة الوضعية المنطقية في عكوفهم على تبرير المعرفة العلمية وطرائقها وكأنهم حُراس الكهنوت العلمي. وتباروا في إقامة السدود المنيعة بين فلسفة العلم وبين تاريخه وقِيَمه وواقعه الاجتماعي والحضاري. ونظرًا لسطوة الوضعية المنطقية وهيلمانها على أجواء فلسفة العلم، ساد هذا الموقف، المُحاط بأسياجٍ مكينةٍ هي المواقف الحدَّية للوضعية المنطقية وتطرُّفها الذي بات مضرب الأمثال للموقف الفكري المستبَد.٩
ولم يكن هذا في حد ذاته منفصلًا عن المعياريات والأيديولوجيات؛ لأن العلمَ غيرُ قابلٍ لهذا الانفصال المزعوم؛ فقد كانت الوضعية من الزاوية الإبستمولوجية بلورةً مستصفاة ومكثَّفة لقيم التنوير الحداثي ومثالياته، وأرادتها أن تنفردَ بالميدان باعتبارها التقدُّم الذي يُلغي كل ما سبقه من تخلُّف، وما حوله من آيات الجهل. ومن أجل استبعاد وتهميش كل الأطراف الحضارية الأخرى، «كانت فلسفاتُ التنوير مسكونةً بهاجسٍ مسبَق هو استبعاد المحلية من العمليات العلمية، وبهذا نظفر بدعاوَى معرفيةٍ عابرة للثقافات وذات صحةٍ كونية»،١٠ تؤكِّد المركزيةَ الأوروبية، ووَفْقًا لها قد تملكُ الثقافات الأخرى أنساقًا معرفية، ولكن العلم الغربي الحديث، العلم الوضعي هو فقط الذي يُنتِج دعاوَى ذات صحةٍ كَونية تلزم العالم أجمع.١١ وأنكَرَت الوضعيةُ المنطقية أي دورٍ للمراحل الأسبق من تاريخ العلم، وأصرَّت على قطع العلاقة بين فلسفة العلم وتاريخه. وبكل هذا استطاعت الوضعية المنطقية أن تقوِّس وتُؤَمثِل العلمَ الحديث الذي تشكَّل في الغرب وتفرضه بوصفه صُلبَ الروح العلمية. وبقدراتهم المنطقية العالية استطاعوا ردَّ العلم أولًا وأخيرًا إلى الأسس المنطقية والتجريبية، لتتكفَّل هذه الأسس بتبرير المعرفة العلمية وتسويغها ووضع محكَّاتها ومعاييرها، مجرِّدين ظاهرةَ العلم من أية أبعادٍ حضاريةٍ أو ثقافيةٍ أو اجتماعيةٍ أو قيمية؛ فليس يقترب من تفسيره إلا المحكَّات المنطقية والتجريبية. هكذا أصبح العلم الغربي هو العلم الواحد والوحيد، أو مطلَق العقل العلمي الذي يعلو على حدود الزمان والمكان. وبالتالي أصبح العلم هو الحضارة الغربية، والغرب هو الحضارة العلمية، في عصرٍ العلمُ هو فارسُ حلبته المعرفية وأقوى العواملِ الفاعلةِ في الفكر وفي الواقع. وبدت معارضةُ أو مناقشةُ هذا رومانتيكيةً عاجزة أو إظلاميةً وردَّة تقهقرية وتخلفًا ورجعية وخروجًا من عصر العلم الذي هو غربي، فهل ينفصل هذا عن الاستعمارية والمركزية الغربية التي تعني أن الحضارة الأوروبية والثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق، فتُمثِّل معايير الحكم على سائر الحضارات والثقافات الأخرى، ليكون تقدُّمها تبعًا لمدى اقترابها من النموذج الغربي؛ المثل الأعلى المتوَّج بالعلم الحديث الذي هو صنيعة الغرب وحده؟!

علينا أن نتعلم العلمَ من الغربِ جملةً وتفصيلًا منذ أصوله المنهجية مع بيكون (١٥٦١–١٦٢٦م) وديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م). هذه هي الميثودولوجيا المزيَّفة للوعي التي تشيع في جامعاتنا ومعاهدنا، وربما لا مانع من أن تُرافقَها قيمٌ ووجدانياتٌ من تراثنا مع مثول مسافةٍ فاصلةٍ تفصلها عن محراب العلم المقدَّس الذي هو غربيٌّ خالص … ذلكم هو ما يترسَّخ أو يُراد له أن يترسَّخ في الوعي الجمعي في مصر وفي العالم العربي والإسلامي، وكل عالمٍ لم يشارك في صنع الحداثة الغربية.

لكن العلم مصحِّح لذاته، والغرب بروحه العلمية هكذا وفلسفة العلم من قبلُ ومن بعدُ هكذا؛ لتصحِّح بدورها ذلك الخطأ. وبفعل عواملَ عديدة بعضُها راجع إلى طبيعة المذهب الوضعي المنطقي ذاته، وبعضُها الآخر راجع إلى تطورات العلم الثورية، وعواملَ أخرى راجعةٍ إلى تطوراتٍ معرفية وثقافية وفلسفية بشكلٍ عامٍّ، وصلَت الوضعية إلى طريقٍ مسدود وتجاوزَها تطوُّر التفكير العلمي وفلسفة العلم الراهنة. وعلينا الآن تفصيل هذا.

•••

كل فعل له رد فعلٍ مساوٍ؛ لذا أثار استبدادُ الوضعية المنطقية رُوحَ التمرُّد والعصيان والثورة عليها، وتعرَّضَت لموجاتِ نقدٍ كثيرةٍ من داخل فلسفة العلم ومن خارجها، كانت مقدمةً لموجات النقد الذاتي التي توهَّجَت في الفكر الغربي إبَّان العقود الأخيرة من القرن العشرين، لا سيما في إطار فلسفاتِ ما بعدَ الاستعمارية وما بعد الحداثة، وما سُمي في فلسفة العلم بالفلسفات بعد الوضعية (Post-Positivism) وبعد التنويرية (Post-Enlightenment) … وسواها من مابعدياتٍ تزيدُ من السيولة والغيوم المعرفية، وتُحتِّم الحاجة إلى نماذجَ إرشاديةٍ متعيِّنة ومُعينة … متلاقحة ومتحاورة.
على رأس الهجمات التي تعرَّضَت لها الوضعيةُ المنطقية ذلك النقد الحاسم من جانب فيلسوف المنهج العلمي الأول كارل بوبر (K. Popper, 1902–1994).١٢ أكَّد بوبر أن فلسفة العلم ليست محضَ تحليلاتٍ منطقية، بل هي فلسفةُ الفعالية الحية والهَمِّ المعرفي للإنسان، والعلمُ أكثرُ حيويةً من أي منشطٍ آخر، قضایاه قابلةٌ دومًا للتكذيب والتعديل والتطوير، يلعب الخيال الخلاق والعبقرية المبدعة دورًا أساسيًّا في رسم قصة العلم المثيرة التي علَّمَت الإنسان المعنى الحقيقي للتقدُّم، فجعل بوبر فلسفة العلم هي فلسفة التقدُّم، وأصَر على أن كل، وأيَّ، تقدُّمٍ علميٍّ هو ثورة.
ثم كانت النقلة المحورية بفعل توماس كون (T. Kuhn, 1922–1996) الذي التقط أيقونة الثورة من كارل بوبر، وأخرج كتابه الشهير بنية الثورات العلمية حيث أوضح أن تفهُّم ظاهرة العلم وفلسفته وتقدُّمه المستمر لا يكون إلا من خلال «البراديم»؛ أي النموذج القياسي الإرشادي الذي سنُفصِّله في حينه، وهو يضُم سائر ما يصنع تجانُسَ المجتمع العلمي — في الحقبة التاريخية المعنيَّة — من النظريات المعمول بها ومناهجها ومشاكلها، والأدوات والتقنيات والتطبيقيات، وأيضا الأبعاد السوسيوسيكولوجية والقيَمية والمعيارية والفرضيات القَبْلية. إنه تمثيلٌ عينيٌّ للمجتمع العلمي في الحقبة المعنيَّة، يرسمُ معالمَ سلوكِ العلماء ويُرشدُهم إلى المشكلات الأجدر بالدراسة، ويُقاس بواسطته الحلولُ المقبولةُ في الحقبة المعيَّنة، ومتى تكون المشكلةُ المطروحة وحلُّها علمًا عاديًّا ومتى يكون هذا علمًا ثوريًّا يُفضي إلى براديم أو نموذجٍ جديد. النموذج قياسيٌّ وإرشاديٌّ معًا، كان بمثابةِ قنبلةٍ انفجرَت في عالم فلسفة العلم؛ فقد أثبت أن تفهُّم ظاهرة العلم لا يكون فقط في الإطار الإبستمولوجي ومطلق العقل المنطقي المسلَّح بالتجريبية كما تزعُم الوضعية، بل في هذه النظرة المجتمعية التي مثَّلَت علامةً فارقةً في مسار فلسفة العلم قسَّمَتها إلى فلسفة العلم قبل الكُونية وبعد الكُونية (Post-Kuhnian Philosophy of Science). لقد حدث أخيرًا تآخي العلم مع الظواهر الحضارية الأخرى؛ لأنه مثلها لا يُفهَم إلا في ضوء تطوُّره عَبْر التاريخ. وتأكَّد الربط بين فلسفة العلم وتاريخه مع إمري لاكاتوش (I. Lakatos, 1922–1974) ومبدئه النافذ: فلسفة العلم من دون تاريخه خَواء، وتاريخ العلم من دون فلسفته عَماء. ويأتي بول فييرابند (P. Feyerabend, 1924-1994) الذي يُمكِن اعتباره رائدًا لما بعد الحداثة في فلسفة العلم ليُبرِز أهميةَ النظريات القابعة في تاريخ العلم وقدرتَها على إخصابِ الواقع العلمي الراهن، ويتكرَّس لتأكيد التعددية المنهجية والنسبوية (relativism)، وأن كل نظرية لها مكانُها ولكل مرحلةٍ دورها في تاريخ العلم، والعلم الحديث ذاته ليس نظامًا مقدسًا يستلزم الكفر بما عداه، بل هو نظامٌ عقلانيٌّ وجب أن ينمُوَ ويزدهرَ وسط الأنظمة المعرفية الأخرى، وهو ليس ذريعةً لفرض النموذج الحضاري الغربي ووَأْد الثقافات الأخرى، فتحرم البشرية من خصوبة وثراء وتعدُّد جوانب، إن نعمتَ بها تنعَم بالعلم أكثر.
هكذا تدفَّقَت مياهٌ جديدةٌ في نهر فلسفة العلم ونظريته المنهجية. لقد بات واضحًا الآن أن العلم ظاهرةٌ إنسانية ونشاطٌ إنساني، ينمو ويتطور عَبْر تفاعُله مع البِنيات الحضارية والاجتماعية والثقافية بأبعادها الشتَّى. وهذه بديهيةٌ غابت تمامًا عن العلم النيوتوني الحتمي الميكانيكي، ولم تتبدَّ بشائرها إلا مع ثورة العلم في مطالع القرن العشرين، ثورة النسبية والكوانتم واقتحام عالم الذرَّة وما دون الذرَّة. أعقب هذه الثورةَ تطوراتٌ في التفكير العلمي، سارت قُدُمًا بطيئةً ثم متسارعةً في طريقِ تأكيدِ أن العلم ببساطة، ظاهرةٌ إنسانية وإبداعٌ إنساني، تفهُّمُهما ودفعُهما يتم كلاهما على هذا الأساس الإنساني والحضاري والمجتمعي الذي يستلزم رؤية وتصورًا ومنظورًا مشبعًا بالعناصر القيَمية والحضارية والمجتمعية، أو، بعبارةٍ موجزة، نموذج قياسي إرشادي.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن هذه التطوُّرات في فلسفة العلم ونظريته المنهجية إنما هي في جوهرها مراجعةٌ نقديةٌ للرؤية الوضعية، بدا واضحًا كيف تضاعَف شأنُها بفعل ما تزامَن معها من صعودِ تياراتٍ في الحضارة الغربية تحمل لواء النقد الذاتي والمراجعة الذاتية لمسلَّمات الحضارة الغربية بجُملتها ووضعياتِ الثقافةِ الغربية في عمومها، أو في ادعائها العموميةَ الكونية والعالميةَ والمركزية. إنها تياراتُ ما بعد الحداثة المقترنة بما بعد الاستعمارية. انطلقَت في النصف الثاني من القرن العشرين، لتُصادِر على أن قيم الحداثة والتنوير من عقلانيةٍ شاملة ووضعيةٍ راسخة وواحديةٍ مادية وحتميةٍ ميكانيكية وعلمانية فجَّة … ترسم طريق التقدُّم المطَّرد … وهي تعتبر العلم الحديث أيقونتَها وتاجَها … قد استنفدَت مقتضياتها، وباتت مستحقةً للنقد تمهيدًا لإغلاق دائرتها، والصعود إلى مرحلةٍ حضاريةٍ أرحبَ وأثرى، تتجاوَز قصوراتِ مرحلةِ الحداثة، فضلًا عن جرائمها المتمثِّلة في استغلال العلم ذاته من أجل تأكيد الاستعمار والسيطرة على الآخرين والمركزية الغربية، وقَهْر ثقافاتِ الشعوبِ الأخرى، وتدمير البيئة واستنفاد مواردها. على هذا النحو حملَت تياراتُ ما بعد الحداثة نزعةً نقديةً عارمة تجاه الحداثة الأوروبية والمركزية الغربية، وشهدَت ما سُمي بالنقد بعد الاستعماري والعنصري للعلم، وكان هذا دفاعًا عن التعدُّد الثقافي وعن النظرة الإنسانية الأرحب والأجدى والأكثر خصوبةً للعلم وللبحث العلمي ذاتِه كما تؤكِّد فلسفاتُ العلم بعد الوضعية وبعد التنويرية.
لقد حطَّمَت فلسفة العلم في العالم الغربي قبل سواه جدرانَ القوقعة الإبستمولوجية، المقتصرة على منهج العلم ومنطقه، أجل ترتكز عليهما دائمًا، لكن أيضًا تستوعبُهما وتتجاوزُهما إلى معالجةٍ حضاريةٍ شاملة للعلم، بوصفه ظاهرةً إنسانيةً لها متطلبات وشروط واحتياجات الظاهرة الإنسانية وعلى رأسها النسَق القيمي والمنظومة الخُلقية، ولها إشكالياتُها ومنزلقاتُها وحيوداتُها، فتحتاج إلى عناصرَ توجيهيةٍ هادية. ليس العلم — الرياضياتي والفيزيائي والحيوي والاجتماعي والإنساني على السواء، أو بالأحرى بدرجات متفاوتة — كيانًا مفارقًا تتبتَّل إليه الإبستمولوجيا في عليائه، بل هو ظاهرةٌ إنسانيةٌ متدفقة في السياق الحضاري المتعيِّن، كل العلوم نشاطٌ إنسانيٌّ أنجزه الإنسان، «فلا يمكن تعيينُ خصائصها بمعزِل عن ملامح الثقافة الإنسانية والتاريخ الإنساني واللغة الإنسانية، والخبرة الإنسانية والاحتياجات والاهتمامات الإنسانية.»١٣ وحتى العلوم الفيزيائية ذاتها هي مشاريعُ ومغامراتٌ إنسانية، وإذا كانت تفترض وجودَ عالمٍ فيزيقيٍّ مستقل فإنها أولًا وأخيرًا تقبع داخل تساؤلاتِ باحثينَ من البشر المثقَلين بالأبعاد الثقافية.١٤ ومهما أحرزَت من نجاحٍ فريدٍ لا عهد للبشرِ بمثله من قبلُ، تظل مستحقةً للمساءلة وحسن التوجيه والتطويع والتشغيل. العلم، ككل فعاليةٍ إنسانية، يُمكِن دائمًا بذل الجهد لجعله أفضل.

والخلاصة، أن فلسفة العلم ونظريته المنهجية الآن لا تنفصل البتة عن تاريخ العلم وتطوُّره عَبْر تفاعُله مع الأنساق الحضارية والقيمية، ولا عن أخلاقيات العلم وأخلاقيات الممارسة العلمية وقيم المجتمع العلمي الكائنة وما ينبغي أن تكون، وعلاقة العلم بالأطُر الأيديولوجية وبالأنظمة السياسية وبالمعتقدات، فترتبط مع علم اجتماع المعرفة واقتصاديات العلم وسوسيولوجيته وسيكولوجيا البحث والإبداع العلمي … بأواصرِ قربى لم تكن مطروحةً فيما سبق في إطار الطرح الوضعي المنطقي … فضلًا عن العلاقات الفرعية المستجدَّة من قبيل الدراسةِ المقارنة للمؤسسات العلمية وأسسِ نشأتها وتخطيطها، وتحديد مبادئها وأهدافها والأساليب المثلى لإدارتها، والتوظيف الأمثل لنظم المعلومات وبرامج الحاسوب وشبكة الإنترنت والإعلام العلمي، وسائر أشكال علاقة العلم بالمجتمع.

ويتمخَّض عن هذا أن نسق العلم ليس واحدًا ووحيدًا هو العلمُ الغربي أو سواه، بل هو أنساقٌ متتاليةٌ على مدى التاريخ، ثم هي متقابلةٌ في الحقبة الواحدة، تتحاور وتتلاقى جميعُها نشدانًا لإثراء المعارف وحصائل البحث العلمي.

•••

واللافت حقًّا أننا يُمكِن أن نصل إلى هذا التطوُّر الحادث في فلسفة العلم والميثودولوجيا من منظورٍ أشمل، ألا وهو مبحث الإبستمولوجيا؛ أي نظرية المعرفة بشكلٍ عام التي تتجه نحو المعرفة العلمية التجريبية بشكلٍ خاص بوصفها نموذجًا مثاليًّا للمعرفة الناجحة، حتى إن مصطلح الإبستمولوجيا في الثقافة الفرنسية يُوضَع مرادفًا لنظرية المعرفة العلمية وفلسفة العلوم. والإبستمولوجيا بدورها قد شهدَت الآن ما يُسمَّى بالإبستمولوجيا الاجتماعية للعلم، والأهم أن النزعة الأسُسية في الإبستمولوجيا التي كانت الوضعية بشكلٍ ما درَّتها، قد بدا أنها وصلَت هي الأخرى إلى طريقٍ مسدود.
النزعة الأسسية (Foundationalism) في نظرية المعرفة هي الفكرةُ القائلةُ إن هناك بعضَ المبادئ الأولية يُمكِن تأسيسُها لتكون بمنأًى عن الشك، وتتكفَّل بتبرير كل ما يُمكِن أن نُسمِّيه معرفة. هذه الأسس عقليةٌ خالصة، منطقيةٌ أو تجريبيةٌ أو كلتاهما معًا، يُدرِكها الفيلسوف أو المفكِّر كفردٍ متفرِّد، مما يعني أن المجتمع بقيمه وأعرافه لا يُمكِنُه أن يتدخَّل في أي تبريرٍ للمعرفة، على الرغم من أننا نتعلم أولًا، ثم نكتشِف ما نحن بسبيله من معارفَ فقط في قلب المجتمع. حكَمَت النزعةُ الأسُسية الفلسفةَ الغربية الحديثة عامة، وتحكُم الإبستمولوجيا تحديدًا منذ ديكارت أبي الفلسفة الحديثة. وبدَت الأسسُية تبريرًا للمعارف التي نعتقد فيها وإثباتًا لصدقها، وعلى رأسها المعرفة العلمية. وفي تساوقٍ زمانيٍّ وموضوعيٍّ مع هذا التطوُّر الذي شهدناه في فلسفة العلم، كان ثمَّة تطوُّرٌ موازٍ في الإبستمولوجيا يعني تداعيَ أركانِ النزعةِ الأسُسية وظهور تياراتٍ ترى أن مهمة الإبستمولوجيا ليست فقط في البحث عن الأسس المنطقية لمعارفنا، بل أيضًا في العملياتِ المعرفيةِ التي تجري في أذهاننا، أو في كيفيةِ نقلِ الأشخاصِ للمعارفِ داخلَ الثقافاتِ المختلفة وعَبْرها، أو في تأثير هذه الثقافات في العملية المعرفية.١٥
وبهذا نلاحظ، قياسًا على العلاقة الوثيقة بين الإبستمولوجيا وفلسفة العلم، أن المقصود من النزعة الأسُسية وما يُوضَع تحت بندها إنما ينتمي بشكلٍ ما إلى النظرة لطبيعة المعرفة التجريبية والعقلانية العلمية، وهو ما يُعرف في بعض أدبياتِ فلسفةِ العلم بأنه منطقُ المعرفةِ العلمية، حيث البحث في معايير الموضوعية والعقلانية والمنهج الجيد، والمقولات الجوهرية في منطق العلم مثل قيم الصدق والبساطة والمواءمة التجريبية والتساوق. والذي حدث في تطوُّر الإبستمولوجيا أن أتت بعد تقويض أركان الأسُسية، النظرة البنائية الاجتماعية (social constructivism) التي تعني إضافةَ القيم الثقافية والاجتماعية لتقنين العملية المعرفية، فتؤكِّد تعدُّدية الأنساق المعرفية، وقيمة التعدُّدية الثقافية (multiculturalism) ودورها في الممارسة العلمية.
وقد كانت الوضعيةُ المنطقية أهم نظريةٍ أسُسية في الإبستمولوجيا وفلسفة العلم إبَّان النصف الأول من القرن العشرين. وكما أشرنا، تمسَّك الوضعيون بأن أساسَ معرفتِنا نجده في الخبرة الحسية التي يُمكِن تحليلُها تحليلًا صارمًا يستبعد أيةَ عناصرَ مشكوكٍ فيها أو منحازة. وقد رأينا فيما سبق معيار التحقُّق وقطب الوضعية المنطقية رودولف كارناب يُحاوِل بناء لغة العلم الموحَّد؛ حيث حمل الهامش (رقم ٩) إشارة إلى كتابه التركيب المنطقي للغة. (The Logical Syntax of Language) وكان قد أخرج في العام ١٩٢٨م كتابه البناء المنطقي للعالم (The Logical Construction of the World) حيث يقدِّم منهجًا للشِّرعة الوضعية؛ أي لإقامة النظريات العلمية على أساسٍ منطقي، هو معطياتُ الإدراكِ الحسيِّ التي ترتد إلى ما أسماه «جمل البروتوكول»، وهي الوحدات الأولية للأسُس التجريبية؛ لأن الحديثَ العلميَّ المشروع يُمكِن ردُّه إلى حديث عن الخبرات الحسية والبناءات المنطقية من هذه الخبرات، كما ينُص مبدأ التحقُّق. ونُلاحِظ أن خصم كارناب الخصيم، كارل بوبر، تحدَّث هو الآخر عن «العبارات الأساسية».١٦ التي هي المرتكزاتُ النهائية للاختبار التجريبي، أو بمصطلحاته، محاولات تكذيب النظرية العِلْمية.

وتبدو النزعةُ الأسُسية تفسيرًا لعقلانية النظريات العلمية؛ حيث المنهج التجريبي والمنطقي كفيلٌ بتأييدِ أو دحضِ الفروض والنظريات العلمية، وليس للقيم الأخلاقية والاجتماعية أن تلعب أيَّ دَورٍ في هذا.

وفي أواسط القرن العشرين واجهَت نظرياتُ النزعة الأسُسية للعلم والمعرفة التجريبية صعوباتٍ خطيرة، كشفَت عنها بضعةُ إسهاماتٍ في الإبستمولوجيا، أهمها إسهامات كواين في مقاله الشهير «عقيدتان جازمتان للتجريبية».١٧ هاتان العقيدتان هما، أولًا، التمييز القاطع بين العبارات التحليلية والتركيبية؛ الذي يعني وجود نوعَين مختلفَين من الجمل، أحدُهما تحليليٌّ تكون معاني الكلمات فحسب هي التي تجعل الجملة صادقة أو كاذبة، والنوع الآخر من الجمل تركيبيٌّ تعتمد شروطُ صدقِه على الوقائع التجريبية. أما العقيدةُ الجازمةُ الثانية فهي الردِّية (reductionism) ؛ أي الفكرة القائلة إن النظريات العلمية كالفيزياء يمكن ردُّها إلى عبارات الملاحظة والمبادئ التي تربط بين تقارير الملاحظة وبين الكيانات النظرية أو القوانين. وهذا بالضبط هو مشروعُ كارناب في كتابه البناء المنطقي للعالم المذكور آنفًا.

معنى هذا أن ثمَّة مُكوِّنًا من اللغة (= الأسس المنطقية) ومُكوِّنًا من الواقع (= الأسس التجريبية) يتكفَّلان بتحديد صِدق الجُمل جميعها، ويكون المكوِّن الواقعي صفريًّا في الجمل التحليلية. وما فعله كواين أنه قد بيَّن عدم وجود طريقةٍ دقيقةٍ لرسم الخط الفاصل بينهما، وبالتالي خلَص إلى أن التمييز بين التحليلي والتركيبي في الجمل مقولةٌ ميتافيزيقيةٌ اعتقادية.

أما عن العقيدة الجازمة الثانية؛ أي الردية، فإن كواين يقدِّم لنقدها أطروحةً يتشارك فيها مع بيير دوهيم (P. M. Duhem, 1861–1916) الذي سبقَه في طرحها، تُعرف باسم أطروحة دوهیم-کواین (Duhem-Quine Thesis)، وتعني نظرةً كلية لدلالة الخبرة التجريبية، وخلاصتُها أن أي اختبار أو حكم على قضية لا يخص القضية بمفردها، بل ينطبق على النسَق الذي تنتمي إليه القضية بأَسْره، ولا تُؤخذ دلالة التجربة من الجملة أو القضية أو الحد بل من الخبرة ككل؛ بالتالي لا تنفرد الملاءمة التجريبية بفصل القول في صدق النظرية المطروحة للاختبار. يُوضِّح كواين أن تينك العقيدتَين الجازمَتين مترابطتان ومتطابقتان في جذورهما؛ لأن كلتَيهما تعتمدان على أن صدق العبارة بجملته يقبل التحليل إلى مكوِّنٍ واقعي ومكوِّنٍ لغوي، ولكن في ضوء هذه النظرة الكلية لا تأتينا المعطيات الحسية كمادةٍ خام، بل تأتي محمَّلةً بالنظريات والفرضيات. إن تفسيرَ المعطيات على أنها بيِّنةٌ في صالح أو ضد نظريةٍ معيَّنة تتدخَّل فيه بعضُ الفرضيات الكائنة في خلفيات الممارسة العلمية. وتفسير الخبرة بشكلٍ عامٍّ يتأتى في ضوء النسَق المعرفي المعمول به ككل. وعلى هذا، لا خبرة منفردة تقدِّم في حد ذاتها تقريرًا ضد نظريةٍ أو في صالحِها من دون كل أنماط الفرضيات في خلفياتنا التي تتضمَّن القيم، بعضُها قيمٌ نظرية مثل البساطة والتساوق يتمسَّك بها العلماءُ عن وعيٍ يزيد أو يقلُّ، وبعضُها قيمٌ تتوارى عن أعيُن العلماء.
هكذا لم تعُد الأسُسية كافيةً للإحاطة بالمعرفة العلمية وكيفية تشكيلها وتبريرها، ولا بد أن تتكاملَ معها مقارباتٌ أخرى، تهتمُّ بها فلسفةُ العلم بعد-الوضعية، تحيط بتلك الخلفيات وما تضُمه من قيم وفرضيات شكَّلَتها الثقافة وتُساعِد العلماء في تحديد طُرق جمعهم وتأويلهم الدليل وتقويم النظريات، فتُساهِم في تحديد النشاط المعرفي. وتحاول الإبستمولوجيا بعد-الأسُسية، ومن أبرز مذاهبها البنائية الاجتماعية، أن تُبرِّر الثقة في ذلك كمصدَر للمعرفة. ترى البنائية الاجتماعية أن المعرفة في جوهرها بناءٌ اجتماعي؛ لأن إنتاج المعرفة محكوم بمحكَّاتٍ اجتماعيةٍ لها ما يبرِّرها داخل المجتمع العلمي أو مجتمع العارفين، وقد لا يُمكِن تبريرها خارجه، وبالتالي المعرفة نسبوية relativism؛ أي بالنسبة إلى المجتمع الذي أُنتجت وأُجيزت فيه. والمعرفة العلمية أيضًا هكذا؛ أي بالنسبة إلى معتقداتِ المجتمعِ العلمي، التي هي بدَورها متأثرةٌ بالمجتمع الأوسع.١٨ العلم محكوم بمحكَّات المجتمع العلمي أو نموذجه الإرشادي، فلا يكون الحكم على النظرية العلمية إلا بالنسبة إلى إطارها وعصرها ونموذجه. وتلك هي النسبوية التي أكَّدها فييرابند في فلسفته للعلم. لا تتخلى هذه الاتجاهاتُ عن مطلب الموضوعية، على أنَّ الموضوعية الحقيقية تقتضي أن نأخذ بعين الاعتبار العواملَ التاريخيةَ والمجتمعية والحضارية والتعدُّدية الثقافية.
لقد انتهى العصر الوضعي والنموذج الغربي الأوحد الذي هو بحذافيره مطلَق العقل العلمي. ومع هذا لا يزال البعضُ منا غارقين فيه حتى الثمالة، لا باعتباره مناهجَ بحثيةً قابلةً للمراجعة والتطوير، بل باعتباره مسلَّماتِ العقل العلمي، افتتانًا بالتجربة الرائعة للحداثة الغربية حتى رأَوها حلًّا جاهزًا غير آبهين بخصوصياتها، ولا بما أسفرَت عنه موجاتُ مُراجعاتِها من زعزعة المادي والعلماني واللاقيمي، والخروج إلى فضاء التعدُّدية الثقافية وتعدُّد المنظورات والتوجُّهات النظرية، فهل تُفيد إشارة حسن حنفي البارعة إلى أن صاعد الأندلسي في طبقات الأمم وأيضًا ابن مسكويه في تجارب الأمم حرصًا على التعدُّدية وإعطاء كل شعب حقَّه والاعتراف بدَوره في الحضارة البشرية العامة من دون ما استثناء أو أثَرة،١٩ أو إعلان منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة في مؤتمرها المنعقد بتاريخ ٤ تشرين الثاني  (نوفمبر) ١٩٦٦م، الذي تنص مادَّته الأولى على أن «لكل ثقافة كرامة وقيمة يجب احترامها والمحافظة عليها، ومن حق كل شعبٍ ومن واجبه أن يُنمِّي ثقافته، وأن جميعَ الثقافاتِ بما فيها من تنوُّع وخصب، وبما بينها من تبايُن وتأثيرٍ متبادل، تُشكِّل جزءًا من التراث الذي يشترك في ملكيته البشرُ جميعًا!»
وعلى أية حال، الذي يعنينا الآن أن أسفرَت العناية الفلسفية بمنطق التقدُّم العلمي ودفعه وإثرائه عن الترحيب بالتعدُّدية المنهجية والنماذج القياسية الإرشادية المتتابعة والمتقابلة والمتحاورة، فهل نواصل الركون والسكون، والتواني عن الإسهام في هذا المعمعان الظافر؟ أم تتطلَّع أنظارُنا صوبَ إسهامِ ثقافتِنا في فاعليةٍ علميةٍ خلَّاقة ومُنتِجة في إطار نموذجٍ إرشاديٍّ تنبُع أصولُه من واقعنا … من منهجيةٍ إسلامية؟ وما هي ممكناتُ هذا الطرح؟

ثانيًا: المنهجية الإسلامية تأطيرًا ومأسسةً وتقويمًا

على ضوء ما سبق، يتبدَّى زيفُ الأغلوطة المقترنة بواحدية العلم الوضعي التي تزعُم أن العلم بمنهجيَّته لا وطن له ولا هُوية، وكأن ممارسي البحث العلمي من العلماء ليسوا بشرًا ينشَئون ويُوجَدون ويعملون ويُبدِعون ويُنجِزون بالضرورة في إطارٍ إنسانيٍّ متعيِّن … وكأن البحث العلمي يدور في سديمٍ وخلاء، ولا علاقة له بالقيم والمثل والتوجُّهات والغايات وسائر عناصر المنظومات الحضارية والاجتماعية التي تُشكِّل في تنوُّعها وتقابُلها عالَم الإنسان. إنها أغلوطةٌ صريحة تنقض ذاتَها بذاتِها لتُمثِّل مفارقة (paradox)؛ ذلك أن الذين يزعمون أن «العلم لا وطن ولا هُوية له» يقصدون بالضرورة العلم الغربي ذا الهُوية الغربية، وفقًا للوضعية التي كانت! وتعمل هذه الأغلوطة على تكريس الواقع المتخلف؛ فيظل العلمُ حيث هو في عالمه المتقدم زاعمًا عموميةً بادت، ولا ينعَم به إلا أهلوه وما يجودون به على الآخرين الذين لا حظَّ لهم من الإسهام في التقدم العلمي.
ولا مندوحةَ عن الاعتراف بأن واقع عالمنا الإسلامي المعاصر، وعالمنا العربي الذي يقبع في سويداء العالم الإسلامي وصُلبه وأرومته، إنما هو في القطاع المتخلِّف علميًّا. لسنا نُنكِر هذا، ويستبد بنا العزم — أو ينبغي أن يستبد — لتجاوز الواقع المأزوم بآفاقِ فكرٍ نهضويٍّ يستدرك ما فاتنا بالتمكين لعوامل التقدُّم العلمي وعلى رأسها توطين المنهجية العلمية توطينًا أصيلًا غير مجلوبٍ أو مستورَد، نشدانًا لمجتمعٍ فعَّال من العلماء ذي نموذجٍ قياسيٍّ إرشاديٍّ قادر على الانتقال بمشاركاتنا العلمية من الاقتصار على استهلاكِ العلم ومحاولاتِ نقله إلى إنتاجِ العلم أو الإبداعِ فيه. وليس المقصود من النموذج الإرشادي الإسلامي أن يرتهن الفعل المعرفي بالموقع الإسلامي والعقائد الإسلامية، بل المقصود تفعيلُهما للانطلاق وتحقيق العالمية والإنجاز، وتجسيد قيمةٍ عالمية وخطابٍ موجَّه للآخرين، وكما تُشير منى أبو الفضل، ذلكم هو الذي يجعل الأمة الإسلامية أمة الشهود.
النموذج الإرشادي العلمي لا بد أن تنبُع أصولُه المنهجية من ثقافتنا؛ لأن العلمَ غيرُ قابلٍ للاستيراد، قد نستوردُ بعضَ نواتجه من نظرياتٍ نتعلمها أو تطبيقياتٍ تقانيةٍ نستعملها، وفي هذا لا علم لدينا ولا نصيبَ لثقافتنا من الإسهام فيه. وكما يقول رشدي راشد، وهو العَلَم البارز المتمكِّن من تاريخ الرياضيات العربية ومن تاريخ العلم بشكلٍ عام، يقول إن مجموعةً من العلماء مهما كان عددُها ومهما كان عددُ المؤسَّسات التي يُوجَدون فيها لا تُشكِّل بالضرورة مدينةً علميةً ولا حتى مجتمعًا علميًّا، وذلك إذا كنا نبحث عن شيءٍ أكثر من مجرد تجمُّع،٢٠ وبنص تعبير راشد: «لا يمكن الكلام عن المجتمع العلمي دون الكلام عن البحث العلمي نفسه، والمجتمع العلمي يكون موجودًا عندما تُوجَد تقاليدُ وطنيةٌ في البحث العلمي تمهِّد لوجود هذا المجتمع العلمي، وتقدِّم له الخصائص التي تميِّزه، وإذا انعدمَت التقاليدُ الوطنيةُ في البحوث لا يبقى سوى كميةٍ من المعلِّمين وتجمُّعٍ من التقنيين ذوي تكوينٍ متساوٍ في تنافُره وفي عدم تجانُسه. أما التقاليد العلمية الوطنية — إذا ما وُجدَت — فإنها تظهر في أسماء العلماء وفي عناوین مؤلفاتهم، وفي المواضيع التي طوَّروها، والتجديدات التقنية التي قاموا بها. إن مسألة التطوُّر العلمي تكمُن في القدرة على خلقِ مثل هذه التقاليدِ في البحث، بحيث يكون عاملًا في تكامُل مجموعاتِ العلماء وفي تكوينِ المجتمعِ العلمي.٢١ وفي أكثرَ من موضعٍ تحدَّث راشد عن سُنة العمل العلمي أو شريعة البحث العلمي، التي تعني عدمَ عزله عن الجماعة التي ينتسب إليها العالِم أو الباحث. ومن ناحيةٍ أخرى، أكَّد إسماعيل راجي الفاروقي (١٩٢١–١٩٨٦م) أن البحث الأصيل المنتج عن المعرفة لا بد أن تكون وراءه روحٌ تدفعُه، وهذه الروح لا يمكن أن تُستعار أو تُستورد، وإنما تتولد عن تصوُّرٍ واضحٍ عن الإنسان والكون والحقيقة، ومن طبيعة هذا التصوُّر أنه لا يُمكِن أن يُستورَد أو يُقلَّد. ولا تُنتِج محاولة الاستيراد إلا صورًا شائهة منه، في حين أن الدين الإسلامي يتميَّز بمعالمَ واضحةٍ لهذا التصوُّر، فضلًا عن أنها معالمُ متوافقةٌ مع متطلبات الدافعية العلمية.٢٢
ولا بد أن يصحَّ منا العزمُ لتفعيل هذه الدافعية، من أجلِ تكوينِ المجتمعِ العلمي الوطيد ذي التقاليد الوطنية، ومأسسة الظاهرة العلمية في ثقافتنا؛ أي أن يكون العلم والبحث العلمي مؤسسة لها حيثياتُها وأسُسها وأصولها الراسخة ومنطلقاتُها وتوجُّهاتُها المحدَّدة وقيمها المكينة، وليست نشاطًا مبعثرًا في هذا المنحى أو ذاك، على الإجمال، لها نموذجٌ إرشاديٌّ واثقٌ ومقتدر. ولدينا من أجْل هذا ما هو أجَلُّ وأعظم من مجرَّد تقاليد، أجلُّ أثرًا وأعظمُ فاعلية، لدينا القيم والنواميس والشرائع الإسلامية بقدرتها الفريدة — حين نُحسِن استيعابها وتفعيلها — على شحذ النفوس وتوجيه السلوك، إعمالًا للجهود وللعقول، لإنتاج الفكر والعلم والمعرفة.

من ناحيةٍ تشتبكُ قضيةُ توطينِ المنهجية العلمية بالإسلام من حيث هو واقعٌ أنثروبولوجيٌّ معيش، ودائرةٌ حضاريةٌ لها موقعها الذي يتوسَّط خريطة العالم الثقافية، ومن الناحية الأخرى اختلف الإسلام عن الأديان الأخرى في أن جوهره ليس عقائدَ لاهوتيةً مفارقة، بل هُويةٌ حضارية ومنظومةٌ قيمية فاعلة تميَّزت بتأثيرٍ حاسم في محيطها الحضاري، فلم يكن عقيدةً دينيةً فحسب، بل أيضًا حضارة وثقافة توالت قُدمًا في صيرورة التاريخ نحو الصعود والتألُّق المشهود، ثم الهبوط الذي بدأ بغزو التتار لحاضرة الدولة الإسلامية بغداد، ولم ينقشع حتى غزو الحضارة الغربية والصهيونية لبغداد مجددًا وسواها من عواصمَ إسلامية، بأشكالٍ شتَّى من الغزو، بعد أن بلغ نموذجُها المعرفي والحضاري هرمًا وشيخوخة، وقبَع في أغوار التاريخ منذ القرنِ الثانيَ عشرَ الميلادي.

ويتجلى العزم للعَوْد إلى معارج الإيمان ومدارج الصعود، وفي سياق هذا العزم، ومن أجل تمكينه وتوجيهه وتفعيله، يتقدَّم الوعي المنهجي وحديث المنهاج والمنهجية من المداخل الإسلامية ليحمل أساسًا للفلسفة الكامنة وراء الفكر المنتَج والبحوث العلمية، أو ما قبل مناهجها، مثلما يمتلك القيم والعناصر الحادية الهادية الموجِّهة للبحث العلمي في حضارتنا، والمُساهِمة في تحديد غاياته، والتي تُداوِي مظاهرَ خللٍ منهجيٍّ خطيرة نعانيها، وتحول دونَ الانزلاقِ في ضلالاتٍ مدلهمَّة قد تصل إلى حدود العبثية والعدَمية وانتفاء الغاية، وتحول أيضًا دون الممارسات اللاإنسانية، وأحيانًا الإجرامية لنواتج البحوث العلمية. وفي مثل هذا يتمثَّل تمايُز وتميُّز الحضارة الإسلامية تأكيدًا لقيمها ولوجودها، كأمة وسط وأمة مبتعَثة. على أن المنهجية العلمية الإسلامية، تقتضي قبلًا طرح الوعي بالمنهجية الإسلامية في عمومها، التي هي وسيلةٌ وغاية، تجديدًا لنموذجنا المعرفي الذي ننشُد أن يستقرَّ فيه نموذجٌ إرشاديٌّ علميٌّ إسلامي.

•••

بقاءُ الأمةِ الإسلامية مرهونٌ بحفظها لهويتها، والمطلوب ليس حفظًا في الكتب وحدها وإنما أيضًا حفظًا في تفعيل هذه الهُوية الإسلامية في التطبيق. ويدخُل في هذا التطبيق الدورُ الذي يقوم به الوعي المنهجي ومأسسة الفكر والبحث عن طريق منهجيةٍ إسلاميةٍ معاصرة، هي تطويرٌ للثقافة الإسلامية وتمكينٌ للمعرفة العلمية؛ لأن المنهجية الإسلامية نموذجٌ معرفيٌّ شاملٌ عاكس للإطار الحضاري وحاوٍ للنموذج العلمي الإرشادي.

المبتغى أن تكون «المنهجية العلمية الإسلامية» الإطار العقدي والقيمي والفكري والمنطقي والإجرائي الذي يميِّز الباحث المسلم وهو يمارس بحثه. العلم لا ينفصل عن روح المجتمع الذي ينشأ فيه. ولا بد من رؤيةٍ متكاملةٍ في إطارٍ يضُم المُكوِّنات المُشترِكة للمنهجية العلمية من طُرقٍ للبحث وموازين وأدواتٍ منطقية وإجرائية وآلياتٍ عقلية وما إليه، لتتلاحم مع المبادئ الأساسية التي تقوم عليها المنهجية الإسلامية عمومًا وخاصة مفاهيم: التوحيد، والتزكية، والاستخلاف، والعمران، وانعكاساتها المعرفية والبحثية، والقيم والأخلاقيات التي تحكُم هذه المنهجية، وكيفية التعامل مع القرآن والسنَّة كمصادر. في مرحلتنا الراهنة «تسيطر عقلية الإدراك المنهجي للأمور، والبحث عن علاقتها الناظمة لها بطرقٍ تحليلية ونقدية توظِّف الأطراف العلمية المختلفة، وتربطها بموضوعاتٍ حضاريةٍ متشعبة وعلاقاتٍ متنوعة؛ فلا بُد من إعادة النظر في علومِ وسائلِ فهمِ القرآن وخدمتِه وقراءته قراءةَ الجمعِ مع الكون والتداخُل المنهجي معه.»٢٣ إنها رؤيةٌ كليةٌ إسلاميةٌ للكون والطبيعة والإنسان والمجتمع والمعرفة والعلم، والتعامل مع التراث الإسلامي ومع التراث الإنساني والرصيد المعرفي بصفةٍ عامة والتعامل مع الواقع بأشيائه وأشخاصه وأفكاره ومؤسساته ومنظَّماته، وبالتالي مع موضوعات البحث ومجال الفكر.٢٤ وعلى هذا النحوِ تنطلقُ المنهجيةُ الإسلامية في عمومها عن الأبعاد التالية:
  • منهجية التعامل مع الأصول، وقد تشتمل على قضيتَين هما: منهجية التعامل مع القرآن الكريم ومنهجية التعامل مع السنة النبوية.

  • منهجية التعامل مع التراث: وتشتمل على قضيتَين هما: منهجية التعامل مع التراث الإسلامي، ومنهجية التعامل مع التراث الإنساني العالمي.

  • منهجية التعامل مع الواقع: وتشتمل على قضيتَين هما: منهجية التعامل مع الواقع كما هو أو كما تتناوله العلوم والبحوث العلمية، ومنهجية التعامل مع الواقع كما يجب أن يكون، ونعني بذلك الدراسات المستقبلية والاستشرافية.٢٥ وفي هذه الزاوية تقبَع منهجيةٌ علميةٌ إسلاميةٌ نرنو إليها.

وبهذا تتبدَّى المنهجيةُ الإسلامية العقلية والمعرفية بشكلٍ عام بوصفها طريقًا وطريقةً في التفكير وفي البحثِ للوصول إلى المعرفة واختبارها وتوظيفها، وفي التعامل مع مصادر الإسلام التأسيسية وأصوله، وفي التعامل مع التراث الإسلامي والتراث الإنساني، وفي التفاعل مع واقع الأمة المعاصر وواقع العالَم المعاصر. ولعل المنهجيةَ الإسلامية في هذا السياق تكون قادرةً على طرح إعادةِ قراءةٍ لتراثنا الإسلامي وفهمه فهمًا نقديًّا تحليليًّا يخرج من الدوائر المغلقة للتعامل معه، وهي دائرةُ الرفض المطلَق، ودائرة القبول المطلَق، ودائرة التلفيق والانتقاء العشوائي. هذه الدوائر الثلاث — كما يقول طه جابر العلواني — لا يُمكِن أن تحقِّق التواصُل مع ما يجب التواصُل معه من هذا التراث، كما لا يُمكِن أن تحقِّق القطيعة مع ما يحب إحداثُ قطيعةٍ معه من ذلك التراث. والمنهجية الإسلامية تعني في الآن نفسه منهجيةً متبصرةً في التعامل مع التراث الإنساني العالمي المعاصر، يُخرِج تعامُل العقل المسلم معه من الأساليب المتخلِّفة عن ملاحقة الجديد، التي تنتهي بالرفض المطلَق أو القبول المطلَق والانبهار الأعمى بروحٍ مستسلمةٍ تمامًا أو ميالة إلى الانتقاء العشوائي.

يُناط بالمنهجية الإسلامية في عمومها دورٌ في تجديد الخطاب الديني، وفي رأب الصدع بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة، بين الماضي والمستقبل، بين الإنساني والطبيعي، بين القيمي والعقلي، بين الدين والعلم. وفي هذا مواجهةٌ لعواملَ تدفع إلى تكريس الواقع المتخلِّف الذي تعيشُه ثقافتُنا منذ قرون، وتعطُّل القدرة على الفكر المثمر وعلى الفعل والإنجاز، وهي عواملُ يضمُّها فتحي ملكاوي تحت اسم «مظاهر الخلل المنهجي في واقع الأمة»، رأيناه يشمَل الخلَل في التعامُل مع تُراثنا وفي التعامُل مع رصيد الحضارة الغربية الصانع لآفاق التقدُّم المعاصر. وهو خلَل يمتَد إلى فهم الواقع والتعامُل معه، الواقع الطبيعي والواقع الإنساني كلَيهما، بإهماله أو الفرار منه، اعتمادًا على التصوُّر الذهني فقط، أو تشبُّثًا بمثالٍ موهوم … صورة آتية من الماضي والعمل على استنساخها في زمانٍ غير زمانها، أو آتية من الغرب والعمل على استنساخها في مكانٍ غير مكانها. إنه خلَلٌ في توظيف مفهوم الواقعية، على الرغم من أن القرآن الكريم يَحفِل بآيات تدعو إلى فهمٍ لواقع الكون وواقع الإنسان. ويتمثل إهمالُ الواقع أحيانًا «في الزهد الديني الذي يُهمِل واقع الحياة ومتطلَّباتِ الاجتماع البشري فيها، أو في الزهد الاجتماعي الذي يُهمِل قطاعاتٍ عريضة من الواقع الاجتماعي بسبب عزلة النخبة المثقَّفة وترفُّعها عن هموم العامة، أو زهد في الواقع نتيجةَ اليأس من إمكانية إصلاحه بتجنُّب قضاياه أو مواجهة أصحابه بأفكار التكفير وممارسات العنف.»٢٦ وينتهي الأمر بالعجز عن التعامُل مع الواقع، وذلكم هو التخلُّف بعينه.

الخلَل المنهجي في التعامل مع الواقع يرتبط أيضًا بالخلَل في ربط الأسباب بالنتائج، والوقوع في التفسيرات الخرافية، أو عدم الأخذ بالأسباب بحجة التواكل أو التخفُّف من المسئولية، أو اعتبار الله الفاعلَ الوحيد، وينتُج عن هذا ضعفٌ في الدافعية إلى التحليل والترتيب والتفسير، وهي ضروريةٌ لتوطين الروح العلمية. هذا في حين أن مفهوم السببية في الإسلام يُمكِن أن يُعَد قانونًا طبيعيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا في نطاق التدبير الإلهي للكون وتصريفه لشئونه. ومن الجانب الآخر، يدخُل في إطار هذا الخلَل أيضًا «إهدار البُعد الغَيبي جملة» بزعم أنه معرقلٌ لقانون السببية ولتوطينِ العلمِ في ثقافةٍ إسلامية.

وثمَّة أيضًا خلَلٌ في النظرة الكلية الشمولية، يعني افتقاد القدرة على الرؤية الصحيحة المتكاملة. الخلَل هنا يجعل الرؤية مبتسرةً قاصرةً من هذه الزاوية أو تلك، تؤدي إلى نظرةٍ جزئيةٍ مغفلة لعناصرَ أساسية أو مقتصرة على جانب من دون آخر، أو مغالية في جزئية أو شعيرة أو في مسألةٍ شكلية. هذا في حين أن خاصية الشمول والتكامل — كما قيل بحق — تميِّز المنهجية الإسلامية التي تجمع عالم الشهادة مع عالم الغيب، وجوانب جلب النفع ودفع الضرر وواقع الحال واعتبار المآل، والواقع المحلي وما يحيط به من أبعاد والآثار العاجلة والآجلة.

على الإجمال، يتمثل الخلَل المنهجي في فهم مبادئ الواقعية والسببية والتكامل في واقع المسلمين الفكري والعملي، ويُمثِّل عائقًا مهمًّا في سبيل الإقلاع الحضاري الإسلامي المنشود. إن تحديد معالم المنهجية الإسلامية كإطار ضامٍّ كفيل بتقويم مظاهر الخلَل المنهجي، ويمكن أن يؤدي إلى مأسسة وضع الفكر والبحث والعلوم في الثقافة الإسلامية، وتوظيف الرصيد التراثي والمعارف الإنسانية والاكتشافات والإنجازات المعاصرة في سياق دافع قادر على الإضافة والإبداع والإنجاز. وذلكم بأَسْره يُمكِنه أن يؤدي إلى توطين المنهجية العلمية.

•••

في عالم البحث العلمي ونماذجه الإرشادية تكون المنهجية Methodology أو ما هو Methodological تأطيرًا ومأسسةً وتقويمًا؛ لأنها أطروحةٌ أبعد من مجرد سَرد مناهج (Methods) البحث العلمي وموازين الاستدلال العقلي التي تُوصَف بأنها (Methodic)؛ فهي تحتويها وتتجاوزها. منهج، أو مناهج، البحث هي آلياتُ العقل البشري عمومًا في البحث والاستدلال والإنشاء، وبمفهومها المحدَّد هي طرقٌ علميةٌ تُعنى بالوسائل والإجراءات والخطوات التي يتبعُها الباحثُ في انتقاله من المقدِّمات إلى النتائج، وفي وصوله إلى الغاية المنشودة من البحث. أما المنهجية فهي أوسع وأشمل من مجرد المناهج، إنها المدى والإطار والهيكل والقيم … نظرةٌ شموليةٌ أكثر استيعابًا للأصول والجذور، ومستشرفة للآفاق، إنها التصوُّر العامُّ لمبادئ وحدود وخصائص ومعالم فاعلية إعمال العقل المُنتِج، في توليد الفكر وإنتاج البحث العلمي، تُمثِّل صُلبَ النموذج الإرشادي الذي يشمل التلاقح بين رؤية العالم وبين المنظومة القيمية ويُثبِت أن العلمَ ذاتَه لا ينفصل عن إطاره الثقافي والحضاري، عن الهُوية وعن الوطن. وكما صدَّرنا في التوطئة، التمييز بين المنهج والمنهجية بمثابة العقدة التي هي الوجه الآخر للوثبة الحضارية.
إن المنهجية بمفهومها الشامل الذي يضُم المناهج ويتجاوزها إلى نموذجٍ إرشاديٍّ شامل، لا نقول إنها لا تنفصل فحسب، بل إنها هي ذاتُها الهُوية الحضارية والتمثيل العَيني للإطار الثقافي المَعْني، تضُم المشترك الإنساني العام من أدواتٍ منطقية وآلياتٍ واستعداداتٍ ووسائلَ ذهنية وإجراءاتٍ عقلية ومهارات التفكير التحليلي الناقد الذي يتصف بالاستقلالية والإبداع، مما يمثِّل علةً ضروريةً فاعلةً في الإنجاز المعرفي، ولكن المنهجية لا تقتصر على هذا، بل تشمل أيضًا العلل الكافية؛ لأن العقول في واقعِها الفِعلي المنتج «ليست «أشياء» يمكن أن تُصَبَّ في قوالبَ محدَّدة، وإنما هي قدراتٌ يجري تفعيلها وإعمالها في اتجاهاتٍ مختلفة، ونريد لها اختيارَ اتجاهاتٍ محدَّدة دون غيرها»،٢٧ لذا تجسِّد المنهجية أيضًا، وقَبلًا، عناصر الخصوصية الحضارية من قيمٍ وتوجُّهات ومنطلقات حتى يُمكِن اعتبار المنهجية بمفهومها الشامل تمثيلًا لطابع الحضارة المعيَّنة، فنجد المنهجية العلمية الغربية منذ بيكون وديكارت قد نمَت وتطوَّرَت وتألقَت تعبيرًا عن الثقافة المادية والرؤية الوضعية، بل وأكثر من هذا فحين نقول — مثلًا — المنهجية الإنكليزية تقفز إلى الأذهان التجريبية الكلاسيكية، وحين نقول المنهجية الألمانية يتبدَّى طابع الدقة والاستدلال المُحكَم، وحين نقول المنهجية اليابانية يتصدر الحديث رُوحُ الجماعة ونبذ الفردية المطلقة … إلخ. والسؤال الذي تلحُّ الإجابة عليه: ماذا حين نقول المنهجية الإسلامية؟ كيف يُمكِن أن يستخدم الباحثون المناهج الإجرائية والأدوات المنطقية بصورةٍ تنسجم مع المنطلقات والقيم والمعايير والأهداف الإسلامية؟ ماذا عن تدريب العقول والعلماء «على إنتاج العلوم والمعارف ضمن إطارٍ متناغمٍ مع مبادئ الإسلام ومقاصده، سواء في منهج التثبيت والتوثيق والاجتهاد في الإتقان والإحسان، أو في طريقة التعبير عن هذه المعارف وصياغتها باستدخال أبعاد الشهود والغيب — النسبي والمطلق — والكون والوحي، أو في طريقة توظيف هذه المعارف والعلوم لخدمة الناس وتيسير سبل حياتهم؟»٢٨ هكذا يدخل حديث المنهجية في إطار حاجة الأمة إلى التجديد لتطوير الثقافة الإسلامية المعاصرة.
المنهجية محاولاتٌ إنسانية؛ أي قابلة دومًا للتطوير والتصويب. أجل هي — بشكلٍ عامٍّ ومن المنظور الإسلامي بشكلٍ خاص — تستند إلى أصولٍ وقواعدَ منطقيةٍ جُلِّها يتصف بالاستقرار والثبات، ولكن بعض عناصرها الهامة متغيِّرة تتطوَّر تبعًا لخبرة المفكِّرين والعلماء ومتغيِّرات عصورهم واجتهاداتهم، وتأتي المنهجية في النهاية اجتهادًا بشريًّا محكومًا بظروفه التاريخية وعُرضة للصواب والخطأ، وهي موضع وجهات نظر واختلافات شتَّى تلاقت وافترقَت وتلاقحَت، وتظل دائمًا مجالًا للتصحيح والتطوير والتجديد. وتبقى الحاجة للبحث في المنهجية والتفكير المنهجي قائمةً لتفعيل أوجُه الصواب وتصويب أوجُه الخطأ، وعلى كل جيلٍ أن يجتهد فيبذل جهده ويجدِّد فهمه ورؤيته، ويُبدع في دفع حدود المعرفة إلى آفاقٍ جديدة، ويظل الطريق مفتوحًا لمن يأتي بعده.٢٩ بعبارةٍ موجزة، إنشاء المنهجية والنموذج الإرشادي مجالٌ مفتوحٌ للاجتهاد. من حق، أو بالأحرى من واجب، الحضارة المعنيَّة أن تجتهدَ لخلق منهجيتها، وأن تقبل وترفُض، وأن تنقِّح وتطوِّر … لا يتأتَّى نقلُ هذا عن الغرب، ولن يكون معطًى جاهزًا في التراث يُراد فرضُه على الواقع. يمكن أن تكون أصوله مستوحاةً من الوحي ومستلهَمةً من التراث في عمليةٍ اجتهادية، هي ككل اجتهادٍ إنسانيٍّ ليست معصومةً من الخطأ، ومعرض دائمًا للتصويب والتعديل والتطوير. إنه اجتهادٌ يفتح الباب لاجتهادٍ متواصلٍ في تفعيل الفكر وتوطين البحث العلمي.

ولا جدال، طبعًا، في الدور العظيم والإنجاز الضخم والرصيد الهائل الذي قامت به الحضارة الغربية في مجال مأسسةِ الفكرِ والبحثِ العلميِّ بمنهجيةٍ ومناهجَ فعالة، من المفيد ومن الضروري العناية بدَرسها وفَحْصها. لا سيما وأنه لا يمكنُ فصلُ التقدُّم العلمي الذي حدَث في العالم الغربي عن مأسسة العلم، التي كانت بدَورها صلبًا من أصلاب التقدُّم في الفكر الغربي. ولكنَّ هناك فارقًا كبيرًا بين الدرس والاستفادة والتوظيف الراسم للحدود، وبين الترديد الأصَم والتبعية العمياء. وفي رفضِنا الاغترابَ عن واقع المكان يظل من حقنا أن نقبل ونرفُض ونقدِّم بديلًا يحمل خصائصَ حضارتنا نحن، ويحقِّق أهدافنا نحن، ويؤكِّد وجودنا نحن. باختصار، لا بد أن يكون للحضارة الإسلامية رؤيتُها في مأسسة العلم والبحث والإنجاز المعرفي بمنهجيةٍ واضحة المعالم.

ورفضًا، للاغترابِ عن واقعِ الزمان، من الناحية الأخرى، لا بُد أن تكونَ الرؤية المنهجية معاصرة، تستجيب لتحديات العصر وتُجيب عن تساؤلاته الملحَّة؛ فقد كان للمسلمين في عَصرِهم الذهبي هم الآخرون جهودُهم الجبَّارة في المجال المنهجي وعطاؤهم المتميِّز في مأسسة الفكر والبحث بمنهجيةٍ ومناهج. إنه تاريخٌ طويلٌ بدأ منذ لحظةِ بدءِ تدوين العلوم الإسلامية، ثم تنامي وتطوُّر وتواصُل عَبْر مسار الحضارة الإسلامية وتطوُّراتها. وإلى هذا العطاء المنهجي يرتد — إلى حدٍّ كبير — الدورُ المعرفي العظيم الذي قامت به الحضارةُ الإسلامية في عصر تألقها وازدهارها. ولا بُد أن يُوضَع كل هذا موضعَ الاعتبار ونحن بصدد المنهجية الإسلامية، إنها في جانبٍ من جوانبها تجديدٌ لا يمكن أن يكون قطيعةً شاملةً مع التراث، بل محاولة لفهمه وتطوير حصائله في التجربة الاجتهادية على أساس القواعد الأصيلة التي لا يُمكِن تجاوزها والتي أبدع الأقدمون في محاولةِ صياغةِ مضامينِها المنهجية وتطبيقها، ولكن كما قال الشيخ أمين الخولي (١٨٩٥–١٩٦٦م) — شيخ الأصوليين في التجديد وشيخ المجدِّدين في الأصولية – لهم عصرُهم ولنا عصرُنا، نتعلم منهم، ولا نحذو حَذوَهم النعلَ بالنعل.٣٠
إنها قضية الأصالة والمعاصرة الشهيرة؛ ففي تأطير ومأسسة العلم بمنهجيةٍ متكاملة، كما هو الوضع في محاورَ حضاريةٍ عديدة، لدينا نموذجان مكتملان، النموذج الإسلامي الموروث، والنموذج الغربي المعاصر، والمطلوب استيعابُ وتجاوزُ هذا وذاك بمنهجيةٍ إسلاميةٍ معاصرة تكون مدخلًا لتوطين المنهجية العلمية في العالم الإسلامي، أو في الثقافة الإسلامية.
المنهجية الإسلامية رؤيةٌ عامة ينبثق عنها مناهجُ عديدة، وهي بدورها تنبثق عن وعيٍ متَّقد بضرورة المنهج والمنهاج. وكما يقول فتحي ملكاوي: «الوعي بالمنهج ليس شعارًا جديدًا فحسب، يُضاف إلى الكثير مما ينقص الأمة من أجل تحقيق شهودها الحضاري، وإنما هو تحديدٌ فكريٌّ وعملي.»٣١ وقد اقترح سيف الدين عبد الفتاح أربعةَ عناصرَ ضروريةٍ لبناء الوعي المنهجي، هي: الوعي بمصادر التنظير المنهجي الإسلامي، والوعي بالإمكانات المنهاجية الغربية المتاحة ومراجعتها، والوعي بالتطبيق المنهجي والتعامل مع مصادر التنظير الإسلامية، والوعي بصعوبات التطبيق المنهجي وكيفية تجاوزها؛ فحديث المنهجية ضائعٌ سُدًى ما لم ينتقل إلى ميدان الممارسة العملية للمنهج في مجالات التخصُّص الفكري أو العلمي.٣٢
وإذا كانت المنهجية تصبُّ أخيرًا في التطبيق الفعلي في الفكر وفي البحث العلمي، فإنها تنبع أصلًا من أن منهجية التفكير والبحث ومبادئها وقيمها ومفاهيمها هي أدواتٌ لتفعيل الرؤية الكونية الحضارية للأمة، تؤثِّر فيها وتتأثر بها. وكما يقول المفكر الإسلامي المهموم بالمنهجية عبد الحميد أبو سليمان: «لكل منظومةٍ حضارية رؤيةٌ كونية تخدمها وتفعِّلها منهجيةٌ في التفكير، كما أن لكل منهجية مبادئَ تهتدي بها وتحدِّد لها مخرجات هذا الفكر، وكلما كانت هذه المنهجية على شاكلة رؤيتها الحضارية، وكانت واضحةً إيجابيةً كونيةً منفتحة، تعبِّر عن جوهر هذه المنظومة الحضارية ورؤيتها الكونية، كانت منهجيةً فعَّالةً منتِجة؛ ولهذا كان الاهتمام الحضاري والأكاديمي المعاصر بمنهجية التفكير كبيرًا ومركزيًّا؛ لأن منهجية التفكير هي التي تحدِّد من الناحية العملية فعاليةَ كل منظومةٍ حضارية وطبيعةَ آثارها الإيجابية أو السلبية على الأمم والشعوب التي تنضوي تحت مظلة تلك المنظومة الحضارية، بل على إسهاماتها في مسيرة الحضارة الإنسانية بوجهٍ عام.»٣٣

هكذا نخلُص إلى أن المنهجية بمدلولها الشامل هي السبيل لتوطين الظاهرة العلمية وتأطيرها ومأسستها في الحضارة المعنيَّة، من حيث إنها تستطيع أن تستقطب عناصرَ جوهريةً تداركَتْها فلسفة العلم في تطوُّراتها التي صدَّرنا بها الحديث؛ أي تستقطب عناصرَ ثقافةِ المجتمع وقيمه وسمات رؤيته الحضارية والكونية فتحمل عناصرَ تميُّزه وخصوصيته، ومن قبلُ ومن بعدُ مرتكزه العقائدي ورصيده الإيماني.

ثالثًا: القراءتان منطلق المنهجية الإسلامية

اتفقنا على أن بحثنا عن مأسسة وتوطين الظاهرة العلمية، يحول دون الاقتصار على استيراد منتوجاتها من مَعقِلها في الحضارة الغربية، ليظل العلم في حضارتنا غربيًّا، غريبًا ومغتربًا. إنه الاغتراب عن المكان … عن واقعنا، وعدم الإخلاص له والعجز عن الاستجابة المبدعة لحاجاته. وليس من المجدي ولا حتى من الجائز — كما يشير حسن حنفي دائمًا — أن نحذو حذو الحضارة الغربية باعًا بباع وذراعًا بذراع وشبرًا بشبر، حتى إذا دخلوا جُحر ضبٍّ دخلناه وراءهم، وإذا استبعدوا الوحي كمصدر من مصادر المعرفة استبعدناه مثلهم، لنُهدر الرصيدَ الروحيَّ الضخمَ المهيبَ بإمكاناته الجبَّارة في تثبيت القيم وشحذ الهمم.

في عصر العلم الحديث كانت قراءة كتاب الطبيعة في الحضارة الغربية بديلًا عن قراءة الكتاب المقدس، مفاضلةً بين القراءتَين، استبعادًا وتنحيةً لقراءة الوحي السماوي. وفي مقابل هذا كان كتابُنا السماوي دعوةً لاستكشاف الطبيعة متصالحًا معها، ولا تمكين للظاهرة العلمية في الحضارة الإسلامية ولا توطين للمنهجية العلمية فيها إلا على أساس الجمع بين القراءتَين؛ قراءة الوحي المسطور والوحي المنظور؛ أي قراءة القرآن والعالم، كلَيهما. وفي هذا تكامُلية بدلًا من التفاضُلية التي تحملها المنهجية العلمية الغربية. إنه التكامُل لا التفاضُل، التضافُر لا التنافُر، الجمع وليس الطرح، التآزر وليس الاستبعاد … فضلًا عن الجمع بين مصالح الدين والدنيا، الحياة والآخرة، الروح والمادة. وفي النهاية تعكس القراءتان ثقافةَ أمةٍ متمايزة من دون استعلاءٍ على الثقافات الأخرى أو الزعم بالمركزية والحقوق الاستعمارية ومشروعية الإمبريالية.
إن الجمع بين القراءتَين هو ألفُ باءِ المنهجية الإسلامية وتوطين المنهجية العلمية فيها، أو هو المنطلَق الذي يحمل خصوصيتها وتميُّزها، لا سيما عن المنهجية المعتمدة الواردة أو المُستورَدة من الحضارة الغربية، والتي تزعم أنها منهجية القراءة الواحدة والوحيدة. فماذا يعني هذا؟

قراءة كتاب الطبيعة باتت الحلبةَ الكبرى لمعركة التفوُّق بين الحضارات، وهي بلا جدالٍ همٌّ مبدئي للمنهجية العلمية وللبحث العلمي والذي درَجنا على التسليم باستيراده من الغرب؛ حيث النجاح الأكبر للمنهج التجريبي في اقتناص الطبيعة بين شِباك النسَق العلمي الذي تزداد ثقوبُه ضيقًا ودقةً يومًا بعد يومٍ وإلى غير نهاية. وحين نَلِج قضية «المنهج التجريبي والحداثة» في الفصل التالي، سنرى كيف أدَّت سيادةُ الكتاب المقدَّس على أجواء أوروبا القروسطية إلى تنحيةِ الطبيعةِ وتنحيةِ البحثِ فيها. ثم كانت الحداثة الأوروبية قطيعةً مع الكتاب المقدَّس وإقصاءه تمامًا عن النضال العقلي والمعرفي فيما سُمي بالعلمانية، واستبدال الطبيعة به كمصدرٍ للمعرفة. ربما كان الكتاب المقدَّس بعقائده اللاهوتية المسيحية المجافية للطبيعة ومتغيرات الواقع، وربما كانت غربةُ الدين عن الغرب أصلًا، حتى رآه البعضُ منهم فكرًا مستوردًا — إن جاز التعبير — فكانت العصور القروسطية الدينية المظلمة فاصلًا غريبًا ومغتربًا في تاريخ الثقافة الغربية. أيًّا كان التفسير، يشهَد تاريخ العقل الغربي على أن بنيتها وطبيعة كتابها المقدَّس جعلاها دائمًا بإزاء خيارٍ استبعادي: إما … أو، إما قراءة الكتاب المقدَّس وإما قراءة كتاب الطبيعة، الواحدة منهما تستبعد الأخرى، فكان الانتقال من قراءة لكتابٍ واحد هو الكتاب المقدَّس، إلى قراءة لكتابٍ واحد هو الطبيعة. الجمع بين القراءتَين هنالك مستحيلٌ منطقيًّا، أو على الأقل لم يحدُث أبدًا. صراع بين القراءتَين، تفوز واحدةٌ وتُستبعَد الأخرى.

في قصة نجاح العلم الغربي، الذي بدأ في إيطاليا ثم انتقل إلى غرب أوروبا ووسطها، وبلغ درجةً مبهرة من النضج والاكتمال مع نظرية نيوتن وما تلاها، لم يكن العلم الحديث في بداياته الأوروبية يتفتح كالزهر، بل كان ينبجِس كالدم، ومعلومٌ تمامًا تفاصيلُ الصراعِ الدامي بينه وبين السلطة المعرفية. وكانت آنذاك لا تزال في يد رجال الكنيسة بكهنوتهم الثقيل الذي لا تعرفُه الحضارة الإسلامية أبدًا، ولم تشهد أصلًا صراعًا بين رجال العلم وبين السلطة، بل كانت الحركةُ العلميةُ تسير برعاية السلطة وبمباركتها وتمويلها وكرمها الباذخ أحيانًا؛ لأن القرآن لا يُجافي الطبيعة أبدًا، ولا تطرح مفاضلةً بين الطرفَين أو بين الكتابَيْن.

في أوروبا على مشارف العصر الحديث اشتعلَت المواجهاتُ الداميةُ بين رجال العلم ورجال الكنيسة ذوي السلطة المعرفية آنذاك، ولكي يستطيع رجالُ العلم احتلالَ مواقعَ معرفية والاستقلالَ بنشاطهم، أصَر العلماءُ على أنهم هم الآخرون أقدرُ البشر طُرًّا على قراءة كتابٍ آخر لا يقل عن الأناجيل عظمةً ولا دلالةً على قدرةِ الرب وبديعِ صُنعه، إنه كتابُ الطبيعة المجيد. وأصبَح تعبير (قراءة كتاب الطبيعة المجيد) تعبيرًا شائعًا في تلك المرحلة للدلالة على نشاط العلماء. خصوصًا بعد أن استعمله غاليليو (١٦٤٢–١٥٦٤م) قائلًا إنه مكتوبٌ بلغة الرياضيات، وهذه فكرةٌ فيثاغوريةٌ أفلاطونيةٌ قديمة، لكنها مع غاليليو أصبحَت أساسَ علمٍ طبيعيٍّ ناضج وواعد. استطاع العلماءُ في النهاية الاستقلالَ عن الكنيسة وعن قراءةِ الكتاب المقدَّس، وانتزاعَ السلطة المعرفية تمامًا من يد الكهنوتِ الكنَسي. ووصَل الإقصاءُ للبُعد الديني ولدَورِ الكتاب المقدَّس إلى غايته مع مجيءِ عصرِ التنوير. إنه استبدالُ كتابٍ بكتاب وقراءةٍ بقراءة، اكتفاءً بقراءةٍ واحدةٍ ووحيدة.

وفي مقابل هذه التفاضُلية نجد فاتحةَ المنهجية المعاصرة من المداخل الإسلامية تكاملية؛ فهي الجمع بين القراءتَين، قراءة الكتاب المنزَّل وقراءة كتاب الطبيعة، وفي مرحلتنا الراهنة بشكل عامٍّ؛ حيث أصبحَت آلياتُ القراءة والفهم والتأويل من أعقَد وأخصَب المهام التي يقوم بها العقلُ البشري. وسيطرح الجمعُ بين القراءتَين قواعدَه وإشكاليتَه وآلياتِه، ومن أصوله «أن نقرأ الجزئي ضمن الكلي، أو نحوِّل الكلي إلى إجرائي، أو نُسكن الإجرائي في الكلي»،٣٤ وسواها من آلياتٍ يُسفِر عنها النظر وتتطوَّر بفعل الممارسة.

في كتابنا المنزَّل إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٩]، وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ٥٢]. وكما يقول عبد الحميد أبو سليمان، لم يكُن القرآن الحكيم خطابَ خوارقَ وإعجازاتٍ بقَدْر ما هو خطابُ كتابٍ وقراءة وتفكُّر وتدبُّر، وخطابُ عقلٍ وحُجة وإقناع، وخطابُ هداية وإرشاد. بعبارةٍ أخرى، هو خطابُ رؤيةٍ كونيةٍ وحضاريةٍ مواتية تمامًا لانبثاقِ منهاج ومنهجية، خليقة بتوليد فكرٍ إسلاميٍّ واقعيٍّ علمي وبحثٍ منجز فعَّال في مختلف المجالات. إنه القرآنُ المجيدُ كتوجيهٍ أخلاقي وكمصدرٍ معرفي من حيث هو توجيهٌ منهجي، فهكذا يكون الذكر والفرقان والهدى.

القرآن بيان وخطاب. البيان يحمل رسالة، لكنها تأتَّت في سياقٍ خطابي. الخطاب فاعليةٌ مستمرة، تواصُل وديمومة، تستدعي استجابةً من المخاطَب. ومن الضروري استحضارُ حيوية الخطاب القرآني التي تأتَّت بأساليبَ عديدة من قبيل استخدام صيغة المضارع وأساليب النداء. إنه قوةٌ فاعلة في واقع المُدرَكات المعاصرة التي تتفاوتُ في هذا تفاوتًا كبيرًا من حيث تتفاوتُ القدرة على استيعاب أبعاد النظرة الكلية، وذو أبعادٍ توجيهيةٍ اعتقادية وعملية فيُمكِن لهذا المصدر المُنشئ «أن يكون له دلالاتٌ عملية ونحن نترسم خطى منهجيةٍ بديلة».٣٥
إن النموذج الإرشادي يعني احتياجَ فلسفةِ العلم وحديثِ المنهج العلمي إلى التصور والرؤية، لنصل إلى الجمع بين القراءتَين، قراءة الكتاب المنزَّل من ناحية، ومن الناحية الأخرى قراءة كتابِ الطبيعة والحياة والحضارة، أو العلوم الطبيعية والحيوية والاجتماعية والإنسانية. القراءة الأولى المصدر الثرُّ لأسُس تصوُّرٍ عام ورؤيةٍ كونيةٍ شاملةٍ قادرة على تأطير ومأسسة القراءة الثانية في إطار تقاليدَ ونواميسَ وقيمٍ خاصةٍ بحضارتنا وثقافتنا وهويتنا الإسلامية والعربية، كتفعيلٍ للرؤية الكونية والحضارية للأمة. ولا تقوم حضارةٌ أو مدنيةٌ أو حالةٌ عمرانية من دون تصوُّرٍ عام؛ أي من دون أساسٍ تنبني عليه أركانُ وتفاصيلُ الرؤية الكلية للكون والحياة والإنسان. هذه الرؤيةُ الكونية أو التصوُّر العام صُلبُ ما وراء المنهج وما حولَه أيضًا، مما يُمثِّل الفلسفة الكامنة خلف الممارسة المنهجية. وكانت الفلسفة تُعرَف عند أسلافنا باسمها الأصيل؛ أي الحكمة، الذي يُصِر عليه حسن حنفي إصرارًا وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة: ٢٦٩]؛ فيُمكِن أيضًا القول إن التصوُّر، والرؤية التي تقوم على هذا التصوُّر، يمثِّلان معًا ما كان يُعرَف عند الحكماء الإسلاميين ﺑ «الحكمة النظرية» «حيث قسَّم أولئك الحكماءُ الحكمةَ إلى: حكمةٍ نظريةٍ تعني فَهْم الكون كما هو كائن، وحكمةٍ عمليةٍ تعني فَهْم السلوكِ الحياتيِّ كما ينبغي أن يكون. وقراءة الكتاب المنزَّل تهدينا إلى عناصر التصوُّر والرؤية التي ينضبط على أساسها قراءةُ كتاب الطبيعة، وتتغيَّا فهمًا يشمل الإدراكَ والوصولَ إلى العلم والمعرفة وتحديد مبادئ الفهم الأساسي للحياة والواقع.»٣٦ ومثل هذا من المكوِّنات الأساسية للمنهجية الإسلامية كواقعٍ عمليٍّ، حيٍّ مُمارَس ومُعاش.
وإذا كان الرجوع إلى تفعيل الحكمتَين النظرية والعملية معًا عن طريق الجمع بين القراءتَين، هو بشكلٍ ما مواصلة لإيجابية ترَكها لنا السلف، فإن هذا الجمع يمكِّننا أيضًا من تجاوُز إشكالية شغلَتهم كثيرًا، وهي كيفيةُ التوفيقِ بين الحكمة والشريعة أو العقل والنقل. دفعَت بابن رشد مثلًا إلى كتابة فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال، ودفعَت بالغزالي لتأليف تهافُت الفلاسفة، ورد ابن رشد عليه في تهافُت التهافُت، وتحريم ابن الصلاح للمنطق من أجل «درء التناقُض بين النقل والعقل» الذي شغل ابن تيمية كثيرًا … إلخ. وعن طريق منهجية القراءتَين لا نعود بإزاء طرفَين منفصلَين ننشغل بالوصل المفتَعَل بينهما، بل بإزاء فصل المقال فيما بين الديني والفقهي وبين العلمي والإنساني وبين التراثي والحداثي من اتصال، وهذا تطويرٌ لمنهجيةٍ كليةٍ شاملة: قراءة القرآن في كُليته وقراءة الكون في كُليته.٣٧
إن قراءة القرآن في كليته تعاملٌ مختلفٌ مع الخطاب القرآني، يتجاوز التعاملاتِ الجزئيةِ للمفسِّر أو الفقيه أو النَّحْوي، وذلك بالنظر إلى الخطاب القرآني في شموليته وحيويته. ونذكُر في هذا دعوى أمين الخولي للتعامُل مع القرآن الكريم موضوعًا موضوعًا لا آية آية، ومن قبلُ ثمَّة دعاوى ابن هشام وأبي عليٍّ الفارسي والحارث المحاسبي وفريقٍ من الأصوليين لمثل تلك القراءة الكُلانية … على أن المطلوب هو القراءةُ المنهجية الرامية إلى تأسيس رؤيةٍ نظرية ووحدةٍ أعم وأشمل. إن استنباط الحكم الشرعي والوصول إلى مقاصد الدين في أي مسألةٍ لا يتم على الوجه الأكمل إلا بأخذ القرآن جملةً واحدة وملاحظةِ وحدته البنائية؛ فثمَّة وحدةٌ بنائية على مستوى الآية والسورة ومستوى القرآن كله. إنها منهجيةٌ للتعامل مع القرآن باعتباره وحدةً بنائية وليس مجرد وحدةٍ موضوعية؛ أي باعتباره بنيةً معرفيةً متماسكة، ويُقرأ القرآن كله، وينظر إلى أي آية أو موضوع في ضوء الوحدة البنائية لكامل القرآن، مؤتمِّین بالمقاصد الكلية للدين كما يهدي إليها القرآن الكريم.٣٨ بقراءة القرآن الكريم في كُليته، وبالتأكيد على الصيرورة والتفاعل والمنطق التاريخي للمتغيِّرات نستطيع أن ندخُل إلى عالم الكتاب الكريم بمنهجيةٍ واضحة، ونخرج منها إلى منهجيةٍ أوضحَ للتعامل مع العالَم الذي نحيا فيه ونريده موضوعًا للبحث والعلم والمعرفة، نشدانًا للتقدُّم والتمكين في الأرض.

والخلاصة أنه في إطار القراءتَين؛ قراءة الوحي وقراءة الكون معًا، يتأتَّى حديثُ المنهاج والمنهجية، من أجل تكامُل مصادر المعرفة، وتحرير عقل الإنسان المسلم وإطلاق طاقاته … ومن أجل توطين المنهجية العلمية.

رابعًا: التوحيد مرتكزًا

المعامل الأكبر للرؤية الكونية والحضارية الإسلامية، وبالتالي المنهجية الإسلامية، هو عقيدة التوحيد؛ وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة المعرفة. إن التوحيد دعامةُ الإسلامِ الكبرى التي يقوم عليها الدين، كأصلٍ وكفروع، ككُلٍّ وكأجزاء. يكمُن التوحيدُ في مقدِّمة المنظومة المقاصدية القرآنية التي استهدفَت تغييرَ معتقداتِ الناسِ ومكنوناتِ صدورهم، من أجل إنشاء حياةٍ أفضل وواقعٍ أطهر. فكان التوحيد معبَّرًا عنه بشهادة لا إلَه إلا الله هو الذي أخرج للناس الأمة الوسط … الأمة القطب … الأمة المُبتعَثة … الأمة الشاهدة.

تتعدَّد وجوه التوحيد وجوانبه، بتعدُّد جوانب الوجود أو جوانب عالَمَي الغيب والشهادة. التوحيد هو الذي يحدِّد معالم عالَم الغيب، ثم يرسمُ الخطوطَ والفواصلَ بين عالم الغيب وعالم الشهادة. والله وحده الموصوف بأنه عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [الحشر: ٢٢]. التوحيد ضرورةٌ للإيمان بالغيب، كما أن الإيمان بالغيب ضروريٌّ لتجريد التوحيد؛ فالله غيبٌ مطلق وعنه صدَر الغيب. وفي هذا نجد الإيمانَ بالغيبِ هو الذي يُساعِد الإنسان على فهم حدوده ودوره المرسوم له في هذا الكون، وموقعه في منظومة الخلق.٣٩
لقد انطلقَت المنهجية الغربية الوضعية، منهجية القراءة الوحيدة لكتاب الطبيعة فقط، من مبدأ ميتافيزيقي عميق وضروري لكي يكون العلم ممكنًا، مفادُه أن هذا الكون الذي نحيا فيه — عالم الشهادة بالتعبير الإسلامي — ليس كايوس (chaos) بل هو كوزموس (cosmos)؛ أي ليس هاويةً من الفوضى والعَماء، بل هو عالَم مُنتظِم مطَّرِد وبالتالي قابل للفهم العلمي والبحث عن قوانينه. ولو لم يكن الكون كوزموس لما كان قابلًا لممارسة البحث العلمي ومحاولة الوصول إلى نسَق القوانين الحاكمة إياه، بل لما كان قابلًا لممارسة تجربة الحياة أصلًا. تُسلِّم المنهجيةُ الغربيةُ بهذا المبدأ كمبدأ ميتافيزيقي أو أنطولوجي فقط لا علاقة له بالقيم أو المعايير. وتوطَّن هذا في الغرب بفعل العقيدة المسيحية التي حكمَت إطارَه الثقافي في العصر الوسيط، وهي تقوم على الخوارق ومناقضة القانون الطبيعي، فضلًا عن اعتبار عالَم الطبيعة هو عالَم السقوط والخطيئة. عضَّد هذا من وضع المنظور الديني كمُضادٍّ للمنظور العلمي، واستقراء الطبيعة كطريقٍ مناوئ لطريقِ قراءة الكتاب المقدَّس.

فكان أن قام العلمُ الطبيعيُّ في العالم الغربي على أساسِ تنحيةِ الكتاب المقدَّس جانبًا والاقتصار على قراءة كتاب الطبيعة فقط. والخلاصة أن انطلقَت إمكانية العلم في المنهجية الغربية من مبدأ ميتافيزيقي؛ العالم كوزموس، وهو مبدأ أنطولوجي خالص مجرد من القيم والمعايير، فكان الخلل الذي تُحاوِل فلسفة العلوم الراهنة تجاوزه حين تُعنى بالإطار الثقافي للظاهرة العلمية وبأخلاقيات العلم ومعاييره إلى آخر ما صدَّرنا به الحديث.

التوحيد كمرتكزٍ منهجيٍّ يختصر الطريق، ويأتينا بالحُسنَيَين؛ فهو مبدأ نظامية الكون، ومبدأ الأخلاقيات معًا. وليس هذا خلطًا بين اللاهوتي والطبيعي أو الديني والعلمي بقَدْر ما هو ربط صار منشودًا بين القيمي والمعرفي.
يُصادِر التوحيد قبلًا على أن الكون منظومة ونسَق ونظام محكومة بسنن أو قوانين. «المادة ليست شرًّا أصليًّا، بل حقيقةٌ تتلازم وتتكامل مع الواقع الروحي … لأنها صنع الإله الكامل والخالق الأعظم.»٤٠ الطبيعة في الإسلام ليست مقترنة بالسقوط والخطيئة، بل هي «العالَم» أي العلامة الدالة على وجود الله. كان المتكلمون هم أوَّل من استخدم لفظة «العالَم» من أجل هذا الغرض، ولا غَرْو؛ فعلم الكلام هو علم التوحيد. «إنما سُمي «العَلَم» علَمًا لأنه علامةٌ منصوبة على وجود صاحب العلم. فكذلك «العَالَم» بجواهره وأعراضه، وأجزائه وأبعاضه دلالة دالة على وجود الرب سبحانه وتعالى.»٤١ كلمة «عالَم» مشتقة أصلًا من العلم والعلامة، وفي أصلها اللغوي البعيد من الحسي؛ العُلام أي الحناء لما يترك من أثر باللون. والعلامة ما تُترك في الشيء مما يعرف به. ومن هذا العَلَم: لما يُعرف به الشيءُ أو الشخص، كعلَم الطريق، وعلَم الجيش (الراية)، وسُمي الجبل علَمًا لذلك. ومنه: علمتُ الشيء أي عرفتُ علامته وما يميِّزه، ونقيضه الجهل. وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية للعلم. ولم تَرِد لفظة «العالم» في القرآن الكريم أبدًا. وردَت فقط في صيغة الجمع: العالَمين — ربما على سبيل التأكيد — ثلاثًا وسبعين مرة. هذا غير (العالِمين — بكسر اللام)، من العلم بالشيء التي وردَت ثلاث مرات.٤٢ فها هي نفحةٌ كلاميةٌ تكشف عن عبقرية اللغة العربية؛ حيث العلم والعالَم مردودان إلى الأصل اللغوي نفسه، ومن المرتكز التوحيدي يمكن أن تعمل المنهجية الإسلامية على استثمارها لتوطين العلم في عالمنا. علم الكلام هو علم العقائد وعلم التوحيد، دفعَت قراءتُه للكتاب المنزَّل إلى النظر في كتاب الطبيعة ووضْع عنوانٍ لهذا الكتاب هو «العالَم». إنه التأكيد على أن الحضارة الإسلامية هي حضارة القراءتَين؛ القرآن والعالَم الطبيعي، في مقابل الحضارة الغربية حضارة القراءة الواحدة والمفاضلة بين طرفَين يستبعد أحدُهما الآخر.
التوحيد مبدأ يضفي على الكون نظاميته التي تجعل العلم التجريبي ممكنًا، وتجعل إعمال العقل أمرًا واعدًا. يؤدي الإيمان بوحدانية الله واتساق وشمول واستمرار القانون الطبيعي إلى إمكانية العلم، وكما أشار المفكِّر الهندي «همايون كبير» في كتابه العلم والديمقراطية والإسلام هناك ثلاثةُ معتقداتٍ أو أفكارٍ أساسية لا بد منها لنمو العلم هي: الاعتقاد بأن الكون متجانس، وبأن قوانين الطبيعة متَّسِقة، والإيمان بقيمة كل وحدة على حدة، لتكون الطبيعة قوةً تقوم بتشكيل الأشياء وتسييرها وَفْق خطةٍ إلهيةٍ من غير هَدْر. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان: ٢].٤٣ وفي هذا نجد التوحيد يُجسِّد قدرة الإسلام على تلبية حاجة معتنقيه للعلم ولتأسيس منهجيةٍ إسلامية وتوطين المنهجية العلمية. إنه ضمانٌ أكيد للمقدِّمة الأولية بنظامية الكون وإمكانية العلم.

•••

ليس التوحيد مبدأ ميتافيزيقيًّا فحسب يضفي على الكون نظاميته، بل هو أيضًا وقبلًا مبدأٌ قيميٌّ يضفي على البحث العلمي — وعلى سواه — أخلاقيات ومعايير. حين يضفي التوحيد على الكون نظاميته، ويحدِّد للمسلم ماهيته ودوره وقيمه، وشبكة العلاقات مع الكون والحياة والزمان. وفي هذا — كما قيل بحق — يُضفِي التوحيدُ على كل شيء في الحياة معنًى، ويمنحه روحًا، ويضع له هدفًا، ويجعله دائرًا حول مركز. هكذا نجد التوحيد مقصدًا أعْلَى يتحقق في ضمير الإنسان ووجدانه، وينعكس على الجانب المعرفي وإطاره المنهجي، ليكون تمثيلًا للربط بين القيمي والمعرفي.

وإذ يتبوأ التوحيد موضعه بوصفه مرتكزًا، فإنه يحرِّر الإنسانَ من عبادة الأشياء والأشخاص، ومن عبادة الإنسان للإنسان، ومن عبادة ذاته الفردية … وسائر العبادات الزائفة وأشباه العبادات التي ظهرَت مع نبذ الدين وأخذ العلمانية والإلحاد كبديلٍ له، وهو طريق المنهجية الغربية الذي قطعَتْه منذ أن كان التمثيل لهذا باعتماد القراءة الواحدة والوحيدة لكتاب الطبيعة المجيد. وما من شيءٍ يبعث في الإنسان الشعورَ بالاستغناء ثم الطغيان كالعلم والمعرفة من غير إيمان كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق: ٦ / ٧]؛ حتى علمتنا الحضارة الغربية أن هذا رديفٌ لعقلية الإدراك المنهجي للأمور والبحث عن علاقاتها الناظمة وكيفية توظيفها وتسخيرها. ولكن … بين قوم يحتل التوحيد موقعه المناسب في قلوبهم ويجعلونه مرتكزًا منهجيًّا، لا مجال للطغيان والاستعلاء؛ فالتوحيد يجعل العلم وسيلة للتقوى والارتباط بالله … مصدر كل علم وخير ومعرفة إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: ۲۸] فلا يستطيع الغرور بالمعرفة والعلم أن يستولي على قلب الموحِّد أو عقله، بل يقول دائمًا: سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: ٣٢]، وبذلك يصل التوحيدُ علمَ الإنسان بالإنسانية كلها، في حاضره وما هو متداول فيه، بل يفتح أمامه آفاقًا ممتدةً إلى الماضي والمستقبل، وإلى الحياة الأخرى. وأيضًا لا مجال للعبث والعبثية، ولا سبيل لبروز أفكار العدم والعدمية وانتفاء الغاية. كما أن الموحِّد لن يُسخِّر العلم إلا فيما يُرضي الله وينفع الناس؛ فلا مجال لتسخير العلم لبناء أسلحة الدمار الشامل أو غير الشامل، ولا مجال لتسخير العلم ومنجَزاته لإفساد الحياة، وإعلاء شأن الفساد والإثم فيها، وتدمير البيئة والإنسان والحياة والأحياء، وخيانة واجب الاستخلاف ومهام العمران، العلم والمعرفة عند الموحِّد يقتضيان العمل الصالح، فالموحِّد يستعيذ بالله من علمٍ لا ينفع.٤٤
وتنص آيات القرآن الكريم على أن السبيل المؤدي لحقائق التوحيد هو النظرُ العقليُّ؛ ولذلك كان «النظرُ العقليُّ» المطلبَ الإلهيَّ الأول من الإنسان، ومن دونه لا يمكن بناءُ أي مطلبٍ آخر، مما يعني أن المعرفةَ المنهجيةَ واجبٌ أوَّليٌّ على المسلم.

لقد كان علم الكلام من أولى دوائر النظر العقلي التي ترسمَت حول القرآن الكريم، وعلم الكلام في جوهره وفي أحد أسمائه هو علم التوحيد، ولكن الأقدمين انشغلوا كثيرًا برد شبهات خصوم الإسلام، وجدل الفرق المتناظرة، ولم يُعْطوا هذا الجانب الجوهري من جوانب التوحيد حقَّه؛ أي جانب النظر العقلي الذي يعني في البيان القرآني «الجانب المعرفي المنهجي للتوحيد». والمهمَّة التي يُوجبُها هذا العصر هي سد الحاجة الملحَّة لتنضيد الجانب المعرفي المنهجي للتوحيد، انطلاقًا من فرض النظَر العقلي المصحوب بالنسَق القيمي.

«النظرُ العقليُّ» على أية حال يقوم على ترتيب مقدِّماتٍ وجودية تُؤخذ أولًا من الكون والوجود، لتُضاف إلى المقدِّمات العقليَّة المُنْتِجة؛ وبذلك تتضافر عناصر الوجود وقوى الوعيِ الإنسانيِّ لصياغة تلك المقدِّمات ثم الوصول إلى النتائج. ويتحوَّل «النظرُ العقليُّ» إلى حالةٍ عقليَّة ونفسيَّة مصاحبة وملازمة للإيمان، بحيث يعملان معًا في تضافر، لترشيد حركة الإنسان في هذا الكون، بكل الطاقات التي يفجِّرها الإيمان في الإنسان.

•••

لعل التوحيد في جوهره هو الإيمان الخالص، على أن آياتِ القرآن الكريم تربط ربطًا عبقريًّا بين الإيمان والعمل، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: ٧]، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ [فصلت: ٨]، مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [النحل: ٩٧] وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [العصر: ١–٣]. إن العمل ثمرة عقيدة التوحيد التي هي واسطة العقد في منظومة «القيم العليا» القرآنيَّة الحاكمة.

وفي هذا الإطار الإسلامي يحقُّ اعتبار مفهوم التوحيد بمثابة النواة التي تنتظم حولها المفاهيم الأخرى في منظومة المفاهيم والقيم الإسلامية المنهجية. تستتبع عقيدة التوحيد الضوابط والموجهات التي يمكن اعتبارها مقاصد المنهجية الإسلامية، وفي مقدمتها الاستخلاف والتزكية والعمران … تمثيلًا للقيم المميزة للتصور الإسلامي والرؤية الكونية الإسلامية، ولا بد أن تتجسَّد بدورها في المنهجية العلمية المتوطِّنة في العالم الإسلامي.

خامسًا: قيم إسلامية ضابطة للمنهجية

كما أوضحنا آنفًا، ترى النظرةُ المنهجية المعاصرة في القرن الحادي والعشرين/الخامس عشر هجريًّا ضرورةَ أن يتغلغل في نسيج منهاجية البحث منظومةٌ قيمية حاكمة وضابطة وهادية، فضلًا عن أنه لا بد وأن يكون ثمَّة اهتمامٌ خاص بهذا البُعد الذي يضُم القيم والمقاصد والغايات في المنهجية العامة التي تجمع بين القراءتَين، قراءة الكتاب المنزَّل وقراءة كتاب الكون، رافضةً القراءة الوحيدة لكتاب الطبيعة، وذلك الانفصام النكِد بين العلم والدين الذي أدخل فلسفة العلم في مرحلتها الوضعية السابقة في مضايقِ النهايات.٤٥
وفي المنهجية الإسلامية، المنطلقة من عقيدة التوحيد، تتمثل المنظومة القيمية أساسًا في ثلاثية الاستخلاف والتزكية والعمران، تقوم بين أطرافها علاقاتٌ تبادلية، وتحمل جميعُها طابعَ الإسلام ذاته من حيث هو دين الفطرة والبداهة. وإذا كان التوحيد في جوهره هو الرؤية الإسلامية للكون، فإن هذه القيم الثلاث إطار الرؤية الإسلامية للإنسان ودوره في هذا الكون؛ فتمثِّل جميعُها إطارًا نسقيًّا لمنظومةٍ من القيم كفيلةٍ بتوجيه الجهد العقلي المسلم وترشيد البحث العلمي من حيث هو فاعليةٌ إنسانية منتجة وأقوى إنجازات السياق الحضاري المؤثِّرة في الفكر وفي الواقع على السواء. إنها «منظومة مقاصدية كاملة يمكن الاستناد إليها لتصحيح مسار العلوم النقلية، إضافةً إلى العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتسديد مسيرة العلوم الطبيعية باتجاه الغائية والقيم والمقاصد، لتحقيق غاية الحق من الخلق، والنَّأي بها عن العدمية والعبثية.»٤٦
ذلك أن الاستخلاف٤٧ هو أداء الأمانة المنوطة بالإنسان والقيام بواجب العمران. والعمران بدوره لا يعدو أن يكون توظيفَ الطاقات في إعمار الأرض والارتقاء بحياة البشر وإثرائها وإعلاء شأن حضارة الإنسان، باختصار تزكيتها، من حيث إن التزكية هي التطهير والترقية والتنمية، للنفس وللواقع وللعلاقات الاجتماعية، وهذا هدفُ العمران ووسيلتُه. ولا يعدو أن يكون تطويرًا للهدف المُجمَع عليه من كل الأطراف، شرقية وغربية، إسلامية وغير إسلامية؛ أي التنمية. إن التنمية في هذا المنظور الإسلامي التكاملي تغدو أكثر كثيرًا من مجرد تصاعُد في الأرقام والمعدلات.
الاستخلاف مصداقٌ لقوله تعالى وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: ٣٠]، وكمبدأ يعني قدرةَ الإنسان على التصرُّف في عالمه للتعبير عن إرادته والحصول على حاجاته، القدرة على التسخير الإنساني للكون الدنيوي المادي، وما يستتبعه هذا من مسئولية حمل أمانة التصرُّف، وهي مسئوليةٌ تقتضي العدل والاعتدال، نقضًا للظلم والجَوْر في جميع وجوه التصرف الإنساني، معنويًّا وماديًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. وبهذا يتمثَّل الاستخلاف كفطرة للإنسان وما فطره الله عليه من صفاتٍ وقدراتٍ جعلَتْه فردًا ومجتمعًا وجنسًا يتمتع بالروح وبالضمير الإنساني وبالنفس اللوامة وبنزعة طلب العلم وطلب المعرفة. الاستخلاف طبعٌ وإرادةٌ تحمل تكريمًا للإنسان، وهو جوهرُ الحياة الإنسانية وغايتُها في العمل الخيِّر وفي الإبداع وفي الإعمار.٤٨ إن الاستخلاف هو الحضارة، هو الوعي والحضور الإعماري، مرتكز مسئولية الإنسان ودوره في هذا الوجود، ومنزلة للإنسان تحديدًا لوضعه في المنظومة الكونية الشاملة، تجعله أرقى الكائنات جميعًا لأنه وحده المستخلف، يتميَّز عنها جميعًا بالعقل والعلم والنشاط المعرفي وبناء الحضارة الإنسانية. في الرؤية الإسلامية الكون بأشيائه وظواهره وعلاقاته قد ذُلِّلَت لاستخلاف الإنسان في الأرض. وبهذا يغدو الاستخلاف كعضُدٍ نفسي وكقيمةٍ ميثودولوجية موجِّهة، منطلق لفاعلية العقل المسلم والباحث المسلم.
أما التزكية فهي من المفاهيم المركزية في القرآن، بل ومن مقاصد الوحي العليا ليزكِّي الله من يشاء.٤٩ وردَت مشتقات مصدرها اللغوي «زكو» في القرآن الكريم تسعًا وخمسين مرة، تتصدرها مقولة «الزكاة» التي وردَت اثنتَين وثلاثين مرة؛٥٠ فهي ركن من أركان الإسلام الخمسة، سهمٌ معلومٌ في الفائض من مال الفرد يتوجَّه للجماعة، مالٌ مبذولٌ لوجه الله ولاستيفاء الدين، وكما أشار الطاهر محمد بن عاشور لم يرد مصطلح الزكاة بهذا المعنى قبل نزول القرآن أبدًا. الزكاة ركن الدين، ركيزة تُفضي إلى التطهير والنمو؛ لأنها أساسًا «تطهير للنفس من الشح والاستعلاء على فتنة المال والقيام بحق الجماعة».٥١
هكذا نخلُص إلى أن موضوع التزكية كقيمةٍ قرآنية، في شتَّى تجلياته، لا يخرج عن هدف إصلاح الواقع الإنساني، الذي يشمل إصلاح الفرد والجماعة والأمة، وإصلاح البدن والروح. وهذا جميعُه عُلوٌّ في مراتب التزكية التي يمكن اعتبارُها لونًا من ألوان الجهاد الأعظم — جهاد النفس. وفي النهاية قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [الشمس: ٩] كجوابٍ لأطول قَسَمٍ في القرآن الكريم.٥٢
ولا بد أن نهدف إلى التوظيف المنهاجي لقيمة التزكية، مما يجعلها من الضوابط الموجِّهة لمسالك الباحثين والدارسين، وهذا يحول دون أن يظل أمرُها مسألةَ مشاعرَ إيمانية وخلجاتٍ نفسيه، مقصورة على المستوى الفردي، بل تغدو عنصرًا فعالًا يتدخل في خطة العمل … في منظومة المنهج، لكي يوظف الباحث «طاقاته العلمية والعملية في إعمار الأرض، وترقية الحياة البشرية عليها، وهو بذلك يحقق مقصد التزكية: تطهيرًا وتنمية»،٥٣ مما يبدو بمثابة هدفٍ مثالي للبحث العلمي.
على أن تفعيل قيمة التزكية، بما تستتبعه من عناصرَ في منظومة القيم الإسلامية، إنما يتعيَّن ويتجسَّد كواقعٍ ملموس في إطار قيمة العمران التي تحدِّد فقه العمل في الحياة الدنيا. يمثِّل العمران قيمة من حيث إنه الرؤية الإسلامية لوظيفة الإنسان في الكون المستخلَف فيه، فهو إذن قيمةٌ معيارية لحصيلة «عُمُر» الإنسان الفرد، أو عُمُر الجماعة أو الأمة، وقيمةٌ معيارية «تُقوَّم بها» جملة الجهود والإنجازات الحضارية «العمرانية» للفرد أو الجماعة أو الأمة.٥٤ وتتراوح دلالاتُ لفظِ العمران في القرآن الكريم ما بين حالة الحياة والإقامة والسكنى والبناء والاستقرار، ليكون للعمران جانبٌ مادي متمثل في بنية المجتمع من مؤسساتٍ ومبانٍ وطرق وخدمات ووسائل وزراعة وصناعة وتجارة، وجانبٌ معنوي متمثل في العدل والمساواة واستتباب الأمن وممارسة الشورى وطلب العلم وسيادة الفضل والفضيلة. بهذَين الجانبَين المادي والمعنوي يمثِّل العمران «قيمة» تستوعب الفاعليات العينية للبحث العلمي سواء في جوانبه البحتة والنظرية أو في جوانبه التطبيقية والتقانية، فيغدو «تقويمًا» يُضفَى على الفعل والعمل ليُعليَ من قيمة الجهد الذي يؤكِّد النماء والتقدُّم والتطوُّر، أو بالأحرى التزكية، أما التحقير من قيمة الدنيا والإعراض عنها وإهمال شئونها وسائر ما لا يؤكِّد قيمة العمران، فجميعُها مفاهيم لا تداني قيمَ المنهجية العلمية بحال. وما يُقابِل العمران في اللفظ القرآني — كما أوضح فتحي ملكاوي في دراسةٍ له بعنوان «العمران في منظومة القيم الحاكمة» — هو ما يقابل بقاء الحياة واستمرارها على السنن والقوانين الجارية، كالفساد في شتى صوره، والقتل، وسفك الدماء، والهدم والخراب، والتدمير والخواء … وكلها مضادَّاتٌ للعمران، مثلما هي مضادَّاتٌ للأهداف المشروعة أو المنشودة للبحث العلمي ولفاعليات العقل الإيجابية. وليس جُزافًا أن ابن خلدون الرائد العظيم للعلوم الاجتماعية، أطلَق عليها اسم «علم العمران»، ملتقطًا المصطلح القرآني، ومدركًا من دلالاته ما غاب عن سابقيه.
والخلاصة أن التوحيد مُنطلَق قيمٍ ميثودولوجية لتقويم جهود البحث العلمي والعطاء العقلي للأمة الإسلامية، من حيث إن العالِم إمامٌ من أئمة أداء أمانة الاستخلاف، والاضطلاع بمهام عمران الأرض وصون قيمة الحياة فيها، أو بالأحرى تزكيتها. وبهذه المنظومة القيَمية تتمايز المنهجية الإسلامية عن سواها من منهجياتٍ علمية وضعية أو بعد وضعية.

سادسًا: مفهوم النموذج الإرشادي: تحليل وتوظيف

النموذج الإرشادي مفهومٌ جوهري من أجل مَوْضعة وتقنين منهجيةٍ علمية «إسلامية» تحديدًا، أو بعبارةٍ أخرى، من أجل توطين المنهجية العلمية في العالم الإسلامي؛ فلا بد من التوقف هنيهةً لتنضيد هذا المفهوم وعرضه. وفي هذا نعود مجددًا إلى أغوار فلسفة العلم مثلما بدأنا منها في الجزء الأول (فلسفة العلم ومنهجه في الإطار الحضاري)؛ فقد بات هذا المفهوم العبقري من مقولاتها الأساسية، منذ أن طرحه توماس كون في كتابه الشهير بنية الثورات العلمية العام ١٩٦٢م.٥٥ واضعًا له مصطلحًا هو البراديم (Paradigm) (هذه الكلمة مشتقة من الكلمة اليونانية paradeigma وتعني مثالًا أو نموذجًا يُحتذى، بمعنى يقترب من معنى كلمة pattern). وقد أشرنا إلى التأثير اللافت الذي أحدَثه هذا الكتاب حتى يمكن اعتباره علامةً فارقة في مسار فلسفة العلوم، فباتت تصنف فلسفة العلوم قبل توماس كون وفلسفة العلوم بعده.
مفهوم البراديم يعني نموذجًا قياسيًّا وإرشاديًّا معًا. وعلى سبيل الاختصار، قد نحذف أحد هذَين البديلَين، فيُقال «نموذج إرشادي» أو «نموذج قياسي» فقط. ويبدو لنا أن البديل الأول أفضل؛ أي نختار الإبقاء على «الإرشادية»؛ لأنها توحي بآفاقٍ مفتوحةٍ فتعِد بتقدُّم منشود، بينما تُوحي «القياسية» بشيء من المدرسية والتوجيه، على أنها لها أهميتُها في تمثيل ضبطٍ منهجي متعين. وعلى أية حال، لا ضير من تعريب المصطلح فيُقال «البراديم»، نظرًا لانتشاره وكثرة تداوله، فلم يعُد من أشهر مقولات فلسفة العلوم فحسب، بل حلَّ وارتحَل وحقَّق شيوعًا وذيوعًا واستخدامًا وتطبيقًا في شتى المجالات، وبصورةٍ لم تحرزها من قبلُ مقولةٌ فلسفية تخصصية.

لا بد من إلقاء مزيد من الضوء على جوهر هذه المقولة كما نشأَت مع رائدها توماس كون بما يفيد في تفهُّمها، وسوف يساهم هذا أيضًا في تفهُّم منهجية تَقدُّم العلم الطبيعي كما يفلسفها توماس كون الذي طرح الفكرة أصلًا في سياق محاولته لتفسير طبيعة التقدُّم العلمي ومراحله الكبرى، مهتديًا بالتقدُّم الجذري في بنية التفكير العلمي الرياضياتي والطبيعي والتقاني الذي حدث بفعل ثورة الفيزياء الكبرى في القرن العشرين؛ أي ثورة النسبية والكوانتم.

وتقوم فلسفة كُون على التمييز في مسار العلم، أو تقدُّمه، بين مراحل العلم العادي أو القياسي normal science، الذي يسير في إطار النموذج الإرشادي أو البراديم المعمول به، وبين المراحل الثورية في هذا التقدُّم التي هي انتقال من نموذجٍ إرشاديٍّ إلى آخر.

النموذج الإرشادي في أول طرحٍ له على يد كون هو النظرية العلمية العامة المعمول بها، كنظرية بطليموس مثلًا أو نظرية كوبرنيقوس أو سواهما من نظرياتٍ علميةٍ عامة يلتزم بها المجتمع العلمي في مرحلةٍ ما. وبلوغ النظرية مرتبةَ النموذجِ الإرشادي يعني أنها أفضلُ من كل منافساتها؛ أي ثبتَت ووجَب التسليمُ بها وبكل مسلَّماتها ومناهجها ومفاهيمها وخلفياتها الميتافيزيقية. فتغدو النظرية بكل هذه الأبعاد بمثابة نموذجٍ قياسيٍّ إرشاديٍّ يحدِّد مدلول الوقائع التجريبية، يطرح معايير الاختبار والتقويم والتنقيح، والتعديل إذا لزم الأمر.

والأكثر فاعليةً أنه يطرح المشاكلَ التي يجب دراستُها وأنماطَ الحلول المطلوبة. المجتمع العلمي الناضج يسهُل نسبيًّا تحديدُ نماذجه القياسية الإرشادية. وغنيٌّ عن الذكر أن الرياضيات كانت أسبقَ العلوم في اصطناع نموذجٍ إرشاديٍّ واضحِ المعالم. ولا بد للنموذج الإرشادي أن يطرح مشكلاتٍ للبحث، وإذا توقَّف عن هذا مع استمرار التسليم به، لا يعود برنامج بحثٍ علمي؛ أي لا يعود إرشاديًّا، بل هو مجرد تقنيةٍ خاصة بمهنةٍ معيَّنة.

مشكلات البحث العلمي مختلفة والنموذج القياسي الإرشادي لا يثير منها إلا الألغاز (puzzles) التي تُفسِح المجال لإثبات قدرةِ الباحث ومهارتِه الخاصة في الوصول إلى حلٍّ لها. التسليم بنموذجٍ قياسيٍّ إرشاديٍّ معيَّن هو الذي يطرح ألغازًا، بمعنى أنه يهيِّئ للباحثين اختيارَ مشكلاتٍ يمكن الوصول إلى حلٍّ لها طالما نسلِّم بهذا النموذج.٥٦ هكذا نلاحظ أن العلم العادي لا يقوم باختبار النموذج ذاته أو تعديله أو الاعتراض عليه؛ فالعلم ينمو ويتقدَّم في مراحله العادية من خلال حل الألغاز التي يثيرها النموذج الإرشادي المعمول به، والمعرفة هنا تزدادُ دقة واتساعًا وتُوالي إحراز أهدافها ليتمثل نجاح المشروع العلمي بصورة قد تدعو إلى الإعجاب، لكنها تخلو من الابتكاراتِ الجوهرية والإبداعِ العظيم. وعلى هذا النحو تنمو المعرفة العلمية في إطار العلم العادي بصورةٍ مطَّردة — صورةٍ تراكمية.
ويظل الحال على هذا المنوال التراكمي حتى تظهر حالاتٌ شاذة؛ أي ظاهرة لا يتوقَّعها النموذجُ المعمول به، لا يتنبأ بها ولا يهيِّئ الباحثَ للتعامل معها، فيبدأ الخروج عن أطُره ومحاولات تعديله. وهذا عادةً ما يلقى مقاومةً ما في البداية، ولكن لنلاحظ مبدئيًّا كيف أن النموذجَ الإرشاديَّ ذاته هو الذي يفتحُ الطريقَ للخروج منه والبحث عن نموذجٍ جديد. وهذه هي صياغة توماس كون لخاصية التصحيح الذاتي (Self-Correction) التي تُعَدُّ من خواص المعرفة العلمية التجريبية، تكفُل تقدُّمها المستمر إلى غير نهاية.
ظهور الشذوذ تتلوه محاولة لاستكشاف مجاله، والمواءمة بينه وبين النموذج الإرشادي، ومحاولة تعديل أدوات النموذج. ولكن إذا بدا إسرافٌ في هذا التعديل فها هنا أزمة (crisis). الأزمة تعني أنه قد آن الأوانُ للخروج من سياق العلم العادي وتعديل النموذج. المعرفة هنا ليست تراكمية بل ثورية. تمامًا كما تحدُث الثورة السياسية حين يشعر أفراد المجتمع أن المؤسسات القائمة لم تعُد كافيةً لحل المشكلات أو قادرةً على هذا. الثورة العلمية تحدُث نتيجةَ تغيُّرات لاستيعاب ظاهرة من نوعٍ جديدٍ من قبيل الأكسجين أو الأشعة السينية، ظاهرة خلقَت أزمة.٥٧ عن الأزمات تنبثق النظرية العلمية الجديدة التي تغيِّر تقاليدَ البحث وأبعادَ الرؤية الميتافيزيقية ومدلولاتِ المفاهيم العلمية والوقائع التجريبية، فإن تغلَّبَت النظرية الجديدة على منافساتها وأثبتَت ذاتها يتم التسليمُ بها كنموذجٍ قياسي إرشادي جديد، يطرح ألغازًا تحتاج إلى مهارة الباحثين … وهكذا دوالَيك.
وما ينتجُ عن الأزمة من انتقالٍ إلى نموذجٍ قياسي إرشادي جديد هو الثورة العلمية، التي تعني تغييرًا في النظرة إلى العالم. والثورات العلمية هي معالمُ التقدُّم الكبرى في مسار العلم أو عَبْر تاريخه. وعلى هذا لا يعود تاريخُ العلم أو مسارُ التقدم العلمي سلسلةً من الإنجازات المتوالية وقصص نجاح الأفراد، بل يتكوَّن من مراحلَ أو وحداتٍ كبرى. لم يُعنَ كُون كثيرًا — كما فعل كارل بوبر مثلًا — بدور العبقرية الفردية في خلق قصة العلم، وانصبَّ اهتمامُه على المجتمع العلمي أو الجماعة العلمية، أو بالأحرى المؤسسة العلمية، التي تعمل في إطار النموذج الإرشادي المطروح، حتى نُعتَت فلسفته للعلم بأنها «عقلانية مؤسساتية» (Institutionalized Rationality).٥٨

لا غَرْو، إذن، أن يمثِّل النموذج القياسي الإرشادي أيديولوجيًّا المجتمعَ العلمي أو المؤسسةَ العلمية، التي لا تقتصر على خلقِ نوعٍ من الانسجام بين أفراد المجتمع أو الجماعة كما تفعل أية أيديولوجيا، بل يتَّسِم المجتمع العلمي بدرجةٍ فريدة من التآزُر والتضافُر والتكاتُف.

من هنا يرى توماس كُون أن تفسير التقدُّم العلمي لا بد وأن يرسُو في نهاية المطاف على عواملَ سوسيولوجيةٍ وسيكولوجية وعلى توصيفٍ لنسَق القيم أو الأيديولوجيا، بمعية تحليل وتوصيف المؤسَّسات التي يتقدَّم العلم من خلالها. وإذا عرفنا قيَم العلماء يمكن أن نتفهَّم المشاكل التي يضطلعون بها والحلول التي يرسُون عليها. ويُنكِر كُون إمكانية طرح هذه العوامل السوسيولوجية والسيكولوجية والقيَمية والتنظيمية من أية إجابة عن سؤال التقدُّم العلمي،٥٩ من حيث إن العلم — ببساطة — ظاهرةٌ في عالم الإنسان، مؤكِّدًا تآخي العلم مع الظواهر الحضارية الأخرى. لا يقنع كُون بأي خلافٍ جوهريٍّ بين التطوُّر في الفنون والآداب والنظم السياسية والإنسانيات والتطوُّر في العلم.

•••

هكذا بدأَت فكرة النموذج الإرشادي من أجل تفسير توالي تقدُّم النظريات الفيزيائية تحديدًا، ثم اتسعَت وتنامت وتجاوزَت هذا الإطار المتعين، لتُسهِم في تفسير الظواهر المعرفية بشكلٍ عام، مرتكزةً على الثوابت التي بلورَها توماس كون، وأوَّلها أن النموذج الإرشادي يربط الجماعة أو المجتمع المعرفي بآصرةٍ وثيقة؛ فتشارُك أعضاء المجتمع العلمي في هذا النموذج، واتفاقُهم على قبوله والعمل في إطاره هو ما يجعلهم جماعةً مترابطة، ويجعل جهودَهم متكاملةً متوالية الصعود.

يشمل النموذجُ القياسي القيمَ والمعاييرَ والأخلاقياتَ والفروضَ الأوليَّة الميتافيزيقية، مثلما يشمل مجالات البحث والمشاكل الكبرى الخاضعة للدراسة والتمثيلات الرمزية والأدوات المنهاجية والبحثية والأمثلة والشواهد المعمول بها التي قد تكون أمثلةً عينية للحلول المطروحة للمشاكل. وهو قبل كل شيء يعني أن النسَق العلمي والنشاط العلمي، ليس صنمًا جامدًا على الصورة الوضعية بل هو كيانٌ حيٌّ فعال يحمل اختلافًا وتمايزًا من حيث القيم والمبادئ والأولويات التي يعمل بها العلماء في هذه الحقبة أو في تلك البقعة.

إن أي نموذج من حيث هو نموذج يحمل أخصَّ الخصائص، وهو مثالٌ لسائر الأفراد والجزئيات. والنموذج القياسي الإرشادي يضُم في أعطافه، كما لاحظنا، النموذج التفسيري، بل إن فيلسوف العلم المعاصر ستيفن تولمن (S. Toulmin, 1922–2009) الذي لا يُرحِّب كثيرًا بتطبيق مفهوم الثورة بمعناه الحرفي في تقدُّم العلم، يذهب إلى أن النموذج القياسي الإرشادي هو النموذج التفسيري (Pattern of Explanation) ذاته.٦٠
ويرتبط بالنموذج القياسي أيضًا مفهوم «رؤية العالم» (World View)، وهو من المفاهيم الهامة التي برزَت في الخطاب المعرفي المعاصر. ظهر لأول مرة في الثقافة الألمانية (Weltanschaung)، إبَّان القرنِ الثامنَ عشر، وعُني به نفَر من كبار الفلاسفة الألمان في القرنِ التاسعَ عشر. ونذكُر في هذا الصدد فيلهلم ديلتاي (W. Dilthey, 1838–1911) الذي تحوَّل اهتمامه بمفهوم «رؤية العالم» إلى اهتمام بمفهوم، أو بالأحرى منهجية الهيرومنيوطيقا؛ أي التفسير والتأويل وفقًا للسياق. على أية حال، برَز المفهوم على السطح وكثُر استخدامه في النصف الثاني من القرن العشرين بعد انهيارِ مفاهيم المطلقيَّة وحلول مفاهيم النسبويَّة؛ ذلك أن «رؤية العالم» تعبِّر عن متغيرات الحضارة الإنسانية وتنوُّعها وتعدُّديتها واختلافاتها في الزمان والمكان. المفهوم يدُل على التصوُّر العام للعالم والواقع المُعاش، بمعنى المنظور المطروح في ثقافةٍ معيَّنة أو حقبةٍ حضاريةٍ بعينها، أو مجالٍ معرفي، ويُدرك من خلاله العالم، وبالتالي تتكوَّن على أساسه الرؤى والتصوُّرات العامة، بل وأيضًا القيم والأحكام والمعتقدات. تتأثَّر رؤى العالم أو تتغيَّر في أعقاب التحوُّلات الكبرى في الحضارة، كظهور الأديان أو مراحل التقدم الراديكالي أو الثورات العلمية الكبرى. على أن رؤية العالم بمثابة نموذجٍ معرفيٍّ يختلف عن المذهبية الفكرية وعن الأيديولوجية، من حيث إنه أكثرُ مرونةً وحيويةً ومطابقةً فعليةً للواقع المُعاش في الدائرة المعنيَّة.

•••

وكما اتضح الآن من ثنايا هذا الحديث الميثودولوجي، الأزمة تؤدي إلى ثورة هي تحطيمٌ للنموذج الإرشادي وتشييدُ نموذجٍ جديد. وقد استحكمَت أزمةُ تخلُّفنا الحضاري وركودنا المعرفي، وبات الواجبُ المنوط بعقلانية الأمة يتمثَّل بضرورة إحداثِ ثورةٍ بالمفهوم المطروح؛ أي الخروج من نموذجٍ قياسيٍّ إرشادي للبحث العلمي، مستورَد بقَضه وقضيضه من الحضارة الغربية، حاملًا عقلانياتِهم وتنويريتَهم العلمانية وقيمَهم المادية وشهودَهم الحضاري الاستعماري، وصياغة نموذجٍ إرشادي إسلامي يحمل قيمنا ومبادئنا وأهدافنا وغاياتنا، لتأكيد الشهود الحضاري للأمة الإسلامية كأمةٍ وسط وأمةٍ قطب؛ اقتحامًا لما أسمته منى أبو الفضل العقدة المنهجية.٦١

إن النموذج الإرشادي الإسلامي إطارٌ مرجعي وبلورةٌ للوعي المنهاجي الذي ينبغي أن يشيع بين باحثينا ومفكِّرينا، لينشر مُناخًا عامًّا تتنامى فيه فعاليات عقل الأمة ويشكِّل جوهر وعيها بالمنهج والشرعة والطريق، وتتضافر فيه الجهود اللازمة لبناء الفاعلية العلمية المرجُوَّة والمشروع الحضاري المنشود.

يصادر النموذج على الجمع بين القراءتَين، قراءة الكتاب المنزَّل وقراءة كتب الطبيعة، ويرى الوحي قوةً هاديةً ودافعةً للنظر العقلي وإعمال الحواس ومجمل قوى الإنسان المعرفية طلبًا للعلم بعالَم الشهادة المقابل لعالم الغيب والدار الآخرة المستور عن الإنسان، العلم بعالَم الحياة الدنيا المسخَّرة لاستخلاف الإنسان فيها؛ فلئن كان ثمَّة عالَمَان؛ عالم الغيب وعالم الشهادة، فإن مناهج العلم الإنساني الكسبي تسعى إلى تفهُّم عالم الشهادة، إنها دنيوية. أما عالم الغيب فلا خبر عنه إلا في علومٍ دينية، حيث «أرسل الله الرسل بالعهد القديم والعهد الجديد، وختمهم برسول الله الذي نزل معه العهد الأخير.»٦٢ ولعلهما واجبان متضايفان.
بطبيعة الحال يرتبط النموذج القياسي الإسلامي برؤية العالم الإسلامية أو بالأحرى الرؤية الإسلامية الكونية، التي تقوم على التوحيد بما يعنيه من غائيةٍ أخلاقية ونظاميةٍ تكاملية تناسقية. إنها رؤية لُحمَتُها عقيدة التوحيد وتزكية الوجدان والاستخلاف الصانع للعمران، وسَداها إعمالُ العقل والنظر في ملكوت السموات والأرض وعلمية المعرفة الباحثة عن السنن الكونية التي أودَعَها الله مخلوقاته، استخلافًا وتزكيةً وعمرانًا. ولعلها رؤيةٌ علمية أخلاقية إعمارية حضارية تُزوِّد الإنسان بالدافعية والطاقة الوجدانية اللازمة للبحث العلمي والجهد العقلي وبناء الحياة الخيِّرة،٦٣ أو الحياة الأفضل.

وفي مقابل رؤية العالم الغربية القائمة على المركزية الغربية، فتَعتَبر ذاتها وإنسانَها الأبيضَ معيارًا للمدنية والتقدُّم، وتقوم على استبعاد وإقصاء الآخر حين ترى أي آخرَ موسومًا بالدونية بقَدْر ابتعاده عن المركز الغربي، إلى آخر تلك النزعات العنصرية والاستعلائية والاستعمارية التي تهدفُ إلى الهيمنة والسيطرة والاستغلال لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا [الزخرف: ۳۲]، والمطامع التي أدت إلى حروبٍ عالمية … في مقابل هذا نجد رؤية العالم أو الرؤية الكونية التوحيدية تقوم على أنَّ الأنا والآخر «شعوب وقبائل»، خلقها الله لتتعارف، يمكن أن تكون رؤية تواصلٍ وإخاءِ وتراحمٍ وتبادلٍ عادل للمنافع، مما يدفع إلى مجتمعٍ إنسانيٍّ متكامل، يعبِّر عن وحدة الأصل وتطلُّعات الفطرة السوية. يصوِّر الإسلام الفطرة الإنسانية على أنها خيِّرة بطبعها، والشر أمرٌ عارض.

النموذج الإرشادي الإسلامي تكمُن أصوله الأولية في وجدان عموم المسلمين وعقائدهم وأحكامهم. وعن طريق إعادة الصياغة نتمكَّن من تفعيله ومن جعلِه أساسًا للفكر والبحث؛ لأن الإسلام عقيدةٌ ينبثق عنها نظام، يحمل أصولَ قيمٍ أخلاقية ودوافع البحث عن المعرفة العلمية، تتكوَّن على أساسها عقليةُ المسلم وشخصيتُه المتميزة، وتنعكس في سلوكياته وأفعاله؛ لأن الإيمان يؤثِّر في سلوك المسلم بالإحجام والإقدام.٦٤ قام هذا النموذج بتوليد العلوم وتوليد الحضارة في مرحلةٍ زمانيةٍ بلغَت ذروتَها في مناهجه البحثية ليُرشد تنامي العلوم بناءً على مقتضيات العصر.

هكذا يكون النموذج الإرشادي الإسلامي نموذجًا تفسيريًّا عامًّا، يجمع بين القراءتَين، مرتكزه عقيدة التوحيد والرؤية الكونية الإسلامية، كإطارٍ عامٍّ لفاعلية العقل المسلم، ولعمل الباحثين والدارسين في العالم الإسلامي، يشتجر مع منظومتهم القيمية، وتعتمل في أعطافه منهجيات العلم وأصوليات البحث العملي، ويشمل نظامًا قيَميًّا متكاملًا مع الأبنية المعرفية ومحدِّدًا لغاياتها وأهدافها. والخلاصة أن تتكامل العقيدةُ والقيمُ مع المعرفة ووسائلها ومنطلقاتها وتطبيقاتها على السواء.

على أن الوسائل أو المناهج صُلبُ أصلابِ أية منهجية، والدعامة الكبرى التي يشتجر حولها أي نموذجٍ قياسيٍّ إرشادي من حيث هو نموذجٌ للبحث العلمي ولإعمال العقل. ولئن كانت المناهج أداةً موضوعيةً مستقلةً عن الباحث وموضوع بحثه ومكانه وزمانه، فإنها حين تشغيلها في إطار النموذج الإرشادي تغدو أداةً فعالةً لتحقيق الغايات والمقاصد المتعيِّنة ومستجيبةً لمستجدَّات الواقع وتحدياته. على أية حال، الواجب الآن تحديدُ مفهوم المنهج العلمي؛ فلا بد أن يرسُو تصوُّر النموذج الإسلامي على رؤيةٍ واضحةٍ وشاملةٍ لما يعنيه هذا المفهوم المحوري.

ولا بأس؛ فالرؤية التوحيدية، بقبولها للأنا والآخر، قمينةٌ بأن تفتحَ البابَ للوقوف على المشترك الإنساني من آلياتِ العقول، وتمثُّلِها الأعظم في مناهج البحث العلمي.

١  مصطلح «أيديولوجيا» محاطٌ بالشبهات والالتباسات، والمقصود به هنا فقط: منظومة الأفكار والقيم والمفاهيم والمصالح والتجارب والأهداف … المشتركة، التي تصنع جمعية الجماعة.
٢  انظر: ديفيد ب. رزنيك، أخلاقيات العلم: مدخل، ترجمة عبد النور عبد المنعم، مراجعة وتقديم يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة؛ ٣١٦ (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ٢٠٠٥م).
٣  آن كَد، التعددية الثقافية كفضيلة معرفية للممارسة العلمية، في: ساندرا هاردنج وأوما ناریان (محررتان)، نقض مركزية المركز: الفلسفة من أجل عالم متعدد الثقافات بعد استعماري ونسوي، ترجمة يمنى طريف الخولي، عالم المعرفة؛ ٣٩٦ (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ٢٠١٣م)، الجزء الثاني، ص٢٠٧–٢٣٤. هذا الكتاب من أثرى أدبيات تيار النسوية الأمريكية الذي يحوي العديد من الاتجاهات والمدارس والاهتمامات، تختلف في بعض الأحيان أكثر مما تلتقي، يبدو للوهلة الأولى أن بعض دعاويه تبعد عن أي توجُّهٍ إسلاميٍّ بُعد المشرق عن المغرب، ولكن تبيِّن السطور الواردة عاليه كيف أن نقض المركزية (Decentering) الغربية مقدمةٌ أوليةٌ فاعلةٌ لتعبيد الطريق وتمهيده أمام طرح المنهجية العلمية الإسلامية. وكانت آخر عبارة في تقديمي لهذه الترجمة أن توطينَ البحث العلمي في ثقافتنا على أساسِ منهجيةٍ إسلاميةٍ معاصرة، سيكون هو «الترجمة الحقيقية لنقض مركزية المركز».
٤  الاستقراء هو الصورة التقليدية لمنهج العلم التجريبي التي تعني أنه عملية البدءِ بملاحظةِ جزئياتِ تجريبية، ثم تعميمها في قانونٍ كليٍّ عام، كما سنرى تفصيلًا في الفصل القادم. وقد اقترن بالتجريبية الإنكليزية تلك النزعة الاستقرائية التي ترى أن كل محتويات الذهن البشري في جوهرها عملية تعميم لوقائعَ تجريبيةٍ جزئية، قوانين الرياضة هكذا وكل القوانين الأخرى، بل العواطف والمشاعر والاتجاهات النفسية هي الأخرى تعميمات لخبراتٍ جزئيةٍ تجريبية.
٥  في تحديد ماهية هذا المذهب الشهير انظر: يمنى طريف الخولي، «ما هي الوضعية المنطقية؟»، في الكتاب التذكاري: الدكتور زكي نجيب محمود فيلسوفًا وأديبًا ومعلمًا (الكويت، جامعة الكويت، ۱۹۸۷م)، ص٧١-٨٩. وكما هو معروفٌ ارتبطَت الوضعية المنطقية بدائرة فيِنَّا، وهي دائرة من الفلاسفة والمناطقة والعلماء ذوي الميول الفلسفية، تحلَّقوا حول العالم/الفيلسوف موريتس شليك (M. Schlick, 1882–1936) فور أن استدعَتْه جامعة فيِنَّا العام ١٩٢٢م من وطنه ألمانيا ليتبوأ كرسي فلسفة العلوم في جامعة فيِنَّا. لا ينفصل مصطلح التجريبية المنطقية عن هانز رايشنباخ (H. Reichenbach, 1891–1953) وهو فيلسوف علم ألماني ليس من دائرة فيِنَّا لكن يتشارك معهم في الميول، وفي أعقاب تعيينه في جامعة برلين العام ١٩٢٦م، تحلَّقَت حوله جماعةُ برلين أو مدرسةُ برلين الموازية للوضعية المنطقية؛ فهي الأخرى جماعة للفلسفة العلمية التجريبية المتطرفة. انظر: حسين علي، فلسفة العلم عند هانز رايشنباخ (القاهرة، الدار المصرية السعودية، ٢٠٠٥م). وقارن: هانز رایشنباخ، نشأة الفلسفة العلمية، ترجمة فؤاد زكريا (القاهرة، دار الكاتب العربي، ١٩٦٨م). وراجع مناقشتنا لمصطلح التجريبية المنطقية ودلالاته الشاملة في الفصل الخامس من كتابنا: فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول … الحصاد … الآفاق المستقبلية، عالم المعرفة؛ ٢٦٤ (الكويت: المجلس الوطني للقافة والفنون والآداب، ۲۰۰۰م)، والصادر في طبعةٍ ثانيةٍ في القاهرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، ۲۰۰۸م، الفصل بعنوان «التجريبية أصبحَت منطقية».
٦  A. J. Ayer, Language, Truth and Logic (London: Penguin Books, 1973), p. 7. مذهب الوضعية المنطقية شديدُ الاتساق مع التوجه الغالب على الفلسفة الإنكليزية، لكنه ظهَر في النمسا مع رجعٍ لصداه في ألمانيا كما ذكَرنا. ومؤرخ الفلسفة الإنكليزية الشهير جون باسمور يرى أن هذا الفيلسوف الإنكليزي المذكور ألفرد جوليوس آير قد اضطلع بمهمَّة نقل المذهب إلى إنكلترا وتوطينه فيها. انظر:
J. Passmore, A Hundred Years of Philosophy (London: Penguin Books, 1975), p. 365 et seq.
٧  وقارن: O. Neurath & R. Carnap & C. Morris (eds.), International Encyclopedia of Unified Science, Vol. I & II (Illinios: University of Chicago Press. 1939).
٨  R. Carnap, The Logical Syntax of Language (London: Routledge & Kegan (A) Paul, 1951), p. 318.
٩  ذكرنا هذا قبلًا وناقشناه تفصيلًا في كتابنا: فلسفة العلم في القرن العشرين، ص٣٩٧.
١٠  ساندرا هاردنغ، الجنوسة والتنمية وفلسفات العلم بعد-التنويرية، في: نقض مركزية المركز، الجزء الثاني، ص١٢٣–١٥٠. وهاردنغ (S. Harding) من أنشط فلاسفة الإبستمولوجيا النسوية، وأعلاهم قامةً وأغزرهم عطاءً (نعم هم وليس هن؛ فثمَّة أيضًا رجالٌ تندرج رؤاهم في سياق المنطلقات النسوية وتفعيل إيجابياتها). وهي أيضًا من أهم فلاسفة العلم المعاصرين وأنبلهم قصدًا، تحرص على تأكيد فلسفةٍ للعلم في إطار التعدُّدية الثقافية بدلًا من الوضعية التي تُفلسِفه على أساس، ومن أجل المركزية الغربيَّة.
١١  المصدر نفسه، ص١٣٧.
١٢  في تفصيل فلسفته للعلم: يمنى طريف الخولي، فلسفة كارل بوبر: منطق العلم … منهج العلم، ط۲ (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ۲۰۰۳م)، الباب الثاني من هذا الكتاب مكرَّس للمواجهة بين بوبر والوضعية المنطقية ونقده إياها: ص٢٢١–٣٣١. وقارن: فلسفة العلم في القرن العشرين، ص٢٦٤ وما بعدها.
١٣  Joseph Margolis, Science without Unity: Reconciling the Human and Natural Sciences (Oxford: Basil Blackwell, 1987), p. 23.
١٤  Ibid., p. 17.
١٥  لمزيدٍ من التفاصيل أنظر: آن كَد، «التعددية الثقافية كفضيلة معرفية للممارسة العلمية»، في: نقض مركزية المركز، ج۲، ص۲۰۸–٢١٦.
١٦  Karl R. Popper, Logic of Scientific Discovery, 8th impression (London: Hutchinson, 1976), p. 42 et seq.
وقارِن الفصل الثاني من الباب الثالث «العبارات الأساسية»، في: فلسفة كارل بوبر، مرجع مذكور، ص۳۷۷–٤٠٠.
١٧  W. V. O. Quine, Two Dogmas of Empiricism, Two dogmas of empiricism, In: From a logical point of view (Cambridge: Harvard University Press, 1980).
صدَر هذا المقالُ الهامُّ أوَّل مرة العام ١٩٥٣م، ثم توالى ظهورُه في طبعاتٍ مختلفة.
١٨  المصدر السابق، ص۲۱۷. وانظر: Helen Longino, Science as Social Knowledge: Values and objectivity in scientific inquiry (Princeton: Princeton University Press, 1990).
١٩  حسن حنفي، من النقل إلى الإبداع (القاهرة، دار قباء للطباعة والنشر، ۲۰۰۰م) المجلد الأول، الجزء الأول، ص٢٧.
٢٠  رشدي راشد، «المجتمع العلمي والتقاليد الوطنية في البحث»، مجلة التسامح (وزارة الأوقاف والشئون الدينية، مسقط) العدد ٢٦، ربيع ۲۰۰۹م، ص٢٣٥–٢٥٩. أعيد نشر هذا البحث الجميل في: رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب؛ ۱۲ (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠١١م) ص٤٣٣–٤٥٨.
٢١  المصدر نفسه، ص٢٣٦.
٢٢  إسماعيل راجي الفاروقي، «أسلمة المعرفة»، المسلم المعاصر، ع۳۲، ۱۹۸۲م، ص٩–٢٣. وهذا المقال ملخِّص لبحثٍ ألقاه الفاروقي باللغة الإنكليزية في المؤتمر الدولي الأول عن أسلمة المعرفة الذي عُقِد بباكستان في كانون الثاني (يناير) ١٩٨٢م. وعلينا الآن تعليق قضية «أسلمة المعرفة» المثيرة للجدل أو تنحيتها جانبًا. ونحن من جانبنا نُعرِض تمامًا عن الخوض فيها، ونراها تندُّ عن المنطلقات الفلسفية الرصينة. ونهتمُّ الآن بما يبدو خيرًا وأجدَى، وهو توطينُ الدافعية المنهجية في العالم الإسلامي، والمقتبَس أعلاه من الفاروقي قد يفيد في هذا.
٢٣  طه جابر العلواني، «التوحيد ومبادئ المنهجية»، ص٦٧، في: المنهجية الإسلامية، لفيف من المؤلفين (القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار السلام، ۲۰۱۰م)، الجزء الأول، ص٤٢٦، ٣٤٧–٤٥٩.
٢٤  قارِن محاولةَ تعريف المنهجية الإسلامية في: عبد الرحمن النقيب، «مقدمة المنهجية الإسلامية»، ص٤، في: المنهجية الإسلامية، المصدر نفسه. ص١٩–٢٨.
٢٥  فتحي ملكاوي، «المنهاج والمنهجية: طبيعة المفهوم وأهميته والمفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة»، في: المنهجية الإسلامية، المصدر نفسه، الجزء الأول، ص٢٩–١٠٨.
٢٦  فتحي ملكاوي، المصدر نفسه، ص٥١.
٢٧  فتحي ملكاوي، المصدر نفسه، ص٦٧.
٢٨  المصدر نفسه، ص٦٧–٦٨.
٢٩  المصدر نفسه، ص٣٢–٣٣.
٣٠  انظر: يمنى طريف الخولي، أمين الخولي والأبعاد الفلسفية للتجديد (القاهرة، دار المعارف، ٢٠٠٠م). وقارن: أمين الخولي، مناهج تحديد: في الأدب والنقد والبلاغة والتفسير، (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٥م).
٣١  فتحي ملكاوي، التكامل المعرفي: أثره في التعليم الجامعي وضرورته الحضارية (بيروت، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠١٢م)، ص٤٩.
٣٢  المصدر نفسه. ونقلًا عنه، راجع: سيف الدين عبد الفتاح، «حول المنهجية الإسلامية مقدمات وتطبيقات،» ورقة قُدِّمَت في دورة المنهجية الإسلامية الثالثة بالمعهد العالمي للفكر الإسلامي، عمان/الأردن، ١٢–١٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ۱۹۹۸م، ص٥–٦.
٣٣  عبد الحميد أبو سليمان، «الرؤية الكونية الحضارية القرآنية المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني»، ص١٤. في: المنهجية الإسلامية، لفيف من الباحثين، المصدر نفسه، ص١٠٩–٣٤٥.
٣٤  سيف الدين عبد الفتاح، المنهجية وأدواتها من منظور إسلامي، المصدر نفسه، ص٦٤٦.
٣٥  منى أبو الفضل وطه جابر العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية: مراجعات منهجية وتاريخية (القاهرة، دار السلام، ۲۰۰۹م)، ص٨٦.
٣٦  طه جابر العلواني، التوحيد ومبادئ المنهجية، المصدر نفسه، ص٣٦٤.
٣٧  طه جابر العلواني، معالم في المنهج القرآني (القاهرة، دار السلام للطباعة والنشر، ٢٠١٠م).
٣٨  فتحي ملكاوي، «في المنهاج والمنهجية»، في: المنهجية الإسلامية، الجزء الأول، ص٦٣- ٦٤. وراجع نقلًا عن المصدر المذكور: حسن جابر، «المثقف الإسلامي بين الفقيه وإشكالية المنهج»، مجلة الوعي المعاصر، السنة الأولى، العددان ٤ و٥، شتاء ٢٠٠٠م، ص٦–١٨.
٣٩  د. طه جابر العلواني، «التوحيد ومبادئ المنهجية،» في: المنهجية الإسلامية، المصدر نفسه، ص٣٦٥.
٤٠  صلاح سالم، مغزى العقلانية الإسلامية (القاهرة، المكتبة الأكاديمية، ٢٠١٠م)، ص٤١.
٤١  أمين الخولي (مُعِدٌّ)، معجم ألفاظ القرآن الكريم، الجزء الرابع، (القاهرة، مجمع اللغة العربية، ١٩٦٨م)، ص٢٤٠–٢٤١.
٤٢  المصدر نفسه، ص٢٤٨ و٢٤٥. ولمعالجةٍ تفصيليةٍ راجع: يمنى طريف الخولي، الطبيعيات في علم الكلام، ط٣ (القاهرة، دار رؤية، ٢٠١٠م).
٤٣  صلاح سالم، مغزى العقلانية الإسلامية، ص٤١.
٤٤  المصدر نفسه، مواضع متعددة، وص٣٩٩.
٤٥  د. منى أبو الفضل ود. طه جابر العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية: مراجعات منهجية وتاريخية، المصدر نفسه، ص٢٠ وص٨٤.
٤٦  المصدر نفسه، ص١٨.
٤٧  من أجل قيمة الاستخلاف وتفعيلها بأبعادها أنشأَت الجامعة الإسلامية بماليزيا معهد أبحاث «خليفة» أو الاستخلاف، من إصداراته هذا الكتاب الصغير المتَّسِم بالبساطة والعمق والعذوبة، وكان في أصله محاضرةً ألقِيَت على المتدرِّبين:
Muhammad al’Mahdi, On Being Khalifah of Allah , Khalifah Serious No. 2, “Toward a Fully and Truly Islamic World,” The Khalifa Institute, Kuala Lampur, 2004.
٤٨  عبد الحميد أبو سليمان، «الرؤية الحضارية الكونية الإسلامية»، في: المنهجية الإسلامية، ج١، المصدر نفسه، ص٢١٢– ٢١٣.
٤٩  هذا على أساس أن إنزال الوحي القرآني له أربعة مقاصد عليا تحددها الآية: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [الجمعة: ٢]، ومنها نفهم أنه سبحانه وتعالى جعل من الأميين رسولًا وأنزل عليه الوحي القرآني من أجل تحقيق أربعة مقاصد هي: أن يتلو عليهم آياته – يعلمهم الكتاب – يعلمهم الحكمة – والهدف الرابع الشامل هو: يزكيهم. انظر في هذه الرؤية المعرفية لمفهوم التزكية على أساس المرجعية القرآنية: فتحي حسن ملكاوي، «التزكية في منظومة القيم الحاكمة»، مجلة المعرفة (المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الأردن): العدد ٥٧، ٢٠٠٩م/١٤٣٠ﻫ، ص٥–١٢. (ص۱۱).
٥٠  المصدر نفسه، ص٦.
٥١  المصدر نفسه، ص٨.
٥٢  المصدر نفسه، ص٦ ومواضع أخرى.
٥٣  المصدر نفسه، ص٥.
٥٤  المصدر نفسه، ص٥، و٦.
٥٥  Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, 2nd enlarged ed. (Illinios, University of Chicago Press, 1970), pp. V: VII.
ولهذا الكتاب ترجمةٌ عربية ضمن سلسلة عالم المعرفة: بنية الثورات العلمية، ترجمة شوقي جلال، (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ۱۹۹۲م)، سبقَتها ترجمةٌ أخرى قام بها د. ماهر عبد القادر بعنوان: تركيب الثورات العلمية (بيروت، دار النهضة العربية، ١٩٨١م، الطبعة الثانية ١٩٨٩م).
وتوماس كون (۱۹۲۲–١٩٩٦م) عالم فيزياء نظرية متخصص. حصل على الدكتوراه فيها العام ١٩٤٩م. ثم حصل على منحة لمدة ثلاث سنوات لدراسة تاريخ العلوم في جامعة هارفارد؛ فأصبح مؤرخ علم مقتدرًا، وقام بتدريس تاريخ العلم في أعرق المعاهد الأمريكية المعنية بهذا المبحث: جامعة هارفارد (١٩٥٢–١٩٥٦م) ثم جامعة باركلي في كاليفورنيا ثم المعهد التكنولوجي في ماساشوتس. وبرصيدٍ تاريخيٍّ وافر أقدم توماس كون على رحاب فلسفة العلم؛ فكان قادرًا على إحداث ذلك التحول في فلسفة العلم، ومن بعد كون لم تعُد تنفصل عن تاريخ العلم والنظر إلى العلم في سياق تطوُّره عَبْر التاريخ وتفاعُله مع البنيات الثقافية والأطر الحضارية.
انظر: يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول … الحصاد … الآفاق المستقبلية، المصدر نفسه، ص٤٤٠–٤٥٢.
٥٦  Thomas S. Kuhn, The Structure of Scientific Revolutions, pp. 37–63.
٥٧  فلسفةُ توماس كُون فلسفةٌ للثورة العلمية وبِنيَتها، ومع ملاحظةِ أن مفهومَ الثورةِ في أصلِه مفهومٌ فلكيٌّ رياضيٌّ صاغَه علماءُ الفلك في القرن السابع عشر بعد أن استقام رصدُهم لحركة الكواكب بفضل قوانين كبلر، ليشير إلى اكتمال دورة الجِرم السماوي في مداره وبدء دورةٍ جديدة؛ أي سنةٍ جديدة وعهدٍ جديد. وهذا هو المفهوم الحرفي للفظة ثورة؛ أي إعادة الدورة، ولكن لأنه يشير إلى تغيُّر وبدء عهدٍ جديد، فقد انتقل إلى مجال الأوضاع المدنية ليكتسب معناه الاجتماعي والسياسي المعروف الذي يفيدُ التغيير الجذري الشامل السريع، فهل تحدث ثورة في العلم بهذا المفهوم المستجد والمعمول به حاليًّا؟ انظر:
Paul Thagard, Conceptual Revolution (New Jersy: Princeton University Press, 1992), p. 5 et seq.
٥٨  W. H. Newton Smith, The Rationality of Science (London: Routledge & Kegan Paul, 1981) p. 102.
٥٩  T. Kuhn, “Logic of Discovery or Psychology of Research,” in: I. Lakatos & Allan Musgrave (eds.), Criticism and Growth of Knowledge (Cambridge: Cambridge University Press, 1979) pp. 1–23.
٦٠  Stephen Toulmin , The Hidden Agenda of Modernity (Illinios: University of Chicago Press, 1990), p. 84.
٦١  بصدد مثل هذه الجهود الرامية لصياغة منهجية علمية إسلامية ونموذج قياسي إرشادي أو براديم، يؤكد وعي الأمة الإسلامية وهويتها، أو خصوصيتها الثقافية، نذكُر أيضًا تأكيد عبد الوهاب المسيري المُلحَّ على مفهوم «النموذج التفسيري» الوارد عاليه خصوصًا مع ستيفن تولمن، على أنه مع المسيري أكثر شمولية وهلامية، فهو بشكل عام المنظور الذي ندرك عن طريقه كل الأشياء، ويختلف بفعل اختلاف الموروثات والمؤثِّرات الحضارية والثقافية، وثمة أيضًا عناية د. نصر عارف بمصطلح «النموذج المعرفي» الذي يضم مصطلحات العلم والنظرية والمنهج والنموذج التفسيري، ويُفضِّل الشيخ علي جمعة مصطلح النموذج المعرفي. وفي النهاية، لا يخرج النموذج التفسيري مع المسيري والنموذج المعرفي مع نصر عارف، كلاهما، عن النموذج الإرشادي الإسلامي الذي نسعى جميعًا إليه. ثمَّة أيضًا «المنظور الحضاري» الذي يتطابق مع النموذج الإرشادي، وقد أفردنا له الجزء الأخير من الفصل الرابع.
٦٢  علي جمعة، «المصادر الأساسية للمنهجية الإسلامية في الفكر والبحث العلمي»، في: المنهجية العلمية الإسلامية، ج١، المصدر نفسه، ص٤٦١–٥٢١.
٦٣  عبد الحميد أبو سليمان، «الرؤية الكونية الحضارية القرآنية»، في: المنهجية الإسلامية، المصدر نفسه، ص١٥٢ وما بعدها.
٦٤  علي جمعة، المصادر الأساسية للمنهجية العلمية في الفكر والبحث العلمي، المصدر نفسه، ص٤٨٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤