الفصل الثاني

العلم والمنهج

أولًا: ركائزُ أساسيةٌ وعمومية

في ساحة الجهاد العلمي المباركة، بدلًا من الانسحاقِ والتبعيةِ بين مركزٍ سائد وهوامشَ مُغيَّبة تنقل وتردد، يمكن أن يكون ثمَّة التثاقُف والتحاوُر بين أطرافٍ مستطيعة، وإن تفاوتَت استطاعاتها. إنه التشارُك والتلاقُح بين الثقافات، بمنأًى عن الاستعلاءِ وطمسِ الخصوصيات الحضارية، وعن المركزية الغربية التي تسعى إلى إذابة الثقافة التابعة في إطار الثقافة المتبوعة. وفي «الموجِّهات القرآنية والتصوُّرات الفلسفية القائمة على وحدة الإنسانية في المبدأ وفي السيرورة والمصير دعائم لذلك التداخل، بحيث تصبح كل ثقافة رافدًا للإنسانية، يقدِّم أفضل ما لديه، فتجتمع الإنسانية على ثقافة سواء وأصول حضارية مشتركة»،١ في الفعاليات الإيجابية جميعها، وعلى رأسها العلم والبحث العلمي.
إذن، بدلًا من الإذابة والإلغاء والاحتواء، نبحث عن التثاقُف والتفاعُل والتداخُل في معايشة وصنع ملحمة العلَم المجيدة، فنستطيع الاستفادة من إيجابياتٍ للتجربة الحداثية الغربية في تنضيدها قولًا وفعلًا لمفاهيم العلم والمنهج، ونحن نسعى في الصفحات المقبلة نحو بلورة هذه المفاهيم التي من الضروري أن يحتويَها أي نموذجٍ إرشاديٍّ علمي من حيث هو علمي، تُمثِّل مشتركًا إنسانيًّا عامًّا، لنواصل السير بعد ذلك نحو تأصيله وترسيمه بمعياريات وقيم وإجرائيات … وما إليه من عواملَ تجعلُه نموذجًا إرشاديًّا علميًّا عاكسًا لثقافتنا وملبيًا لاحتياجاتنا الحضارية المعاصرة.
من هذه المنطلقات نستهلُّ الطريق بوضع تعريف للعلم التجريبي الحديث الذي نروم من أجله نموذجنا الإرشادي بأنه: منظومةٌ ممنهجةٌ من الأبحاث التي تُنتِج وتُعيد إنتاج وتطوِّر وتعمِّم وتدقِّق وتنقِّح … قضايا ذات مضمونٍ معرفي ومحتوًى إخباري، ومقدرةٍ توصيفية، وقوةٍ تفسيرية، وطاقةٍ تنبؤية منصبَّة على ظواهر العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، المشترك بين الذوات أجمعين، أو بالتعبير الإسلامي النافذ عالم الشهادة، كمتمايزٍ عن عالم الغيب، وأيضًا عن عالَم الفن وعالَم الأيديولوجيا وعالَم التجارب العاطفية والشخصية … إلخ.٢
العلم منظومة؛ أي نسق (system)، كلٌّ متكامل يتميَّز بأن لكل جزء من أجزائه موضعَه المحدَّد وعلاقاتِه المنطقية المحدَّدة التي تربطه بالأجزاء الأخرى. وبهذا نتفهَّم لماذا يمكن أن نستخدم مصطلح العلم كمفردِ علَم ليدُل على مجموعةٍ هائلة من العلوم الرياضية والفيزيائية والكيميائية والحيوية والاجتماعية والإنسانية … تُعَدُّ فروعها بالآلاف (وكذلك يُقال فلسفة العلم أو فلسفة العلوم). أما أنه منظومة مُمَنهَجة أو نسقٌ ممنهَج، فذلك يعني أنه ببساطة في تكوُّنه وتناميه المطَّرد يتبع مناهجَ مترسِّمة لإنتاج معرفة، إنتاج قضايا؛ أي عبارات تعطينا خبرًا عن ظواهر العالم وتوصيفًا لها، ثم تفسيرًا، فتُمكِّننا من التنبؤ بها وبالتالي السيطرة التقانية عليها، أو على الأقل توجيهها وفقًا لما يعظِّم المنافعَ ويقلِّل المضارَّ والخسائر.
على أن العلم لا يُنتِج معرفة أو قضايا فحسب، بل الأهم أنه دائمًا يُعيد الإنتاج. معنى إعادة الإنتاج (prolification) أن كل قضيةٍ علمية أو معرفةٍ علمية مُحرَزة يمكن دائمًا تصويبُها وتعديلُها، ولا إنجازًا أو إنتاجًا معرفيًّا علميًّا يعني أن البحث في موضوعه قد انتهى، ومهما كان الإنجاز رائعًا يظل الباب مفتوحًا دومًا لمواصلة البحث العلمي والوصول إلى ما هو أفضل؛ أي إعادة الإنتاج. بعبارةٍ أخرى، إعادة الإنتاج هي قابلية العلم المستمرة للتقدم، لإنتاج معرفةٍ أفضل. إنه التقدُّم المتَّقد الجبَّار الذي لم يعُد ممكنًا تفسيرُه كمحضِ تراكُم ونظريةٍ تلو نظرية وكشفٍ بجوار كشف، بل احتلَّ مفهومُ الثورة الميدانَ وأصبحَت فلسفة العلم تدور حول التقدُّم والثورة منذ كارل بوبر وتوماس كُون وخلفاء لهما.
والمعرفة العلمية في كل هذا تنصبُّ فقط على العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه المشترك بين الذوات أجمعين؛ أي العالَم المادي أو الفيزيقي، أو بالتعبير الإسلامي النافذ عالم الشهادة، كمتمايز عن عالم الغيب المطلق — لا النسبي — الذي لا شأن للعلم التجريبي به، فلا يثبته أو ينفيه، ويُؤتَى من مصادرَ معرفيةٍ مختلفة عن المنهج العلمي، ولا ضَيْر من تكامل الحصائل في إطار منهجيةٍ إسلاميةٍ شاملة. بعبارةٍ أخرى، عالم الشهادة بظواهره ووقائعه وأحداثه الشتَّى العديدة المتكثرة والمتداخلة سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية، التي قد تمثل غيبًا نسبيًّا نرومُ اقتحامه، هو مجال العلم ومنهجه، وهو العالَم الأولي الذي ينبغي فهمُه والسيطرةُ عليه لكي يتيسَّر وجود الإنسان فيستطيع الانطلاق إلى أداء مهامِّ التزكية والعمران والاستخلاف أداءً جديرًا يحقِّق الذات الحضارية، ومن أجله تُبجَّل وتتبارى النماذج الإرشادية.
إن العلم (science) معرفةٌ ونشاطٌ معرفي. ونتوقف أولًا عند الأصول الإتيمولوجية، والإتيمولوجيا (Etymology) هي علم البحث في الأصول اللغوية والاشتقاقية للفظة.٣ في اللغة العربية رأينا لفظة «علم» — في الجزء الرابع من الفصل الأول — تعود إلى العُلام والعلامة، وهي تفيد ضربًا من المعرفة الوثيقة المثبتة تقوم على الإدراك والتعقُّل وحصول صورة الشيء في الذهن، فنقول «علمتُ الشيء أي عرفتُ علامتَه وما يميِّزه». وفي لغتنا الدارجة نقول «ربنا يعلم» ولا نقول أبدأ «ربنا يعرف»؛ فالله سبحانه وتعالى هو العالم والعليم وليس العارف فحسب. وفي المقابل نقول «عرفتُ الله» ولا نقول علمتُ الله. هذه الحدود بين المعرفة بشكلٍ عام والعلم بشكلٍ خاص أمرٌ له قيمته، لكنه لا يصنع تعريفًا وتحديدًا للعلم الذي نقصده الآن على وجه التعيين.
وفي اللغة الإنكليزية أيضًا كلمة Science تعود إلى الكلمة اللاتينية Scientia، وهي الأخرى تعني «المعرفة» على عمومها. ولكن اللافت حقًّا هو أن مصطلح العالِم (Scientist) قد صيغ فقط في عشرينيات القرنِ التاسعَ عشرَ لتعيين ذلك النشاط المعرفي الاحترافي؛ أي البحث العلمي تحديدًا الذي ترسَّمَت حدوده ومعالمه كنشاطٍ تخصُّصيٍّ مستقل ومتميِّز له آليَّاتٌ متعيِّنة ووسائلُ نافذة تحكُم عملية إنتاجٍ منتظمة وراهنة للمعرفة. بعبارةٍ موجَزة، ترسَّمَت حدود البحث العلمي بوصفه نشاطًا ذا منهج معيَّن. وبات «العلم» مصطلحًا اتفقنا على تعريفه من حيث هو منظومةٌ ممنهَجةٌ من القضايا الإخبارية.

•••

والعلم في هذا له وظيفة معرفية محددة هي الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة؛ فالهدف من أي علمٍ تجريبي الإجابة عن السؤال كيف؟ ولماذا تحدُث الظاهرة موضوعه؟ في المرحلة الوصفية يُجيب العلم على السؤال كيف تحدث الظاهرة، كيف تتبدَّى؟ وليس الوصف العلمي أمرًا يسيرًا أو هينًا، إنه بمثابة اكتشافٍ للظاهرة موضع البحث، ومعيار وجود العلم الذي يبحثها. لكنه ليس كل ما في الأمر؛ فإحكام الطريق إلى السيطرة على الظاهرة عن طريق التكنولوجيا يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناءً عليها، إلى المرحلة التالية، وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تحدُث الظاهرة؟ وهنا العلوم الأساسية أو البحثة التي تمثِّل محاولة العقل للإحاطة بالظاهرة موضوع الدراسة.
أما التنبُّؤ، فهو محكُّ نجاح الوصف والتفسير، ووظيفةٌ تمثِّل المعلم المميز لقوانين العلوم الطبيعية. التنبؤ هو المواجهة مع الواقع والمحَك الذي تُختبر به نظريات العلم، حدوث ما تتنبأ به النظرية هو البيَّنة التجريبية عليها ومبرِّر قبولها، وعدم حدوثه مبرِّر لرفضها أو تعديلها. وإذا كان ثمَّة وصفٌ وتفسيرٌ يشهد على نجاحهما تنبُّؤ، ترتَّب على هذا أداءٌ أكملُ للوظيفة الرابعة من وظائف العلم؛ أي السيطرة أو التقانة (التكنولوجيا) وهي الغاية المنشودة والمحصِّلة والقوة الملموسة للعلم التي تجسِّدها العلوم التطبيقية.
هكذا تجمع وظائف العلم الأربع بين جانبَين جرى العُرف على التمييز بينهما، وهما «العلم البحت Pure Science» الذي يبحث الإشكالية المعرفية في حد ذاتها، وبغضِّ النظر عما إذا كانت ستُفضي فيما بعدُ إلى تطبيقاتٍ عملية، وبين «العلم التطبيقي Applied Science» الذي يضطلع بالاستخدامات العملية والهندسية والتكنولوجية للمعرفة العلمية. وكثيرًا ما تحقَّقَت إنجازاتٌ علميةٌ عظمى بروح العلم البحت؛ أي لخلق معرفةٍ جديدة، حل مشكلةٍ مطروحة للبحث وإجابة عن سؤالٍ ملحٍّ، فقط من أجل تفهُّم الظاهرة أو طرح تفسيرٍ لها، ثم ظهر لها فيما بعدُ أهميةٌ عمليةٌ أو تطبيقيةٌ كبرى، فينبغي عدمُ التعويل كثيرًا على تفرقةٍ حاسمة بين العلوم البحتة والعلوم التطبيقية؛ لأنهما في واقع الأمر لا يفترقان، والعلوم التطبيقية تستند إلى حصادٍ هائلٍ من العلوم البحتة التي هي الأساس، فتُسمَّى العلوم الأساسية، وطبعًا تُوجَد التطبيقاتُ التكنولوجيةُ بفضلها. وكما قال لويس باستير، ليس هناك عِلْمان تطبيقي وبحت، بل يُوجَد العلمُ وتطبيقُه، مثلما تُوجَد الشجرةُ وثمرتُها.

كل هذا فضلًا عن دخول التكنولوجيا ذاتها، حصاد العلوم التطبيقية، كقوةٍ منتجةٍ للمعرفة العلمية أو كعاملٍ جوهريٍّ حاسم، يتمثَّل في أجهزة البحث العلمي الدقيقة أو العملاقة وتجهيزات المعامل والمختبَرات، وكأننا بإزاء الأَمَة التي تلد ربَّتها.

•••

أثبتَ العلمُ نجاحًا في أداء وظائفه تعاظمَ شأنه، وتصاعَد بشكلٍ غير مسبوق، يَعِدُ دائمًا بالمزيد، بالتقدُّم. كل إجابةٍ تكون مثمرةً بقَدْر ما تطرح أسئلةً أبعد، وكل نظرية تكون ناجحةً بقَدْر ما تفتح الطريق لنظرياتٍ أخرى أكفأ وأقدَر، ولن يتحوَّل العلمُ التجريبيُّ لنشاطٍ ترديديٍّ أبدًا، ولن تدَّعي أيةُ نظريةٍ علميةٍ لنفسها الخلود، أو أنها أمسكَت بالحقيقة وختمَت البحث في ميدانها. كل نظريةٍ علميةٍ خاضعةٌ للتعديل والتنقيح والإبدال، وأن يحلَّ محلَّها الأكفأ والأقدر. هكذا تتطوَّر النظريات العلمية في متواليةٍ متصاعدةٍ دومًا، لا تتوقف أبدًا. قد تحقِّق نظريةٌ ما نجاحًا يطبِّق الخافقَين، ثم تَذْوي وتقبَع في متاحف التاريخ؛ لأن الأفضل أو الأشمل أو الأدق قد حلَّ محلها، والحكم على النظريات العلمية دائمًا نسبي، النظرية ك أفضل من ق، أدق من ن … من هنا لا يكون سر عظمة العلم في هذه النظرية أو تلك، بل في القوة المثمرةِ الوَلودِ لكل هذا النجاح المتدفق المتتالي؛ أي المنهج العلمي. إنه كما قال د. زكي نجيب محمود المنجَم الذي نستخرج منه النفائس، فإذا كان العلم وتطبيقاته التكنولوجية بمثابة فرائد القلائد التي تزيِّن صدر الحضارة المعاصرة، فإن المنهج العلمي هو المنجم الذي نستخرج منه الفريدة تلو الفريدة (الفريدة هي الجوهرة). لكل هذا النجاح الفريد احتل المنهج العلمي موقعه المرموق، كوسيلةٍ وكغاية، كطريقةٍ وكآية. المنهج العلمي هو آية العلم، والعلم آيته.

ثانيًا: تحليل مفهوم المنهج ومساره

هذا الدَّور الاستراتيجي لمفهوم «المنهج العلمي» خصوصًا، تكمُن من ورائه أهميةٌ استراتيجيةٌ أكثر شيوعًا لمفهوم «المنهج» عمومًا، وللمنهجية في كل فكر وفي كل فعل نظامان. وبإزاء هذا الرصيد الهائل للمفهوم، لا بد أن نصل إلى «المنهج العلمي» عَبْر درجاتٍ متتالية من تحليلٍ متعدد الأبعاد والزوايا لمفهوم «المنهج» في حد ذاته، حتى نصل إلى المنهج العلمي.

ويجمُل بنا أن نبدأ أولى مراتب التحليل من التحليل الإتيمولوجي للفظة «منهج» ننتقل منها إلى «المنهج» كمصطلح، لنصل فيما يتلو هذا الجزء إلى المنهج العلمي بجلال شأنه وعظيم دوره.

التحليل الإتيمولوجي للفظة «المنهج»، على سبيل استكناه أصول هذا المصطلح وعمق دلالاته، يقودنا توًّا إلى صلب في اللغة العربية. وذلك قبل المراسي الشائعة الذائعة في اللغات الأوروبية، التي درجنا على أن نتعلَّم منها حديث المنهجية في إطارِ هيمنةِ النموذجِ القياسي الإرشادي الغربي السائد أو البائد، ونروم أن يقوم في مقابله، سواء في صورته الوضعية أو بعد الوضعية، نموذجٌ قياسي إرشادي إسلامي منطلق صوب المستقبل.

ولمَّا كانت اللغة العربية وعلومها أولى الدوائر المعرفية في بنيتنا العقلية التي حملَها تراثنا، وكان لها ذلك الدور الفخيم، فلا غرو أن تحملَ أصولُ الألفاظ فيها، وفي مقدِّمتها لفظة «المنهج»، الكثيرَ الجمَّ من كنوزنا الحضارية المذخورة التي تنتظر البحث والتنقيب والسبر … أَوَلَيست اللغة العربية هي البحر في أحشائه الدر كامن؟ … على أية حال، فإن أصولَ وتطوُّرات لفظة «المنهج» في اللغة العربية وفي اللغات الأوروبية، معًا، تُلقي الضوءَ الكثيفَ على طبيعة المفهوم ودلالاته ودوره، وكيفية الاستفادة منه.

لفظة المنهج والمنهاج ومرادفاتهما معروفةٌ في لغة العرب وفي ألفاظ القرآن الكريم والحديث الشريف، بل إن أولى دعوانا هي أن المنهج لفظٌ قرآني، ومصطلحٌ تراثي بامتياز.

«المنهج» في اللغة العربية هو الطريق الواضح المستقيم الذي يُفضي السيرُ فيه إلى غايةٍ مقصودة،٤ بسهولة ويسر. ومن هذا الأصل جرى استعمال لفظة المنهج لتعني بوجهٍ عام «وسيلة محددة توصل إلى غايةٍ معيَّنة».٥ نهج نهجًا تعني اتخذ منهاجًا أو طريقًا للوصول إلى غاية.٦ ومن عبقرية اللغة العربية نجد اللفظة «نَهَجَ» أي تلاحقَت أنفاسه من سرعة الحركة لوضوح الطريق ويسره (ومن هذا الأصل تُستعمَل اللفظة أيضًا على عمومها، فيقال نهج من السمنة، أو من سواها). هكذا تتضمَّن أصول اللفظة الإسراع في السير في الطريق لوضوحه أو في إنجاز العمل لوضوح طريقته. ويأتي أصلُ هذه الألفاظ لغةً من الجذر نَهَجَ وأَنْهَجَ، ونهج الطريقُ نهوجًا بمعنى وضح واستبان وصار نهجًا واضحًا بيِّنًا، ونهجتُه وأنهجتُه أوضحتُه، وأيضًا سلكتُه. الطرق الناهجة هي الطرق الواضحة. النهج والمنهج: الطريق المستقيم، والمنهاج: الطريق المستمر.٧
وخيرُ مُفتتَحٍ لورود اللفظة في تراثنا قولُه تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: ٤٨]. الشرعة هي ما يُبتدأ فيه إلى الشيء، ومنه يقال شرع في كذا أي ابتدأ فيه، وكذا الشريعة هي ما يُبتدأ فيه إلى الماء.٨ فلتكن الشرعة هي المستهل والمبتدأ إلى مناهل المنهاج الذي هو الطريق الواضح السهل. وفي حديث ابن عباس، رضي الله عنه: «لم يمُت رسول الله () حتى تركَكُم على طريقٍ ناهجة.» وقال يزيد بن الخَذَّاق العبدي:
ولقد أضاءَ لك الطريقُ وأنْهَجَت
سبلُ المكارم والهُدَى تُعْدِي
تعدي معناها أن تُعِينَ وتُقَوِّي،٩ أما «أنْهَجَت أو أنْهَجَ» فتعني الاتضاح وشق الطريق الواضح، اتخذَه وسلكَه.
وإذا أخذنا في الاعتبار أن المنهج — كما أوضحنا — هو الطريق والطريقة، لكان بهذا أكثر ظهورًا في القرآن الكريم، إذ ورَد عشراتِ المرات لفظُ الطريق والطريقة وأيضًا السبيل والصراط. «كما ارتبط السياق الذي وردَت فيه هذه الألفاظ بالهدى والضلال، فالله يهدي إلى سواء السبيل؛ أي الطريق المستقيم، والمؤمنون يدعون الله أن يهديَهم الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم فاهتدَوا إلى الطريق، غير المغضوب عليهم، الذين عرفوا الطريق وتنكَّبوه، ولا الضالين الذين ضلُّوا وتاهُوا فلم يعرفوا الطريق.»١٠اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ [الفاتحة: ٦–٧]، وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: ٤]، يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ [الأحقاف: ٣٠]. الضلال يحمل الزلَل المنطقي والزلَل الأخلاقي معًا، المعرفي والقيمي.
و«السُّنة» أيضًا لفظٌ قرآني تبوَّأ موقعًا فريدًا في الدين الإسلامي وفي التراث العربي لارتباطه بالدلالة النبوية أو الطريق النبوي، وهو الآخر يعني في أصله اللغوي الطريق، والسنن هي الطرائق، وبالتالي يقترب في دلالاته من لفظة المنهاج. ومن نعم الله على عباده أن يهديهم السنن، أي الطرق التي سلكَها الناس من قبلُ، إنها طرقٌ واضحةٌ تهدي الناس إلى مقصدهم من حيث إنها مصدَر التجربة والعِبْرة التي يستفيدون منها. والخلاصة أن ثمَّة دلالاتٍ مشتركةً في ألفاظ المنهج والمنهاج والطريق والسبيل والصراط والسُّنة.١١ جميعها تشير إلى طريقٍ مستقيمٍ واضحٍ ميسَّر لسعي الإنسان ليبلغ به غايةً مقصودة، تقع في مستوياتٍ مختلفة تبعًا للمقاصد المختلفة ومساعي الإنسان الشتَّي نحو الغاية النهائية وهي حسن المآل، في الدنيا وفي الآخرة. وتظل «قيمة المنهاج هي اتخاذه طريقًا إلى المقصد، والحركة في اتجاه ذلك المقصد».١٢

وفضلًا عن هذا، يَحفِل القرآنُ بألفاظٍ منهجيةٍ في المقام الأول، لا تنفصل عن نمط ومهامَّ وسبل التفكير العلمي المنتج، من قبيل: التعقل – التفكر – التفقه – التبصر – الاعتبار – التدبر – النظر – التذكر … ولكن مقصدنا الآن لفظة «المنهج» تحديدًا وتعيينًا.

•••

وفي خطابنا العربي المعرفي المعاصر تُوضَع لفظةُ منهجٍ كمقابلٍ سديدٍ للفظة Method في الإنكليزية، وméthode في الفرنسية وdie Methode في الألمانية، وسائر البدائل في اللغات الهندوأوروبية، وهي تعني الطريقة والمنهج. وكلها تعود أصولها في النهاية إلى الكلمة الإغريقية μέθοδος، وهي كلمةٌ يستعملها أفلاطون بمعنى البحث أو النظر، كما نجدُها كذلك عند أرسطو أحيانًا كثيرةً بمعنى بحث، والمعنى الاشتقاقي الأصلي لها يدُل على الطريق أو المنهج المؤدي إلى الغرض المطلوب خلال المصاعب والعقبات.١٣
إن المنهج هو الطريق والطريقة … الأسلوب والوتيرة … الديدن والسبيل … المسار والشرعة … الطبع والناموس … ويُراد به تجسيد أسلوبٍ للتفكير السديد منظَّم ومثمر، ملتزم بالانتقال من المشكلة إلى حلها ومن مقدمات البحث إلى غايته … وبات «منهج البحث» هو الاستعمال الأكثر للفظة المنهج في سياق اللغة التداولية المعاصرة في خطابها المعرفي، حيث يفيد «عموم الطريقة، وتتولد منه الإجراءات والأدوات، وتتعلق به الغاياتُ أو المقاصدُ والقيمُ الحاكمة».١٤

«منهج البحث» أو مناهج البحث — مبتغانا ومقصدنا — منجم أو مناجم نستخرج منها فرائد العلم والمعرفة … هي استراتيجياتُ العمل العقلي وأركانُه وأداتُه الكبرى، القوة الحقيقية والمجد الحقيقي للإنسان الذي جعله قادرًا على أداء أمانة الاستخلاف والعمران والتزكية في أنضَر صورها، وجعله تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية، فهل لحكمته سبحانه وتعالى أن ورد الجذر «نهج» في القرآن الكريم مرةً واحدةً وورد الجذر «بحث» أيضًا مرةً واحدة، وكلاهما في سورة واحدة هي سورة المائدة؟! رأينا «المنهج»: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: ٤٨]، وسبيلنا الآن إلى «البحث».

يقول تعالى فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ [المائدة: ٣١] بمعنى حفرها وطلب شيئًا فيها. وفي المعجم الوسيط: «البحث» لغةً هو الحفر والتنقيب، ويأتي بمعنى الاجتهاد وبذل الجهد في موضوعٍ ما وجمع المسائل التي تتصل به. وفي المعجم الوجيز: بحث عن الشيء أي طلبَه وفتَّش عنه أو سأل عنه واستقصى، وبحث الأمر وبحث في الأمر: اجتهد فيه ليعرف حقيقتَه، وباحثَه أي بحث معه فيه، وتباحَثا أي تبادَلا البحث. والبحث في اللغة التداولية المعرفية هو بذلُ الجهد في موضوعٍ ما وجمع مادته، وهو ثمرة هذا الجهد ونتيجته، ليشمل الاستعلام والاستقصاء الذي يقوم به الباحث بغرض الوصول إلى نتيجةٍ جديدة، أو تطوير وتصحيح أو تنقيح أو تحقيق نتائجَ كائنةٍ بالفعل. والخلاصة في كتاب التعريفات للجرجاني، حيث: «البحث لغةً هو التفحُّص والتفتيش، واصطلاحًا هو إثبات النسبة الإيجابية أو السلبية بين الشيئَين بطريق الاستدلال.»١٥
هكذا نجد «منهج البحث» يؤدي بنا إلى مفهوم «المنهج» من حيث هو أكثر من مجرد لفظة … إنه مصطلح بات يتصدَّر المصطلحات في مجالات البحث الشتَّى، وهو المفهوم المحوري والمرتكز الأساسي في الدراسات المعاصرة النازعة إلى الجدوى والجدية والانضباط.
ومن المفيد الآن أن نرتقي في تحليلنا لمفهوم المنهج إلى درجةٍ أعلى، فننتقل من تحليله من حيث هو لفظة إلى تحليله من حيث هو مصطلح، ونُلقي نظرةً شاملةً على تطور مصطلح «المنهج» عَبْر التاريخ المعرفي، في تراثنا العربي، وفي التراث الغربي؛ أي لدن الأنا ولدن الآخر.

•••

لئن كان المنهج (Method) كلفظٍ يَعْني «الطريق والطريقة»، فإن المنهج كمصطلحٍ في أشدِّ معانيه عمومية يعني طريقة تحقيق الهدف، والطريق المحدَّد لتنظيم الجهد والنشاط.
لم يَغِب عن أعلام تراثنا في عصره الذهبي، أن طريق البحث والمعرفة على رأس سائر الطرق طُرًّا، فورَد المنهج كمصطلح يفيد طريق البحث والنظر والعمل. ووردَت لفظة «المنهج» في تراثنا بالمعنى الذي يفيد دلالتها كمصطلح، وجاءت في كشَّاف اصطلاحات الفنون للتهانوي لتعني: «ما يكون في حد ذاته آلةً لتحصيل غيره، لا بد أن يكون متعلقًا بكيفية تحصيله، فهو متعلق بكيفية عمل.»١٦
وتصدَّر مصطلَح المنهج عناوين مصنفاتٍ رائدة في تراثنا، ونضرب مثالًا بواحد من غلاة العقليين هو ابن رشد وكتابه مناهج الأدلة في عقائد الملة، وواحد من غلاة النقليين هو الإمام ابن تيمية لنجد مثلًا كتابه منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، وسواهما.١٧ وليس الأمر مجرد ورود لفظة أو مصطلح، فقد شهدَت الحضارة الإسلامية منذ بواكير نهضتها نشأةً واعدةً للمنهجية والفكر المنهجي والمُمنهَج.

ولا مبالغة في القول إن أهم إنجازات تراثنا تأتَّت في مجال المنهج والدراسات المنهجية. وبخلاف مناهج الفلسفة الإسلامية ومناهج العلوم الرياضية والتجريبية عند العرب التي كانت المقدمة الشرطية المفضية منطقيًّا وتاريخيًّا وجغرافيًّا إلى مرحلة العلم الحديث في أوروبا، كان علم أصول الفقه بموقعه الفريد في منظومة علومنا النقلية/العقلية هو في جوهره لا يعدو أن يكون علمًا لمناهج البحث، ويعطينا تمثيلًا عينيًّا ساطعًا على مدى ورود «المنهج» كمصطلحٍ ناضج في تراثنا، قولًا وفعلًا. كان موضوعه، كما سنرى تفصيلًا في الفصل القادم، رسم الطريق المؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية من الأدلة التي نصبها الشارع؛ أي منهج استنباط الأحكام الشرعية. وحين استند هذا العلم على علوم أخرى، كانت استفادتُه منها منهجيةً على الأصالة. أولها علم المنطق، علم القياس والاستدلال، بخلاف استفادته من علم الكلام وطبعًا من العلوم اللغوية، فضلًا عن استفادته العظمى من الفقه ذاته وعلوم الكتاب والسنة والمباحث المشتركة بينهما. والأمثلة على هذا من قبيل الكلام على التواتر والأحاد، والقراءة الشاذة وحكمها والأحوال الراجعة إلى متن الحديث أو طريقه والجرح والتعديل والناسخ والمنسوخ، وهي تعطينا تمثيلاتٍ منهجية؛ أي طرقًا استدلاليةً دقيقة سوف نتوقَّف عندها في حينها (الفصل الثالث).

وقد كان المنطق الأرسطي أول ما نقله العرب من علوم اليونان، وظل حاضرًا في الحضارة الإسلامية، في استيعابه وتطويره ونقده. إن المنطق يزدهر في الأوساط المعنية باللغة، وعناية الحضارة الإسلامية باللغة العربية كانت غير مسبوقة، بسبب لغوية الحدث القرآني، الحدث الأكبر في تاريخها. وقديمًا قالوا المنطق هو نحو العقل، والنحو هو منطق اللغة.١٨ ويظل المنطق دائمًا في مراحله وتطوُّراته المختلفة هو الظهير المتين وركنٌ ركينٌ لمناهج البحث في تطوُّراتها وتحوُّلاتها، وللمنهجية في شتى صورها. وفي رحاب الحضارة العربية الإسلامية قام المسيحيون السريان في سوريا والعراق، في أواسط القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري بترجمة الكتب الأربعة لأرسطو في المنطق إلى اللغة العربية. راجعَها على الأصل اليوناني ونقَّحها وهذَّبها الجيلُ الثاني من المترجمين، وعلى رأسهم حنين بن إسحاق وولده إسحاق بن حنين، وترجموا أيضًا شروحًا وتعليقات. أصبح المنطق الأرسطي مطروحًا بوضوح في الحضارة الإسلامية، وانفتح المجالُ لتوالي جهود العرب وإسهاماتهم المنطقية، دشَّنتها دراسات الكندي — أول الفلاسفة العرب — وتوالت إنجازاتُ المناطقة العرب من فرقٍ شتى. ونذكُر في هذا الصدد الجهودَ المتحمِّسة لابن رشد في شرح منطق أرسطو. ومنذ البداية أُرسي هذا العلم في الحضارة العربية تحت اسم «المنطق»، وهو علم الميزان؛ إذ به تُوزَن الحُجج والبراهين. يقول التهانوي: «إنما سُمي بالمنطق لأن النطق يُطلَق على اللفظ وعلى إدراك الكليات وعلى النفس الناطقة، ولما كان هذا الفن يقوى بالأول ويسلك بالثاني مسلك السداد ويحصل بسببه كمالات الثالث اشتُق له اسمٌ منه وهو المنطق. وهو علمٌ بقوانينَ تفيدُ معرفةَ طرقِ الانتقال من المعلومات إلى المجهولات وشرائطها بحيث لا يعرض الغلطُ في الفكر.»١٩
وهكذا، فإنه في إطار انفتاح الثقافة العربية الإسلامية النادر على منجزات الآخر، على ميراث الحضارات والثقافات الأخرى، جاءت العناية المشهورة لأعلام التراث العربي آنذاك بنقل المنطق الأرسطي الذي يمكن اعتباره أول محاولة متكاملة لمَنْهَجة الاستدلال والتفكير (بل وانفتح أسلافنا أيضًا على ما طرحه المنهج الأرسطي في أخص خصائص العرب؛ أي فن القول في مجالَي الشعر والخطابة). الخلاصة، ومن المنظور التاريخي الإنساني بشكلٍ عام، أو من حيث المشترك العام، أن مَثَّل المنطقُ العربي مدرسةً كبرى في تاريخ المنطق.٢٠ وانعكسَت محصلة هذا الوعي المنطقي في مزيد من تقنين المنهجية في رحاب الحضارة العربية الإسلامية، وانتظمَت في تراثنا مفاهيمُ ومصادراتٌ وفروضٌ أولية وقواعدُ بحثية وأصولٌ استدلالية وسواها من عناصرَ منهجية. فاكتملَت لديهم آلياتٌ للبحث وطرائقُ للتفكير؛ وكان التراث الرائع الذي خلَّفوه في شتى مجالات الدرس النظامي.

•••

وفي الخطاب المعرفي الحديث والمعاصر تبوأ مصطلح المنهج موضع الصدارة، ليفيد طريق البحث والمعرفة والتفكير؛ ويعني طريقًا محددًا منظمًا مدروسًا، وبات «منهج البحث» مقدمةً أولية للجهد المعرفي الرصين الجدير بالاعتبار.

كانت الفلسفة قد نشأَت وتطوَّرَت في منطقة حوض البحر المتوسط وأقاليمُ متاخمةٌ على مدى ما يَربُو على خمسةٍ وعشرين قرنًا من الزمان، ومثَّلَت الفلسفةُ الإسلامية حقبةً هامة من حقبها وجانبًا متينًا من جوانبها. إن الفلسفةَ في جُملتها تجريدٌ وتجسيدٌ لمسار الحضارة الإنسانية، وفي مراحلها المتعاقبة هي دائمًا الانعكاسُ المجرد الواعي لمرحلتها الحضارية. وقد عُنيَت الفلسفةُ أيما عنايةٍ بمصطلَح المنهج بهذا المعنى المطروح الآن. هذا من حيثُ إن الفلسفة معنيَّة دائمًا بالمعرفة وطرائقها وذلك في واحدٍ من أهم مباحثها وهو مبحث الإبستمولوجيا (= نظرية المعرفة)، وكما هو معروفٌ يمكن اعتبار المباحث الكبرى الثلاثة للفلسفة بجملتها هي نظرية المعرفة ونظرية الوجود ونظرية القيمة (أو الإبستمولوجيا والأنطولوجيا والأكسيولوجيا).
«المنهج» كمصطلح فلسفي على وجه الخصوص يعني: وسيلة المعرفة، طريقة الخروج بالنتائج الفعلية من الموضوع المطروح للدراسة، والطريقة المتَّبَعة في دراسة موضوعٍ ما للتوصُّل إلى قانون أو نتائج أو محصلة عامة. والمنهج في الفلسفة هو أيضًا فنُّ ترتيب الأفكار ترتيبًا دقيقًا بحيث تؤدي إلى الكشف عن حقيقةٍ مجهولة أو البرهنة على صحة حقيقةٍ معلومة.٢١ هكذا نجد التعريف الفلسفي لمصطلح المنهج، لا يخرج عن التعريف المعمول به في شتى العلوم، أَوَليست تُنعَت الفلسفة بأنها أم العلوم.
والذي استجد حقًّا أن جعلَت أم العلوم من «فلسفة العلوم» أهمَّ فروعِ الفلسفة المعاصرة، والأكثر تجسيدًا وتجريدًا لروح العصر، الحاملة لأبرز الإشكاليات المعرفية الشاغلة في الحقبة الراهنة. وعلم مناهج البحث؛ أي نظرية المنهج العلمي أو المنهجية العلمية، في صَدْر مباحث فلسفة العلوم، بل عمادها وعمودها الفقري.
ولا غَرْو أن يستقطب سؤال المنهج العلمي الفلسفة، وأن تكون الفلسفة هي الأقدر على طرحه. إن فلسفة العلوم بشكلٍ ما امتدادٌ لسؤال فلسفة المعرفة (الإبستمولوجيا) العريق حول ماذا يمكن أن يعرف الإنسان، ما شروط المعرفة وما طبيعتها ووسائلها؟ وما ممكناتها؟ وحين جاء القرنُ التاسعَ عشرَ كان قد استقام نسَقُ العلمِ الحديث عملاقًا يتصدر بامتيازٍ واقتدارٍ مسيرةَ المعرفة الإنسانية، ويمثِّل حالةً فريدة لنجاح المشروع المعرفي للإنسان، فأصبح سؤال الإبستمولوجيا المُتمثِّل في فلسفة العلم هو سؤال حول عوامل هذا النجاح وحيثياته، حول آلية التقدم المتوالي في هذا المشروع المعرفي المطَّرد النجاح؛ أي حول المنهج العلمي. وبدأَت فلسفة العلوم تتشكل وتتحدد معالمها — في إنكلترا وفرنسا خصوصًا مع بضعة إسهاماتٍ لاحقةٍ من ألمانيا — كمبحثٍ تخصُّصيٍّ مستقلٍّ وتوالت أدبياتها، بوصفها نشاطًا يهدفُ إلى تكوين معرفة بالمعرفة العلمية أو نظرية عن النظرية العلمية من حيث آلياتها وطرائقها وأسلوبها … من حيث منهجيتها. وفي هذا الوقتِ نفسِه تصاعَد التساؤل حول أسس الرياضيات وطبيعتها وفروضها القَبْلية وبالتالي منهجيَّتها. وهو السؤال الذي أدى في العام ١٨٤٧م إلى نشأة المنطق الرياضي، أو المنطق الرمزي الحديث على يد جورج بول (G. Boole, 1815–1865) ليُمثِّل قفزةً عقليةً نوعية استوعبَت المنطق الأرسطي التقليدي وتجاوزَتْه إلى منطق العلاقات والترميز الرياضي.

لقد اشتبكَت الفلسفة بالمنهج العلمي، وهي تملك رصيدَها الهائل وميراثَها الضخم في قضية المنهجية، وقضايا الاشتباك بين العقل والوجود وسبل التفكير والاستدلال والانتقال من المعلوم إلى المجهول.

نشأَت فلسفةُ العلم في القرنِ التاسعَ عشرَ معنيَّة بسؤال المنهج، أو تدور حول الميثودولوجيا، وتحديدًا حول قطبَي المنهج التجريبي الفرض والملاحظة والعلاقة بينهما، وأيهما يؤدي إلى الآخر، وعادةً ما يؤرَّخ لهذا بالمناظرات بين وليم ويول (W. Whewell, 1794–1866) الذي انتصر للفرض، وجون ستيوارت مِل الذي انتصَر للملاحظة. وإبَّان النصف الأول من القرن العشرين تنامى سؤال المنهج، وأصبحَت فلسفةُ العلم معالجةً إبستمولوجيةً شاملة لمنهج العلم ومنطقه. أما في النصف الثاني أو الثلث الثالث من القرن العشرين وخواتيمه، فقد حدثَت التحولات الكبرى التي أشرنا إليها في الجزء الأول من الفصل الأول، وباتت فلسفة العلم لا تقتصر على منطقه ومنهجه، ولكن أبدًا لا تستغني عنهما، تستوعب النظرية المنهجية وترتكن عليها، ثم تتجاوزها لتكون أقربَ إلى رؤيةٍ بانوراميةٍ شاملة للعلم في ملحمة الحضارة الإنسانية. وتطوَّر الأمر، كما رأينا في الفلسفات بعد الحداثية وبعد الوضعية، ولكن يظل سؤال المنهج ماثلًا أيضًا في البحث عن المداخل والنماذج الإرشادية المتقابلة، بل وحتى في مزاعم فييرابند ضد المنهج، وأن العلم لم يكن أبدًا أسيرَ منهجٍ واحدٍ محدد، بل هو مشروعٌ فوضويٌّ لا سلطوي (Anarchic Enterprise)؛ أي لا يعترف بأية سلطة، وكل المناهج يمكن أن تُجدي فيه،٢٢ تبعًا لشعار فييرابند الشهير: كل شيء مقبول (Anything goes). وكانت أسانيد فييرابند الأساسية في فحص تسلسُل الأحداث الكبرى التي شكَّلَت تاريخ العلم ليُوضِّح أنها لم تأتِ عن طريق منهجٍ واحدٍ محدَّد، بل مناهج عديدة. وانكب فييرابند على تأكيد التعدُّدية المنهجية. كلُّ منهجٍ مقبولٌ على الرحب والسعة طالما يلائم طبيعة المشكلة المطروحة للبحث في إطارها المعني، فيؤدي إلى حلها والإضافة إلى رصيد العلم … ولكن ألا نحتاج، إذن، إلى تعيينٍ وبحثٍ لمثل هذه المناهج؟
وكما يقول جوزيف مارجوليس، انتهى سؤال المنهج أو سقط من الاعتبار فقط من حيث هو شفرةٌ مدوَّنة تعبيرًا عن الولاء لفئةٍ فرعية من المعتقدات انبثقَت عن العقيدة العلمية المركزية — أي عن التجريبية، معتقدات تشكَّلَت في مرحلةٍ أسبقَ من العلم الحديث سادتها الوضعية، واستنفدَت الآن مبرراتها. إذا صح هذا، ينبغي أن نعمد إلى استغلال مميزات الموجِّه المساعد على الكشف الكامنة في استحضار المناقشات الأسبق، بغير أن نقع في شراكها الاصطلاحية.٢٣ بعبارةٍ موجزة، يمكن أن نتحرَّر من أغلال الواحدية المادية والوضعية والمركزية الغربية والاستعمارية، ونظل قادرين على الاستفادة من الإيجابيات المنطقية في تنضيد المنهج العلمي. وقد كان مبحث المناهج هو كل فلسفة العلوم، ثم أصبح بعضَها، وهو في كل حالٍ من أهم أسئلتها. والمبحث الفلسفي الذي يجيب عن سؤال المنهج العلمي هو الميثودلوجيا.

ثالثًا: المنهج العلمي … ميثودولوجيا

علم مناهج البحث أو الميثودولوجيا (Methodology) الذي يقبع في سويداء فلسفة العلوم هو علمُ بيانِ طرق البحث العلمي واستقصاء أمرها. يتمركز حول المنهج والمناهج وآلياتها. إنه منطقٌ تطبيقيٌّ فعَّال يحتل الموقع الاستراتيجي في كل نموذجٍ قياسي إرشادي علمي، بما هو علمي. يفيد شتى العلوم المعنيَّة بقراءة الكون المنظور بظواهره الفلكية والفيزيائية والكيمائية والحيوية والاجتماعية والإنسانية، بقَدر ما يفيد البنية الحضارية بشكلٍ عام، من حيث هو بلورةٌ لأساليب التفكير المثمرة السديدة، ولوسيلة فعالة امتلكها الإنسان لمواجهة الواقع والوقائع.
الميثودولوجيا؛ أي مناهج البحث العلمي، تُبلور الخلاصة المستصفاة من الملحمة الباهرة المتصاعدة التي أحرزها العلم التجريبي الحديث، كنجاحٍ متوالٍ وصيرورةٍ دائمة. تعود صياغة مصطلح «الميثودولوجيا» (Methodology) إلى شيخ الفلسفة الحديثة إيمانويل كانط (I. Kant, 1724–1804) وكتابه العمدة نقد العقل الخالص (۱۷۸۱م) حيث ميَّز كانط بين المنطق العام الذي يبحث في المبادئ العامة وشروط المعرفة الصحيحة، وبين المنطق العملي الذي قُصد به علم المناهج «الميثودولوجيا» … المناهج المُمكِنة التي تنظِّم العلوم العملية والتي يتكون عن طريقها أي علم.٢٤ من هنا أصبح موضوعُ الميثودولوجيا هو المنهج العلمي … طريقة اكتساب المعرفة العلمية بالعالم الذي نحيا فيه. وقبل أن ينتصف القرن العشرون أصبح المنهج العلمي هو «المبادئ التي نجردها من الممارسات الفعلية للعلماء في محاولاتهم الناجحة لاكتساب المعرفة العلمية والإضافة إليها. وهذا التجريد ليس مجرَّد توصيفٍ لما يفعله العلماء أو لسلوك العلماء، بل يتضمن تقويمًا للمغزى الذي يدل عليه هذا السلوك»،٢٥ واستخلاص دلالاته، من دون أن يعني هذا التقويم معيارًا صوريًّا يُفرَض على العلماء فرضًا. بعبارةٍ أخرى، النظرية الفلسفية الميثودولوجية؛ أي نظرية المنهج العلمي لا هي وصفيةٌ خالصة ولا هي معياريةٌ خالصة، بل مركبٌ جدلي من الوصفية والمعيارية، لا تنقل خطوات البحث العلمي أو مراحله بقَدْر ما تنقل روحه ومعالمه وخصائصه وطبائعه ومحكَّاته.

وبهذه النظرة الرحيبة المُستوعِبة تقف الميثودولوجيا على الثابت البنيوي في المنهج العلمي من حيث هو منهجٌ علمي، بغَضِّ النظر عن الاختلافات الإجرائية بين هذا العلم أو ذاك، وفقًا لطبيعة موضوعه. وتلك هي نظرية المنهج العلمي التي تصوغُها الميثودولوجيا.

•••

ولا تتجاهل الميثودولوجيا الفلسفية الفوارقَ بين العلوم المختلفة أكثر مما ينبغي، إن الميثودولوجيا انعكاسٌ لنسَقية العلم الحديث التي نجد داخلها تقسيماتٍ أساسيةً كبرى تنعكس بدورها في نظرية المنهج. يمكن مبدئيًّا أن نرسم لنسَق العلم الحديث التخطيط٢٦ المنطقي العام الآتي:
هنالك أولًا الرياضيات، إنها كما قال كانط الحظ السعيد أو هدية الله للعقل البشري. وأهم مفاتيح نجاح العلم الحديث هو هذا التآزر بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب. وكانت الرياضيات، وتظل دائمًا، تاجَ العلم الحديث وأقنومَه — لغته الدقيقة التي لا تُخِلُّ ولا تحيد أبدًا — ورمزَه المبجَّل، تتبارى العلوم في الاقتراب منها والتسلُّح بلغتها، وتأمل أن تبلغ ما بلغَته الفيزياء في هذا. على أن العلوم الرياضية علومٌ صورية (Formal Sciences) تُعنى بصورة الفكر من دون محتواه، قالب يملؤه التطبيق بالمضمون، إنها ملكة العلوم والمبحث الرفيع المترفِّع عن شهادة الحواس ولجَّة الواقع والوقائع، فلا تغوص فيه وليس مطلوبٌ منها أن تأتي بخبر عنه. والرياضيات تتلوها العلوم الإخبارية (Informative Science) وهي العلوم التجريبية التي تأتينا بالخبر عن الواقع. وقد انتظمَت في ثلاثِ مجموعاتٍ كبرى هي العلوم الفيزيوكيماوية ثم الحيوية ثم الإنسانية.

وتميل فلسفة العلم الآن — في مرحلة ما بعد الوضعية — نحو اعتبار كل علم وحدةً مستقلة تدخل في علاقاتٍ منطقية وبينية مع العلوم الأخرى، لكنه يصول ويجول في موضوعه بما يلائم طبيعته النوعية بالفروض الجريئة المثمرة. باتت الميثودولوجيا الراهنة تتحدث عن نموذجٍ إرشاديٍّ خاصٍّ بكل علم من العلوم مستقلٍّ إلى حدٍّ ما عن نموذجٍ إرشاديٍّ مشتركٍ تتربع في سويدائه الفيزياء، خصوصًا بعد التطوُّرات المذهلة للبيولوجيا، وبحث العلوم الإنسانية المحموم عن نموذجٍ إرشاديٍّ يلائم طبيعتها النوعية، ويخرج بها من أزمة تخلُّفها النسبي عن علوم المادة.

إننا الآن في عصر التعدُّدية والدعوة إلى علم لا تُكبِّله وحدةٌ وضعيةٌ مزعومة.٢٧ وهذا الطرح الميثودولوجي إنما هو تبسيطٌ وتخطيطاتٌ منطقيةٌ مبدئية تمهِّد السبل للقواعد الإجرائية للبحث العلمي، يمكن أن تتبرأ من الدعاوي الأنطولوجية والأيديولوجية الجائرة، من حيث يمكن تشغيلها في نماذجَ إرشاديةٍ متقابلة.

•••

تقف الميثودولوجيا كمبحثٍ فلسفي على المنهج العلمي من حيث هو علمي، لا من حيث هو فيزيائي أو فسيولوجي أو سيكولوجي … بمعنى أنها تتجاهل فوارق التطبيقات الإجرائية والآليات الإمبيريقية التي تتكيف وفقًا للطبيعة الخاصة لمادة كل علم من العلوم، أو بمعنًى أصح تترك هذه الفوارق النوعية بين التطبيقات الشتى للمنهج العلمي ولصوره العديدة للمتخصصين، كلٌّ يطوِّر المنهج العلمي ويطبِّقه ويطرح صوره وفقًا لطبيعة تخصُّصه، لتقف الميثودولوجيا على الثابت البنيوي الذي يجعل المنهج العلمي منهجًا علميًّا.

أما عن الفوارق التي لا تتجاهلها الميثودولوجيا، بل على العكس ترتكز عليها وتنطلق منها، فتتمثل في الفارق بين العلوم الرياضية الصورية والعلوم الإخبارية التجريبية، وقد رأيناه سابقًا في تخطيط نسَق العلم، ويمكن أن نشتقَّه مجددًا على النحو التالي:

إننا إزاء مجموعتَين كبريَين لهما طبيعتان مختلفتان، هما مجموعة العلوم الصورية علوم المنطق والرياضة، ثم مجموعة العلوم الإخبارية التجريبية سواء فيزيوكيميائية أو حيوية أو إنسانية. ويقوم صُلب الميثودولوجيا على التقابل والتقاطع والافتراق والالتقاء بين منهجَين هما:
  • المنهج الصوري (Formal Method): هو منهج العلوم الاستدلالية التي تُعنَى فقط بالانتقال من قضايا إلى أخرى، أو من مقدِّماتٍ إلى نتائجَ تلزم عنها، ولا شأن لها بالواقع أو بوقائع التجريب، وهي علوم المنطق والرياضيات، وقد أثبت برتراند رسل برفقة آخرين أنهما امتدادٌ لطريقٍ واحد، أن المنطق في صورته الرمزية المحدَثة هو صبا الرياضيات، والرياضيات رجولة المنطق. ومنهجُهما صوريٌّ يقوم دائمًا وأبدًا على الاستنباط (Deduction). بعبارةٍ أخرى، منهج الرياضيات منهجٌ استنباطي، أو بمزيدٍ من التحديد هو المنهج الأكسيوماتيكي الاستنباطي (أكسيوماتيكي= بديهي) الذي يقوم على افتراضِ بديهياتٍ ومصادراتٍ أولية، ثم استنباط المبرهنات الرياضية منها.
  • المنهج التجريبي (Empirical Method): وهو منهج العلوم الإخبارية، الفيزيوكيميائية والحيوية والإنسانية. ويقوم على أساس التحاور بين العقل والحواس أو بين اليد والدماغ … الواقع والفكر، وبالمصطلحات الميثودولوجية لفلسفة العلم نقول: بين التجريب والتنظير، بين الملاحظة والفرض.
مناهج البحث في جذرها العميق لا تخرج عن واحد من هذَين الشكلَين؛ فإما استشهاد الواقع والوقائع، وإما استغلال قوى العقل المنطقية لاستنباط قضيةٍ من أخرى، بل إنهما الآليتان الأساسيتان للعقل العلمي توافرهما معًا يعني توافر المنهج العلمي، لا غرو، إذن، أن يكونا الشقَّين الأساسيَّين للميثودولوجيا ومنهج العلم.

هكذا يمكن القول إن علم مناهج البحث أو الميثودولوجيا هو علم التقابل بين المنهجَين الصوري والتجريبي، بحيث يمكن ترسيمُه بالشكل الآتي:

وبحكم الطبيعة المنطقية المُحكَمة للرياضيات نجد أن المنهج الصوري هو دائمًا الاستنباط، ويُمارَس في أنضج صوره منذ القرن الثالث قبل الميلاد حين وضع إقليدس في الإسكندرية كتابه أصول الهندسة نسقًا مكتملًا. وذلك من حيث إن الاستنباط في جوهره هو استخراجُ ما يلزَم عن مقدماتٍ تم التسليم بها، وفقًا لقواعد المنطق وآليَّات الاستدلال، ومن دون الحاجة إلى استشهاد الحواس أو اللجوء إلى التجريب. أما المنهجُ التجريبي فإنه يشتبك مع خِضمِّ عالم الواقع والوقائع الشديد الالتباس والغموض والتعقيد؛ لذلك يمثِّل المنهجُ التجريبي المشكلةَ الفلسفية الحقيقية التي استَنفدَت جهودَ رعيلٍ وأجيالٍ من الفلاسفة. ولا غَرو؛ فالمشكلة الفلسفية الكبرى على إطلاقها هي الإنسان في هذا العالم أو مشكلة العقل والواقع. وحين يُقال المنهج العلمي بألف ولام العهد كمفردٍ علَمٍ يكون المفهوم من هذا عادةً هو المنهج التجريبي، وربما يُذكر أنه يتسلَّح بالتكميم ولغة الرياضيات.
وفي نظرية المنهج التجريبي نأخذ في الاعتبار أن العلم الحديث مَرَّ بمرحلتَين جوهريتَين:
  • مرحلة العلم الكلاسيكي منذ العام ١٦٠٠م (تقريبًا) حتى العام ١٩٠٠م (تحديدًا) حيث أصبحَت نظريةُ نيوتن بمثاليتها المعرفية والمنهجية هي الإطار السائد. ويواكب هذا نظرةً كلاسيكية للمنهج التجريبي هي الاستقراء التقليدي الذي يبدأ بالملاحظة ويصعد منها إلى الفرض. يمكن اعتبار جون ستيوارت مِل (J. S. Mill, 1806–1873) ممثلًا رسميًّا لهذه النظرة، آمن بالاستقراء إيمانًا طاغيًا، رآه الآلية الوحيدة التي امتلكَها العقل البشري، فكان أبرزَ من تفانَوا في صياغة الاستقراء كمنهج، بل وكمذهب. وفي كتابه نسَق المنطق وضَع للاستقراء بوصفه منهجَ العلم لوائحَ أو ضروبًا خمسة، وهي منهجُ الاتفاق الذي يرصُد حالاتِ اتفاق العلة مع معلولها، ومنهجُ الاختلاف الذي يرصُد حالاتِ غياب المعلول بغياب العلة، ومنهجُ الجمع بين الاتفاق والاختلاف، ومنهج التغيُّر النسبي، وأخيرًا منهجُ البواقي. إنها طرق استكشافِ العقل للعلاقات العلِّية بواسطة التجريب؛ أي طرق تعميم الملاحظات التجريبية التي يبدأ البحث العلمي برصدها.
  • مرحلة العلم منذ العام ١٩٠٠م وما تلاه، منذ أن تفجَّرَت ثورة النسبية والكوانتم التي أحدثَت انقلابًا في مثاليات المعرفة العلمية، ويحق اعتبارُها أعظمَ ثورةٍ عقلية أنجزها الإنسان، وتصاعدَت معها معدلات التقدم العلمي بصورةٍ مبهرةٍ حقًّا. لقد أحدثَت انقلابًا جذريًّا في مثاليات المعرفة العلمية وفي إبستمولوجيا العلم.٢٨ وبالتالي واكبها انقلابٌ مماثلٌ في نظرية المنهج التجريبي بحيث اتضح أنه يبدأ من الفرض ويهبط منه إلى الملاحظة والواقع التجريبي، فيما يُعرف بنظرية المنهج الفرضي الاستنباطي، التي تُمثِّل نضجًا ملحوظًا وتطورًا خصيبًا؛ أي انتقلَت نظرية المنهج التجريبي من الاستقراء إلى المنهج الفرضي الاستنباطي.

في علوم الطبيعة، على وجه الخصوص، نجد الاستدلال الرياضي، وهو عمليةٌ استنباطية، العمود الفقري لهذا المنهج، ولعله أهم من وقائع التجريب ذاتها؛ فلم يعُد التجريب مقابلًا تمامًا للاستنباط أو يستبعده كما كان الحال مع الاستقراء. والفروض العلمية الآن لم تعُد تحكُم وقائع بقَدْر ما تحكُم قوانين وعلاقاتها ببعضها. لم يعُد المنهج التجريبي يعني تهميشَ دورٍ للعقل كما كان الوضع في الاستقراء المقابل تمامًا للاستنباط؛ فقد عاد الاستنباط ليحتل موقعًا محوريًّا، ويظل المنهج تجريبيًّا والعلم تجريبيًّا من حيث إن العالم التجريبي هو المحكُّ النهائي الذي يشهد على النتائج المستنبَطة. إن المنهج التجريبي في صورته المعاصرة هو التآزُر الجميل حقًّا بين إمكانات العقل وقوة التجريب.

يُعدُّ كارل بوبر أهم فلاسفة المنهج العلمي والميثودولوجي الأول في القرن العشرين، وكان من أسبَق وأقدَر الذين تمثَّلوا الأبعاد الإبستمولوجية والميثودولوجية لثورة النسبية والكوانتم حتى قيل عنه إنه المفرَد العلَم الذي يُشار إليه بالبنان حين طرح السؤال عن المنهج العلمي.

وقد حرص كارل بوبر على إثبات أن البدء بالملاحظة لا يفضي إلى شيء، بل هو فكرةٌ مستحيلة أصلًا؛ وبالتالي فإن الاستقراء التقليدي لا يصفُ ما يفعلُه العلماء ولا ما ينبغي أن يفعلوه، ولا حتى ما يمكن أن يفعلوه. وأكد تأكيدًا أن كل، وأي، تعامُلٍ مع العالم التجريبي لا بد وأن ينطلق من فرضٍ أو فكرةٍ أو توقُّع ما، حتى تعامُل الحيوان ذاته. فما بالنا بالعالم؟ إنه لن يمارس التجريب ولن يدخل معمله أصلًا إلَّا على أساسِ فرضيةٍ ترسمُ مسار التجريب وتحدِّده. ويحدِّد بوبر الخاصة المنطقية المميِّزة للنظرية العلمية بأنها القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، في تمثيلٍ منطقي للمنهج الفرضي الاستنباطي ولطبيعة التفكير العلمي كقوةٍ دافقةٍ خلَّاقة، فيقول إن المنهج العلمي هو منهج المحاولة والخطأ، منهج اقتراح فروضٍ جريئة وتعريضها لأعنف نقدٍ ممكنٍ كيما نتبيَّن مواضعَ الخطأ فيها.

على هذا النحو نسلم بأن قطبَي المنهج العلمي التجريبي هما الفرض والملاحظة. وقد سادت المرحلةَ الكلاسيكية نظريةُ البدء بالملاحظة التي فرضَتها فيزياء نيوتن، ويُعدُّ جون ستيوارت مِل أبرز فلاسفتها، بينما تسود المرحلةَ الراهنة نظريةُ البدء بالفرض التي يعمل من أجلها فلاسفة المنهج في القرن العشرين، وفي طليعتهم كارل بوبر.

وليس الأمر تلاعبًا بأطراف المنظومة المنهجية، بل هو طرحٌ انقلابي لطبيعة العلم وطبيعة موقع العقل في هذا الكون؛ فلو كانت الملاحظة هي الأسبق، فإن العلم تعميمٌ آليٌّ للوقائع ملغومٌ بمشكلة الاستقراء ودَور العقل الإنساني، تابعٌ للحواس، سلبيٌّ هامشي، فقط يخدم الملاحظة الحسية ليُعمِّمها في صورةِ قوانينَ مُستقرأة من صُلب الواقع التجريبي فتكون يقينيةً ضروريةً حتمية، ويغدو نسَق العلم بناء مشيدًا راسخًا ثابتًا، يعلو، ولكن لا تبديل ولا تعديل، كل تقدُّم تراكمي. أما إذا كان الفرض هو الأسبق، كما تبلَّج في ضوء ثورة الكوانتم والنسبية واقتحام عالم جُسيمات الذرة، فإن العقل الإنساني المبدع للفرض هو الذي يخلقُ ملحمة العلم، لا يخدم الملاحظة الحسية بل يستخدمها لتمحيص وتقنين الفروض، لقبولها أو رفضها، وتظل دائمًا إبداعًا إنسانيًّا، وكل شيء في عالم الإنسان متغيِّر ومتطوِّر، فلا يعود نسق العلم بناء مشيَّدًا أو كشفًا عن حقائق مطلقة، بل هو نسَق من فروضٍ ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدَر وأقدَر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. كل يومٍ جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوةً أبعدَ منه، في صيرورة — تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر — وتقدُّم ذي طابعٍ ثوري متَّقد. العلم ممارسةٌ إنسانية وفعاليةٌ حية نامية ومتطورة دائمًا، التقدُّم مفطور في صلبه. لم يعُد العلم هو البحث عن العلة، بل عن التفسير، حساب الاحتمال هو لغتُه الدقيقة، ولا يقين في العلم التجريبي البتة، إنه بحثٌ عن سنن الكون، ولكنه بحثٌ إنساني لا يملك أبدًا حق الزعم بأنه أمسَك بها بجُمْع اليدَين واطَّلَع على سرِّها الدفين، بل فقط يحاول أن يقتربَ من حقيقتها، منتقلًا من محاولة إلى محاولة أنجح … حتى تقوم الساعة.
وفي كل هذا نخلص من درس الميثودولوجيا إلى أن جوهر المنهجية العلمية التجريبية، وأساس الآليات الإجرائية في كل بحثٍ علمي هو التفاعُل بين الفرض والملاحظة، والأسبقية للفرض، إنه تآزُر بين قوى العقل المنطقية والرياضية وبين شهادة الحواس أو استشهاد الواقع والوقائع، وهذه التجريبية آليةُ العقل العلمي من حيث إن العقل ملكٌ للبشر أجمعين، قال عنه ديكارت إنه أعدل الأشياء قسمةً بين الناس. أن تكون الحواس شواهد ومنافذ للمعرفة بالعالم، وأنَّ مَن فقد حسًّا فقد علمًا، مسألة من أوليَّات الموقف الطبيعي للإنسان ولا تنتظر مَن يكتشفها … فما خطب اقترانها بالغرب وبالحداثة الغربية؟!

رابعًا: المنهج التجريبي والحداثة

ما إن بدأ مشروع العلم الحديث ينمو ويتصاعد منذ القرنِ السادسَ عشر، إلا وقد امتثل نُصبَ الأعين فعاليةُ منهاجه التجريبي، الذي لم يكن شريعةَ العلم وناموسَه فحسب، بل أيضًا تجسيدًا لروح العصر الحديث التي تخلَّقَت في الأراضي الأوروبية، بعد أن امتصَّت الخلاصة من الحضارة الإسلامية الأسبق والمتاخمة لها. لقد كانت الحضارة الأوروبية بيئةً مواتيةً لكل هذا التوقُّد والتفجُّر في نجاح العلم التجريبي. ولم تكن التجريبية في الحداثة الأوروبية محضَ آليةٍ منهجيةٍ للكسب المعرفي، بل كانت بمثابة أيديولوجيا العصر الحديث وروحه، حاملة قيمه ومحكَّاته، وأوضح تعبير عن متغيراته وعن آفاقه المستهدفة.
وعلى مسرح الأحداث في الحضارة الأوروبية نعود إلى الوراء؛ لنجد أصولها الإغريقية قد دأبَت على تحقير العمل وتمجيد النظر. وهذا ما جسَّده أرسطو بمنطقه الذي يُعَد القياس ثمَرتَه. القياس الأرسطي منهجُ استنباطِ النتائج الجزئية من المقدمات الكلية المطروحة، اعتمادًا على قوانين العقل والمنطق فقط من دون التجاء للواقع أو التجريب. في العصور الوسطى المدرسية بدا للسلطة الكنسية أن هذا ملائمٌ للتعامل مع الكتب المقدسة؛ فهي زاخرةٌ بحقائقَ مُسلَّم بصحتها، لنتوصَّل إلى النتائج الضرورية لها بواسطة القياس. هكذا أصبح منطقُ أرسطو وقياسُه منهجَ بحثٍ معتمد في العصور الوسطى. وسمى هذا المنطق «الأورجانون Organon» أي الأداة، أداة التفكير وآلة البحث.
وإذا أضفنا إلى هذا دأبَ المسيحية على التحقيرِ من شأن المادة واعتبارِها أصلًا لكل شرٍّ وخطيئة، بل وتأثيمِ الانشغال بها؛ أي تنافُر عقائدها اللاهوتية مع الطبيعة، تبيَّن لنا أن سيادة المنهج الأرسطي قد تأكَّدَت في أوروبا طوال العصور الوسطى بأن السؤال عن الطبيعة في حد ذاتها لم يكن ملحًّا ولم يكن ثمَّة دواعٍ قوية للحث على استكشافها. هكذا كانت العصور الوسطى الأوروبية — كما أشرنا آنفًا — هي عصر القراءة الواحدة للكتاب المقدس فقط، دونًا عن كتاب الطبيعة.

ثم كانت الكشوف الجغرافية التي أخبرَت إنسانَ عصر النهضة في نهايات القرنِ الخامسَ عشرَ الميلادي أن العالَم الطبيعيَّ أوسعُ كثيرًا مما تصوَّر أرسطو ومن كل ما تضمَّنَته الصحائفُ وكتبُ الأقدمين، فبدت الطبيعة عالمًا مثيرًا يغري بالكشف واقتحام المجهول. ومع نهايات القرنِ السادسَ عشرَ كان السؤال عن الطبيعة قد ارتفع إلى الصدارة، وأوشك أن يكون سؤالَ العصرِ الذي تنشغل به العقول.

طغى الإحساسُ بعُقم وإجداب المنطق الأرسطي وقياساته، وما يتَّسم به القياس من دورانٍ منطقي ومصادرةٍ على المطلوب وتحصيلٍ لحاصل. غير أن ما عابه على الخصوص هو أنه ساهم مع الأناجيل في إقصاء العقول عن التفكير في الطبيعة بسببٍ من مجافاته للواقع؛ إذ لا يتعامل إلا مع قضايا مطروحة في الصحائف والأوراق. وكانت الثورةُ على قياس أرسطو ومنطقه بمثابة الإعلان الصريح عن رفضِ الماضي والرغبةِ في الإقبال بمجامعِ النفس على الآفاق الجديدة للعصر الجديد، واستكشاف كتاب الطبيعة، هذا العالَم النابض الذي امتد وترامت آفاقُه أمام إنسانِ العصرِ الحديث.

ومن ثم أصبح همُّ الفلاسفة الأول هو البحث عن منهجٍ جديد يلائم الروح الجديدة ويُلبِّي المتطلبات المستجدَّة للعصر الجديد، فكان القرنُ السابعَ عشرَ في أوروبا هو قرن المناهج. وفي الطليعة جاء ديكارت (١٥٩٦–١٦٥٠م) الرائد ليُمثِّل علامة فارقة بين فلسفة العصور الوسطى وفلسفة العصر الحديث. كان يؤسِّس الفلسفة الحديثة وهو يستلهم وضوحَ الرياضيات ويقينَها في محاولة لتأسيس المبادئ العامة للمعرفة بأَسْرها. وقام بدور في تطوير علم الطبيعة الحديث. وإذا أخذنا في الاعتبار أن قوة منهج العلم في تآزُر التجريب مع الرياضيات، أمكن القول إن ديكارت الذي انطلق من أهمية الرياضيات وخصائص التفكير الرياضي إنما يُشارِك في إرساء الأصول المنهجية للعلم الحديث.

•••

ولا يوازي الفيلسوف الفرنسي ديكارت في الأهمية إلا الفيلسوف الإنكليزي فرنسيس بيكون (F. Bacon, 1561–1626)؛ فقد أصبحَت الطبيعة سؤال العصر، وكان بيكون الأقدَر على تجريد وتجسيد روح عصره باستقطابه لسؤال الطبيعة وتبنِّيه الدعوة لمنهج البحث الملائم لقراءة كتاب الطبيعة؛ المنهج التجريبي شريعة العلم الحديث، مؤكدًا أنه «المنهج القويم الذي يقود البشر من خلالِ أحراشِ التجربةِ إلى سهولٍ تتسع لبداهاتِ المعرفة.»٢٩
اقترن اسم بيكون بحركة العلم الحديث وعُدَّ وكأنه أبوه الشرعي الذي صاغ شهادةَ ميلاده الرسمية حين أصدَر كتابه الصغير الأورغانون الجديد (Novum Organon) أو «الأداة الجديدة» العام ١٦٢٠م، في إشارة إلى أن أورغانون أرسطو بات أداةً بالية. وتنقشُ مكتبةُ الكونغرس الأمريكي في واشنطن اسمَ بيكون أعلى إحدى بواباتها المذهَّبة بوصفه واحدًا من الذين قادوا البشرية إلى العصر الحديث وعلمه الحديث. وبات منهجُه درسًا لا بد أن يُردِّده كل مهتم بأمر المنهج العلمي.
أكَّد بيكون أنه لا أمل في التقدُّم إلا بأن ترتد العلوم جميعًا إلى الطبيعة. شارك رجالاتِ عصرِه في الهجوم الضاري على عُقم القياس الأرسطي، وأعلن منهجًا تجريبيًّا هو الضد الصريح له. فكان حاملًا لواءَ الانقلابِ على الماضي والقطيعةِ مع العصور الوسطى الدينية، التي كانت فاصلًا غريبًا ومغتربًا في سياق الحضارة الغربية، التي يؤكد حسن حنفي أنها في جوهرها حضارةٌ وثنية، سواء أكان هذا الوثَن هو المادة أو العالم الطبيعي أو رأس المال أو الذات الفردية. لقد أصبح إقصاءُ الكتاب المقدس والقطيعةُ مع الماضي مَعْلَم الحداثة الغربية وشرط إنجازها، وتوصيفًا لتجربة الوعي الأوروبي في صنعها. إنه القطيعة الغربية الحداثية، ولافتة هذه الأيديولوجيا هي الإعلانُ الصريح عن القراءة الواحدة لكتاب الطبيعة فقط. افتُتن بالقطيعة المفتونون بالحضارة الغربية وحداثتها، ولكنها ليس من الضروري — وأحيانًا لا يمكن — أن تكون القطيعة أيديولوجيا حضاراتٍ أخرى غير غربية. لقد صادرنا منذ البداية على التعدُّدية الثقافية وواجب ثقافتنا في الانطلاق من القراءتَين معًا. ولسنا في حاجة إلى قطيعةٍ مع أيهما.

•••

نعود إلى «الأورغانون الجديد»، الجديد الذي تتوالى فقراتُه الحاسمةُ الموجزةُ المكثَّفة لتفصيل منهجٍ تجريبيٍّ جاء مع بيكون على جانبَين أو قسمَين؛ الأول سلبي مختص بالتنويه إلى الأخطاء المتربصة بالعقل البشري كي يتجنَّبها، والثاني إيجابي مختَص بقواعد التجريب. أسمى بيكون تلك الأخطاءَ بالأوهام أو الأوثان التي تصرفُ الذهن عن جادة الصواب. وقسَّمها إلى أربعة أنماط؛ أوثان القبيلة أو الجنس البشري بأَسْره، المتربِّصة بالعقل الإنساني عمومًا، مثل سرعة التعميم والتغاضي عن الأمثلة النافية، وأوثان الكهف وهي التي تأتي بفعل تأثير البيئة التي نشأ فيها الفرد كأن يتصوَّر المتواضعات الخاصة بها وكأنها حقائقُ مطلقة وقد يقصُر جهودَه المعرفية على إثباتها. أوثان الكهف تجسِّد ما يُسمَّى بالتشوية الأيديولوجي للعلم، وأبلغ مثال لها في الزعم بواحدية العلم الوضعي، واعتبار نموذج العلم الخاص بالكهف الغربي هو النموذج الكوني العالمي الأوحد. أما النوع الثالث من الأوهام، أو الأوثان، فهو أوثان المسرح الناجمة عن الافتتان بمُمثِّلي الفكر القدامى فيعيش معهم المتفرِّج أو الباحث وينعزل عن واقعه، وهذه أوثان تشتَد وطأتها في ثقافتنا نحن، كان بيكون يقصد أرسطو تحديدًا ولكن الممثِّلين البارعين كُثُر. وأخيرًا ثمَّة أوثان السوق الناجمة عن الخلط اللغوي وعدم دقة التعبير مثلما يحدث في السوق من ضجيجٍ ومساومة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن فلسفاتِ التحليل اللغوي التي تهتم بتدقيق المعنى اللغوي من أهم منجَزات الفلسفة في القرن العشرين، أدركنا مدى ثقوبِ نظرِ بيكون في التنويه لهذه الأخطاء أو الأوثان كي يحذَرها العقل. إنها إضافةٌ ولفتةٌ ثاقبةٌ من بيكون، مثمرةٌ وصالحةٌ لكل العصور، يراها البعض أهم وأبقى من الجانب الإيجابي الذي عرض فيه لمنهجية التجريب، وجعل اسم بيكون يقترن بالعلم الحديث والعصر الحديث.

ينقسم الجانبُ الإيجابيُّ إلى قسمَين أو مرحلتَين. المرحلة الأولى هي إجراء التجارب، حيث تحدَّث بيكون عن أنواع ودرجات التجريب من قبيل تنويع التجربة وتكرارها وإطالة أمدها ونقلها إلى فرعٍ آخر من فروع العلم، وعكسِها أي إجرائها بصورةٍ معكوسة، وإلغائها لدراسة الصورة السلبية لموضوع البحث … إلخ.

أما المرحلة الثانية فهي مرحلة تسجيل نتائج التجريب في ثلاثِ قوائمَ تصنيفيةٍ للوقائع التجريبية تنظِّمها تمهيدًا لاستخلاص نتائجها. وهي: قائمة الحضور أو الإثبات حيث يضع الباحث جميع الحالات التي لاحظ عن طريق التجربة أن الظاهرة موضوع الدراسة تتبدَّى فيها، وقائمة الغياب أو النفي حيث يسجِّل الباحث الحالات التي تغيب فيها الظاهرة؛ فمثلًا إذا كان موضوع الدراسة هو أثَر ضوء الشمس على نمو النبات، نُحاوِل أن نعرف ماذا يحدث لهذا النبات إذا غاب عنه ضوء الشمس، وهذه القائمة تجعل استقراءَ بيكون منهجًا علميًّا وليس مجرَّد تعدادٍ ساذج، والنفي أقوى منطقيًّا من الإيجاب. ثم قائمة التفاوت في الدرجة؛ حيث يسجِّل الباحث وقائع حدوث الظاهرة محل الدراسة بدرجاتٍ متفاوتة. وقيل عن هذه القوائم إنها أولُ محاولةٍ منهجيةٍ لتصنيف المعطيات.

على أن التفاوت في الدرجة محض تنويهٍ سطحيٍّ لأهمية التكميم، وبيكون قد تحامل على الرياضيات لأنها استنباطٌ خالص ينأى بالباحث عن الطبيعة والتجريب! وفي تعيين ثغرات بيكون وقصوراته، نجده كان يريد من منهجه أن يُفضيَ به إلى معرفة أو اكتشاف فكرةٍ مبهمةٍ جوفاءَ لا علمية بالمرة أسماها الصور (Forms)؛ أي صور الطبائع البسيطة (Simple Natures) التي ترتد إليها ظواهرُ وموجوداتُ العالم الطبيعي. هذا في حين أنه لم يفطِن لأهمية الفروض، بل حذَّر منها وأسماها استباقَ الطبيعة. وحذَّر من الانسياق مع الرياضيات لأنها بعدٌ عن التجريب. والأدهى أنه تصوَّر مجموعةً من الأبحاث تُجرى في بضعِ سنواتٍ أو عقودٍ تستقصي صور الطبائع البسيطة، فيكتمل نسَق العلم الطبيعي! هكذا كان تصوُّر بيكون لعالم العلم الطبيعي على قَدْر من السذاجة!
أضِف إلى هذا أن بيكون نفسه، قاضي القضاة وحامل أختام الملكة، لم يكن عالمًا ولا حتى متابعًا جيدًا لتقدُّم العلم والخطوات الشاسعة التي قطعَها في عصره. لم يهتمَّ باكتشافِ طبيبه الخاص وليم هارفي (W. Harvey, 1578–1657). للدورة الدموية، ولا بأبحاث فيساليوس (١٥١٤–١٥٦٤م) الأسبق في مجال التشريح. وحتى نظرية كوبرنيقوس ذاتها عارضَها بيكون!! بوصفها فرضًا أهوج، ما دامت الخبرة الحسية التجريبية تُخبرنا بأن الشمس هي التي تدور في سماء الأرض! ولم يقدرْ نظريات كبلر وجاليليو حقَّ قَدْرها ولم يعترف أصلًا بأبحاث جيلبرت في المغناطيسية.

لم يتتلمذ على يدَي بيكون أو يستفد حقيقةً من كتاباته أيٌّ من العلماء الذين صنعوا حركة العلم الحديث، وترجموا المنهج التجريبي أبلغ ترجمةٍ ممكنة، حتى يرى البعض، خصوصًا من الفرنسيين أمثال ألكسندر كواريه أن اقتران اسم فرنسيس بيكون — الفيلسوف الإنكليزي — بحركة العلم الحديث سخافةٌ لا معنى لها.

ومع كل هذه المآخذ التي تفصل بينه وبين روح العلم، يبقى فضلُه العظيم في تجسيد التجريبية روحًا للعلم وللعصر الأوروبي الحديث، لكنها تُبرِز البونَ الشاسعَ بين منهجه وبين المنهج الفرضي الاستنباطي بوصفه التجريب، كما بلورته الميثودولوجيا المعاصرة.
وإذا عبَرنا إلى الجانب الآخر من البحر الفاصل بين إنكلترا وفرنسا، المتصارعتَين آنذاك على سيادة العلم والعالِمين؛ وجدنا ديكارت ببساطة منهجه التحليلي الذي يستلهم روح الرياضيات علامةً فارقةً في تاريخ الفلسفة مؤكدًا أن العبقرية في البساطة. استطاع تأسيس الفلسفة الحديثة وتشييد الهندسة التحليلية، وساهم في تأسيس منهجية العلم الطبيعي ذاته من حيث إن الرياضيات قطبٌ منهجي كما علَّمتنا ميثودولوجيا العلم القائم على التآزر بين لغة الرياضيات ووقائع التجريب. والشقة واسعةٌ أيضًا بين بساطة منهجه وبين المنهج الأكسيوماتيكي الاستنباطي والمناهج التحليلية المصوغة حاليًّا. ليس منهج بيكون هو المنهج العلمي، ولا هو آليات إجرائية ضرورية في كل نموذجٍ إرشادي علمي، فلماذا يتردد اسمه في دروس منهجية العلم؟ ولا بد أن يُثنيَ عليه وعلى ديكارت كلُّ باحثٍ عن طريق العلم ومنهجه؟ ذلك أنهما قاما بتأصيل روح المنهجية في قصة الحداثة الغربية.

نعود من حيث بدأنا. لا يمكن استيراد الدرس البيكوني ليظل العلم غربيًّا ومغتربًا. الأصول لا تنبُع إلا من تربة الوطن وبيئته الثقافية. ولا توطين للحركة العلمية ولا تأسيس لها في ثقافتنا إلا إذا كان لدينا أصولٌ للمنهجية العلمية كامنةٌ لنقوم بتطويرها في طريقنا لاستيعاب آليَّات المنهج في إطار نموذجٍ علميٍّ إرشاديٍّ إسلاميٍّ مُتجهٍ صوبَ المستقبل.

وما دمنا نصادر على أن حاضر العلم لم يعُد يُفهم من دون تاريخه … من دون ماضيه، وأن هُويَّتنا تأبى الانقطاع عن ماضيها وعن تاريخها … فإن الجانبَين معًا يحتِّمان إلقاء نظرةٍ سريعةٍ على تطوُّر المنهج العلمي في النماذج الإرشادية العلمية الكبرى عَبْر التاريخ الحضاري للإنسان.

خامسًا: المنهج العلمي في النماذج الإرشادية قديمًا

ليس العلم صنيعة الشرق أو الغرب. العلم أعظم قدرًا وأجل خطرًا من أن تنفرد بصنعه حضارةٌ معيَّنة، لا الحضارة الغربية بجلال شأنها ولا الحضارة الإسلامية بعزيز قَدْرها. إنه صلبٌ من أصلاب الحضارة الإنسانية بأَسْرها، أبرزُ جوانبها إثباتًا لحضور الإنسان — الموجود العاقل في هذا الكون. بدأَت أصولُه ببداياتِ خلق الإنسان، لينمُو ويتطوَّر عَبْر الحضارات المتعاقبة. كلٌّ ساهمَت بما في استطاعتها، وتفاوتَت في هذا تفاوتًا كبيرًا. وبات سباقُ التفاوُت في عصرنا هذا محمومًا، وقَدْر الظُّفر فيه هو قَدْر الظُّفر من الحياة … أو الموت.

لقد انتهينا قبلًا من نقض مركزية وهيلمان النموذج الغربي الوضعي بوصفه قصةَ العلم الواحدةَ والوحيدة. واستقرَّ بنا المقامُ في عصر التعدُّدية الثقافية التي تبرأ من عُصاب استبعادِ أيةِ ثقافةٍ أخرى غيرِ غربية من ساحة العلم، فنستطيع أن نظفَر بفهمٍ أكمَل وأشمَل لظاهرة العلم عَبْر القصة المتكاملة للعلم أو لتأريخه.

وفي استقصائنا لأبعاد تاريخ العلم، مسترشدين بمقولة النموذج الإرشادي التي وُضعَت أصلًا لتفسير تاريخ العلم، والتي تنقذه من أن يتقلص إلى محضِ تحليلٍ إبستمولوجي، نبدأ مما قبل التاريخ في العصور البدائية السحيقة، وهي مرحلةُ ما قبل النموذج الإرشادي، يتلوها نموذجُ الحضارات الشرقية القديمة، ثم نموذج الحضارات الإغريقية، وما أعقبها توًّا من نموذجٍ شديد التوهُّج في العصر السكندري، لننتقل إلى مرحلة العصور الوسطي التي احتل قصبَ السبق فيها نموذجُ الحضارة الإسلامية. كان المقدمة الشرطية المفضية تاريخيًّا وجغرافيًّا ومنطقيًّا إلى نموذجِ العلم الحديث بمرحلتَيه الوضعية ثم ما بعد الوضعية. وبالتالي ننتقل من هذا الفصلِ إلى محاولة البحث عن مرحلةٍ جديدةٍ مستقبلية، عن نموذجٍ إرشاديٍّ إسلاميٍّ منطلق نحو المستقبل.

وفي كل حالٍ يقترنُ العلم — في كل صوره ومراحله ودرجاته — بمنهاجه الذي هو في جوهره التفاعُل بين العقل والحواس.

من هنا يؤكد كثيرٌ من مؤرخي العلم أن العلم أقدمُ عهدًا من التاريخ؛ لأن معطياتِه الأساسية كانت أوَّل ما تأمَّله الإنسان في العصر الحجري، حين استقامت قامتُه وتحرَّرَت يداه منذ حوالي نصف مليون سنة مضت، وراح يتعامل مع البيئة المحيطة به، في الصين وجزيرة جاوة بإندونسيا والعراق ومصر والجزائر، وهدَته فطرتُه العاقلة إلى صنع أدواتٍ من الحجر الصوان تُعينه في خوض ملحمة الوجود، ثم استخدام هذا الحجر في توليد الشرَر وتسخير النيران في التدفئة والإضاءة والطهو. مثل هذه الأنشطة البدائية أو المبدئية تعني، كما يؤكد ج. ج. كراوثر أن الإنسان بدأ يُدرِك ارتباطاتٍ أوليةً بين ظواهر الطبيعة وقوانينَ مبدئيةً تحكُمها، وبدأَت تتحدَّد ملامحُه ككائنٍ عاقل. ويطرح كراوثر بواكير التحاور بين المخ والمعطيات الحسية والخبرات التجريبية، أو بين الدماغ واليد، وتصويبها وتعديلها عَبْر آلية المحاولة والخطأ، وأثَر ذلك على تطور المخ ليبلغ المرحلة الإنسانية؛ لينتهي إلى أن المحاولات البدائية للعلم أقدمُ عهدًا من إنسانية الإنسان بل ومؤدية إليها.٣٠ وقد أسرف كارل بوبر في تبيان أن التحاور بين الفرض والاختبارات التجريبية أو بين الدماغ واليد عَبْر آلية المحاولة والخطأ جوهر نظرية المنهج العلمي التجريبي.

•••

وإذا غادرنا هذه المرحلة البدائية، مرحلة ما قبل النموذج، ودخلنا في مرحلة التاريخ المكتوب، وجدنا حركية العلم خطًّا موازيًا لحركة الحضارة عَبْر التاريخ. تخلق الأساس العريض أو النموذج الإرشادي الأوَّلي في الحضارات الشرقية القديمة التي تحمَّلَت صعوبةَ البدايات ووعورةَ شق الطريق. وعلى رأسها أعظم الحضارات طُرًّا وفجرها الناصع؛ أي الحضارة الفرعونية في مصر القديمة. وهي، كما يقول أرنولد توينبي المؤرخ وفيلسوف التاريخ، التي اخترعَت الحضارة والمدينة والمجتمع المنظَّم والدولة. كانت المنشأ الأصيل لمحاورَ شتَّى في العلم، بدءًا من الرياضة والهندسة والفلك، مرورًا بعلوم المعادن والكيمياء، وصولًا إلى الطب والجراحة. وكان جيرانُها الفينيقيون في سواحل الشام على اتصالٍ بها، وتجارًا ذوي براعةٍ وجسارةٍ في ركوب البحار وبعض المعارف المتصلة بهذا، وعلى اتصالٍ مباشرٍ بالبابليين في العراق القديمة.
وتتقدم حضارات بلاد الرافدين، البابلية والأشورية والسومرية والأكادية، خصوصًا الحضارة البابلية التي ابتكرَت نظام الخانات العددية؛ حيث تتغير قيمة العدد وفقًا للخانة التي يوجد بها — خانة الآحاد أم العشرات أم المئات، فضلًا عن إنجازاتهم فيما يُعدُّ بشائر علم الجبر. ويرى بعض مؤرخي العلم أن الإنجاز البابلي في الفلك والتقاويم والحساب متقدمٌ على الإنجاز المصري الذي برع في الهندسة وفي الجراحة. ويدور الجدال حول مَن منهما الذي اخترع الحروف والكتابة أصلًا، وإن كانت الشواهد تميل إلى ترجيح كفة الفراعنة في هذا. وفي المقابل، نجد كفَّة البابليين أرجَح في قضية رموز الأرقام الهندية، التي هي أهم اختراع في تاريخ الرياضيات وربما العقل البشري. «يرى بعض مؤرخي العلم أنهم هم الذين ابتكروا رموز الأرقام، ثم انتقلَت من العراق القديم إلى الهند القديمة.»٣١ مؤرخون آخرون يرَون العكس؛ أي أن رموز الأرقام اختراعٌ هندي انتقل من الهند إلى العراق القديمة.
وقد كانت الهند وجارتها الصين مهدًا من مهود الحضارة الإنسانية ساهمَت بنصيبها في هذه المرحلة الباكرة والأوليَّة التمهيدية من تاريخ العلم. على أن الصين القديمة تراجعَت فيها الرياضيات والتفكير البرهاني ولم تعرف حتى رموزَ الأرقام الهندية. عرفَت التفكير القانوني وعرفَت التفكير في الطبيعة، لكنها افتقرَت إلى الأساس الاستدلالي. وألقت الصين بثقلها الكبير في التطبيقيات والتقانيات، لتحتل موقعها في تاريخ التكنولوجيا وقدَّمَت فيما بعدُ ابتكاراتٍ عديدة مثل الساعة المائية والبوصلة والبارود والورق … وتفرغ جوزيف نیدهام (J. Needham) لأمر العلم في الصين القديمة ليكشف عن كنوزه في موسوعة من سبعة أجزاء.

يبدو النموذج الإرشادي للعلم في الحضارات الشرقية عمومًا، في نشأته ونمُوه استجابةً للحاجات العملية الملحَّة، وفي صياغته ودرسه حكرًا على طبقة الكهنة. ومع هذا لم ينفصل عن النموذجِ المعرفي وإطارِ البنيةِ التصورية؛ لأن العلم أولًا وقبل كل شيء، نشاطٌ معرفي، وهو بنماذجه الإرشادية المتتالية شاهدٌ على حركية العقل البشري عَبْر الحضارات.

•••

ثم كانت نقلة حاسمة في المرحلة الحضارية التالية حيث النموذج الإرشادي الإغريقي الأرقى والأقدر. قام بالدور العظيم في تنضيد العقل النظري، ولعل الإغريق قدَّموا أول نموذجٍ إرشاديٍّ متكامل.

والمشكلة أن جهود تثبيت مركزية الحضارة الغربية والعلم الوضعي تمتد إلى الإغريق؛ باعتبارهم أصول الحضارة الغربية. يُسرِفون في تمجيد ما أسموه بالمعجزة الإغريقية بزعم أنها بدأَت من نقطة الصفر المطلق، بإهدارٍ تامٍّ لدور الحضارات الشرقية القديمة الأسبق. وعَبْر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى قام فيها العرب بدور الناقل الذي حَفِظ الأمانة أو أدخَل عليها بعض التجديدات، انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم من ألفها إلى يائها قصةً غربيةً خالصة.

لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي ويصنعون مدنيةً وثقافةً متنامية، قبل الميلاد بعشرة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية فتسهُل المغالطةُ والزعمُ بأنهم نقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط. أو ربما على اعتبار أن الحضارة الأوروبية هي الحضارة الوحيدة … الحضارة المركزية، وما سواها هوامشُ الجهل والتخلُّف. وذلك هو ما تأدَّى سياقه الطبيعي في النهاية إلى واحديةِ النموذجِ الإرشادي الوضعي الغربي.

وأجَّج من هذا، ضعفُ الحصيلة المعرفية عن العلم القديم وما كان شائعًا من خفوت الوعي بأهمية تاريخ العلم. تراجَع هذا في عصر التعدُّدية الثقافية الراهن. بدأ الإدراكُ الواضحُ لدور الحضارات غير الغربية، بفضل جهود مؤرخي العلم النازعين إلى فهم ظاهرة العلم فهمًا حقيقيًّا، أمثال جورج سارتون وجوزيف نیدهام وسواهما. والمحصلة أن تتكامل قصة العلم عَبْر الحضارات.

في المنظور التكاملي يبدو النموذج العلمي الإغريقي مرحلةً تاليةً لمرحلة الحضارات الشرقية القديمة، مستفيدةً منها ومواصلةً لمسارها. بدأَت في أيونيا ببلاد اليونان وليس في أي مكانٍ آخرَ من أوروبا، لقربها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها، مصر وفينيقيا وبابل؛ فكانت تمثلًا واستيعابًا لميراثها، ثم تطويرًا له. أقرَّ عددٌ من العقليات العظمى في حضارة الإغريق أمثال هيرودوت أبو التاريخ وطاليس أول الفلاسفة، والفيلسوف العظيم أفلاطون شيخ المثالية، وهيبوقراط وسواهم، بأنهم زاروا طيبة وبابيلون؛ أي مركزَي الحضارتَين الفرعونية والبابلية، وتعلَّموا منهما. ومثَّلَت مصرُ القديمة بالذات مثلًا أعلى ماثلًا أمام الإغريق.

وكان العِلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعِلم الصيني؛ فبينما اهتم هذا الأخير بالجوانب التطبيقية والتقانية وأغفَل الجوانبَ النظرية والاستدلالية، فعل العلمُ الإغريقي العكس تمامًا، اهتم بالنظري والبرهاني دونًا عن التجريبي والتطبيقي. وكان الفضلُ العظيمُ للإغريق في صياغةِ الأصولِ النظرية العقلانية للعلم وهيكلِ التفكير البرهاني الاستدلالي، وتقنينِ مفاهيمَ من قبيل القانون والنظرية والحُجة والبيِّنة، على الإجمال شَق الطريق نحو بلورة مثل البحث العلمي وإرساء أسُسه العقلانية.

ثمة أيضًا فروضٌ خصيبة طرحَها بعضُهم، ومن منظور بحثنا عن أصول المنهجية العلمية والروح العلمية تتبدَّى أهميةٌ خاصة للفلاسفة السابقين على سقراط، الذين بدأَت معهم الفلسفةُ الغربية بدايتها الحاسمة المعتمدة، الذين انصبَّ اهتمامهم على الطبيعة، والبحث عن مبدئها الأوَّلي أو «الأرخي»؛ أي المادة الخام التي صُنعَت منها الطبيعة، أو المبدأ المادي الأول الذي يرتدُّ إليه العالمُ المحسوسُ بأَسْره. قال طاليس إن الماء هو أصل الأشياء جميعًا، وتبعه تلميذه أنكسماندر الذي قال إن «الأبيرون» أو عنصرًا هيوليًّا غير محدَّد وغير متعيِّن هو أصل الأشياء، ثم جاء أنكسيمنس ليقول بالهواء. أما فيثاغورث الذي ظهر في القرن السادس ق.م. باذخَ العطاء، ويصغُر طاليس بثلاثين عامًا، فقد قال إن العدد هو أصل الأشياء جميعًا، وقام بدوره المبدئي المبكِّر في ترييض التفكير العلمي. وكان آينشتين في القرن العشرين لا يزال مبهورًا بنظرية فيثاغورث الشهيرة. وتحدَّث أنبادوقليس عن العناصر الأربعة (الماء والهواء والتراب والنار) التي تتكون الأشياء جميعها عن اتحادها وافتراقها بنسبٍ متفاوتة. على الإجمال راح هؤلاء الفلاسفة الطبائعيون المنشغلون بكتاب الطبيعة يتحاورون ويتناقشون ويقلِّبون قضية المادة الخام للطبيعة حتى جاء ديمقريطس حوالي العام ٤٢٠ ق.م. ليقدِّم فكرة الذرَّة أو الجزء الأصغر الذي لا يتجزأ كمادةٍ خام أو أصل الأشياء جميعًا، وربما استفاد من إشاراتٍ لهذه الفكرة جاءت من الهند القديمة. وكما يقول برتراند رسل: «لم يكن المذهب الذري حصيلة تأمُّلٍ خيالي، بل هو إجابةٌ جادة عن السؤال الذي أثاره الفلاسفة الملطيون، وهي إجابة استغرق إعدادُها مائةً وخمسين عامًا.»٣٢ وأُعيد إحياءُ فرضِ الذرة في العصر الحديث وتطوَّر، وقام بدوره العظيم في العلم الحديث.

في أعقاب هؤلاء الطبيعيين قبل السقراطيين ظهرَت الحركة السفسطائية، ثم ظهر سقراط الذي أحدث تحوُّلًا جذريًّا في مسار الفلسفة، ليصبح سؤالها المحوري هو الإنسان والخير والفضيلة، وفي العصر الروماني طغى الاهتمام بالقانون، وسارت العصور الوسطى مسيرتَها المعروفة التي أشرنا إليها فيما سبق. وبعدَ هؤلاء قبل السقراطيين لم يبرُز سؤالُ الطبيعة وكتابُ الطبيعة في الحضارة الغربية إلا بعد القطيعة الحداثية.

•••

على أن ثمَّة مرحلةً استثنائيةً فذَّة حقًّا، كان مسرحها ساحل مصر الشمالي، في العصر السكندري إبَّان القرون الثلاثة السابقة على ميلاد المسيح؛ حيث صيغ النموذج الإرشادي الصحي الواعد الذي يجمع الجانبَين؛ العلم والتقانة، ودعامتَي المنهج العلمي؛ النظرية والتجربة.

إنها المرحلة الهلينستية، مرحلة تداخُل الحضارة الهلينية؛ أي الإغريقية الخالصة السابقة، مع حضارات الشرق. وذلك حين أسَّس الإسكندرُ الأكبرُ إمبراطوريتَه التي تضُم العالمَ القديمَ بأَسْره تقريبًا، وأنشأ عدة مدنٍ تحمل اسم الإسكندرية على رأسها إسكندرية مصر؛ ففيها انصهرَت العقلانيةُ الإغريقية مع الحكمة والخبرة المصريتَين الخصيبتَين.

ورثَت الإسكندريةُ عرشَ أثينا كمركز للعقل والمعرفة والعلم، وقدَّمَت نموذجًا إرشاديًّا فاق النموذج الهيليني من حيث اكتمال جانبَي العقل والعلم فيه. حتى الرياضيَّات مجد أثينا العظيم قطعَت في الإسكندرية خُطًا تقدُّميةً واسعة، وأحرزَت على يد إقليدس كمالًا لا يزال مثالًا يُحتذَى بوضعه نسَق الهندسة. واستؤنفَت المسيرة بهندسة المجسمات، والقطوع المخروطية مع هيبسكليس وأبلُّونيوس وسواهما. وارتبط بهذا تقدُّم في الجغرافيا والطب والفيزياء. وفي الفلك قدَّمَت الإسكندرية نظريتَين معالجتَين رياضيًّا، الأولى لأرسطارخوس الساموسي على أساسٍ من مركزية الشمس، والثانية لبطليموس على أساسٍ من مركزية الأرض. ولأسبابٍ كثيرة، قدِّرَت لمركزية الأرض البطلمية السيادةُ طَوالَ العصور الوسطى.

ونالت علومُ الحياة أيضًا حظًّا عظيمًا من العناية في مكتبةِ الإسكندرية ومُتحَفِها، والذي لم يكن مُتحَفًا بالمفهوم الحديث، بل هو بهذا المفهوم أول جامعةٍ في العالم. وجاهر جاليليو — أعظم آباء العلم الحديث — بأن إنجازاته ما كانت لتُتاحَ من دون إنجازاتِ أرشميدس في ذلك العصر الزاخر، فهو الذي علَّمه التآزر الخصيب بين الرياضيات ووقائع التجريب.

على الإجمال، يُعِدُّ مؤرخو العلم المرحلةَ السكندريةَ من أهم مراحل تاريخ العلم القديم، حتى يراها بعضُهم تقف على قدم المساواة مع مرحلة الثورة العلمية الحديثة في القرنِ السادسَ عشَر. وسبيلنا الآن إلى النموذج أو المرحلة المُفضِية لهذه الثورة.

سادسًا: نموذج العلم العربي مُفضيًا إلى العلم الحديث

لم تبلغ البشرية مرحلةَ العلمِ الحديث إلا عَبْر، وبفضل، أهم مراحل العلم القديم طُرًّا، التي تُعرَف باسم مرحلة تاريخ العلوم عند العرب، مرحلة العلم في رحاب الحضارة الإسلامية التي شاركَت فيها مللٌ وأجناسٌ شتَّى. إنها ذروةُ العلم القديم وتاجُه؛ حيث صياغة المنهج العلمي وآلياته الإجرائية، متميزة وواضحة لأول مرة في التاريخ، كنظريةٍ وكواقعٍ وكممارسة، ناشئة عن النموذج المعرفي الشامل ومتفاعلة مع الإطار الحضاري، وتتميَّز بوضعيةٍ خاصة للقيم وتوليدٍ لإيجابياتٍ قيَمِية علمية، بفضل تفعيلٍ حيٍّ للعوامل السوسيولوجية والثقافية؛ فلم يكن الأمر تنضيد الإجرائيات المنهجية فحسب، بل تكامُل النموذج العلمي الإرشادي بمعنى الكلمة. لقد كان نموذج الحضارة العربية الإسلامية العلمي «عالميًّا بمنابعه ومصادره، عالميًّا بتطوراته وامتداداته»،٣٣ امتلك وسائل التأثَّر والتأثير، لغته العربية وحَّدت العلم ولم تعُد لغة شعب أو أمة تضم شعوبًا ولغات، بل هي لغة المعارف العقلية، كأول لغةٍ علميةٍ عالمية. إنه يشغل مساحةً تاريخية تمتد من القرنِ الثامنِ الميلادي إلى القرنِ الثانيَ عشرَ أو الثالثَ عشَر، وفي الواقع يملأ الفراغَ الحضاريَّ الممتد منذ انتهاء عصر العلم السكندري في مصر إبَّان القرن الأول الميلادي، حتى بزوغِ الجمهورياتِ الإيطاليةِ في عصر النهضة.
لقد ترامت الإمبراطورية الإسلامية الناهضة التي لعبَت «المدينة» فيها دورًا أكبر، وضمَّت مراكزَ الحضاراتِ الأسبق في مصر والعراق والشام وفارس وجيرانها الآسيويين. وحتى الصين التي لم يفتَحها العرب ولم يطأها جنديٌّ مسلمٌ واحد، تكفَّلَت طرق الحرير والقوافل التجارية بنقل تراثها التقاني الزاخر إلى العرب. وأصبح في متناوَل أيديهم كلُّ التراث العلمي السابق عليهم تقريبًا، في الحضارات الشرقية القديمة والتراث الإغريقي والسكندري صاحب الحجة في البرهان والاستدلال، ليتفاعل مع تفتُّحهم الذهني وتسامحُهم العقلي وعواملَ شتَّى في حضارتهم التي كانت دافقة، وعبقرياتها من ذوي الملَل والأجناس الشتَّى، وإبداعاتهم في فروع العلم الرياضياتي والتجريبي. يقول ج. كراوثر: «كان من الطبيعي بعد أن اطمأنُّوا إلى قوتهم العسكرية ومعتقداتهم الإيمانية أن يتجهوا لتشييد المدن الرائعة ودراسة ثقافة الحضارات التي دانت لهم. وكان العرب المسلمون أمةً جديدةً بلا معرفةٍ أو تراثٍ سابق، فقرءوا التراث الفكري للقدماء بعقولٍ متفتحةٍ بلا خلفياتٍ تعوقهم؛ ولذلك وقفَت الثقافات الإغريقية واللاتينية والهندية والصينية جميعًا بالنسبة لهم على قدَم المساواة. وكان من نتائج هذه العقلية المتعطِّشة للمعرفة عند المسلمين أنهم أصبحوا بالفعل المؤسِّسين الحقيقيين لمفهوم العالمية في المعرفة أو وحدة المعرفة الإنسانية. وهي إحدى السمات البالغة الأهمية بالنسبة للعلم للحديث».٣٤ لقد حمل النموذج الإرشادي الإسلامي للبشرية درسًا ثمينًا في فضائل النزعة الإنسانية والتكامُل والتفتُّح والتسامُح المعرفي، والانفتاح على مصادر المعرفة المتاحة شرقيةً أو غربية. وهذه قيمٌ أساسية للمنهجية العلمية وللتقدُّم العلمي. انفصل نموذجُ العلم الغربي الحديث التالي انفصالًا بائنًا عن القيَم والأخلاق، والوصل بينهما هو مشكلة المرحلة الراهنة كما أوضحنا، بينما يتميَّز النموذج الإسلامي بأنه تأتَّى في إطار توجُّهٍ أخلاقيٍّ مثاليٍّ عامٍّ، لم ينفصل العلمُ عن القيمة أبدًا بفعل انطلاقه عن القراءتَين.

لم يكن للعرب قبل الإسلام باعٌ في العلوم الرياضية والتجريبية التي احتواها نموذجهم الإرشادي، إنها ليست كالشعر بل كالفلسفة؛ أي نتيجة لمعلولٍ مستحدث هو الثورة الثقافية العظمى التي أحدثَها الإسلام، ثم تعاظمَت بفعل العوامل السوسيولوجية، فشهدَت العلوم في الحضارة الإسلامية المرحلتَين التاريخيتَين اللتَين مرَّت بهما الإنجازات المستحدثة للعقلانية العربية؛ أي مرحلة الترجمة والنقل ومرحلة الإسهام والإبداع، ولم تكونا مرحلتَين منفصلتَين متعاقبتَين آليًّا، بل بالأحرى قوتَين علميتَين متفاعلتَين، فيما سُمي جدلية البحث والترجمة.

أوضح رشدي راشد كيف أنه في الترجمة قد مثَّل النموذج الإسلامي درسًا بليغًا في التفاعل الخلَّاق المبدع حينَ نقْلِ المشترك الإنساني العام، والترحيب بالعلم استحسانًا للحق حيثما كان أو — كما يقول الكندي — «من أين أتى، وإن أتى من الأجناس القاصية والأمم المباينة»، ولم يبدأ رفض الآخر مثل رفض بعض الأصوليين للمنطق واعتبار العلم دخيلًا إلا في فترات الانهيار تحت وطأة غزو الآخر وسقوط بغداد العام ٦٥٦ﻫ. وفي طلب الحق دأَب الإسلاميون على ترجمة النص الواحد الهامِّ مرة واثنتَين وثلاثًا تنقيحًا وتجويدًا وتطويرًا لمفردات اللغة العلمية. المترجمون الأوائل هم الذين قاموا ببناء اللغة العلمية العربية. كانت الترجمة إلى العربية تتقصَّى نقلَ أكثرِ الأبحاث تقدُّمًا في ذلك العصر، ولم يكن «نَقْل نسخٍ وتقليدٍ واستيعاب، لكنه كان نَقْل إصلاحٍ وتجديد، أدى إلى خلق فكرٍ علميٍّ وفلسفيٍّ مبتكَر»، كانت أسُسه العقائدية واللغوية والفقهية والكلامية والفلسفية والتاريخية قد ترسَّخَت. سرعان ما أصبحَت الترجمة مهنةً علميةُ ومؤسَّسة. شهدَت المترجم الهاوي والمترجم المحترف والمترجم-العالم، ثم العالم-المترجم. إنها «جدلية البحث والترجمة»، فكان ثمَّة ترجمةٌ مرافقة للبحث وفي عين حقله، والترجمة التي لحقَت بالبحث مع مثول مسافةٍ زمنيةٍ بينهما، وتنتهي إلى دمج النص المترجَم في تقليدٍ مختلفٍ عن مجاله الأساسي، مثل ترجمة «كتاب المسائل لديوفانطس السكندري» بمصطلحات الخوارزمي الجبرية. بدأ التخصُّص وزاد عدد المتخصِّصين، مما أدى إلى تكوين مجتمعٍ من العلماء والمثقَّفين في حاجة إلى معارفَ جديدةٍ في الفلسفة والمنطق والرياضيات والفلك. ترافَق مع هذا توحيدُ وتعريبُ وأسلمةُ الإمبراطورية وأجهزتها الإدارية منذ عصر الخليفة هشام بن عبد الملك الذي قام بتعريب الديوان، وصك العملة العربية بدلًا من اليونانية. وَلَّدَت متطلباتُ إدارة السلطة وظائف الكاتب والمحتسب وغيرهما التي تتطلَّب ثقافةً عامة. تزايد الطلب على علوم الأوائل، وتزايدَت الحاجة إلى الترجمة.٣٥ وقد دفع هذا الواقع الموَّار إلى ترجمة النصوص المعرفية النخبوبة، وأيضًا ترجمة ما يتصل بالجوانب التطبيقية والتقانية أو فروع الهندسة العملية والتقنيات الزراعية، فأينعَت في الحضارة الإسلامية علومٌ تطبيقيةٌ من قبيل علم المساحة وعلم الحيل المتحركة وعلم جرِّ الأثقال وعلم الأوزان والموازين وعلم الآلات الجزئية وعلم المناظر والمرايا وعلم نقل المياه … وسواها. هذا فضلًا عن الطب والصيدلة والبيطرة، والنباتات أيضًا.

•••

وتظل الرياضيات أعلى مدارج العقل العلمي الممنهج وأرقى أشكال التفكير المنهجي المُمَنطق والمدخل الحق للطرح المنهجي العلمي. وقد لعبَ العربُ دورًا كبيرًا في تاريخ الرياضيات ومسارات تطورها، وعلى مفترق الطرق بين الحساب والجبر وبين الجبر والهندسة.
لقد اهتموا بالرياضيات أكثر من سواها من مباحث العلوم العقلية، وانشغَلوا بموقعها في النسَق المعرفي. وضعها الكندي (١٨٤–٢٥٠ﻫ) — أول الفلاسفة الإسلاميين — كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعًا، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجعلها جسرًا للفلسفة، وللكندي رسالة في أنه «لا تُنال الفلسفة إلا بالرياضيات». وله من الكتب والرسائل أحدَ عشرَ في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلًا عن تسعةَ عشرَ في النجوم. وحتى الإمام الغزالي حين صَبَّ جام غضبه على العقلانية وعلوم الأوائل، استثنى الرياضيات وقال إن أعظم جناية على الإسلام الظن بأنه يُنكِر الرياضيات، فظلَّت الرياضيات دائمًا «لا معنى لإنكارها ولا للمخالفة فيها».٣٦ هكذا سلَّم النموذج الإرشادي الإسلامي بالعلوم الرياضية بوصفها مبرهناتٍ يقينيةً لا بد أن تحتل موقعها.

وقد أخذ العرب بتصنيف الإغريق للمباحث الرياضية، فانقسمَت الرياضيات العربية إلى أربعة علوم أساسية هي الحساب والهندسة والفلك (علم الهيئة) والموسيقى، وتتفرَّع فروعًا عدة، ويُعَد الجبر — إنجاز الرياضيات العربية الأعظم — امتدادًا أو فرعًا للحساب. وبمزيد من التفصيل صنَّف ابن سينا (۳۷۰–٤٢٨ﻫ) علومها إلى علوم الرياضة الرئيسة وهي العدد والهندسة والهيئة (الفلك) والموسيقى، ويتشعب عنها علوم الرياضة الفرعية. عن العدد يتفرَّع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابلة، وعن الهندسة تتفرع علوم الهندسة العملية التقانية. أما علم الهيئة فيتفرع عنه علم الأزياج والتقاويم. ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة. ونلاحظ في هذا تكامُل العلم النظري والعلم التطبيقي.

على أن الرياضيات تُثبِت التعدُّدية الثقافية التي ازدانت بها مصادر العلم العربي، وكيف جمعَت بين الشرق والغرب، وأنها لم تكن أبدًا مجرد حملٍ لميراث اليونان؛ فقد بدأَت قصة الرياضيات العربية حين أمر الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور بترجمة «السدهانات» أي «مقالة الأفلاك» التي عرفَها العرب باسم السند هند، وهي موسوعةٌ هنديةٌ في الحساب والفلك والتنجيم، حملَها العالمُ الهندي كنكة إلى بغداد العام ١٥٣ﻫ/٧٧٠م. ترجمَها إلى العربية يعقوب ابن طارق (ت ٧٩٦م) وإبراهيم بن حبيب الفزاري المنجم (ت ۷۷۷م). كانت «السدهانات» أو «السندهند» فاتحةَ الاتصالِ بالرياضيات الهندية، التي كانت بدورها العلَّة المباشرة لنشأة الرياضيات العربية. استمَر هذا، وتنامى فيما بعدُ الاتصالُ بالرياضيات في الشرق وفي الحضارة الهندية، خصوصًا على يد اثنَين من أكبر الرياضيين العرب هما الخوارزمي والبيروني. كلاهما أتقن اللغة السنسكريتية وزار الهند. وفي أعقاب ترجمة السند هند أمر جعفر البرمكي بترجمة كتاب إقليدس أصول الهندسة ليكون أوَّل ما تُرجِم من كتب اليونان، وأيضًا البوابة العظمى التي دخل منها العقلُ العربيُّ الإسلامي إلى عالم الهندسة، وإلى تفكير الحجة البرهاني، وإلى الاستدلال الاستنباطي الرياضياتي، مأثرة الإغريق العظمى. هكذا يتجلَّى الانفتاح الشامل لنموذجهم المعرفي، على الشرق وعلى الغرب اليوناني معًا.
ثم جاء إسهام العرب فصلًا مثيرًا في قصة العلم الرياضي، وأيضًا في فلسفة الرياضيات، كما يوضح مثلًا بحثهم العلاقة بين التصور والبرهنة من خلال مفهوم اللامتناهي في الصِّغَر في إطار هندسة المخروطات.٣٧
وتقوم الجوانب الثقافية والسوسيولوجية في النموذج الإرشادي بدورها في تفسير تنامي وضع الرياضيات في النموذج الإرشادي للحضارة الإسلامية، والدور العظيم الذي لعبَته في تاريخها. إنها جوانبُ من قبيل اهتمام العرب وأسلافهم العتيق بالتجارة وحساب الأنصبة والأرباح في البضائع والبيوع. ثم نظام المواريث الإسلامي المعقد، بعض مؤرخي العلم أمثال جوان فرنيه (Juan Vernet) يرَونَ القرآنَ نقطةَ البدء في الرياضيات العربية بسبب هذا النظام. وثمَّة أيضًا تعاظُم جحافلِ الجيوشِ الجرَّارة وتوزيع رواتبِها وغنائمِها وحساب نفقاتِها. ثم الرخاء الاقتصادي والتراكُم المالي الذي تلا تكوين الإمبراطورية الإسلامية، ومشاكل حساب أنظمة الجزية والخراج والضرائب والزكاة، هذا فضلًا عن مشاكل عمليات المساحة وتقسيم الأراضي وتشييد المدن.

وكان تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية يدفع الإسلاميين إلى اهتمامٍ مكثَّف بالفلَك (الهيئة). خصوصًا وأن البيئة الصحراوية دفَعَتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفًا، وفي الوقت نفسه اهتمُّوا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية التي دانت لهم، من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقًا لمواسم الحصاد. والمحصلة أن العرب استطاعوا تطوير علم حساب المثلثات، وتصنيع آلاتٍ فلكيةٍ لتعيين المواقيت والاتجاهات، وكانت من أدوات اكتشاف الأمريكتَين وإثبات كروية الأرض.

وتظل المأثرة الكبرى للرياضيات هي تأسيس علم الجبر في الكتاب المختصر في الجبر والمقابلة الذي وضعه محمد بن موسى الخوارزمي، فيما بين عامَي ٨١٣ و٨٣٣م؛ أي في عهد الخليفة المأمون، و«لأول مرة في التاريخ صيغت كلمة «جبر»، وظهرت تحت عنوان يُدَلُّ به على علمٍ لم تتأكد استقلاليته بالاسم الذي خُصَّ به فقط، بل ترسخ كذلك مع تصوُّر لمفرداتٍ تقنيةٍ جديدة مُعدَّة للدلالة على الأشياء والعمليات.»٣٨ ويحتفظ «الجبر» حتى الآن باسمه العربي في اللغات الشتَّى، منذ أن تَرجَم روبرت أوف شستر كتاب الخوارزمي في عام ١٢٤٥م، ناقلًا المصطلح العربي كما هو إلى اللغة الأوروبية؛ لأنه ليس له مقابل عرفوه من قبلُ. بطبيعة الحال، تباشير الجبر كائنةٌ منذ الحضارات البابلية والهندية القديمة وعند الإغريق، جميعها مجرَّد إرهاصات، وأهمها كتاب المسائل العددية لديوفانطس السكندري، وهو أول رياضياتي يعترف بالكسور كالأعداد، وأول من تناول المعادلات البسيطة من الدرجة الأولى، ومعادلات الدرجة الثانية، ومعادلات من رتبةٍ أعلى، على أن أسلوبه كان غير فعَّال وطرقه غير دقيقة، فلم يكن إلا مبشرًا.٣٩ أما «الجبر والمقابلة» فيلقى أسس العلم بصورةٍ ناضجةٍ قابلةٍ للنماء، يعرض المنهج المنظَّم لحل معادلات الدرجة الثانية وسواها. الجبر يتعلق بمعالجة المعادلات بحيث يستبعد منها العدد السالب، بينما تمثل المقابلة طريقةً لتبسيط المعادلات عن طريق جمع أو طرح كمياتٍ متساوية. أطلق الخوارزمي على الكمية المجهولة اسم (الجذر) إشارة إلى جذر النبات الذي عادة ما يكون مختفيًا تحت الأرض، وأطلق على مربَّع الجذر اسم (المال). انطوى جبر الخوارزمي على جِدَّة حقيقية وإبداعٍ أصيل في المنهج لا يتعلق بأي تقليدٍ حسابيٍّ سابقٍ عليه لا شرقي ولا غربي؛ فقطع شوطًا يفصله كثيرًا عن ديوفانطس، ويحق له القول إن كل ما يتعلق بالجبر «لا بد أن يخرجك إلى أحد الأبواب الستة التي وضعتُها في كتابي هذا.»٤٠
لم يتوانَ المعاصرون للخوارزمي والتالون له عن شرح وتفسير كتابه، خصوصًا أبو كامل شجاع بن أسلم الذي أضاف فصلًا، وثابت بن قرة ومنصور بن عراق الجيلي وأبو الوفا البوزجاني وسنان بن الفتح الصيداني … وسواهم. شَهِد الجبر قفزةً تالية مع عمر الخيام الذي وضع قواعد لحل ثلاثِ فئاتٍ من معادلات الدرجة الثالثة وفئةٍ من معادلات الدرجة الرابعة. وتدافعَت أفواجُ الرياضيين العرب منذ القرن التاسع الميلادي/الثالث الهجري. و«راحوا يطبِّقون الجبر على الحساب، والحساب على الجبر، وكلَيهما على حساب المثلثات. وكذلك طبَّقوا الجبر على نظرية الأعداد لإقليدس، وعلى الهندسة، كما طبَّقوا الهندسة على الجبر. وضعَت هذه التطبيقات أسسَ فروعٍ أو على الأقل مباحثَ جديدة»٤١ لم ترِد من قبلُ للإغريق أو لسواهم، تغيَّرت معها الرياضيات في لغتها وتقنياتها ومعاييرها، واتسع أفقُها.
لم يكن تأسيس علم الجبر مجرد إضافة علم إلى العلوم، بل كان تأسيسًا لنموذجٍ إرشاديٍّ ثوريٍّ بكل معنًى قصده توماس كون. من حيث تكامُل هذا النموذج مع الإطار المعرفي، بيَّن رشدي راشد في تحقيقه لكتاب الخوارزمي ما تدينُ به نشأةُ هذا العلم الجديد إلى علم اللغة وإلى حساب الفرائض في الفقه الحنفي، بخلاف العوامل السوسيولوجية التي أشرنا إليها. ومن حيث تاريخ تطوُّر المنهجية العلمية، حدث ميلاد عقلانية علمية جديدة جبرية وتجريبية، لم تنتقل إلى العلم الحديث فحسب بل ميَّزَته تمييزًا، «تأسَّست في الفترة بين القرنِ التاسعِ والقرنِ الثانيَ عشرَ على يد علماءَ عاشوا في بقاعٍ متباعدة، من إسبانيا المسلمة حتى الصين، وكتبوا جميعًا باللغة العربية.»٤٢ كان الجبر هو النواة العقلية لتلك الحداثة،٤٣ أتاح نشأةَ استراتيجياتٍ ذهنيةٍ جديدة تأدت للعقلانية الجديدة، التي كانت مقدمةً شرطية لما سمِّي بعقلانية العلم الحديث.

•••

ظهر كتاب الجبر والمقابلة في الوقت نفسه لظهور ترجمة كتاب الأصول لإقليدس الصرح الأعظم للهندسة. نقلَت أوروبا الأصول على يد إدلارد الباثي الذي تعلم العربية ودرس في قرطبة — مركز العلم العربي في الأندلس — وترجم أصول إقليدس حوالي عام ١١٢٠م، من العربية إلى اللاتينية. وظلت هذه الترجمة تُدرَّس في مدارس أوروبا حتى عام ١٥٨٣م، حين تم اكتشاف الأصل اليوناني.٤٤
كان الحجاج بن يوسف قد ترجم بعض أجزاء كتاب الأصول لإقليدس من اللغة السريانية إلى العربية، وعلى مدار عهدَي هارون الرشيد والمأمون وما تلاهما عمل على ترجمة أجزاء كتاب الأصول ومراجعة الترجمات وتنقيحها كوكبةٌ من ألمع المترجمين الرياضيين. وفتح الأصول شهية العرب للرياضيات البرهانية، خصوصًا في عصرها الذهبي — العصر السكندري — فتوالت دفعةً واحدةً ترجمةُ العديد من أمهات هذا التراث. ولعل أهمَّها كتاب أبلُّونيوس (٢٦٠–۱۹۰ ق.م. تقريبًا) القطوع المخروطية الذي تُرجم إلى العربية في عصر المأمون تحت اسم المخروطات. ولأن أصول إقليدس معنيَّة بهندسة المسطحات، فإن اقتحام عالم المجسمات والقطوع المخروطية كان مرحلةً جديدةً ارتقى إليها العقلُ الهندسيُّ في الحضارة الإسلامية وأسدى إليها وأبدع فيها.
وكشأن الأصول، نجد كوكبة من المترجمين الرياضيين في الحضارة الإسلامية ومن أجيالٍ متعاقبة توالت على ترجمة كتاب المخروطات لأبلُّونيوس ومراجعة الترجمات وتنقيحها، وأيضًا كشأن الأصول، قلَّ أن يمُر رياضياتيٌّ عربي من غير أن يصنِّف رسالة في المخروطات. والجدير بالذكر أن هذا الكتاب ضاع أصلُه ولم يبقَ للبشرية وللنهضة الأوروبية الحديثة إلا الترجمة العربية. انتقلَت إلى أوروبا واستفاد منها يوهانس كبلر عام ١٦٠٩م، وطبَّقها في الميكانيكا السماوية التي أحرزَت معه ثورةً تقدمية.
على مفترق الطرق بين الحساب والجبر تقدَّمَت الرياضيات العربية بنشأة علم الجبر وتأسيسه تأسيسًا. وعلى مفترق الطرق بين الجبر والهندسة صانت للبشرية هذا السِّفر الثمين القطوع المخروطية لأبلُّونيوس والذي يقف كعاملٍ جوهري لنشأة الهندسة التحليلية في القرن السابعَ عشرَ مع فرما وديكارت. تقدِّم الهندسة التحليلية طرقًا أعمق من طريقة أبلُّونيوس، وتوضِّح وحدة القطوع المخروطية بطريقةٍ أبسط؛ إذ تمثِّلها بمعادلات من الدرجة الثانية بمجهولَين، فلم يَعُد كتاب أبلُّونيوس أو شروحه من لدن نصير الدين الطوسي وإبراهيم بن سنان والحسن بن الهيثم مجديةً في الوقت الحاضر. بيد أن هذا الكتاب يحتفظ بدورٍ خطيرٍ في تاريخ الرياضيات وتطوُّر مساراتها.٤٥

•••

إذا كان أخطر أسرار نجاح العلم الحديث التآزر بين لغة الرياضات ووقائع التجريب، فإن أخطر ما في الرياضيات العربية أنها أبانت عن ضرورة تأسيس علاقاتٍ جديدة بينها وبين الفيزياء، كمكوِّنٍ منهجي من مكوِّنات البرهان، فيما يشي بتآزر قطبَي المنهج العلمي. وهذا ما أثبتَتْه دراسات لرشدي راشد أهمها علم المناظر والرياضيات (۱۹۹۲م)؛ والهندسة وعلم انكسار الضوء في القرن العاشر: ابن سهل، القوهي، ابن الهيثم (١٩٩٦م)؛ وبين الرياضيات والمناظر من علم الانكسار إلى الهندسة: ابن سهل، ابن الهيثم، ديكارت (٢٠١١م). أوضح راشد أن الحسن ابن الهيثم (ت ٤٣٠ﻫ) أول عالمٍ يرفض اعتبار المفاهيم وحدَها كافيةً لمعرفة الأشياء المادية، ورأى أن إمكانية معرفتها الحقيقية تكمن في رياضياتها، فيتجلى دورُه الخطير في إعلان الترافق بين الرياضيات والفيزياء.

كان التجريب لا يزال مفهومًا مبهمًا إلى حدٍّ ما، مثلما كان مع فرنسیس بيكون مثلًا. اتخذ التجريب المسترشد بالرياضيات عند ابن الهيثم فحوى مختلفة تمامًا عن مجرد الرصد أو حتى القياسات الفلكية والتكميميات المعتادة. تعدَّدَت معاني التجريب ووظائفه عنده بقَدْر تعدُّد العلاقات بين الرياضيات والفيزياء. وهو يؤسس لتلك العلاقات بمناهجَ متباينة، لم يعالجها كموضوعٍ قائمٍ بذاته، إلا أنها منبثَّة في أعماله، فاستطاع رشدي راشد تقنينها وتحليلها.

المساهمة الأساسية لابن الهيثم في مجال البصريات هي علم المناظر الهندسي. لقد انشغل بإصلاح علم البصريات ومراجعة مجالاته المختلفة؛ المناظر والظواهر الضوئية وانعكاس الأشعة الضوئية وانكسارها والمرايا المحرقة وعلم البصريات الفيزيائي ثم الجوانب السيكولوجية والفيزيولوجية للبصريات، مستخدمًا الأساليب الهندسية والتجريب في كل المجالات. أنهى التقليد القديم مع إقليدس وبطليموس حيث كانت الرؤية هي إضاءة الشيء المرئي، فلا فرق بين شروط الرؤية وشروط انتشار الضوء. أما ابن الهيثم فقد وضع تمييزًا قاطعًا بين فيزياء الضوء وبين فيزيولوجيا وسيكولوجيا الإبصار، الإبصار يخضع لقوانين الضوء وليس العكس.

يحمل علم الانكسار أو دراسة الأشعة المنكسرة تطبيقًا قويًّا للرياضيات على الفيزياء، الذي اتخذ عند ابن الهيثم «مناحيَ مختلفةً تتفق ونضوجَ المفاهيمِ في كل فرعٍ من فروع العلم التي عالجها في عمله الضخم من جهة، كما يتوقف على إمكانية إخضاع الظاهرة إلى التجربة من جهةٍ أخرى.»٤٦ من هذه المناحي «ما هو متعلق بتماثُل البنيات، كما هو عليه الأمر في المناظر الهندسية بعد إصلاحها من قِبلِه. وثمَّة منحًى آخر هو تطبيق الرياضيات بواسطة علمٍ آخر وُضِع على شكلٍ رياضي؛ استخدام ترسيمةٍ ميكانيكيةٍ في دراسة المناظر على سبيل المثال.»٤٧ في علم البصريات الفيزيائي علاقة مع الرياضيات، عن طريق التماثُل بين الرسومات الهندسية لحركة جسمٍ ثقيل والرسومات الهندسية للانعكاس والانكسار. وتأدت رؤية ابن الهيثم إلى نوعٍ آخر من التجريب المسترشد بالرياضيات مارسَه كمال الدين الفارسي (ت ٧١٠ﻫ) «حيث تنحو العلاقة بين الرياضيات والفيزياء نحو بناء نموذج، بحيث يُختزل الضوء داخل وسطٍ طبيعي — عن طريق الهندسة — إلى انتشاره داخل أداة مصنوعة؛ مما يعني أننا بصددِ تعريفِ تناظُرٍ رياضي تمثيلي بين الطبيعي والأداة المصنوعة؛ مثال ذلك الكرة المملوءة بالماء لدراسة قوس قُزح. ووظيفة التجريب هنا هي التعبير عن الشروط الفيزيائية لظاهرة ليس لدينا طريقةٌ أخرى لدراستها مباشرة.»٤٨ تكمُن حداثة مشروع ابن الهيثم في أن هذه الأشكال من التجريب المُتَريِّض — إن جاز التعبير — كانت آليات ضبط ومستويات وجود لمفاهيمَ إدراكية. هذا فضلًا عن استهدافه الحصول على نتائجَ كمية، وابتدع من أجل ذلك أجهزةً وتدابيرَ معقَّدة. لقد أرسى ابن الهيثم دعائمَ اعتبارِ التجريب جزءًا لا يتجزأ من البرهان الرياضي في الفيزياء، «والتسلسل الذي يبدأ بابن الهيثم ليصل إلى كبلر وغيره من علماء القرنِ السابعَ عشرَ ثابت؛ لهذا كانت المعرفة بالعلم العربي ضروريةً حتى نتفهَّم الحداثة الكلاسيكية.»٤٩
أتى ابن الهيثم في مرحلة كانت الحضارة الإسلامية فيها قد قطعَت شوطًا، فاستقطب نضج المنهج العلمي فيها، وخلاف سر الأسرار أي الترييض، يمكن استخراج جواهرَ منهجيةٍ أخرى من لدنه، على رأسها رفض سلطة الكتابات القديمة، فيقول إن «طالب الحق ليس هو الناظر في كتب الأقدمين، المسترسل مع طبعه بحسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتَّهم لظنه فيهم». ورأيناه يطيح بالرؤية القديمة لإقليدس وبطليموس. وثمة إرساء قواعد الشك المنهجي والنزاهة وقاعدة النقد والتفنيد التي هي جوهر رؤية كارل بوبر. وقد استخرج ماهر عبد القادر من كتابات ابن الهيثم تحذيرًا من أوهامٍ مفضيةٍ إلى فساد البحث العلمي — كأوهام بيكون — وهي أوهام الرؤية وأوهام الاعتقاد وأوهام الظن.٥٠

•••

تواتر عطاء التجريبيين الذين أطلَق عليهم علماءُ الكلام اسم «الطبائعيين» لأنهم يبحثون في طبائع الطبيعة. ثمَّة أسبقيةٌ زمانية لجابر بن حيان، جاء في القرن الثاني الهجري، ليكون في طليعتهم، إمامًا للكيمياء أو السيمياء القديمة، حتى سُمِّيَت «علم جابر». خرجَت من أعطافه كيمياء العرب وكيمياء العصور الوسطى. وقال برتيلو إن جابر له في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق؛ أي إنه أسَّسَها تأسيسًا، علَّم العلماء العمل الدءوب في قلب المعمل حين البحث في العلم الطبيعي، على أساس أن الدربة؛ أي التجربة هي أم الصنائع، وقالها صراحة: «إياك أن تجرِّب أو تعمل حتى تعلم» – «ثم تقصد لتجرِّب فيكون في التجربة كمال العالم»،٥١ إنه تكامل التحصيل العلمي والتجريب. وقد بحث أشكال الاستدلال التجريبي؛ المجانسة ومجرى العادة والآثار.٥٢
وفي سياق البحوث التجريبية لن ينتهي الحديث بشأن الإنجازات المعروفة للعلم العربي في الطب والجراحة مع أمثال الرازي وابن سينا وابن النفيس وأستاذه مهذب الدين الدحوار … والصيدلة والنبات … إلخ. وهل يفوتُنا ذكر البيروني (٣٦٢–٤٤٠ﻫ) الذي قال عنه إدوارد ساخاو بعد أن حقَّق بعض أعماله إنه أعلم علماء العصور الوسطى طُرًّا، ومن أعظم العقليات التي شهدها التاريخ. إنه رياضياتي، وكان أيضًا مهندسًا وفلكيًّا وعالمًا طبيعيًّا ومنشغلًا بالعلوم الإنسانية وتحديدًا الجغرافيا وعلم الأديان المقارن.٥٣ وبصدد الإنسانيات والعلوم الاجتماعية يبدو ابن خلدون في غير حاجة للذكر. لقد تكاملَت موسوعةٌ للعلوم مختلفة تمامًا عن الموسوعة الإغريقية الأسبق، عرَض الفارابي في كتابه الشهير إحصاء العلوم لمعالمها، وبذل البعضُ جهودًا لتوضيح أنها كانت تمهيدًا لا غنى عنه لتصنيفات المحدَثين.٥٤ ومع كل هذا يظل ثمَّة واقعةٌ خطيرة تؤكد بشكلٍ مباشر كيف كان تاريخ العلم عند العرب ونموذجه الإرشادي مقدمةً شرطيةً مفضية منطقيًّا وتاريخيًّا إلى مرحلة العلم الحديث. إنها اللفتة النافذة التي أسرف توبي هف في التعويل عليها وتأكيدها وهو يحاول تفسير بزوغ فجر العلم الحديث، الخاصة بمرصد «مراغة» الواقعة الآن في حدود إيران. استطاع العاملون فيه، خصوصًا إبَّان القرنَين الثالثَ عشرَ والرابعَ عشَر، التوصُّل إلى ابتكار أول نظامٍ فلكيٍّ غيرِ بطلمي، منهم الأزدي (ت ١٢٦١م)، والطوسي (ت ۱۲۷۹م) وقطب الدين الشيرازي (ت ١٢٧٩م)، وأهمهم جميعًا ابن الشاطر (ت ١٣٧٥م). ويؤكد توبي هف تأكيدًا مشددًا على أن ابن الشاطر بالذات هو الذي مهَّد لكوبرنيقوس، وعلى تفاصيل التناظُر بين نماذج كوبرنيقوس ونماذج مرصد مراغة؛ بحيث إن السؤال الذي بحثَه نفر من مؤرخي العلم الحديث ليس عمَّا إذا كان، وإنما متى وأين تعلم كوبرنيقوس نظريةَ مراغة؟ وقد كان دبلوماسيًّا كثير التجوال والاطلاع على ما لدى الآخرين. يقول توبي هف:
وشدَّ ما هو ذو دلالةٌ خطيرة فعلًا، أن العلماء العرب المسلمين هم الذين مهَّدوا الطريق المفضي إلى الثورة العلمية في أوروبا. لقد عمل العرب على تطوير ومناقشة جوانبَ عديدةٍ للمنهج التجريبي، وتخطيط كيفية التسلح بها. ليس هذا فحسب، بل أيضًا طوَّروا الأدوات الضرورية للوصول إلى أرقى مستويات الفلك الرياضي. علاوةً على هذا، فإن العمل الذي اضطلع به مرصد مراغة في القرنَين الثالثَ عشرَ والرابعَ عشر، قد بلغ ذروته في عمل ابن الشاطر، وتمخَّض عن تطوير نماذجَ كوكبيةٍ جديدة للكون، كثيرًا ما تُوصف بأنها باكورة النماذج اللابطلمية على طول الطريق المفضي إلى العلم الحديث. وهي ما اتخذه كوبرنيقوس فيما بعدُ. لم يكن ينقصها العامل الرياضي، أو أية عواملَ علميةٍ أخرى، العامل الوحيد المفتقَد في هذه النماذج هو أن ترسو على فرض مركزية الشمس. وكان الفشل في الإقدام على هذه الوثبة الميتافيزيقية من كون مركزه الأرض إلى كون مركزه الشمس هي التي حالت بين العرب وبين إحداث النقلة من العالم المغلَق إلى الكون المفتوح.٥٥

وكان كوبرنيقوس هو الذي أقدم على هذه الوثبة، فكانت بداية نسق العلم الحديث ونموذجه بفضلٍ يعود إلى مرصد مراغة، وإلى تاريخ العلوم عند العرب على العموم، والذي تسارعت عمليات نقل أدبياته المترجمة والمؤلفة إلى اللغة اللاتينية منذ القرنِ الثانيَ عشر. وعَبْر الخطوات المتلاحقة والمتوهِّجة التي أحرزها العلمُ الحديثُ تباعًا تشكَّل أخطر نموذجٍ علمي عرفَته البشرية — الخطورة بمعنى الأهمية، والخطورة بمعنى الأثر الحاسم وبمعنى الأثر الوبيل. إنه النموذج الإرشادي العلمي الغربي، وقد بلغ أوْج تألُّقه وجبروته وهيلَمانه في صورة نموذج العلم الوضعي. وتابعنا في الجزء الأول من الفصل الأول معالم تعملقه، ثم بروز نموذج العلم ما بعد الوضعي أو ما بعد التنويري أو بعد الحداثي.

•••

والآن أمامنا معالم الإنجازات الجوهرية للمنهج العلمي في النماذج الإرشادية المتعاقبة. وأتانا من الماضي نموذجنا الإرشادي بإطاره القيمي الإيجابي وبفعالية إجرائياته. وقبلًا عملنا على الاستفادة من الفضل العظيم للميثودولوجيا الغربية المعاصرة في بلورة هذه الإجرائيات. نريد أن نتجاوز مرحلة النقل من هذا ومن ذاك. نريد استيعابًا لهذا الماضي وهذا الحاضر، وتجاوزًا لكليهما، انطلاقًا إلى مستقبلٍ أفضل، وكأننا بإزاء خطَّين يلتقيان في نقطة للانطلاق نحو نموذجٍ إرشاديٍّ إسلاميٍّ مستقبلي، يُمكِن تشبيهها «بما يُسمَّى في علم الملاحة بعملية التثليث (Triangulation)؛ أي تحديد موقع نقطة عن طريق مد خطَّين يمرَّان بنقطتين أخريين»٥٦ نشدانًا لمستقبلٍ واعدٍ خليقٍ بتوطين الظاهرة العلمية ثقافتنا المعاصرة، لتغدو فعالية خلاقة منتجة ومبدعة، فاعلة في التقدم في العلمي.

ولن يكون هذا إلا بتأصيل المنهجية العلمية، روح المنهج ذاته وليس محض إجرائياته، جوهر آليتيه الكبريَين الاستنباطية الرياضياتية والتجريبية، هل يمكن استكشافها في أصوليات ثقافتنا؟ هل نبعت من بنيتنا العقلية القائمة على القراءتَين، لنستطيع المجاهرة بأن الظاهرة العلمية يمكن أن تكون غير مستوردة أو مجلوبة من الغرب. رأينا الإجرائيات في الحضارة الغربية مستندةً إلى روحٍ منهجيةٍ متجذرة في بنية الحداثة الغربية ذاتها، وتلك هي المهمة الجليلة التي اضطلع بها ديكارت وبيكون. خصوصًا بيكون الذي اقترن اسمُه بحركة العلم الحديث، على الرغم من القصورات فيما عرضَه من إجرائياتٍ منهجيةٍ رثة مُهلهَلة.

لسنا نبحثُ عن سراب، فهل نتجَت تلك المناهج العلمية بآلياتها الإجرائية واستراتيجياتها العقلية الرياضية والتجريبية وحصائلها المفضِية إلى مرحلةٍ أعلى تلَتها مع العلم الحديث … من دون تجذُّر للروح المنهجية في بنية الثقافة الإسلامية؟!

لا يكفي أن شهدَت حضارتنا الإسلامية منهجًا بمعنى إجرائياتٍ علميةٍ رفيعةِ المقام في عصرها الذهبي إبَّان العصور الوسطى لنعمل على تطويرها وتفعيلها الآن، بل السؤال الحاسم هو: هل تملك الثقافة الإسلامية أصول الروح المنهجية؟ بعبارةٍ أخرى، هل المنهجية قوةٌ متجذرةٌ في بنية الثقافة الإسلامية القائمة على القراءتَين؟ إن الرد بالإيجاب شرطٌ ضروريٌّ لأية محاولة لتوطين المنهجية العلمية … لتشييد نموذجٍ إرشاديٍّ علميٍّ إسلاميٍّ مستقبلي. ويبدو لنا علم أصول الفقه، من حيث إنه علم المنهجية الأول في ثقافتنا هو الكفيل بالرد.
١  منى أبو الفضل وطه جابر العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة الاجتماعية والشرعية: مراجعات منهجية وتاريخية (القاهرة، دار السلام، ۲۰۰۹م)، ص٢٦٤ (من سيرةٍ ذاتيةٍ لمنى أبو الفضل).
٢  يمنى طريف الخولي، محاضرات في منهج العلم، ط٥ (القاهرة، دار الثقافة العربية، ۲۰۱۰م)، ص۷.
وهذا التعريف يصادر على الدلالة الإخبارية والقيمة الأنطولوجية للنظريات العلمية، وبالتالي لا يساير التيار الأداتي (Instrumentalism) في فلسفة العلوم، بمدارسه المختلفة وأهمها الاصطلاحية (Conventionalism) والإجرائية (Operationalism)، الذي يرى القوانين والنظريات والأنساق العلمية أدواتٍ للربط بين الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها والسيطرة عليها، تُوصَف بالصلاحية أو عدم الصلاحية، وليست قضايا إخبارية تُوصَف بالصدق أو الكذب، وتُحاوِل دائمًا الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر. فلسفة العلم تنقسم إلى تيارَي الواقعية والأداتية، ونحن نأخذ بالواقعية. جديرٌ بالذكر أنه مع انسياق فيزياء الكوانتم نحو المزيد من الصُّورية والصورَنة، بدا وكأن أسهم التيار الأداتي ترتفع، ولكن بُذلتَ محاولةٌ جادةٌ لإعادة الأمور إلى نصابها وإثبات أن فيزياء الكوانتم يمكن أن تصبَّ بمجامعها في الاتجاه الواقعي. انظر: رولان أومنيس، فلسفة الكوانتم: فهم العلم المعاصر وتأويله، ترجمة أحمد فؤاد باشا ويمنى طريف الخولي، عالم المعرفة؛ ٣٥٠ (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ٢٠٠٨م) أستاذ الفيزياء المرموق د. أحمد فؤاد باشا الذي شاركنا ترجمة هذا الكتاب العميق، من الروَّاد الذين بحثوا مبكِّرًا عن «فلسفة العلوم بنظرة إسلامية».
٣  ورَد هذا المصطلح وجرى توظيفه وتشغيله في كتاب:
William James Earle, Introduction to Philosophy (New York: McGraw-Hill, 1992), p. 1.
حيث يبدأ بتحليل إتيمولوجيا كلمة «فلسفة». وقد راجعنا ترجمةً بالغة الجودة له إلى اللغة العربية؛ حيث فضَّلنا أن نبدأ ﺑ «أصل الكلمة»، وليس ﺑ «إتيمولوجيا» الكلمة أو اللفظة؛ لأن الكتاب «مدخل» يبدأ بأخذ يد القارئ أو الدارس، فلم يكن ملائمًا أن نستهل الحديث بمصطلحاتٍ تخصصية غير مألوفة. انظر:
وليم جيمس إيرل، مدخل إلى الفلسفة، مزوَّد بمعجم فلسفي معاصر، ترجمة عادل مصطفى، مراجعة يمنى طريف الخولي (القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، ١٩٩٥م)، ص١٣.
٤  جميل صليبا، المعجم الفلسفي (بيروت، دار الكتاب اللبناني، ١٩٧٣م)، الجزء الأول، ص٢١. ولمزيد من التفاصيل انظر كتابنا: محاضرات في منهج العلم، المصدر نفسه، ص١٨. وما بعدها. وقارن بحثنا: «مفهوم المنهج: تحليلات أولية،» في: أعمال الندوة الدولية: قضايا المنهج في الدراسات اللغوية والأدبية: النظرية والتطبيق (الرياض، جامعة الملك سعود، ۲۰۱۰م)، ص٢٩–٥٣.
٥  مجمع اللغة العربية، المعجم الفلسفي (القاهرة، المطابع الأميرية، ١٩٧٩م)، ص١٩٥.
٦  منى أبو الفضل وطه جابر العلواني، نحو إعادة بناء علوم الأمة، المصدر نفسه، ص٦٩.
٧  فتحي ملكاوي، «المنهاج والمنهجية: طبيعة المفهوم وأهميته والمفاهيم والمصطلحات ذات العلاقة»، في: المنهجية الإسلامية، لفيف من المؤلفين (القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ودار السلام، ۲٠۱٠م)، الجزء الأول، ص٣٥–٣٦.
٨  ورد هذا في «تفسير القرآن العظيم» لأبي الفداء إسماعيل بن كثير (القرن الثامن الهجري). ولعل الشرعة بمعنى ابتداء الطريق إلى الماء هو الأصل الإيتمولوجي للفظة «الشارع» التي تعني الطريق في العامية المصرية.
٩  فتحي ملكاوي، «المنهاج والمنهجية»، المصدر نفسه، ص٣٥. ونقلًا عنه راجع: ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين، لسان العرب (بيروت، دار صادر ودار بيروت، [د. ت.])، مجلد ۲، ص۳۸۳. وانظر أيضًا: ابن دريد، جمهرة اللغة، تحقيق رمزي منير بعلبكي (بيروت، دار العلم للملايين، ۱۹۸۷م)، ص٤٩٨.
وانظر كذلك القرطبي: الجامع لأحكام القرآن (بيروت، مؤسسة مناهل الفرقان، د. ت)، ج٦، ص٢١١، وذلك في تفسير قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة: ٤٨]. ولا نعدم نفرًا ذهب إلى أن الشرعة هي ما ورد في القرآن والمنهاج هو ما ورد في السنة، كنموذجٍ للعقول المصمتة التي تريد الدين ظاهرةً مصمتة مثلها.
١٠  فتحي ملكاوي، منهجية التكامل المعرفي: مقدمات في المنهجية الإسلامية (عمان، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ٢٠١٢م)، ص٦٩.
١١  المصدر نفسه، ص٦٩–٧٠.
١٢  المصدر نفسه، ص٧١.
١٣  عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، ط٣ (الكويت، وكالة المطبوعات، الكويت، ۱۹۷۷م)، ص١.
١٤  د. علي جمعة، «المصادر الأساسية للمنهجية الإسلامية في الفكر والبحث العلمي» في: المنهجية الإسلامية، المصدر نفسه، ص٤٦٥.
١٥  العلامة علي بن محمد السيد الشريف الجرجاني، كتاب التعريفات: معجم فلسفي منطقي صوفي فقهي لغوي نحوي، تحقيق عبد المنعم الحفني (القاهرة، دار الرشاد، ۱۹۹۱م)، ص٥٢.
١٦  التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون، تحقيق لطفي عبد البديع (القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، ١٩٦٣م)، ص٦.
١٧  أورد فتحي ملكاوي في عمله المذكور منهجية التكامل المعرفي: مقدمات في المنهجية الإسلامية قائمة بأهم الكتب العربية التي ورَد في عنوانها مصطلح أو لفظة المنهج، نذكُر منها: مناهج التحصيل ونتائج لطائف التأويل في شرح المدوَّنة وحل مشكلاتها لابن سعيد الرجراجي المعروف بابن تامسريت في القرن السابع الهجري، ومعراج المنهاج: شرح منهاج الوصول في علم الأصول للقاضي البيضاوي في جزأين، والكوكب الوهاج لتوضيح المنهاج في شرح درة التاج وعجالة المحتاج في فقه الطريقة التيجانية تصنيف عبد الكريم بنيس، ودرة التاج في إعراب مشكل المنهاج للإمام السيوطي المتوفَّى في القرن العاشر الهجري، وفي الفقه الإباضي التاج المنظوم من دُرر المنهاج المعلوم لعبد العزيز الثميني، وكتاب الإمام النووي دقائق المنهاج، والابتهاج في شرح المنهاج لتقي الدين بن السبكي في القرن الثامن الهجري، ومنهاج الطالبين وعمدة المتقين ليحيى بن شرف النووي، والابتهاج في بيان اصطلاح المنهاج لأحمد بن أبي بكر ابن سميط العلوي الحضرمي، والنهج المسلوك في سياسة الملوك تأليف عبد الرحمن بن نصر الشيرزي، والنهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى للنجدي، ومنهاج القاصدين ومفيد الصادقين لابن الجوزي …
١٨  هو قول مشهور لأبي حيان التوحيدي ذكره في كتابه المقابسات، نقلًا عن أستاذه أبي سليمان السجستاني.
ومن ناحيةٍ أخرى، يمكن أن نلاحظ في هذا عبقرية اللفظ اليوناني اللوجوس (logos) فهو يعني العقل ويعني الكلمة/صلب اللغة. ولوجوس (logos) هو الأصل اللغوي الذي اشتق منه logic أي علم المنطق في اللغات الأوروبية. وعلى هذا المدار نفسه نجد «المنطق» في اللغة العربية مشتق من «النطق» والنفس الناطقة وتعريف الإنسان بأنه الحيوان «الناطق» بمعنى أنه الحيوان «العاقل».
١٩  الشيخ المولوي محمد علي بن علي التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون (بيروت، خياط، ١٩٦٦م)، الجزء الأول (المقدمة)، ص٣٣.
٢٠  انظر: نقولا ریشر، تطور المنطق العربي، ترجمة د. محمد مهران (القاهرة، دار المعارف بمصر، ١٩٨٥م).
يقدم هذا العمل عرضًا تفصيليًّا لإسهامات الحضارة الإسلامية في مجال المنطق في فترة علوِّها وازدهارها وعطائها منذ الخلافة العباسية وحتى القرن العاشر الهجري، ولم يعُد ثمَّة بعد نهاياته عطاءٌ للحضارة الإسلامية. على أنه كان عطاءً ساهم فيه مسلمون ومسيحيون ويهود وصابئة، من بلاد العرب والعراق والشام ومصر والمغرب العربي والأندلس ومواطن في أواسط آسيا، تركوا كتاباتٍ بالعربية وبالعبرية وبالفارسية … فقد كان هذا جميعه يُنجَز في إطار الحضارة العربية الإسلامية ويستظل بظلالها.
٢١  توفيق الطويل، أسس الفلسفة، ط٥ (القاهرة، دار النهضة العربية، ١٩٧٦م)، ص١٤٠.
٢٢  Paul Feyerabend, Against Method, revised ed. (London: Verso, 1992), p. 9.
٢٣  Joseph Margolis, Science without Unity: Reconciling the Human and Natural Sciences (Oxford: Basil Blackwell, 1987), p. xix.
٢٤  ماهر عبد القادر، فلسفة العلوم الطبيعية: المنطق الاستقرائي (الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية، ١٩٧٩م)، ص٣–٤.
٢٥  Peter Caws, “Scientific Method,” in: Encyclopedia for Philosophy, Paul Edwards (ed. in chief), (New York: Macmillan Publishing Co., 1972), Vol. 7, pp. 339–343.
٢٦  هذا التخطيط أو الرسم والاثنان القادمان أيضًا وضعناها قبلًا في كتابنا: مفهوم المنهج العلمي (القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠١٥م)، ويُمكِن الرجوع إليه لمزيد من التفاصيل.
٢٧  انظر المرجع المذكور سابقًا:
Joseph Margolis, Science without Unity: Reconciling the Human and Natural Sciences.
٢٨  انظر في تفاصيل هذه الثورة: يمنى طريف الخولي، فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، ط۲ (القاهرة، دار قباء، ۲۰۰۰م)، خصوصًا الفصل السادس: إنها اللاحتمية إبستمولوجيًّا وأنطولوجيًّا، ص٣٨٨–٤٧٢.
٢٩  Francis Bacon, Novum Organon, in: The Philosophers of Science, ed. by S. Commins & R. N. Linscott (New York: The Pocket Library, 1954), pp. 73–158.
٣٠  ج. ج. كراوثر، قصة العلم، ترجمة يمنى طريف الخولي وبدوي عبد الفتاح، ط۲ (القاهرة، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ۱۹۹۹م)، ص١٨–١٩. (في الفصل الأول: كيف انبثق العلم). ولمزيد من تفاصيل مناقشات الأصول الأنثروبولوجية للعلم، أنظر: «متى يبدأ تاريخ العلم» في: يُمنى الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصولالحصادالآفاق المستقبلية، عالم المعرفة؛ ٢٦٤ (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ٣٠–٤٢. والصفحات التالية حتى ص٧٠، وتحمل الصفحات التالية لهذا استعراضًا شبيهًا لمراحل تطور تاريخ العلم.
٣١  L. W. H. Hull, History and Philosophy of Science (London: Longman, 1965), p. 7 et seq.
٣٢  برتراند رسل، حكمة الغرب، ترجمة فؤاد زكريا، عالم المعرفة؛ ٦٢ (الكويت، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ١٩٨٣م)، الجزء الأول، ص٨٩.
٣٣  رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب؛ ۱۲ (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ٢٠١١م)، ص٣٦.
٣٤  ج. ج. كراوثر، قصة العلم، المصدر نفسه، ص٥٧.
٣٥  رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، المصدر نفسه، ص٦٨–٧٥، ص٩٨ وما بعدها، ومواضع متفرقة. العباراتُ الواردة بين علامتَي تنصيص، مأخوذةٌ من مواضعَ شتَّى في هذه الصفحات الثمينة.
٣٦  أبو حامد الغزالي، معيار العلم، تحقيق سليمان دنيا، ط۲ (القاهرة، دار المعارف، ١٩٦٩م)، ص٢١.
٣٧  يُمنى الخولي، في الرياضيات وفلسفتها عند العرب (القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، ١٩٩٤م). وهذا العمل ترجمةٌ عن الإنكليزية وتقديم ودراسة لنص للدكتور رشدي راشد بعنوان: «القابلية للتصور والقابلية للتخيل والقابلية للإثبات في التفكير البرهاني: السجزي وابن ميمون في القضية ١٤ الكتاب الثاني، من كتاب أبلُّونيوس (القطوع المخروطية)». وتنُص هذه القضية على أن الخطوط المقاربة والقطع الزائد يقتربان من بعضهما أبدًا دون أن يلتقيا، مما يعني اقترابًا بمقاديرَ لا متناهية في الصغر. وهذا فيضٌ من غَمر يكشف عنه الجهد الدءوب للعلامة رشدي راشد في تاريخ الرياضيات العربية.
٣٨  رشدي راشد، تاريخ الرياضيات العربية: بين الجبر والحساب، ترجمة حسين زين الدين، سلسلة تاريخ العلوم عند العرب؛ ١ (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، ١٩٨٩م)، ص٧.
٣٩  توبياز دانزج، العدد لغة العلم، ترجمة أحمد أبو العباس (القاهرة، مكتبة مصر، د. ت)، ص٨٢.
٤٠  نقلًا عن: رشدي راشد، تاريخ الرياضيات العربية، المصدر نفسه، ص٢٧.
٤١  رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص٥٣.
٤٢  المصدر نفسه، ص٦٤.
٤٣  المصدر نفسه، ص٦٠.
٤٤  في تفاصيل هذا انظر: يمنى طريف الخولي، «إدلارد الباثي ومدارس الرياضيات في قرطبة»، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة: العدد ٥٣، آذار (مارس) ۱۹۹۲م، ص٢٤٧–٢٦٥.
٤٥  انظر مقدمة الترجمة العربية في: يُمنى الخولي، في الرياضيات وفلسفتها عند العرب، المصدر نفسه، ص٣١–٦٧.
٤٦  رشدي راشد، دراسات في تاريخ العلوم العربية وفلسفتها، ص٣٠٦.
٤٧  المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
٤٨  المصدر نفسه، ص٦٣.
٤٩  المصدر نفسه، والصفحة نفسها.
٥٠  ماهر عبد القادر محمد علي، المنهج العلمي عند علماء العرب: محاولة في الفهم (دبي، ندوة الثقافة والعلوم، ١٩٩٥م)، ص٧٢–٩٠.
٥١  جابر بن حيان، في: كتاب التجريد، تحقيق هولميارد، نقلًا عن: جلال محمد عبد الحميد موسى، منهج البحث العلمي عند العرب: في مجال العلوم الطبيعية والكونية (بيروت، دار الكتاب اللبناني، ١٩٧٢م)، ص١٢٦.
٥٢  يمنى طريف الخولي، بحوث في تاريخ العلوم عند العرب (القاهرة، دار الثقافة، ١٩٩٨م)، ص۷۳–۱۲۷. حيث دراسة للمنهج عند جابر تستند إلى نصوصه التي جمعَها وحقَّقها بول كراوس.
٥٣  المصدر نفسه، ص١٣١–١٩٩.
٥٤  جلال محمد موسى، منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية (بيروت، الشركة العالمية للكتاب، ۱۹۸۸م)، ص٥٥ وما بعدها.
٥٥  Toby Huff, The Rise of Early Modern Science (Cambridge: Cambridge University Press, 1993), p. 237.
٥٦  محمد صفار، «الشرق في قلب الغرب: البديل الثالث»، في: نادية مصطفى (وآخرون)، التحول المعرفي والتغيير الحضاري: قراءة في منظومة فكر منى أبو الفضل (القاهرة، دار البشير، ۲۰۱۱م)، ص٣٦١–٣٩٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤