لغةُ العرب

تبارك الرحمنُ ذو الإحسان
مميِّزُ الإنسان باللسانِ
لولاه لم ينهضْ بسائر النِّعَمْ
ولا عدا في الأرض سائمَ النَّعَمْ
فهو أداةُ العلم والبيانِ
وهيكلُ الحكمة والأديانِ
ومفجَرُ الفكر والاختراعِ
ومُستَقَى اللَّهاة١ واليراعِ
وصَدَفُ المنظومِ والمنثورِ
ومُصحَفُ المعلوم والمأثورِ
ومُسكةُ العُمرانِ بين الناسِ
على العصور وعلى الاجناسِ
رُبَّ لسانٍ جمع الأقواما
وكان كالجنس لهم قِواما
واستمسكتْ واعتصمتْ به الفِطَنْ
كعُروَةِ المِلَّةِ أو حبلِ الوطنْ
وربَّ شعبٍ نال مجدًا باللُّغهْ
لم يبلغِ الأقوامُ فيه مبلَغهْ
كانت له في ظلِّها حضارهْ
رفَّتْ نعيمًا وجرتْ نضاره
سالت على الأجيال من ضياء
وأترعتْ قرائحَ الأحياءِ

•••

وكلُّ حُسنٍ كامنٍ أو بادِ
أودعه الله اللسانَ البادي
هذَّبه العَرضُ على الأذواقِ
فيما يُقيمُ القومُ من أسواق
على عُكاظَ٢ تتبارى الْجِنَّهْ
وفوق ذي٣ المجاز والمجنَّهْ
ويخطبُ الكُهَّانُ في المواسِم
سجْعَ الْحَمام في الرُّبا النواسِم
فتأخذُ القبائلُ البيانا
أخْذَك من مَعدِنه العِقيانا
مُهذَّبًا مُنقَّحًا مُنقَّى
مُلقَّنًا من نفسه مُلَقَّى
في شِرعةِ القول هو النَّميرُ٤
وهو على عيونه الأميرُ
من لفظِ إسماعيلَ فيه حُسْنُ
تعشَّقتْه في الرسول اللُّسْنُ
به تحلَّى وبه تباهى
وبَزَّ في الفصاحة الأشباها

•••

ولم يزلْ تاجَهمُ الكلامُ
والأُمراءُ الصَّاغةُ الأعلامُ
مُجمَّلين باللسان الأبْيَنِ
بمثلِه يونانُ لم تَزَيَّنِ
حتى حباه الله بالجزيلِ
واختاره للوحي والتنزيلِ
شريعةٌ فجَّرها بحرانِ
بالعلم والحكمة يزخَرانِ
طامٍ من الوحِي فُراتُ المشرعِ
في زاخرٍ من الحديث مُترَعِ
فاضا على الصِّيدِ مُلوكِ البيدِ
بَنى زُهيرٍ وبني لَبيدِ
فأوردا القرائحَ القَراحا
بل وَجدوا ماءً فكانا الراحا
فلا تسلْ عن نهضةِ العقولِ
وكثرةِ المعقول والمنقول
وما أطال الدين من بُنيانِ
للعلم في الدنيا وللبيان
ظلَّتْ تُعينُ المُصلحينَ الضادُ
وظل للعلم بها اعتضادُ
حتى استقلَّتْ دَولة الرشيدِ
ونهضتْ بركنها المَشيدِ
تُعيرها فارسُ واليونانُ
كما تَهادى الزهَرَ الجِنانُ
وكلُّ وَردٍ رائعٍ غريب
في أرض جُورٍ ليس بالغريبِ
ما أخذتْ غيرَ صَفيِّ الرُّوحِ
كاللطفِ من روحٍ سرَى لروحِ
ترى الدخيل بالأصيل أشكلا
لم يُفسِدِ القومُ عليه الهيكلا
ما وسِع العلمَ والاختراعا
أرحب منها في اللُّغى ذراعا
توطَّنتْ مُختلِفَ البلادِ
واحدةَ المَغْرِسِ والميلادِ
كالشمس، بنتُ الفلَك المُدارِ
وكم على الأرضَ لها من دارِ
الأرضُ شتَّى والبيانُ مؤتلِفْ
كالراح دارتْ في إناءٍ مختلِفْ
اغترفَ الوليد من جريرِ
والمتنبِّي قائد الضرير٥
وحثَّ في الشرق النواسِيُّ القدحْ
وفي رُبا الغرب الخفاجيُّ صَدَحْ٦
في كل غَنَّاءَ هَزازٌ شادِ
وكلُّ ظلٍّ موضِعُ الإنشادِ

•••

هذا لسانُ القوم يا بُنيَّا
على أساسٍ ثابتٍ مَبنيَّا
أوديةٌ تُنضي٧ الخيالَ فُسحهْ
جَرتْ عليها للجَمال مَسْحهْ
تنزلُها أوانسُ المعاني
بين مَعينِ اللفظ والمعانِ٨
لسانُك الأولُ في الكتَّابِ
ولُغةُ الصَّبْوَة والعتابِ
فخُضْ عُبابَ فقهِهِ وسرِّهِ
وغُصْ على صحيحه وحُرِّه
لا تَرْضَ منه مَبلغَ الرِّعاعِ
وحِصَّةَ الأعمَى من الشُّعاعِ
واقرأْ علومَ السَّلَفِ الأعلامِ
فإنها مَعالِمُ الكلامِ
رُبَّ قديمٍ كشُعاعِ الشمسِ
ابنِ غدٍ واليومِ وابنِ أمسِ
وخلِّ ما زَيَّفَتِ الليالي
وما نفتْ صيارفُ٩ الأجيالِ
ولا تضَعْ من الجديد كلِّه
يَفُتْك وضعُ الشيء في مَحله
ربَّ جديدٍ عنده المُعوَّلُ
وربَّ كنزٍ لم يُثْره الأولُ
إن طريقَ العقل لا يُسَدُّ
ومَذهبُ الأفكار لا يُحدُّ
بين الجديدِ والجديدِ مَيِّلِ
لا تتَّبعْ طريقةَ الشُّمَيِّلِ١٠
لا تخلِطِ الأعجامَ بالأعرابِ
تَحجِلْ — وقاك الله — كالغُرابِ!
وكلُّ ما لم يُرْمَ عن قوسِ العربْ
فليس في نبعٍ لهم ولا غَرَبْ١١
فاجرِ على محاسنِ اللسانِ
تُجَلِّ في موطنِ الإحسان
وامشِ بآدابِ الكتاب تهتدِ
وقِفْ بأبواب الحديث واجتدِ
هما هما القالبُ فيه يُفرَغُ
ومَعدِن الحسْنِ الذي لا يفرَغُ
١  اللسان.
٢  متسوَّقٌ للعرب بصحراء بين نخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذي القعدة وتستمر عشرين يومًا، وقيل شهرًا، تجتمع فيها قبائل العرب فيتناشدون ويتفاخرون ويتبايعون.
٣  سوقان للعرب من طراز عكاظ.
٤  الماء الصافي.
٥  إشارة إلى أبي العلاء.
٦  ابن خفاجة الأندلسي.
٧  تسيله.
٨  المعان: المباءة والمنزل.
٩  ما رفض النقاد من الأجيال.
١٠  كاتب مفكر وطيب كبير كان يعيش في الجيل الغابر، وكان له مذهب في التجديد يبالغ فيه.
١١  شجر يقال له سهم غرب كما يقال سهم نبع، وهو شجر أيضًا تُتخذ منه السهام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤